داريا
18 كانون الثاني 2015
.
تقع مدينة داريا نحو7كم جنوب غربي دمشق، في الغوطة الغربية التي يرويها نهرا بردى والأعوج، ترتفع 650م عن سطح البحر.
جاء اسم داريا من اللغة الآرامية بمعني الدار أو المسكن وربما كان الاسم مستمداً من دورويو بمعنى المذرّون «من تذرية الحبوب في البيادر»، وقد ظل يستخدم كذلك خلال العصور الكلاسيكية حيث ذكرته المصادر الكلاسيكية المتأخرة ومنها رسالة أرشمندريت كنيسة الولاية العربية سنة 570 م والموجهة إلى الأساقفة الأرثوذكس، إذ كان الموقع مقراً لعدد من الأديرة المسيحية، التي سكنها العرب الغساسنة، المرتبطين بالدولة البيزنطية والذين قدموا من جنوب الجزيرة العربية، و ناصروا الدين الجديد وبشّروا به على المذهب اليعقوبي.
أقدم آثار الاستيطان البشري المعروفة في منطقة داريا جاءت من تل شواقة، الواقع إلى الغرب من بلدة صحنايا، والذي تم اكتشافه سنة 2008، ويعود تاريخه إلى الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد.
بعد ذلك تغيب المعطيات الأثرية حتى العصر الروماني الذي وصلنا منه تمثال منحوت من الحجر الرخامي المائل إلى الصفرة يمثل امرأة تحمل طفلها الرضيع، واكتشف فيها تمثال إيروس إله الحب عند الرومان، كما عثر على حجر لفصل حدود الملكيات الزراعية بين أراضي داريا وبلدة المزة، ويعود تاريخه إلى القرن الرابع للميلاد، وثمة أقنية للري تنسب إلى العصر الروماني، كانت ما تزال مستخدمة حتى فترة قريبة، وأهمها قناة الوز القادمة من صحنايا إلى السبينة عبر داريا. وتم الكشف مؤخراً، بين سنتي 2005- 2010، في بلدة داريا القديمة عن عشرة مدافن، أحدها إفرادي والتسعة الأخرى جماعية، عثر عليها قرب مدرسة الكشكة، وفي حارة الحمام. وهذا كله يؤكد وجود موقع سكني مهم في بلدة داريا القديمة يعود إلى العصرين الروماني والبيزنطي.
1ـ المدافن:
وجد في داريا نموذجان من المدافن:
النموذج الأول: وهو الأكثر شيوعاً، وقد حفر في تربة قاسية من نوع «الكونغلوميرا» أو من الصخر الكلسي، وهي نواويس تتكون من حجرة على شكل مغارة مقببة يبلغ قطرها نحو 3,5م، تتوضع على عمق يزيد عن المتر عن سطح الأرض، ارتفاعها يترواح بين130- و200سم، لها مدخل، أبعاده نحو 80×100سم، ليس له اتجاه ثابت، كان يغلق بألواح حجرية.
يتم النزول من المدخل، عبر درجة أو اثنتين، إلى بهو المدفن الذي ينخفض منسوبه نحو المتر عن المدخل، وهو ذو شكل مربع أبعاده، نحو 200× 250سم، تتوزع حوله ثلاث معازب تعلوها أقواس، في كل معزبة قبر واحد طوله نحو 2م وعرضه 1م، وينفرد احد المدافن بوجود قبرين في أحد معازبه.
يحتوى كل قبر على عدد من الهياكل العظمية (4-8هياكل) سجيت فوق بعضها البعض، أو جمعت العظام، أحياناً، في زوايا كل قبر لوضع الجثث الجديدة. وهي تعود لذكور وإناث من البالغين والأطفال.
رافق الأموات أثاث جنائزي غني أحياناً، تضمن لقى لها علاقة بحياة ما بعد الموت، ومنها: بعض أواني الأكل والشرب الفخارية والزجاجية، وثمة مقتنيات شخصية للأموات كالحلي، ومنها: الأقراط والخواتم والأساور والعقود والخرز والقلائد والخلاخل، والتي صُنعت من مواد مختلفة منها: الذهب والفضة والبرونز والحديد والزجاج والعاج.
