دمشق في العهد العباسي

دمشق في العهدين العبّاسي والفاطمي


بانتهاء العهد الأموي ينتهي العصر الذهبي الذي حظيت به دمشق في سيرة حياتها. أمّا العصر العبّاسي فيبدأ باجتياح عسكري، يتمثّل بثأر العبّاسيين من بني أميّة، فيهدمون بعض أسوار المدينة وقصورها ومبانيها العامّة، وتغدو بذلك دمشق مدينة ثانوية في أطراف الدولة، التي أضحت عاصمتها بغداد.


ومن الطبيعي أن يُصاب المدّ العمراني بالانتكاس، وتذوي المشاريع والمنشآت التي تتطلّبها العواصم في العادة، فضلاً عمّا تعرّضت له المدينة من دمار في فترات الثورات والحصار. فنشبت الحرائق أكثر من مرّة في أحيائها وأرباضها، ولم ينجُ منها الجامع الأموي نفسه، فاحترق حريقاً شاملاً 458هـ/1065م. ثم يأخذ عدد السكّان بالتناقص تدريجياً، ويبدأ عصر وسيط قاتم يشتدّ ظلاماً قرناً بعد قرن، حتى يبلغ أوجه في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).


في العهد العبّاسي التالي لعهد حكم الأمويين (منذ عام 132هـ/749م) لم تظهر أية أبنية رسمية، بسبب الخلاف الحادّ القائم بين الدولتين، هذا فيما خلا بعض الأبنية الخاصّة التي بناها الخليفة العبّاسي المتوكّل أثناء زيارته لدمشق عام 243-244هـ، وكان ينوي اتّخاذها عاصمة لخلافته. ويروي المؤرّخون أنه: "كتب إلى أحمد بن محمد بن مُدبِّر يأمره باتّخاذ القصور وإعداد المنازل، وكتب في إصلاح الطريق وإقامة المنازل والمرافد".


فإذا بحث الدّارسون عن هذه القصور الدائرة لا يجدون عنها أي تفصيل، لا في كتب البلدانيين أو مؤرّخي الحوليات، ولا على أرض الواقع. هنا نجد أن المصدر الوحيد الذي يعيننا على معرفة أماكنها هي بعض الوقفيات المتأخّرة العائدة إلى العهد الأيوبي، كما سنرى أدناه. فتذكر وقفية (ابن زويزان) بساتين تُعرف بالقصر، فيما حدّدنا موقعه اليوم ببساتين اللّوّان التابعة لقرية كفرسوسة، المحاذية للمزّة بجنوبها الشرقي.


وإذا رحنا نجول بين أحياء المدينة وفي جنباتها باحثين عن أثر عمراني يعود إلى هذه الحقبة، لا نجد شيئاً ذا بال. ويزعم المؤرّخون أن قبّة الخزنة القائمة في صحن الجامع الأموي، رغم ما تتّسم به عُمُدها وجدرانها وفُسيفساؤها من ملامح الفنّ الأموي، قد بُنيت في خلافة المهدي في حدود سنة 160هـ/776م.


ونفتّش فنجد محراباً يخصّ مسجداً من العهد الفاطمي في حيّ الميدان جنوبيّ دمشق، يُدعى "مسجد فلوس"، ويمتاز هذا المحراب بزخارف ونقوش وكتابات كوفيّة مشجّرة، معمولة بالجصّ وفق الأسلوب الفنّي لذلك العصر. وهو الأثر الفاطمي الوحيد الباقي من ذلك العصر كبناء قائم.
ومنها أيضاً مسجد الوزير أبي علي طاهر المزدقاني، بقيت منه كتابة نادرة للغاية ومشوّهة في زاوية (نزلة جوزة الحدبا) بحي سويقة صاروجا (والتسمية طبعاً متأخرة). وهذه الكتابة تتضمّن وقفاً، وإن كان للأسف غير مقروء اليوم بسبب الإهمال الشديد وكونه على مستوى المارّة، ولا حماية له على الإطلاق من حركة الناس وتعدّياتهم.


