نبيل سليمان

المحتويات

.

مقدمة


ماذا يفعل الربّان والسّفينة، حين تجري الرّياح وتنتشر، حيث لا يشتهي؟! لم تكن هذه الرّياح إلاّ الكاتب والنّاقد نبيل سليمان، وليس الربّان والسّفينة إلا والده المساعد في الدّرك والانضباطي في عمله المسلكي (ابن حكومة)، الذي كان يرغب أن يُبعد ولده عن السّياسة، أيّام الوحدة السّورية والمصريّة (1958ـ1961)، بشتّى الوسائل الممكنة، ليلحقه بالثّانوية الصناعية في اللاذقية، محذّراً إيّاه دوماً من السياسة ومشاكلها. وما إن عثر الوالد على كرّاسة حزب البعث العربي الاشتراكي تحت سرير ولده البكر، حتّى ضربه وأرهبه، وقد ظهر هذا الحدث جليّاً في عمله «هزائم مبكّرة»، والتي لم تكن إلا سيرة ذاتيّة للرّاوي منذ بداية تعلّمه، وحتّى نيله شهادة الدّراسة الثانويّة الصّناعيّة، ووصفاً لتنقّله بين القرية والبلدة والمدينة، وللأحداث الهامّة التي مرّ بها الوطن، والمظاهرات الطلاّبية التي اكتسحت الشّوارع مطالبة بالوحدة والإصلاح، حيث كانت الثانوية الصّناعية، حينذاك، وكراً من أوكار البعثيّين والنّاصريّين الّذين يسيّرون التّظاهرات بهتافاتهم: «بدنا الوحدة باكر باكر مع هالأسمر عبد النّاصر». هكذا حلّق نبيل سليمان في فضاءات عبد النّاصر، ثمّ تأثّر بالماركسية، دون أن ينتسب إلى الحزب الشيوعي.


أولادكم ليسوا لكم


هذه التجربة الحياتيّة خلّدها نبيل سليمان، في عمله «هزائم مبكّرة» من خلال سيرة مواطن يُدعى «خليل»، والذي كان والده الدركيّ يحذّره قائلاً: «إيّاك يا بنيّ والسّياسة. لا تنخدع برفاق السّوء. العين لا تقاوم المخرز. مَن يقدر على الحكومة؟ ألا تذكر كيف كنتُ لا أعود حتّى الفجر أيّاماً كثيرة في طرطوس؟ الدريكيش؟ أنا أعرف أولاد المدارس وطيبتهم. أعرف الشّباب وطيشهم. كم من أستاذ ودكتور ومحام جررْته بيديّ هاتين من بيته مثل الكلب؟ ومن بين أكوام الحطب كنت أجرّهم، بعد شهور قليلة ستتخرّج وقد تصبح ابن حكومة، فكن ابنها المطيع منذ اليوم».

صورة قديمة للكاتب
نبيل سليمان

لكن الابن (خليل) ضرب بهذه النّصيحة عرض الحائط، فحمل دستور حزب البعث في قلبه، وآمن بأهدافه، وعندما حصل على الشهادة الثانوية، بدأ رحلة البحث عن وظيفة حكوميّة. فسافر إلى دمشق لتقديم مسابقة في وزارة الصّناعة. وهناك نصحه أحدهم بألاّ يُتعِب نفسه، لأنّ الأسماء المطلوبة للتّوظيف قد عُيّنت قبل أن تجري المسابقة. وفي ميناء اللاذقية وقّع «خليل» استمارة انتسابه إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، بعد أن نفذ صبره. حيث لا يمكنه أن يظلّ متفرّجاً، أو واقفاً على الحياد، ووطنه يحترق.

تزوّج والده بامرأة أخرى، وهجر أمّه وإخوته وأرسلهم للعيش بعيداً كي يظلّ مع زوجته الشابّة، ممّا ترك جروحاً، ربّما لم تبرأ، حتى الآن لدى الكاتب، الذي ما زال يتحدّث عن تلك المرحلة بألم.


أستاذ اللّغة العربيّة والصّداقة


عيّن نبيل مدرِّساً للّغة العربيّة في الرقّة سنة 1969، وأحاط به عدد من الأصدقاء الشيوعيين الذي أثّروا فيه فحملت كتاباته نفَساً ماركسيّاً، جعلت من «كتبة التقارير يظنّونني عضواً في هذا الشقّ أو ذاك». كما أنّ صداقته التاريخيّة مع بوعلي ياسين، النّاقد لكلّ شيء، عزّزت لدى نبيل سليمان الحسّ النّقدي من كلّ شيء، والعزوف عن الانخراط في الأحزاب.

من ثمار هذه الصّداقة كتابهما المشترك «الأيديولوجيا والأدب في سورية»، الصادر عن دار ابن خلدون، ثمّ خاضا معاً مغامرة الرحيل إلى بيروت في ربيع 1979 تاركَين وراءهما أسرتين، راكضَين خلف الحلم بالعيش في «الفضاء الفلسطيني اللّبناني، وفضاء الثّورة والحرب الأهليّة اللاّهبة».

التقى الكاتبان في لبنان بمهدي عامل ويمنى العيد وماجد أبو شرار وجورج طرابيشي وسعد الله ونّوس وغيرهم، والتقيا كذلك سليمان صبح الذي أسّس دار ابن رشد، وذاع صيتهما سريعاً، ووضع ياسين وسليمان كتاباً آخر مشتركاً ونشراه لدى الدّار بعنوان «معارك ثقافية في سورية».


ابن قرية البودي


قرية البودي الواقعة على السّفوح الوسطى الغربية لجبال اللاذقية، المليئة بالآثار، والتي اكتشفت فيها قنوات مياه مطمورة، محفورة في الصّخر، يعود زمن بنائها إلى العصر الرّوماني.

-

ويروى أن ثمّة قصرين، شرقي وغربي، تتناثر آثارهما هناك، ويطلق عليهما الأهالي اسم «قصور الضهر»، كما يعتقد بأن أنقاض مدينة أثرية هامة ما تزال مطمورة في باطن ذلك الموقع، فالأحجار النحتية وبقايا الأبنية القديمة، تدلّ على علاقة القرية بالممالك الفينيقية القديمة، التي قامت على أرض الساحل السوري كأوغاريت وسيانو وغيرهما. وقد عثر في موقع برمّانا القريب على جرار فخارية، ونقود قديمة، أثناء شق الطريق بين عين شقاق والبودي.


ولد نبيل سليمان في صافيتا عام 1945، وتلقّى تعليمه في اللاذقية، وحصل على إجازة في اللغة العربية عام 1967. عمل مدرّساً وأسس دار الحوار للنشر في اللاذقية، حيث تفرّغ للكتابة منذ عام 1990.


بنى الروائي في بداية الثمانينيات، قصراً في قرية البودي التي تقع على بُعد عشرين كيلومتراً من جبلة وترتفع 600 متر عن البحر مطلةً على شواطئ بانياس إلى اللاذقية، ونقل مكتبته إلى هناك: «أعيش فيها عزلتي منذ عام 1987 متفرغاً للقراءة والكتابة. ولا يعرف لذة القراءة والكتابة إلا المتفرغ». ونبيل سليمان يعرف هذه اللذة منذ عام 1982 حتى اللحظة.


الحياة أو الكتابة


كان سليمان قد بدأ الكتابة روائيّاً قبل أن يتّجه إلى النّقد. خيار الكتابة أو «خيار الحياة»، اتّضح جدّياً لديه منذ 1969، حين كتب «ينداح الطّوفان» التي نُشرت بعد عام من كتابتها، ولم تتحدّث الرّواية عن الهزيمة أو الحرب.