وعثر على نثرات أقمشة ملتصقة ببعض قطع الحلي، كما عثر في أحد القبور على مسامير تابوت خشبي مما يشير لحالة دفن الميت مع تابوته. وقد أظهرت مكتشفات هذه المدافن أنها كانت تخص عائلة أو عشيرة بعينها ظلت تستخدمها لفترة طويلة امتدت من القرن الثالث حتى أواخر القرن السادس للميلاد.
النموذج الثاني : وهو قبر عادي إفرادي يعود تاريخه إلى القرن الأول أو الثاني للميلاد، وقد وجد قرب أحد المدافن الجماعية، اتجاهه شرق غرب، بني بإتقان من ألواح مشذبة من الحجارة الكلسية القاسية أبعاد القبر 200× 125× 100سم، تألف الغطاء من لوحين بينهما فتحة عرضها 25سم. ويبدو أننا أمام حالة دفن استثنائية، إذ تم وضع الجثة على التربة الطبيعية، ثم غطي القبر باللوحين الحجريين، وأشعلت النار فيها عن طريق صب الزيت عليها من فتحة الغطاء، ولكن الجثة لم تحترق بشكل كامل، بسبب ضيق المكان وكثافة الدخان، بعد ذلك تم ردم القبر بالأتربة.
والملاحظ أنه لم يوضع أثاث جنائزي مع الجثة رغم العثور على بعض الحلي المعدنية، ومنها ما صنع من الذهب، التي كان يرتديها المتوفى وهو هنا امرأة، من الواضح أنها من علية القوم. ومن المتوقع أن لا يكون الحرق بهذه الطريقة ناجم عن إتباع طقوس دينية موروثة بقدر ما يمكن أن يكون اختياراُ إجبارياً تم اللجوء إليه بسبب الموت الذي قد يكون ناتجاً عن مرض أو وباء معد.
وتجدر الإشارة إلى أن عادة حرق الجثث، كانت إحدى تقاليد الدفن التي عرفتها العديد من المواقع السورية منذ العصر الحجري النحاسي «الكالكوليت»، كما في تل الصبي الأبيض، واستمرت خلال الألف الثاني ق.م حيث عرفت على أنها تقاليد حثية خلال العصر البرونزي الحديث. وزاد انتشارها خلال العصر الحديدي فعرفت في الكثير من المواقع الآرامية، ومنها جوزن «تل حلف» وزنجرلي «شمال»، وكذلك عرفت في المواقع الفينيقية وأهمها قرطاجة وصور، التي عثر فيهما على عدد كبير من هذه القبور وهي جرار فخارية.
وقد استمرت هذه الممارسة الدينية خلال الفترات اللاحقة وخاصة خلال العصر الروماني، إذ عثر على عدد من هذه الحالات في مدافن بلدة حينة «منطقة الحرمون» لكن الجثث كانت تحرق خارج القبر ويتم دفن بعض بقايا الرماد والعظام في القبر. علماً أن حالة الدفن هذه لم تكن الوحيدة السائدة بل رافقتها حالات الدفن العادية خلال مختلف العصور، وفي جميع المواقع التي جرى الحديث عنها.
2ـ الأثاث الجنائزي: تتميز مدافن داريا بغناها بالأثاث الجنائزي، إذ أمكن الكشف عن عدد كبير من الحلي والقطع المعدنية والزجاجية والفخارية والعاجية والعظمية والحجرية، وهي تدل على الهوية الاجتماعية للمدفونين الذين ينتمون إلى الطبقة العليا من المجتمع أو الوسطى على الأقل.
أ ـ الأساور والخلاخيل: يبرز من بين القطع المعدنية عدد كبير من الحلي الحلقية الشكل، ومن مجموعة حلي النساء هناك الأساور وخلاخيل الأرجل. وتبين الأساور المتآكلة الملتصقة بشدة مع بعضها أنه كان من المرغوب تزيين الساعد بالكثير من الأساور. وارتدت نساء داريا وزناً ثقيلاً من الحلي المعدنية، التي لم يقتصر ارتداؤها على الحياة فقط، بل اصطحبت إلى القبر أيضاً.
لقد عرفت هذه العادة في سورية لكن الأمر الملفت هو وضع الخلاخيل في الأرجل، وهي عادة للزينة كانت معروفة آنذاك في سورية وهذا ما توضحه أيضاً مشاهد الفسيفساء التي وجدت في المنطقة ومنها قطعة فسيفساء في متحف السويداء تظهر فيها أرتميس وزميلات طفولتها.
يغلب على الأساور النوع البسيط الشكل الذي له نهايات مسطحة، وأحياناً مزخرفة بخطوط، والتي تمثل رؤوس الأفاعي، وجد الكثير منها في بعض المدافن السورية ومنها مدفن الطيبة بريف دمشق.
أما الأساور السميكة ذات النهايات الغليظة على شكل رأس كبش، فهي إحدى الخصوصيات المحلية. إذ لا توجد من ذلك العصر إلا نظائر قليلة لها جاءت من حوران ومن شمالي الأردن.
في حين تشكل داريا الموقع الأثري الأبعد، شمالاً، لهذا النوع من الأساور الصغيرة، والتي لا يمكن تحديد تاريخها بشكل دقيق لكنها ترجع لأواخر القرن الرابع وحتى السادس.
وقد وجدت أساور برونزية بنهايات رؤوس أكباش مشابهة في بلدة القريا «بالسويداء». وهي تشبه زوجاً من الأساور الذهبية تم الكشف عنه مع قطع حلي أخرى في إحدى الجرار التي اكتشفت في بيروت، ويعود تاريخه لأواخر القرن السادس أو مطلع السابع. وأيضاً ثمة بين قطع الحلي، أساور زجاجية كثيرة، وهي ذات ألوان متنوعة.
ب ـ الأطواق: أما أطواق العنق والخواتم والأقراط المعدنية فيأتي ترتيبها في داريا من حيث العدد بعد الأساور. وقد كانت أطواق العنق ذات أشكال بسيطة نسبياً صنعت من المعدن الملون، زخرفت بطريقة النقش وأحياناً بطريقة اللًي أو الجدل.
وتعد أطواق العنق من الحلي النسائية وهي مكونة من خرز وأكسسورات للتعليق مختلفة الأحجام والأشكال والمادة. وتقدم الأعداد الكبيرة من حلي العنق التي صودفت في داريا للمرة الأولى نظرة عامة بانورامية حول هذه النوع من الزينة في سورية الجنوبية من القرن الثالث/ الرابع وحتى القرن السادس/ السابع. وقد صنعت الخرز من الزجاج أو عجينة زجاجية ومن أحجار شبه كريمة ومن مواد عضوية مثل العظم أو الصدف والمعدن الملون. وهناك كمية كبيرة من خرز العقيق، وكذلك القهرمان الذي كان يتم استيراده من منطقة البحر المتوسط الشمالية ومن منطقة البلقان.
ومن الأشياء التي كانت تعلق بالأطواق مع الخرز، بعض القلائد أو الرصائع وهي نوع من التمائم وظيفتها أن تبعد كل أنواع الشرور عن حاملها. وثمة خرزة مصنوعة من الخزف الأزرق الفاتح لها شكل ساعد مع قبضة يد، وهي تستخدم لدرء العين الشريرة، وقد وجد شبيه لهذه القطعة في مدافن القنوات بدمشق. وثمة تعليقة أخرى بشكل رقيقة زجاجية زرقاء داكنة شفافة مع خاتم مزين بشكل أسد. ومن غير المؤكد فيما إذا كان يفهم منها القوة والقدرة المتمثلة في الحيوان البري «اعتقاد مسيحي» لدرء الشرور، لأنه لا وجود للكتابة الصريحة المتعلقة بذلك، كالموجودة على قطعة مشابهة كتبت باليونانية «heis Theos» وتعني إله واحد.
ج ـ الخواتم والأقراط: تنحصر الخواتم في بعض القطع البسيطة التي صنعت من الحديد والمعدن الملون، كما توجد بين الأقراط حوالي عشرين قطعة معدنية صنع بعضها من الذهب والفضة.
د ـ الأواني الزجاجية: غلب على الأواني الزجاجية التي وجدت في مدافن داريا المدامع «البطحات» وهي ذات أحجام متقاربة، وشكلها متشابه تقريباً وهو دائري مسطح وعنق اسطواني طويل، لونها سماوي شفاف. كما يوجد نوع آخر من المدامع صغيرة الحجم ذات شكل متطاول، الفوهة مخروطية وضيقة عند العنق والقاعدة شبه محدبة، وقد لا تكون استخدمت لتحفظ دموع المشيعين، بل ربما استخدمت لحفظ الزيت المقدس والعطورات والماء المرقي وغيره.
ويوجد مثيلاً لهذه الأنوع من الأواني في عدد من المدافن السورية ومنها طيبة الكسوة. وهناك نوع من الصحون الكبيرة الحجم ذات قاعدة وجدار قائم، وصحن صغير ربما كان لوضع مواد الزينة. وكؤوس أسطونية الشكل لوضع الخمرة المقدسة، وأباريق مختلفة الأحجام والأشكال والزخارف ولها ميزاب وعرى تصل بين أعلى مؤخرة الشفة والكتف، ويتنوع اللون بين الشفاف أو الأزرق المائل للخضرة أو أخضر مائل للأسود.
هـ ـ الأواني الفخارية: من أهم القطع الفخارية زبدية من فخار التيرا سيجيلاتا القبرصي المزخرف التي تؤرخ في أواخر القرن الخامس أو مطلع القرن السادس، وبعدما انكسرت إلى قسمين تم رتقها بمشابك، كما تظهر ثلاثة ثقوب مزدوجة على طول الحافة المكسورة. كما وجد أبريق صغير مميز له عروة ومثعب وهو ذو لون قرميدي يحمل بعض الزخارف التي نفذت على الكتف بطريقة الحفر، أما الفوهة فهي على شكل مصفاة لها عدد من الثقوب.
و ـ المشابك والأبازيم: من الأشياء التي عثر عليها في داريا هناك مشبك ألبسة متكسر وهو من أقدم لقى الموقع ويعود تاريخه إلى القرن الثاني أو الثالث، ويبدو أن المشابك بعد هذا التاريخ اختفت من ألبسة نساء داريا. وهناك بعض الإبر، وبعض أبازيم الأحزمة والأحذية وهي مزودة بغلاف صب متين معيني الشكل ويمكن أن تعد من الملابس الرجالية، ويعتقد أنها ترجع لأواخر القرن السادس، والنصف الأول من القرن السابع.
وتعد تشكيلة الأبازيم غير الملبسة في داريا طرازاً للأحزمة في الكثير من المواقع السورية ومواقع البحر المتوسط التي ترجع لأواخر القرن الخامس ومطلع القرن السادس، كما عثر على مثيل لها في قبر اكتشف في موقع خربة السمرة في الأردن.
ز ـ الأجراس والصلبان: تميزت بعض القبور بوجود أجراس كانت توضع تبعاً لحجم كل منها في سلسلة العنق أو في الحزام. ويوجد مثال جيد على الأجراس الكبيرة التي كانت توضع في سلسلة الحزام جاءت من أحد قبور موقع جدارا / أم قيس شمالي الأردن، يرجع للعصر البيزنطي. وكانت للأجراس فوائد سحرية فهي توضع لدرء الأذى والشرور عن النساء الأطفال.
ومن الأشياء التي كانت تعلق بالأطواق نجد بعض الصلبان التي علقت إما بواسطة ثقب في طوق خرز أو وضعت في سلسلة صغيرة معدنية. وقد أظهر حاملو الصلبان الصغيرة على الصدر اعتناقهم للعقيدة المسيحية الجديدة بكل جلاء.
تألف فريق التنقيب في مدافن داريا من:محمود حمود، ابراهيم عميري، جهاد أبو كحلة، محمد المصري.
سجل تل شواقة في لائحة المواقع الأثرية الوطنية بالقرار الوزاري رقم 205 تاريخ 15/4/2009، في حين تم وضع إشارة آثار على بلدة داريا القديمة.
دائرة آثار ريف دمشق
محمود حمود – ابراهيم عميري
المديرية العامة للآثار والمتاحف
تمثال منحوت من الحجر الرخامي يمثل امرأة تحمل طفلها الرضيع |
موقع داريا الأثري |
لقى أثرية من داريا بريف دمشق |