المثال الآخر –وهو الأهم- نعدّه أجمل وأندر كتابة أثرية بدمشق، بخطّها الكوفي الفاطمي الرائع وأناقتها التي لا تُقارن. نعني بذلك كتابة وقف المسجد الديّلمي الذي عمّره الخليفة الفاطمي المستنصر بالله عام 444هـ، وحبس عليه أوقافاً مذكورة بنصّ النّقش. وأغرب ما في هذه الكتابة هو موقعها الذي لا ينتبه إليه أحد بعارض صخرة (المنشار) بالرّبوة، المعروفة اليوم بصخرة (أذكريني)، في محلّة تعجّ بالمطاعم وروائح الشّواء!


والصخرة المذكورة ترتبط بمفردات غنيّة للغاية حول الطبوغرافيا التاريخيّة لمدينة دمشق، فعند عاتقها تقع فجوة (المُنيقبة) الآراميّة القديمة، التي يسيل منها الفائض من مياه نهر ثورا، والتي وصف الرّحالة المغربي الكبير ابن بطّوطة (في القرن الثامن الهجري) مغامرة الجسورين من الصبية بالغوص في داخلها. وإلى جانبها ما يسمّيه الشُّواة (قوّامو الأنهار) بـ "حالول الطاقة".
أخيراً، فثمّة بساتين كانت تابعة لقصر بكجور، أحد ولاة الفاطميين على دمشق (373هت)، لم نكن لندري بها لولا وقفيّة (ابن زويزان) من العهد الأيوبي، والتي تنصّ عليها بالاسم: "من أراضي القصر البكجوري من إقليم المزّة من كورة غوطة دمشق". فهذا من أوضح الأمثلة كيف تقدّم لنا الوثائق الوقفيّة مُعطيات فريدة نادرة قد لا يقدّمها أحياناً سواها.


ونجد أيضاً ضريحين هامّين، أحدهما من الحجر والآخر من الخشب المحفور، في مقبرة الباب الصغير، الأول للسيّدة فاطمة والثاني للسيّدة سُكينة من آل بيت الرّسول (صلى الله عليه وسلّم).
ثم تحدّثنا الروايات التاريخية أيضاً عن قصر عبّاسي يُعرف بقصر السّلطنة، وقصر آخر للولاة الفاطميين بُني في قاسيون عند دير مُرّان ليكون دار إمارة بعد أن هُدم قصر الخضراء الأموي، وقيل إنه كان يتّسع لألوف من النّاس، فهو إذاً بمثابة الحصن ينزله الوالي وحاميته الكبيرة. وقد ظلّ هذا القصر عامراً ينزله كل من ولي دمشق من الفاطميين، إلى أن كان عام 458هـ/1065م فثار أهل دمشق على أميرها الفاطمي بدر الجمالي، فأحرقوا القصر ونقضوا أخشابه وشمله الخراب. ومعنى ذلك أنه كان مبنيّاً بالخشب واللّبن. ولكن هل يكون هو ذاته الحصن الذي أشار إليه الرّحالة (البشاري المقدسي) الذي زار دمشق في حدود عام 365هـ بقوله: "وعليها حصن بُني، وأنا به من طين"؟ (أي: كنتُ شاهدتُه مبنياً باللّبن). هذه مسألة بحاجة إلى بحث مستفيض.


وبما أنه لم يكن في عهد المقدسي أيّ بناء هام آخر سوى هذا القصر القديم، فإننا قد نرجّح أن يكون هو الحصن الذي تحدّث عنه المقدسي، وكان يجري وقتئذ تجديده وإصلاحه.
على أن العبّاسيين لم ينسوا دمشق كل النسيان، بل ظلّت تستهويهم بما لها من ماض مجيد وجمال أخّاذ، فشدّوا إليها الرّحال لزيارة جامعها والتنزّه في مغانيها ومرابعها الخضر.


زارها المهدي ثالث خلفاء العبّاسيين، ثم الرّشيد والمأمون والمعتصم والمتوكّل، وفكّر المتوكّل والواثق بنقل عاصمة الخلافة إليها. قال ابن عساكر: "لم تزل ملوك بني العبّاس تخفّ إلى دمشق طلباً للصحّة وحُسن المنظر، أقام بها المأمون وأجرى إليها قناةٌ من نهر منين إلى معسكره بدير مُرّان. وبنى القبّة التي في أعلى جبل دير مُرّان وصيّرها مرقباً يوقَد في أعلاه النّار لكي ينظر إلى ما في معسكره إذا جنّ عليه الليل، وكان ضياؤها يبلغ إلى ثنية العُقاب، وإلى جبل الثلج" (أي جبل الشيخ أو حرمون).
وقال أيضاً: "صار المأمون إلى دمشق وهو رقيق فغلظ وأخذ بعض اللحم. وقال: إن المأمون كان بدمشق في طارمة له (أي مقصورة عالية)، والثلج يسقط عليه، فأصحر يده للثلج ساعةً التذاذاً به". ومن المعروف تاريخياً أن المأمون زار دمشق مرتين بغرض إخماد الثورات والفتن: الأولى عام 215هت/830م، والثانية بعد ثلاث سنوات.


وزارها المتوكّل في عام 244هـ/858م، فخلّد شاعره البُحتُري هذه الزيارة بقصيدة مطلعها:


العيشُ في ليل داريّا إذا بَرَدا
والرّاحُ نمزجُها بالرّاح من بَردى


ونرجّح أن مخطط المدينة المنظّم الذي وضعت خطوطه في العهدين اليوناني والرّوماني واحتفظ بطابعه الأصيل في العهد الأموي، قد أخذ منذ هذا العصر يتبدّل وتتغيّر معالمه وتسوده الفوضى، فيصبح للمدينة طابع القرون الوسطى، بأزقتها المتألفة من أحياء فرعيّة متعرّجة، كان يُطلَق عليها كلمة (درب)، وتحفّ بها بيوت مؤلّفة من طبقات ثلاث، وهذا ما يفسّر لنا قول المقدسي حين وصف دمشق في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) بأن "أزقّتها غامّة". وكذلك قول ابن جُبير في القرن السادس (الثاني عشر الميلادي): "سككها ضيّقة مظلمة".
وكان مركز المدينة الرئيسي (أو المدينة) كما سيُطلق عليه فيما بعد، يحتوي على المؤسسات العامّة المُحيطة بالجامع الكبير، الذي ظلّ طوال خمسة قرون الجامع الوحيد للمدينة، بالإضافة إلى مئات المساجد. وهنا ينبغي التمييز بين ما مفهوم الجامع ومفهوم المسجد، فهذا الأخير بناء بسيط فيه مصلّى صغير لا تُقام فيه صلاة الجمعة في الأصل. هذا ولقد احتوى الجامع الكبير على الأسواق الرئيسية المخصّص كلّ منها بمهنة من المهن أو سلعة من السّلع دون غيرها. بينما زوّدت الأحياء البعيدة من المدينة بالعناصر المعاشيّة والمؤسّسات المحليّة الضروريّة، ففيها مسجد صغير أو أكثر، وحمّام وفرن وسوق أو سُويقة، لبيع مختلف الحاجيّات. وبذلك نشأ نوع من الاستقلال والاكتفاء الذاتي في كلّ حيّ. وحدث في المدينة مع الزّمن تكتّل جماعي، قام على أساس الأحياء، فصار لكل حيّ تنظيم خاصّ به لتوفير الحماية والأمن لسكّانه. وتحصّنت الحارات وراء الأبواب، وأصبح في بعض الأحيان لكل زقاق باب. ونُدب لحماية الحي حرس قومي خاصّ كانوا يدعونهم في القرن الرابع الهجري (الأحداث) أي الفتيان، وظلّت هذه التقاليد مستمرّة إلى أواخر العهد العثماني. ولا تزال في دمشق نماذج من هذه الحارات والدروب وأبوابها.


ولعلّ هذا الاتجاه الانعزالي لأحياء المدينة هو السبب أيضاً في انتشار المساجد الصغيرة في كلّ مكان. أحصى منها المؤرخ ابن عساكر 242 مسجداً داخل الأسوار، و178 مسجداً خارجها.
وفي هذا العصر أيضاً تغيّر مظهر الشارع المستقيم الروماني الفخم، واحتلته الأسواق الصغيرة والأحياء السكنيّة، وتحوّل إلى شارع صغير مُلتو، لا يشبه الأصل في شيء، ولكنه ظلّ مكشوفاً بخلاف بقيّة الأسواق التي غدت ذات سقوف، كما شهد بذلك المقدسي في القرن الرابع الهجري.
 

مواضيع ذات صلة: