أحمد معلّا يستعيد ورود أبي فراس الدمشقية
16 كانون الأول 2014
.
يسعى أحمد معلا منذ عقد من الزمن للارتقاء باللوحة الحروفية إلى مقامات الشعرية البصرية، فهو في معرضه الجديد الذي أقيم في غاليري مارك هاشم «بيروت» يستخدم الكتابة ضمن سياقات جمالية في أعمال مشهدية تعتمد على عنصر التعاقب والتتالي والتكرار والتنضيد والتفريغ، في اتجاه يجاوز الكتابة الفعلانية بحثاً عن موقع اللغة في النص الشعري، وعن مقامات اللون والضوء والتقاطعات الشكلانية الهندسية للبؤر الاستقطابية - التربيعية التي توهم الناظر بأن ثمة قماشة مخملية من الحروف تتحرك وتنثني وتستقيم وتتوهج. وكأن هذه الأعمال بأحجامها الكبيرة وأبعادها التقنية ومقوماتها الجمالية ما زالت تستأنس بالميراث البصري للّوحة أكثر من انتسابها إلى موضة الكتابة التي أضحت لغة الغرافيتي آرت، بما يعني فن الحائط أو فن الشارع بمؤداه الشعبي، ولا ننسى رواج هذا النوع من التبصيمات الحروفية «شارل زندرودي ونجا المهداوي ولالا السيدي... وسواهم» في المعارض العربية التي تقام على وجه الخصوص في دبي وأبو ظبي. ولعل المؤدى الشعري في النتاج الجديد لأحمد معلا يرمي إلى استعادة النقوش الكتابية في التراث الإسلامي.
إيقاعات مشرقية
ثمة ما يوحي في أعمال معلا بمناخات المخطوطات القديمة أو بالنقوش الكتابية ذات الإيقاعات المشرقية التي تتجلى كحقول أفقية متتالية ومدمجة تكشف في جوهرها عن التجريد الموسيقي المرادف لبنية القصائد المقطوفة من ديوان الشاعر العباسي أبو فراس الحمداني، الذي قال عنه الصاحب بن عباد «بُدئ الشعر بملك وخُتم بملك، ويعني امرئ القيس وأبا فراس».
تجسد لوحات أحمد معلا مقاطع من قصيدة « أما جميل عندكن ثواب»، والتي جاء مطلعها «وقور وأحداث الزمان تنوشني»، وذلك للتعبير عن أزمنة الحروب والأسر التي عاش فصولها أبو فراس الحمداني، لاسيما وأنه من أسرة حكمت شمال سورية والعراق وكانت عاصمتهم حلب في القرن العاشر الميلادي.
فقد ترعرع أبو فراس في كنف ابن عمه سيف الدولة، وبعد موت والده باكراً، أصبح فارساً شاعراً راح يدافع عن إمارة عمه ضد هجمات الروم، ووقع في الأسر في إحدى المعارك ونفي إلى القسطنطينية حيث أقام في السجن مدة أربع سنوات كتب خلالها قصائد زاخرة بمشاعر الألم والحنين إلى الوطن.
لم تكن استعادة مخطوطة أبو فراس الحمداني سوى دلالة على مشاعر الفنان أحمد معلا حيال الأحداث المأساوية التي عاش أهوالها في سورية والتي أدت إلى دمار محترفه وهجرته مع عائلته إلى فرنسا. لذا شكلت القصيدة نقطة وصل مع دلالات الحاضر الراهن، التي أراد من خلالها استعادة باقات حنينه لألوان الورود الدمشقية واستقراء هندسة مقادير الحروف التي سجلت نبض هجرة الفنون الزخرفية الأموية إلى الأندلس، كما لو أنها هجرة لخلايا فكرية تتوالد وتنمو فتهجر أسسها لتكوّن أسساً أخرى. فلوحات أحمد معلا تنتقل من مقام إلى مقام لتكشف عن السر الجديد للتناسب والتوازن في هندسة أنساق الحروف وأوضاع الكلمات ودلالات انتظامها البنيوي الإيقاعي، كما مارسه كبار الوراقين من الخطاطين الدمشقيين الذين تعاقبوا على نسخ ونشر المخطوطات الشعرية.
النغم الداخلي
هكذا يفتح أحمد معلا أبواب مقامات لوحاته على مرايا أزمنة التجريد المشرقي في جدلية معالجته مظاهر تورية الكتابة المقروءة حيث تتدفق شــيفرة الإيقاع الكتابي كإشارات لسطور تتجلى في مسارب رقش السطوح الخادعة الكامنة في اشتقاقات توشية النغم الداخلي للتزويق الفسيفسائي للألوان. كما لو ان جماليات التوشية أو التورية اللونية هنا هي مظهر من مظاهر التعويض عن غياب الأمكنة التي لا يمكن استــعادتها والتي تكشف في جوهرها عن العلامات الزائلة للمقاطع الشعرية. فأنماط التورية تعكس طواعية الانجراف وراء الهيام الشعري - البصري الكامن في شفافية استذكار ألوان الورود الدمشقية في حدائق مفقودة. فالشكل التجريدي يستجيب تنويعات مخيلة حروفية لم تخرق القواعد في الثوابت الخطية ولكنها حوّلت ذلك إلى ما يشبه سجادة من الرقش، تمتلك من الطواعية والمرونة والرشاقة والغنائية ما يؤهلها لتكسر الرتابة في أنماط السطور، كي تمنح سطوح اللوحات مدلولها البصري العميق، الذي يسبر أغوار معاني النص الذي كتبه الشاعر أبو فراس الحمداني.
في مسعى آخر يتراءى التضمين الحروفي في نماذج من لوحات أحمد معلا التي تدور في فلك الملحمة الواقعية بأبعادها التشخيصية والسينوغرافية التي سبق وأهداها في نتاجه السابق لمسرح سعدالله ونوس، لكأنه يقرأ قصيدة ابو فراس الحمداني من زاوية الاشتغال هذه المرة على آلام الجماعة الإنسانية وملامح الخيبات الكامن في اللون الأسود الجحيمي.
مهى سلطان
صحيفة الحياة