معبد نبو


معبد نبو

بينت الدراسات التي قام بها عدنان البني بين عامي 1963 و1964، «وكان حينها مديراً للتنقيب في المديرية العامة للآثار في سورية، مع نسيب صليبي المهندس المعماري في المديرية نفسها»، فإن تاريخ هذا المعبد كان معقداً جداً. ففي نهاية القرن الميلادي الأول تقاسمت عائلتان تدمريتان كبيرتان كما يبدو الأعمال الرئيسية فيه: عائلة إيلابل، المعروفة جيداً من خلال مدفنها البرجي الرائع، وعائلة نبو شوري. وقد قام أفراد العائلة الأولى ببناء السيلا (المقدس)، في حين أنّ العائلة الثانية شيّدت المدخل المعمّد وملحقاته. وكانت السيلا قد أسست على المحور المنصّف للمساحة غير المنتظمة بحيث تنفتح باتجاه الجنوب، من جهة الوادي، مثل معظم الصروح القديمة للمدينة. وكان يتقدمها مدخل معمّد فخم سرعان ما تمّ إنجاز أعمال البناء في واجهته ذات الأعمدة الستة. بالمقابل، فإنّ بناء أعمدة السيلا قد أوقف في حين أنّ أعمدة الواجهة الستة والأعمدة الأربعة الأولى المتراجعة على جانبي الرواق نصبت في مواضعها. وقد ظلّت جدران السيلا ومجمل سطوح مختلف البنى مقصبّة ببساطة بشكل نحت بارز دقيق. ولم تستأنف الأعمال في المعبد إلا بعد قرن من الزمن، في حين كان قد بُدئ العمل بمشروع بناء الشارع المعمّد الكبير. ويبدو أنّ ورثة عائلة إيلابل استبقوا أعمال شقّ الشبكة الطرقية وقاموا بفتح المعبد على الشارع الذي كان سيمرّ من أمامه وأعادوا بالنتيجة تنظيم السيلا داخله. أما الواجهة الخلفية للمعبد التي لم تكن قد استكملت بعد، والتي كان يجب أن تكون في مواجهة المدخل الجديد، فقد استفاد أفراد عائلة إيلابل من استئناف الأعمال لتحويلها إلى ما يشبه واجهة دخول. وتمّ مدّ دكة أو مصطبة السيلا بحيث تجعل من المعبد شبه مزدوج الجناح في الخلف (تحول من 6/11 إلى 6/12). بالمقابل، زُوّدت أعمدة الواجهة الخلفية التي لا يمكن الوصول إليها بدكات مزدوجة، وكان هذا التجهيز في تدمر خاصاً بالممرات عادة. وبالمثل، وُضع على الجبهة الخلفية للمعبد التكريس الوحيد الكبير المعروف للسيلا.

البوابة الرئيسة لمعبد نبو
ويدخل منها الدكتور جاك سين، مؤلف هذه الدراسة

ومع ذلك فإنّ الأعمال الأكثر أهمية تركزت على القسم الشمالي من الباحة حيث تمّ خرق جدار السور الشمالي بثلاثة أبواب. واستكمل هذا التغيير ببناء رواق معمّد بعشرة أعمدة على مسار الطريق. ومن المرجح أنّ إعادة التنظيم هذه وهذا الفتح المقحم للمعبد على الشارع المعمّد الكبير الذي كان جارياً العمل به قاد عبدة نبو إلى التعدي «إلى ما وراء الحدود القديمة للحرم الإلهي»، على الأراضي التي طالها شق الطريق. وأياً كان الأمر بالنسبة لهذه النقطة الأخيرة، التي لا يمكن التحقق منها ضمن الوضع الحالي للأبحاث، فإنّه من المؤكد أنّ بناء الشارع لم يحترم الإنشاءات الجديدة للمعبد: فما أن انتهى بناء الرواق الشمالي حتى تمّ تفكيكه كله مع مدخله المعمّد للسماح بشق الطريق الجديد المرصوف والمبلط.

لم يكن الأمر الأكثر تميزاً في هذه العملية، التدمير الكامل للرواق الشمالي، وتدمير المدخل ذي الأعمدة العشرة الذي كان مقترناً به، بل كان سد كافة المنافذ المباشرة إلى المعبد عبر الشارع الجديد. وفي الواقع، فقد استعيض عن المدخل المعمّد والرواق الشمالي ذي التكريس المزدوج والباب الضخم الثلاثي المنافذ، بجدار مستمر لا توجد فيه فتحة واحدة ويوافق خلفية صف المخازن التي شيّدت على امتداد الشارع. ولم يصبح بإمكان عبدة نبو الدخول مباشرة إلى معبدهم من الشارع المعمد الكبير إلاّ بعد مضي بضع سنوات من خلال شراء أحد المخازن وتحويله إلى مدخل، لكن هذا المدخل تمّ عبر ممر متعرج وليس عبر الواجهة الضخمة ذات الأعمدة العشرة (الشكل 5). وبهذا الواقع، لا يمكن تفسير عملية تقليص مساحة المعبد جزئياً بأنها النتيجة الوحيدة لتقنيات اضطرارية، كما لا يمكن حدها بمسألة تراصفات بسيطة (حتى وإن كانت هذه الأخيرة واقعية تماماً دون أيّ شك). وقد توافقت هذه العملية مع عقوبة حقيقية فرضت على المجموعة «المالكة» للمعبد. ومن الجلي أنّ أحفاد إيلابل قد تجاوزوا حقوقهم وغالوا في قوتهم السياسية في فترة إنجار المخطط المدني الكبير. ويبين لنا هذا المثال أن «الصراع» بين تنظيم الشبكة الطرقية والمعبد لم يكن ينتهي دائماً إلى التفاف الطريق الدنيوي حول المعبد أو المساحة المقدسة. إذ كانت المصلحة العامة تتفوق أحياناً على الخاصة وإن كانت هذه الأخيرة مقدسة. وبالتالي فقد كان «عدم المساس» بمعبد ما يتعلق بالقوة السياسية-التمويلية للذين يقفون وراءها.

مذبح معبد نبو



الخلاصة
تتبدى المساحات المقدسة الخاصة بالآلهة وكأنها «محركات» فعلية للتخطيط المدني. فقد كانت المعابد نقطة الوصول والتلاقي بالنسبة لمحاور الطرق الكبرى، وكانت سبب وجودها كما كانت تحدد مسار شقّها، وذلك ضمن حدود القيود (المتغيرة والمختلفة) المفروضة بسبب التضاريس المحلية والبناء السابق الوجود.

وضمن هذا المخطط للتنظيم المدني (أو بشكل أدق لإعادة التنظيم المدني)، والمعدّ وفقاً لوجود المعبد الرئيسي للمدينة، فإن المواقع المقدسة الأخرى تبدو وكأنّها كانت تشكلّ مساحات محمية إذا كانت موجودة قبل تغيير أو إنشاء شبكة الطرق الجديدة، فكان يتمّ تجنبها أو الالتفاف حولها. ولهذا لم تكن هذه الحُرَم المقدسة تقع على مسارات خطية، «هذا على الأقل ما نقبل به عموماً»، وتقدم لنا تدمر مثالاً ممتازاً على ذلك من خلال حرم معبد نبو. فلا بدّ أنّ الشارع المعمّد الكبير كان قد اتخذ هذا الشكل الخاص جداً، المنكسر في ثلاثة أجزاء متمفصلة حول «التترابيل» وقوس كبير، لتجنب المرور في حرم نبو (أبولون) الشرقي والأقدم من الشارع نفسه.

تأليف: جاك سين
ترجمة: موسى ديب الخوري
المصدر: المعابد التدمرية، الأوس للنشر

مواضيع ذات صلة: