دمشق في العهد الروماني

طويت صفحة العهد اليوناني في دمشق عام 64ق.م عندما دخلتها جيوش الرّومان بقيادة القائد العام بومبيوس Pompeius، وعرفت دمشق في هذا العهد نشاطاً تجارياً واسعاً، مُستفيدة من كونها محطّة رئيسيّة على طريق القوافل، ومن اتّساع الإمبراطورية الرومانية، وأفادها تدفّق الأموال عليها في تطوّرها العمراني الذي بلغ في عهد الرّومان حداً عظيماً، مازالت آثاره باقية إلى اليوم.


وأصبحت دمشق في عهد الإمبراطور هادريان حاملة لقب متروبول (مدينة رئيسية) ثم حملت لقب مستعمرة رومانية في عهد الإمبراطور سيبتيم سيفير، ولمع من أبنائها مهندسون، ووصلت شهرة أحدهم "أبّولودور الدمشقي إلى روما.


وفي أواخر القرن الرابع الميلادي انقسمت الإمبراطورية الرومانية وغَدَت دمشق من أملاك الجزء الشرقي من هذه الإمبراطورية، وهي التي عرفت باسم الدّولة البيزنطية. وأصبحت دمشق مركزاً عسكرياً مهمّاً في مواجهة الفُرس السّاسانيين، كما غدت من أهم مراكز الدولة العربيّة التي قامت في بلاد الشام وهي دولة الغَساسنة. وتقع دمشق بيد الفرس عام 612م ويستعيدها الرّوم بعد خمسة عشر عاماً على يد هرقل عام 627م. ولم تلبث أن أضحت في حُكم العرب بعد أن فتحتها جيوش العرب المسلمين عام 14هـ/635م.


لمحات في تاريخ دمشق العمراني العهد الرّوماني:

من المعروف أنّ السّلم الرّوماني والازدهار الاقتصادي الملحوظ الذي حظيت به دمشق في أيّام تبعيّتها للامبراطوريّة الرّومانيّة، قد ضاعف من عدد سكّانها ونجمت عنه حركة عمرانيّة واسعة. الأمر الذي استدعى توسيع المدينة، وإحداث تنظيم جديد فيها، يحقّق المفاهيم الجديدة في تنظيم المدن وتحصينها. فأحيطت المدينة بسور واسع مستطيل بُني بالأحجار الضخمة، احتمى وراء بردى من ناحية الشمال، وفُتحت فيه سبعة أبواب: واحد في الشرق، وآخر في الغرب ؛ واثنان في الجنوب، هما باب كيسان والباب الصغير؛ وثلاثة في الشمال، هي باب توما وباب الجينيق (كان بقرب باب السّلام) وباب الفراديس.


وكان يشق المدينة شارع رئيسي عريض يمتدّ من الغرب إلى الشرق، ينحصر بين باب الجابية وباب شرقي، اشتهر بالشارع المستقيم ويبلغ طوله 1500 متراً. وكان يتألف من طريق واسع في الوسط يقابل فتحة الباب الوسطى، ورواقين جانبيين مسقوفين يقابلان الفتحتين الصغيرتين للبابين الشرقي والغربي، تحملهما الأعمدة المتوّجة بتيجان كورنثيّة جميلة، التي مازال يظهر بعضها بين الفينة والأخرى خلال أعمال الحفر والبناء في الشارع. وكانت المخازن التجاريّة موزّعة على طول هذا الشارع بحذاء أروقته.


وهذا الشارع الرئيسي الجميل Decumanus Maxiums كان مزيّناً بالتماثيل، أدرك العرب أحدها الذي كان يتوسّط الشارع، وهو عمود عليه تمثال رجل باسط ذراعيه، وآخر على رأسه مثل الكرة فيها حديد. وكان يقطع هذا الشارع شارع آخر عرضاني متقاطع (يمتدّ من الشمال إلى الجنوب) Cardo Maximus وعند نقطة التقاطع قوس رباعيّة Tetrapylum تمّ الكشف عنها في منتصف القرن العشرين (عند محلّة طالع الفضّة)، وكانت على عمق 4 أمتار ونصف من سطح الأرض الحاليّة، نظراً لارتفاع سويّة الشارع على مرّ العصور. وتمّ رفع هذه الآبدة إلى مستوى الشارع وترميمها، وهي قوس هامّة وجميلة تحتفظ بإحدى فتحاتها كاملة وبعض الأعمدة التي تزيّنها. ومن المحتمل أن تكون هذه القوس هي التي يسميّها ابن عساكر بقنطرة سنان، كما حدّثتنا المصادر التاريخيّة عن وجود قوس أخرى إلى الغرب من هذه القوس، تهدّمت في القرن الثامن الهجري، واستخدمت أحجارها في البناء، كما ذكر المؤرّخ ابن كثير.
على أنّ الآبدة الأكثر أهميّة التي خلّفها العصر الرّوماني في دمشق كانت معبد جوبيتر، الذي كان من أشهر معابد العالم القديم، من حيث سعته وفخامة بنائه، وكأنّه وأبوابه وأسواره مدينة حصينة. بهذا الاعتبار عرفه العرب وأطلقوا عليه أحياناً تسمية (حصن دمشق)، والمدينة الداخلية أحياناً أخرى، معتبرين أسواره الخارجيّة هي أسوار المدينة اليونانيّة التي نسبوا بناءها إلى علام الإسكندر، كما جاء في رواية المؤرخ ابن عساكر. ولقد بني هذا المعبد على أنقاض المعبد الآرامي، وأسهمت في هندسته التقاليد المعمارية الشرقية إلى جانب فن العمارة الغربي الكورنثي، ولابُدّ أنه صُمّم وبُني من قبل مهندسين وصُنّاع دمشقيين كانت دمشق تشتهر بهم، أمثال الذي ذكرناه آنفاً.


وكانت (الآغورا) أو السوق العامّة تقع في الناحية الشرقيّة، وقد شُقّ بينها وبين المعبد شارع واسع له أروقة فخمة ما تزال تشاهد كثير من أعمدتها. ولمّا لم يعد نهر بانياس يكفي هذه المدينة الواسعة جرى تعزيزه بقناة استمدّت مياهها من مياه بردى أيضاً، وحملت بعض أقسامها على قناطر لاتزال تُشاهَد في حيّ القنوات غربي المدينة، وخُصّصت الأراضي الواقعة في الشمال الشرقي بعيداً عن الأسوار لكي تكون مقبرة Necropole لدفن الموتى. واتصلت المدينة بالعالم الخارجي بشبكة طرق مرصوفة تخرج من أبوابها إلى مختلف الاتجاهات، من أهمّها الطريق الآخذ إلى فلسطين ومصر La Via Marina.


وقُصارى القول، أن دمشق ظهرت في ذلك العصر مدينةً على النّسق الرّوماني، المطبوع بطابع القوّة والأناقة والجمال.


وفي ختام القرن الرابع الميلادي، حلّ العهد البيزنطي (379م)، ولم يحدث تغيير جذري في نظام المدينة، سوى أن معبد جوبيتر تحوّل إلى كنيسة للقدّيس يوحنّا المعمدان في حدود عام 395م، واحتلّت بعض المنشآت الأرض الكائنة بين سورَي المعبد، وأحدثت أسواق ذات أروقة تصل بين أبواب المعبد الداخلي وبين أسواره الخارجية، يُشاهد جانب منها عند البابين الشمالي والغربي للجامع الأموي. وظلّت الأروقة ذات الأعمدة في الناحية الجنوبية، الممتدة من باب الزيادة في الجامع الأموي (عند سوق الصّاغة) باقية حتى القرن التاسع عشر، شاهدها السائح السكوتلندي جوزايا لزلي بورتر J.L.Porter في عام 1855، وعدّ منها اثني عشر عموداً، فُقدت جميعها فيما بعد.

 



المصدر: دمشق الشام
قصة 9000 سنة من الحضارة

د.أحمد إيبش  والباحث عصام الحجار



 

مواضيع ذات صلة: