تدمر وطريق الحرير

01 حزيران 2007

عرّف المؤرخ أبيان التدمريين قائلاً: "كانوا تجاراً يجلبون من بلاد الفرس منتجات الهند وشبه الجزيرة العربية ليبيعونها مجدداً للرومان". وهذا هو الدليل القديم والوحيد الذي لدينا عن أنشطة التدمريين حيث كانت التجارة الدولية الكبرى هي النشاط الرئيسي لديهم. فقد كان للتدمريين باع طويل في التصدير والاستيراد. ولكن هذه الصورة المحدودة عنهم تغيرت من خلال الدلائل المباشرة والنصوص التي وُجدت في تدمر، وخصوصاً في الأغورا. حيث نجد فيها كتابات تذكر الهند ولكن لا نجد مثلها عن بلاد الفرس. وهنا يبرز عندنا تساؤلان الأول حول تجارة تدمر والطرق التي كانت تسلكها وطبيعة التبادلات التي كانت تقوم بها والثاني حول الدور الحقيقي للتدمريين في هذه التبادلات.


الآغورا

سوف نتطرق أولاً لمسألة الطرق. فمن المؤكد أن التدمريين أوجدوا طريقاً أو على الأقل حولوا لمصلحتهم، في تلك الحقبة، أحد أكبر الطرق التجارية في المنطقة وهو طريق الفرات الذي كان يصل بلاد ما بين النهرين وحوض البحر الأبيض المتوسط. في الواقع لقد أوجدوا ما نسميه "الطريق الصحراوي المختصر"، وذلك بتحويل طرق القوافل نحو مدينتهم بعد مسارها على طول النهر، مما سمح لهم بأن يصلوا مباشرة إلى أحد مرافىء البحر المتوسط. وكانت حمص بمثابة المحطة الأولى من جهة هذا الطريق المباشر الذي يسمح بالوصول بسهولة لـأرواد أو اللاذقية أو بعض المرافىء الأخرى.

تجلت عبقرية التدمريين في إعداد نظام للقوافل قادر على اجتياز بضع مئات من الكيلومترات من الصحراء بين مدينتهم وحوض الفرات. فقد كانوا أبناء الصحراء ويعرفون كيف يشكلون فريقاً يقود القوافل.

كان طريق حوض الفرات يصل تدمر بالمراكز الكبرى في بلاد ما بين النهرين وبابل القديمة من جهة وسلوقية دجلة العاصمة الهلنستية الجديدة من جهة أخرى. وتؤكد الكتابات أن القوافل التدمرية كانت تصل لهذه المدن أو تعود منها، ومن المؤكد أنها كانت تحمل هنا البضائع التي كانت تصل عبر إيران إلى الهند أو آسيا الوسطى. لكن يبدو أن القوافل التدمرية لم تكن تمر بإيران فليس لدينا أي دليل على هذا.

ظهرت منذ 25 سنة نصب جنائزية تدمرية في مرو، واسمها القديم ألكسندريا مارجيانة، وكانت واحة كبيرة في تركمانستان الحالية. لقد كان اكتشافاً هاماً. لكن بول برنارد لاحظ الطابع غير المألوف والمنعزل لهذه الشواهد الجنائزية واستنتج أن وجودها عرضي في مرو وبرأيه أن بعض الموظفين الروس العاملين في مركز ما هناك قد أحضروها لمرو. إن قطع من هذه المجموعة التي وجدت بعثرت عام 1917، وظهرت من جديد بعد 50 عاماً.

إن القول بأن التدمريين كانوا قد صدروا شواهد جنائزية أو منحوتات تدمرية لتلك المناطق أو أن نحاتين تدمريين غامروا بالذهاب لتلك البلاد البعيدة أمر لا يمكن تأكيده. كما حاول بعضهم عبثاً تأكيد هوية المنحوتات التدمرية في نوميديا أو في أطراف إيقوسيا وفي جزيرة خرج في الخليج.

إن استنتاج بول برنارد هذا يتوافق مع ما ورد في الكتابات التي لا تشير أبداً لأي تحرك تدمري داخل إيران، ولكنها تشير تحديداً لوجود طريق آخر سوف نقوم بوصفه لاحقاً، وهو طريق الخليج.

وهناك دليل على المبادرات التدمرية في هذا المجال. وفي الواقع نلاحظ عند قراءة هذه الكتابات الشيء نفسه الذي لاحظه روستوفيتسيف من قبل بأن القوافل التدمرية لم تمر أبداً بالمدينتين الكبيرتين في بلاد الرافدين البارثية، ولم يُشر إليهما إلا بعد القرن الأول الميلادي. ويظهر أن القوافل كانت تتجنب المرور في هاتين العاصمتين الكبيرتين. وعندما تصل للفرات تتابع القوافل سيرها بمحاذاته باتجاه الخليج إلى سباسينو خاراكس، عاصمة مملكة ميسان الصغيرة والتي لا تقع على هذا النهر ولكن على أحد روافد دجلة، والتي كانت تسمى قديماً أولايوس. وقد كانت بالأصل مدينة أسسها الإسكندر الكبير وكان ملك ميسان أحد أتباع ملك البارثيين.

ولا مجال هنا لمناقشة المسائل المختلفة الناجمة عن هذا الطريق التدمري. وكما أشرنا سابقاً، فبدلاً من أن يكون هذا الطريق برياً بشكل كامل من الممكن أن يكون نهرياً بشكل جزئي والمسألة ممكن أن تُحل هكذا.

ويبقى لدينا دليل كتابات التجار الذين كانوا يستخدمون القوافل ويتجهون إلى سباسينو خاراكس. وكان قواد القوافل يرافقونهم حتى نهاية المطاف. ومما لاشك فيه أنه كان يوجد فندق أو خان في المدينة. والشيء المهم أن عاصمة ميسان أو مرفأها الأمامي على الفرات كان رأس خط الملاحة على الخليج. ومن المفاجآت الكبرى في نصوص الآغورا أن التدمريين أو على الأقل بعضهم كانوا لا يتوقفون في خاراكس ولكن كانوا يبحرون من هناك لمتابعة الطريق البحري حتى الهند، ونستدل من النصوص اللاحقة عن اسمين منهما وهما حنين ابن حدودان وبعلي. أضف إلى ذلك صورة مركب على منحوتة جنازية من تدمر تعتبر الدليل الأكثر وضوحاً على الدور الذي كان يلعبه أصحاب السفن والملاحين التدمريين.

لقد كان للمؤرخ أبيان الحق في التكلم عن منتجات الهند ولكنه يضل عن الطريق الذي كانوا يسلكونه.
وكان للطريق البحري مميزات حقيقية نسبة للطريق البري. فهو بدون شك أقصر منه وكان يخفف من مشاكل السفر بالإضافة للتكاليف والضرائب ورسوم الدخول الخاصة بالطريق البري. ظاهرياً يتجنب الطريق البحري المجال البارثي أو بالأحرى يطوف حوله، ولكن هذا لا يتعدى كونه طريقاً أسهل. ومرور القوافل بمدينة أولوشياد التي ورد ذكرها في النصوص ومؤسسها في القرن الأول الميلادي الحاكم البارثي أولوشيا. لذا لدينا الآن سبب لأن نفتش عن هذا المرفأ البارثي على نهر الفرات، وهو بدون شك ليس بعيداً عن مدينة بورسيبا جنوب بابل. حيث كان يوجد هناك فندق تدمري، بنى فيه قائد القوافل الشهير سوادا معبداً للأباطرة، وكان تابعاً مخلصاً لإمبراطور روما في قلب الديار البارثية، كذلك كان ذا حظوة حسنة لدى السلطات البارثية. إذاً هذا بالنسبة للقوافل وقواد القوافل والملاحين التدمريين. ولكن ماذا عن تجارة هذه القوافل والبضائع التي كانت تحملها؟

كانت منتجات الهند متعددة ومطلوبة كالحجارة الكريمة والعاج والخضاب والتوابل... والعصريون مستعدون لإضافة الحرير، إبداع الصين الرائع. هذا الحدث ليس مؤكداً ولكن بالطبع استطاع الحرير بطريق أو بآخر الوصول لأحد موانىء الهند وذلك عبر آسيا الوسطى وأفغانستان. والوصول الى أحد مصبات نهر السند.
عُرف هذا الطريق أثرياً عن طريق الاكتشاف الشهير لمدينة برغام الغنية بالزجاج والبرونز الإسكندري إضافة لوجود قطع هندية أخرى. وبهذا الشكل كانوا يتجنبون أيضاً إيران البارثية وذلك لصالح إمبراطورية الكوشان، أسياد الأراضي التي أشرنا اليها سابقاً.

إن وجود الحرير، وبدقة أكثر قماش الحرير، في تدمر مؤكد منذ زمن بعيد، وذلك بفضل المكتشفات التي وجدت في بعض الأبراج الجنائزية في تدمر. وقد جرت أبحاث جديدة حول هذه المسألة. وأثبت ر. فيستر أن قسماً من هذه الأقمشة جُلب من الصين وقسماً آخر صنِّع محلياً، لنقل في سورية، وسوف نتطرق لاحقاً لهذا السؤال.

بيّن هنري سيريغ خلال دراسته للأشكال التي كانت تزيّن الأنسجة على بعض التزيينات الجدارية الجنائزية التدمرية، بيّن مدى مطابقتها مع منحوتات كوشان وماثورا في وادي الغانج. وهنا يتعلق الأمر بزخارف وليس بقطع كاملة ومتطابقة. الأمر الذي يستدعي التمييز بين مجموعات متماثلة ولكن متقاربة، إحداها هندية والأخرى سورية ـ رافدية. ويمثل هذا التقارب علاقات وثيقة في مجال صناعة وتزيين بعض الأقمشة بين هاتين المنطقتين وهو دليل على حيوية الطريق الذي وصفناه سابقاً، ومن الطبيعي أن يكون لذلك علاقة أيضاً بالحرير.

وتطرح هنا مسائل أخرى، فمن المستغرب أننا لم نتساءل مطلقاً عن مصير منتجات الهند وآسيا الوسطى عند وصولها إلى تدمر، هل تسلك نظام قوافل آخر بعد ذلك. كما افترضنا سابقاً، نحو مرافئ البحر المتوسط أم أن هناك احتمالات أخرى. وليست لدينا أية دلائل على هذا الموضوع عائدة لتدمر سوى دليل واحد يوضح تعقيد الموضوع. وتفرق التسجيلات بوضوح بين رجال القوافل وقواد القوافل والمعلمين الكبار والتجار كذلك والتجار البحريين الذين ورد اسمهم في النصوص اليونانية. وكان الأوائل يُكرمون من قبل من يليهم وذلك بتسجيل أسمائهم في النصوص. والأوائل أسماؤهم معروفة أما من بعدهم فأسماؤهم غير معروفة. وبعبارة أخرى من الممكن أن يكونوا من أصل تدمري ومن الممكن ألا يكونوا كذلك. ومن الممكن أن يكونوا من إحدى المدن الكبرى غرب سورية أو أبعد من ذلك. حيث يتحدث بلين القديم مرتين عن وسطاء "تجارنا" ويقصد بذلك تجاراً رومان كانوا من سباسينو خاراكس. بالطبع لا يتعلق الأمر هنا برومان من روما ولا حتى بمواطنين رومان ولكن برعايا رومان من المحتمل أن يكون أصلهم من جنوب إيطاليا. فقد قَدِم الايطاليون من هذه المنطقة وعبر الميناء الدولي لجزيرة ديلوس حيث كانوا يتقابلون هناك مع تجار سوريين وعرب، وذلك قبل ظهور التدمريين بنصف قرن. كما نعلم من خلال تسجيلات بلين أنه كان يتقابل في خاراكس، بالإضافة للتدمريين، مختصون آخرون بطرق الصحراء وأناس من البتراء وجرها على الخليج أيضاً. من هنا يمكن أن يأتي الخطأ الذي وقع فيه المؤرخ أبيان حين أشار لمنتجات شبه الجزيرة العربية التي كان ينقلها التدمريون. وفي الواقع كان هؤلاء التجار يتحكمون بالتجارة والمال. وهم أنفسهم أو أندادهم كانوا يسيطرون أيضاً على الطريق الكبرى الثانية للهند، عبر البحر الأحمر حيث كانت الإسكندرية نهاية المطاف فيها وبعدها روما. ولا يخفى علينا المكانة التي احتلتها مصر كونها كانت مكاناً خاصاً للإمبراطور. كما لم تقتصر أهميتها على كونها مخازن (صوامع) قمح لإيطاليا. بل تميزت بدورها الكبير في التجارة الدولية الذي شغلته من خلال حاضرتها. وهنا يطرح سؤال هام نفسه بخصوص تجارة التدمريين وهو: ما هو الدور الذي لعبه التدمريون في عالم مليء بتجار من جنسيات مختلفة؟

للأسف ليس لدينا سوى نصان بسيطان يشيران لوجود التدمرين في مصر: الأول يتعلق بـ Coptos (فقط)، وهو المكان الذي اعتبر سترابون أن منتجات الهند وشبه الجزيرة العربية وأثيوبيا كانت تصل منه، فهناك كانت نهاية المطاف للطريق القادم من برنيسيا Bérénice على البحر الأحمر حيث كانوا يتبعون نهر النيل للوصول إلى الإسكندرية. وكان يوجد هناك فندق تدمري، إضافة إلى وجود بعض المظاهر التي تعود لعصر زنوبيا في حوض النيل. وتعد هذه المعطيات دلالية وليست قاطعة.

هل من الممكن الذهاب الى أبعد من ذلك والتحدث عن الوجود الاقتصادي التدمري في الجزء الغربي من الإمبراطورية؟ لا يمكن أن ندخل في الحسبان هنا الآثار التدمرية في داكيا (رومانيا) ونوميديا (المجر) ذات الأصل العسكري، فالتجارة الكبرى لم يكن لها مكان في هذه المستعمرات البعيدة.

أما بالنسبة لروما، فسوف لا نندهش كثيراً من اكتشاف أن بعض التدمريين كانوا قد استقروا في عاصمة الإمبراطورية الرومانية. فهؤلاء هم أنفسهم الذين عرفوا قديماً في الغرب بعيداً عن أذينة وزنوبيا. لقد أشير إليهم أولاً على مذبحين تصويراً وكتابة، ويوجد هذان المذبحان حالياً في متحف الكابيتول بروما. فقد استقرت جماعة من التدمريين في حي ترانستيفير بجوار جماعات أخرى من أصل شرقي، وقد كان يوجد فيه معبد بل وملكبل ولكن ليس هناك ما يدل على مكانتها في طريق التجارة الكبير. وأما في المقابل وعلى الضفة الأخرى لنهر التيبر فقد ثبت وجود مجموعة تدمرية غير معروفة من عبدة الرب ملكبل. وعلى الأرجح أنهم كانوا في الطبقة الدنيا أو العبيد. وفي مقدمتهم تيبيريوس كلوديوس فيليكس، والذي يمكن أن يكون تدمرياً ولكن ليس هناك دليل على هذا.

نعود مجدداً لسورية ولتجارة الحرير. حيث لا نجد أية تسجيلات تدمرية تدل على وجود علاقات مع سورية الغربية. وعلى ما يبدو لم يكن للقوافل التدمرية الدور الرئيسي الذي كان لها على طريق الفرات والخليج. ويعود السبب في ذلك الى أن الطريق من تدمر إلى البحر المتوسط كان آمناً بوجود الرومان مما لا يستوجب إعداد تنظيم للقوافل إلا على الطريق الصحراوي بين تدمر والفرات. فعلى هذا الطريق يمكن أن نسترجع صورة القوافل الكبرى المدونة منذ القدم في هذه المنطقة. وكانت تتم في تدمر إعادة توزيع البضائع وفي اتجاهات مختلفة وبوسائل أقل أهمية. وفي الواقع كان لكل تاجر حريته. إذاً هنا تتضح لنا تجارة الحرير. حيث أكد الخبراء الذين درسوا بقايا الأقمشة التي وُجدت في تدمر، وأولهم R.Pfister، أن هذه الأقمشة قد صُنعت محلياً أو أغلبها على الأقل. ونستنتج من هذا كله أن الحرير كان يأتي إلى تدمر على شكل حرير خام أو خيوط حريرية، ومن ثم يتم نسجه محلياً، ولكن أين على وجه الدقة؟

النظام العام كان يقضي بأن يتم نسجه في المدن الكبرى على الساحل الفينيقي. وهذه نتيجة استخلصناها مما نعرفه عن تاريخ الحرير في العصور المتأخرة، عندما كانت عملية تصنيعه خاضعة لرقابة الدولة. وتعود بدايات هذا التاريخ الى عهد أغسطس، ويمكن أن ندرج بعض الشواهد الأدبية على ذلك. وأكثر ما يثير الدهشة فيها تلك التي تعود للشاعر لوقيانوس Lucain، ففي كتابه عن معركة فارسال (X, 141) تظهر كليوباترا "بصدرها الأبيض الذي يلمع من خلال قماش صيدوني" والذي "غُزلت خيوطه بنول فتيات سيريس Sêres". إذاً أُعيد تصنيع الأقمشة الصينية في صيدا أو في أماكن أخرى من الدولة الفينيقية. فقد وجدنا في بعض القطع الحريرية التي عُثر عليها أن النسيج نفسه مصبوغ بلون أرجواني. وهذا لصالح مدينة صور والتي أُكد دورها في صناعة الحرير في وقت لاحق إضافة لدور مدينة بيروت. كما أن تجارة الحرير لم تكن بأيدي التدمريين ولكن بأيدي تجارٍ من صور أو غيرهم. ونجد في بعض المصورات الجغرافية القديمة طريق الحرير زمن الإمبراطورية الرومانية يعبر إيران ليصل الى سلوقية دجلة دون أن يمتد لأبعد من ذلك. ورأينا وجوب رسم طريق آخر قادماً من وسط آسيا، عبر الهند، عابراً البحر إلى الخليج ولكن هذه المرة ليس إلى الدولة السلوقية ولكن إلى تدمر. ومن هناك يتابع طريقه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط. ولكن هل كان يوجد بجانب هذا الطريق التدمري طريق أو طرق أخرى برية تتجه نحو الشمال عبر إيران؟. في جميع الأحوال وبالنسبة لهذه الفترة، أي القرون الأولى من هذا العصر، فلا نستطيع أن نجزم بالأمر. إذاً لقد كان للتدمريين تجارتهم الخاصة إلا أن دورهم الأساسي كان قيادة القوافل.


إرنست فيل

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق