صلاح الدين الأيوبي
هوأبو المظفر يوسف بن أيوب بن شادي، صلاح الدين الأيوبي الملقب بالملك الناصر، من أشهر ملوك وقادة الإسلام ومحرر القدس من أيدي الصليبيين.
يختلف المؤرخون في أصل هذه الأسرة، والأرجح أن أباه وأهله كانوا من دوين وهي بلدة في شرقي أذربيجان، وهم بطن من الروادية من قبيلة الهذبانية الكردية، وقد دخلت أسرتهم كنف الحياة الإسلامية في بغداد وتكريت وبعلبك ودمشق، وترعرعت بينها، وتثقفت بالثقافة العربية الإسلامية في وقت كان شعار الحياة العامة الدين الإسلامي الذي يجمع بين القوميات المختلفة برباط أخوي {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عندَ الله أَتْقَاكُم} (الحجرات آية 31)، ولا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى.
ولد صلاح الدين في الليلة التي غادر فيها والده نجم الدين وعمه أسد الدين شيركوه تكريتَ، متوجهين إلى الموصل حيث يقيم عماد الدين زنكي أتابك الموصل الذي أكرم مثواهما عرفاناً بالجميل، الذي أسدياه إليه عندما هُزم هو والسلطان السلجوقي مسعود في حربهم ضد الخليفة المسترشد سنة 526هـ/1131م. ولما فتح عماد الدين بعلبك سنة 534هـ، ولىّ عليها نجم الدين أيوب. وفي بعلبك قضى يوسف صلاح الدين طفولته الأولى، وفي سنة 546هـ، فارق صلاح الدين والده وعمل في خدمة عمه أسد الدين الذي تولى قيادة الزنكيين بعد مقتل والده سنة 541هـ/1145م، فقدمه بين يدي نور الدين الذي قبله وأقطعه إقطاعاً حسناً.
تلقى صلاح الدين العلوم الإسلامية، فدرس القرآن والحديث والفقه على أيدي كبار العلماء، منهم الشيخ الإمام قطب الدين النيسابوري، الذي قال عنه المقريزي، بأنه جمع لصلاح الدين عقيدة تحوي جميع ما يحتاج إليه، كذلك تلقى فنون القتال والفروسية وغيرها من فنون أبناء الطبقة الحاكمة.
في سنة 549هـ، ملَكَ نور الدين زنكي دمشق. وحينما بلغ صلاح الدين الثامنة والعشرين من عمره تولّى رئاسة الشرطة في دمشق سنة 560هـ/1164م، نائباً لواليها تبعاً لذلك، وكانت مهمة النائب فيها، قيادة العساكر والمحافظة على النظام والسهر على جباية الخراج، فأظهر السياسة وأحكم الأمور فيها.
وفي أثناء إقامة صلاح الدين في الشام كان يراقب عن كثب التطورات العسكرية التي كانت تحدث في المنطقة، كالهجوم الصليبي على دمشق وبعلبك، وتصدّى نور الدين لها بمساعدة كل من والد صلاح الدين -نجم الدين أيوب- وعمه -أسد الدين شيركوه-، وكان صلاح الدين يتأثر بتلك الأجواء ويشارك في الأحداث. وفي تلك الأثناء حدث في مصر من الظروف ما حدد مستقبل صلاح الدين ودفعه إلى المسير إليها طوعاً وكرهاً، فقد ذهب طوعاً إلى مصر في المرة الأولى سنة 559هـ، والثانية سنة 562هـ، وكرهاً في المرة الثالثة سنة564هـ، بأمر من نور الدين حينما استنجد الخليفة الفاطمي بنور الدين زنكي ليخلصه من ظلم الوزير شاور، ومن تقدم الفرنجة الصليبيين إلى مصر للمرة الثالثة.
في منتصف ربيع الأول سنة 564هـ/1168م، وصلت حملةُ نور الدين حدود مصرَ. ولما علم الصليبيون بقدومها رحلوا عن مصر خائبين دون أن يحققوا شيئاً من أهدافهم ودون أن يستلموا من شاور الأموال التي وعدهم بها، وبذلك صفا الجو لشيركوه الذي تقدم بأمان إلى القاهرة حيث استقبل المصريون الحملةَ النورية بالترحاب، وخرج العاضد للقاء شيركوه، ويقال إنه اجتمع به وأسرّ إليه أموراً مهمة، منها قتل الوزير شاور.
بمقتل الوزير شاور، بدأ فصل جديد في العلاقات الأيوبية-الفاطمية لأن العاضد اتخذ شيركوه وزيراً له، ولكنه توفي بعد شهرين من توليه الوزارة، فاختار العاضد صلاح الدين للوزارة وقيادة الجيش ولقبه بالملك الناصر. ولما استقر صلاح الدين بمنصب الوزارة في مصر قام بتنفيذ أعمال عديدة، كان أولها تثبيت مركزه في مصر، فأرسل إلى أبيه وإخوته يستدعيهم إليها، وقام بتفقد عام للقوات العسكرية الموجودة في مصر وعكف على التخلص من الأمراء المصريين، ومن الأرمن والسودان، لأنه اعتقد أن بقاءهم في القوات العسكرية يُعد خطراً على سياسته وقد يهدد مركزه في مصر، علماً بأن الفرقة الأسدية التي أنشأها أسد الدين شيركوه، والأمراء الأكراد الذين كانوا بمصر انضموا جميعاً إلى صلاح الدين. ولم تنقضِ سنة على توليته الوزارة حتى كوَّن فرقةً خاصة من الحرس تدعى الصلاحية، وبذلك سيطر صلاح الدين على أهم جزء من القطاع العسكري، ومن ثم توجه إلى القطاع المدني إلى عامة الشعب المصري، ووجد في حلّ مشكلاتهم الاقتصادية خير وسيلة لكسبهم؛ فأبطل المكوس والمظالم التي كانت الدولة تجبي منها سنوياً 200 ألف دينار، كما عزل قضاة مصر من الشيعة واستناب على سائر البلاد قضاة شافعية، وعيّن العالم الشافعي صدر الدين بن عبد الملك بن درباس قاضياً للقضاة الشافعية.
وفي سنة 565هـ/1169م، تقدم الصليبيون نحو دمياط بقوات كبيرة، فأرسل إليها صلاح الدين مباشرة بعض العون العسكري والمادي، وسمح للأمراء الأيوبيين بالذهاب إليها، كما أن نور الدين أرسل إليه العساكر يتلو بعضها بعضاً، وتقدم نور الدين نفسه إلى بعض القلاع في الشام فاستولى عليها، مما دفع الصليبيين إلى الانسحاب من دمياط على الرغم من الحصار الشديد الذي دام خمسين يوماً.
كان من نتيجة انسحاب الصليبيين من دمياط أن ظهر صلاح الدين للمصريين بمظهر المنقذ، مما ساعد على التفافهم حوله، وأخذوا يساندونه في حربه ضد الصليبيين ويسيرون معه لمحاصرة قلاعهم في الشام بعد أن لاحقهم هناك. وفي سنة 567هـ، نفذ صلاح الدين الأوامر التي كانت تصدر إليه من نور الدين بإسقاط الخلافة الفاطمية، فقطع الخطبة للخليفة العاضد الفاطمي، وأقامها للخليفة المستضيء العباسي، وكان العاضد مريضاً على فراش الموت فتوفي دون أن يعلم ما حدث.
بإسقاط الخلافة الفاطمية أعيدت الوحدة بين مصر والشام من جديد مذهبياً وإقليمياً، وأصبحت الخلافة العباسية هي الوحيدة التي يدين لها جميع المسلمين بالولاء، فنشأت طاقة بشرية ومادية ظهرت آثارها في الحروب التي خاضها صلاح الدين ضد الصليبيين.
كان لوفاة نور الدين زنكي سنة 569هـ/1174م، أثر كبير في إبراز شخصية صلاح الدين وتحديد العلاقة بينه وبين القوى الإسلامية في منطقة الشام والجزيرة، لأنه لم يكن من المنتظر أن تبقى منطقة الشام والجزيرة التي كانت تحت حكم نور الدين محافظة على وحدتها وقوتها، خاصة وأن الأمراء الزنكيين وكبار القادة في جيش نور الدين دخلوا فوراً بعد وفاته في تنافس على وصاية ابنه الصغير الصالح إسماعيل، علماً بأن الخطر الصليبي غدا ذا تأثير كبير في تطور الحياة السياسية في منطقة الشام.
حين لم يكن بمقدور الصالح إسماعيل ولا بمقدور عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل ولا السلطان السلجوقي في آسيا الصغرى أن يجابهوا الخطر الصليبي على انفراد، خاصة أنّ الإمدادات الأوربية لم تنقطع عن قوى الصليبيين في المنطقة، أصبح لزاماً أن يتقدم أحد أمراء نور الدين الأقوياء ليملأ الفراغ ويوحد الكلمة ويجمع الصف. وكان صلاح الدين غداة وفاة نور الدين يملك قوة كبيرة من العدد والعدة، فهو أمير مصر الغنية القوية، وقائد لعدة فرق عسكرية مكونة من الأكراد والأتراك الذين قدموا معه، إضافة إلى القوات المصرية التي انضمت إليه بدافع المحبة أو كرهاً بالحكم الفاطمي، لذلك كله أحس صلاح الدين بأنه الوارث الحقيقي للدولة الزنكية وأن من واجبه إعادة بناء الدولة وتوحيد الكلمة ومواصلة السياسة التي بدأها نور الدين محمود الزنكي، وقد استغرقت عملية التوحيد هذه فترة زمنية امتدت من سنة 570هـ/1174م إلى سنة 582هـ/1186م.
نجح صلاح الدين بضم كل من دمشق وحمص وحماة سنة 570هـ، ولكن الوحدة بين مصر والشام وبلاد الجزيرة لم تتم إلا بعد دخول كل من حلب وميافارقين والموصل تحت إمرة صلاح الدين، إذ بضم حلب سنة 578هـ كان كمال انضمام الشام إلى مصر، وبفتح ميافارقين وبعقد الصلح مع الموصليين انضمت منطقة الجزيرة وديار بكر للوحدة. وبذلك ثبت مركز صلاح الدين قائداً إسلامياً عاماً للقوى الإسلامية في كل من مصر والشام وبلاد الجزيرة وديار بكر ومناطق شهرزور وما وراء الزابين كافة، وأصبحت تلك المناطق جميعاً، بعد أن سادها الاستقرار بين مختلف عناصرها العربية والكردية والتركمانية مادة لجيوش صلاح الدين. وكان من نتائج تلك الوحدة والاستقرار أن هُزِم الصليبيون هزيمةً ساحقة في معركة حطين سنة 583هـ، تلاه استرداد طبرية وعكا وتبنين وصيدا وبيروت وعسقلان، ثم تحرير القدس في السنة نفسها، ثم وقائع على أبواب صور، فدفاع مجيد عن عكا انتهى بخروجها من يد المسلمين سنة 587هـ، بعد أن اجتمع لحربه ملكا فرنسا وانجلترا بجيشيهما وأسطوليهما، وأخيراً عُقِدَ صلح الرملة بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد -ملك انجلترا- سنة 588هـ/1192م، وكان من شروطه أن تكون الهدنة عامة في البر والبحر ومدتها ثلاث سنوات وثلاثة شهور، ابتداء من 21 شعبان 588هـ/22 أيلول 1192م، وتكون مدينة عسقلان خراباً، والرملة واللد مناصفة بين الطرفين، وأن يسمح للحجاج النصارى بزيارة مدينة القدس، وكان من نتائج المعاهدة أن عاد ريتشارد قلب الأسد إلى بلاده وعاد صلاح الدين إلى القدس ومنها إلى دمشق مقر أعماله الأول ومحل سكنى أولاده، ولكنه لم يمكث فيها طويلاً حيث توفي في فجر يوم الأربعاء 27 صفر، بعد مرض دام ثمانية أيام ودفن في دمشق.
توفي صلاح الدين بعد قضى سني حياته بصد هجمات الصليبيين المتكررة على منطقة الشام، وبرهن على مقدرة عسكرية فائقة وقسوة على النفس في الإخلاص، فقد صان شرفه وحافظ عليه أكثر من حفاظ الصليبيين على قانون الفروسية، وكان رجلاً مستقيماً يعرف بحسن نواياه، لم يستخدم المكر والخديعة مع أعدائه، بينما استغل أعداؤه تلك الصفات فيه، وكانت مشاركته الفعلية في الحروب إلى جانب قواته العسكرية من العوامل الرئيسة لانتصاراته، وقد برزت له هذه الميزة حتى في أشد الأيام الدامية، حيث كان يتنقل وسط ميدان المعركة يوقظ الهمم ويحيي في الجند الروح الإسلامية.
لم يهمل صلاح الدين، على الرغم من انشغاله بمشكلات الحكم ومحاربة الصليبيين، أمر العلم والتعليم، فكان شديد الاهتمام بنشر العقيدة الإسلامية ومحاربة أهل البدع والزيغ، ولذلك اهتم بإنشاء المساجد ومراكز العبادة والمدارس التي تدرس الفقه والدين على المذاهب السنية وخاصة المذهب الشافعي. ومن هذه المدارس، المدرسة التي بناها مجاورة لضريح الإمام الشافعي في مصر، وكانت هذه المدرسةُ عظيمة زارها الرحالة ابن جبير ووصفها بقوله «ولم يعمر بهذه البلاد مثلها، لا أوسع مساحة ولا أحفل بناء. يُخيل لمن يطوف عليها أنها بلد مستقل بذاته». وخصص صلاح الدين لهذه المدرسة مبالغ كبيرة من الأموال، فكان راتب المدرس فيها 40 ديناراً وستين رطلاً من الخبز شهرياً، عدا رواتب المعيدين والخدام فيها. وهناك مدارس أخرى كثيرة أنشئت لتدريس المذاهب الأخرى غير الشافعية، كالمدرسة السيوفية، التي أنشأها صلاح الدين بمصر سنة 577هـ/1181م، لتدريس مذهب أبي حنيفة، والمدرسة الصلاحية لتدريس العلوم الفقهية على المذهب المالكي والتي أنشأها بالقرب من البيمارستان النوري في دمشق، وأحاط صلاح الدين الطلبة الغرباء وطالبي العلوم العقلية والشرعية بالعناية. وقد وصف ابن جبير تلك العناية الكبيرة التي كان يقدمها صلاح الدين لأولئك الطلبة، كما شملت رعايته العلمية الأيتام والمساكين فخصص لهم الأموال والأوقاف الكثيرة، بعد أن رتّب لكل جماعة منهم معلماً خاصاً يأخذ من تلك الأوقاف ما يسد نفقته ونفقة الأيتام من الصبيان وما يقوم بهم وبكسوتهم.
للمصنِّفِين كتبٌ عديدة في سيرة صلاح الدين، منها «الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية» لأبي شامة، و«النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية» لابن شدّاد، و«البرق الشامي في أخباره وفتوحاته»، و«حوادث الشام» في أيامه في سبعة أجزاء لعماد الدين الكاتب، و«الفتح القسّي في الفتح القدسي» لعماد الدين أيضاً. كما تناول بعض الباحثين المحدثين حياة صلاح الدين وعصره.
نجدة خماش
الموسوعة العربية [12]