لقد اكتفى صاحب «ثلج الصّيف» بالإشارة إلى الهزيمة، في كلمة الإهداء «إلى 5 حزيران عرفاناً بالجميل». ثم أتبعها بـ «هزائم مبكّرة» (1985)، التي تروي مسلسل الهزائم الذي لا يغفل عن بطولات هنا وهناك ويقاربها روائياً «اقتراناً بهزائم على المستوى الشخصي الرّوحي».

يتّضح التّنوع الثّقافي في شخصيّات رواياته، فمصدره التنقّل المبكّر بين الأمكنة: إنه مولود في صافيتا سنة 1945، ودرس الأدب العربي في جامعة دمشق وتخرج سنة 1967. وكان يسافر مراهقاً مع والده ليعيش فترات بين عامودا البلدة الكردية في منطقة الجزيرة، ثم عاش في قرية شركسيّة في عين صاف، إلى أن انتقل إلى الدريكيش. وعن ذلك يقول: «هذا الخليط جبلني تعددياً، وانفتاحياً وحوارياً». هكذا هي عوالم رواياته المتعدّدة والجدليّة.


-

وقد بات معروفاً أنّ مشروع نبيل سليمان الأكبر هو روايته «مدارات الشّرق»، التي يقول عنها: «صرت أصدّق أنّ في حياة كلّ كاتب مشروع العمر الذي يُكتَب مرّة واحدة ولا يتكرر». جاءت هذه الرواية بعد عمله «قيس يبكي»، فشرع في كتابة كتلة من أكثر من ألف صفحة كانت نتاجاً لعمل 15 ساعة يوميّاً صيفاً وشتاءً، حتّى أنجز «الكتلة الأولى»، بعد ستّة شهور، ثمّ تابع العمل حتّى بلغ 2400 صفحة.

تهيمن على معظم أعماله الروائية وأبحاثه النقدية الدراسات المضمونية والسوسيولوجية، وتطغى عليها الانطباعات الشّخصية، والأحكام الذّاتية، وتكتفي بتلخيص مضمون الرواية، في محاولة لتأكيد أحكام القيمة المستمدّة من العرض السّريع للمضمون.

بنية النّص عند نبيل سليمان، بنية مفتوحة على الحقول الدلالية، والثقافية والأيديولوجية والاجتماعية. ومن هنا نزوعها إلى تجاوز الدراسات السوسيولوجية التي تقف عند حدود المؤثرات، إلى التفاعل النّصي والتناص، وينفتح النص الأدبي على مستويات أعلى من الوعي والإدراك، ويتحوّل إلى «رؤية» للعالم، ذات دلالة اجتماعية، تنظّم فضاءه. ومع اعتبار المبدع واضعاً للصياغة الفنّية المناسبة للوعي الجماعي الذي يعتمل في ضمير مجتمعه، كما يقول ميشيل بوتور: «ليس الرّوائي هو الذي يصنع الرّواية، بل الرّواية هي التي تصنع نفسها بنفسها».


الرّواية والتّاريخ


يعكس الروائي نبيل سليمان الواقع الاجتماعي في تماسكه وتناقضاته وظاهره، لا انعكاساً بسيطاً ومباشراً، بل تعبيراً عن الطّموحات التي ينزع إليها وعي الجماعة التي يتحدّث الأديب باسمها. تعالج روايات نبيل سليمان، تاريخ سورية الحديث والمعاصر، منذ العهد العثماني وحتى اليوم.

لقد غطّى نبيل سليمان بإنتاجه الرّوائي قرابة ثلاثة أرباع القرن العشرين. وكان الطّابع العام لهذا الإنتاج هي التاريخية، والاجتماعية، معيداً الحق لأصحابه البسطاء العاديين الذين أهملهم التاريخ الرسمي، فجاء الفن الرّوائي ليصوّر بطولاتهم المنسيّة.


شخصيات مدارات الشرق (الأشرعة)


1ـ الذات/الموضوع: الشخصيات محورية، تقوم في رحلة البحث عن المصير (الموضوع).
2ـ المرسِل/ المرسَل إليه: تندغم «الذات» في المرسِل، و«الموضوع» في المرسَل إليه.
3ـ العامل المساعد/ المعاكس: يتمثّل العامل المساعد في النّصير، والمعاكس في النّقيض، فالمساعد هم الجنود الذين يعودون من الحرب، أملاً في بناء حياتهم وحياة الفلاحين المظلومين. والعامل المعاكس هو الاستعمار العثماني، الفرنسي، الإقطاعيون، الرأسماليون، حيث يتصارع الخير والشر، وتشهد أماكن الأحداث ملاحم بطولية، ومظالم عديدة يندى لها جبين الإنسانية. ويؤمن نبيل سليمان بالمذهب القائل إن البطولة ليست لفرد واحد وإنما هي للجماهير.


الشخصيات المحورية:


1ـ راغب الناصح، من الجولان.
2ـ ياسين الحلو، من الزنبقلي في جسر الشغور.
3ـ إسماعيل معلا، من كفر لالا، في مصياف.
4ـ عزيز اللباد، من قبية، في صافيتا.
5ـ فياض العقدة، من المشرفة، في حمص.

هؤلاء الأبطال فرّوا من الجيش العثماني والتحقوا بالجيش الميمّم شمالاً، جيش الثورة العربية الكبرى. وبعد أن انتصرت الثورة رغب كل منهم في العودة إلى قريته، بعد أن انتهى الجهاد الأصغر، في محاربة العدو الخارجي، وجاء الجهاد الأكبر، في محاربة العدو الداخلي (الإقطاع، البورجوازية).


بنات نعش:


يهدي نبيل سليمان هذا الجزء قائلاً:
«لبو علي ياسين وعبد الرّحمن منيف،
لأفئدة تلوّح:
سلاماً
لشرق قضى
وقرن مضى
سلاماً
لدنيا جديدة».

-

حيث يتابع نبيل سليمان في الجزء الثاني من «مدارات الشرق» مصير الشخصيات، وتبدأ بطلقات عزيز اللباد على عبود بك الرشدة الذي قتل هيلانة:

«صارت البندقية خفيفة بين يديه، كالرّيشة. صارت دافئة وأليفة، كأنّها لم تغادره منذ انتزعوه من قبية، وجعلوه يقطع هذا السّهل حتى طرابلس. لا ينبغي له أن ينأى عنها ثانية، وحدها تستطيع أن تجمع في ومضة سنيه المقضيّة، أسفاره ومراراته، أصدقاءه وأهله، سنيّه التي قد تكون بقيت له، أجمل أو أقبح، ما الفرق؟

وحدها البندقية يستطيع أن يركن إليها وقت الشدة. وعما قليل سوف ترفع حذاء عبود بك وغير عبود بك عن رقبته. سوف تنتزع من تحت ذلك الحذاء وكل حذاء، سوف تنتزع هيلانة من أحضان الضيوف العرب أو الفرنسيين أو الأتراك، وتمسح دموعها وجراحها، تستر عريها، وتزفّها، أو تشيّعها كما يليق. لن يدع عزيز أحداً يخرج في جنازتها سواه. وإذ يصل بالنعش الصغير إلى أهلها يطلب يدها، ويدفن فؤادها معه، وينطلق ثانية مثلما انطلق من حمص بعد أن أودع نجوم لدى العم حاتم.

كان يعاين فتحات القصر ومحيطه، الأضواء والأصوات، والليل يعدو وهو يلهث خلفه، ويملأ صدره من الهواء المسائي القوي، ويحمحم مثل حصان، يكتم ضحكته مما كان بالأمس، بل لتوّه، ويحاول أن يقلّد نهيق الحمار.

قبيل الفجر قرّر أن الجميع قد هجعوا. تسلل من البرج خفيفاً وممتنّاً للعيون الغافلة. دار حول القصر حتى النافذة التي قدر أن وردة كانت تنام خلفها. أيقظت طرقاته الخفيفة من كانت نائمة خلف النافذة، وجاءه صوت غير أليف. أمر صاحبة الصوت بفتح النافذة. ظهرت وردة في النافذة، فشهق وسمّى باسم الله الرحمن الرحيم. سأله الصوت عما يبتغي، وخاطبه باسمه. صار الصوت أليفاً، بيد أن صاحبته لم تعد وردة تماماً. سأل عمن في الغرفة وأمر صاحبة الصوت أن تذهب لتنام في مكان آخر. قفز إلى داخل الغرفة وصوت وردة يشهق. أمر الخادمة بالصّمت، ثم أمرها أن تستطلع له الممر والطابق الأرضي. خرجت الخادمة منوّمة، ولم تلبث أن عادت بصوت وردة الرّاجف:
ـ لا أحد.
سأله الصوت أو رجاه:
ـ ماذا تريد يا عزيز؟
ـ ريثما أعود افتحي النافذة المجاورة للبوّابة. افتحي النافذتين المجاورتين وعودي إلى غرفتك، ونامي. أغلقي هذه النافذة ونامي. إياك أن يراك أحد.
ألحّ الصوت:
ـ ماذا تريد يا أخي؟

وكان قد ابتعد. جرت خلفه، لكنه كان قد بدأ يقفز فوق الدّرج إلى الطّابق العلوي. طارت إلى البوابة، ثم إلى غرفتها، وقبل أن تستلقي سمعت دويّ رصاصة أو رصاصتين. طارت إلى الممر، لكن صوت خبطة قوية سمّرها. تلفّتت حيرى، جزعة، فإذا بدويّ جديد للرّصاص. جرت إلى نافذة غرفتها تدعو الله أن يحمي عزيز اللباد، وتمعّن في عتمة الليل التي تضاعفها ظلال الأشجار. ولم تلبث الأضواء أن أخذت تشتعل في القصر، والأصوات تعلو».


الشخصيات الأنثوية:


جانيت الفرنسية، خديجة التكلي، والست زهرة، ووردة، أم عثمان، نجوم. لكن النّص الرّوائي يتّهم جميع نساء المدينة بالتهتّك والعهر: سارة، مريانا، أم نور الدين، بينما يرى كل نساء الرّيف فاضلات، ولا همّ لهن غير العمل والبطولة. والمرأة الرّيفية تتمتّع بقوّة نادرة في الدّفاع عن شرفها أمام البيك والآغا والوكيل: فأم عثمان تصمد أمام الكثير من المحاولات، وتحترم سنّها وأمومتها، ووردة عندما تُرغم على التعرّي أمام الفرنسي، تهرب، لتموت في بطولة تراجيدية، دفاعاً عن شرفها. ونجوم الصوان، الصلبة، الشجاعة، ترتقي إلى مستوى الرمز الوطني والتاريخي، لتمثّل الشام والوطن كلّه.

يشكّك نبيل سليمان بصدق العربي فيما يتبنّاه من مبادئ: «هل الجمهورية عميقة وأصيلة فينا؟ كما أظن أنّ فكرة الديمقراطية ليست أصيلة ولا عميقة، رغم كل ما نعتدّ به من زوايا مضيئة في التاريخ».

حاول سليمان في «مدارات الشرق» أن يبحث في أسس التيارات الماركسية والقومية والإسلامية، ويتأمل نشأتها وما آلت فيه في القرن العشرين من دمار على جميع المستويات الفكرية والاجتماعية والوطنيّة والمؤسساتيّة.

لكن ألم يكن لأي مؤرخ أن يقوم بهذا العمل على نحو أفضل من الروائي؟ هنا تأتي تلك التجربة الغاضبة، تجربة اللذة الغاضبة: «الكتابة بلا أي حساب للخبرة الفنية وللرقيب التاريخي والسياسي، تجربة من الحرية. أظن أنها عجنت كل الحمولة التاريخية والفكرية التي في "مدارات الشرق"، واقترحت شكلاً يبدو للوهلة الأولى كلاسيكياً».

في هذه الرواية وبحسب الكاتب نفسه، ثمة تجربة خاصة في بناء الزمان الممتد عبر 65 سنة، بُني على شكل موجات. وهذا المقترح الجمالي في «مدارات الشرق»، هو إضافتها الأهم من محاولتها تصوير ما كان عليه أمر النفط في الثلاثينيات في سورية والعراق، وما وصل إليه مع بدء الانقلابات العسكرية عام 1948.


الكاتب نبيل سليمان

أمّا مشروعه كناشر، فتجلّى في «دار الحوار» التي أسسها سنة 1982، وانصرف إليها انصرافاً كاملاً بدل عمله في التدريس. يقول عنها منذر المصري: «أرادَ أن يخرج من حالة الهزائم المبكرة التي بدأ بها حياته وجعلها عنوان إحدى رواياته، إلى حالة الانتصارات المتأخرة، ويكون صاحب مشروع ثقافي متكامل».


مدارات الشرق:


قام المؤلفان د. محمد صابر عبيد، ود. سوسن هادي جعفر البياتي، بدراسة في الملحمة الروائية «مدارات الشرق»، متسائلين عن العلاقة التي تربط الفن الروائي بالتاريخ، بوصفه معيناً مركزياً يغذّي الراوي بمادة كثيفة وفعّالة، وكيفية استنطاق الحدث التاريخي وتفعيله روائيا، والوسائل المتاحة أمام الروائي ليستطيع تحويل الحدث الواقعي إلى رواية تاريخية، لاسيّما وأن منظّّر الرواية التاريخية (لوكاتش) اعتبر الرواية أدباً اجتماعياً، وفناً في التعبير عن المجتمع بكل إسقاطاته وتجلياته، إيجابياته وسلبياته، صفائه وشوائبه، وبكل ما يختزنه من أحداث وهموم ومصاعب إلى جانب أحلامه وآماله وطموحاته.

فإذا كانت الرواية أدباً اجتماعياً ـ في المنظور اللوكاتشي ـ والتاريخ جزءاً من نشاط المجتمع البشري في حقبة زمنية معينة، بل هو كنز الأسرار الخاصة والعامة المرتبطة به والممثلة له على نحو أو آخر، فإن الرواية هي تعبير تمثيلي ـ تخييلي عن الفضاء العام لهذا الكون الإنساني في أنموذجه الاجتماعي ـ التاريخي، فثمة علاقة ثلاثية المنشأ تستلهم أركانها من هذه الأعمدة الثلاثية المكوّنة للمثلث النصي في التشكيل الروائي: المجتمع/التاريخ/الرواية. فالمجتمع هو الأساس الأولي الحيّ وعليه ومنه ينطلق التاريخ في تسجيل أحداثه المرتبطة به والممثلة له.

ورواية «مدارات الشرق» قد استوعبت في ثناياها الكثير من الأحداث التاريخية وصاغتها صياغة روائية ـ تمثيلاً وتخييلاً ـ عبرت بالأزمنة والأمكنة الحدود الروائية التقليدية في إطارها العام، وتعاطفت مع الشّخصيات التي عانت ما عانت، من جراء خذلان أصحاب الزّعامات لها وهي تبحث عن ممكنات عيشها الرّغيد على حساب الطبقات المسحوقة، في نمط خفي من الصّراع الطّبقي المهيمن على ذهنيّة مجتمع تشكّلت نسقيته على هذا الأساس.

تجاوزت الرواية في هذا السياق السمات السردية التقليدية الجاهزة، لتخلق لها سمات مبتكرة تفرضها الطبيعة الملحمية للحدث الروائي، وصياغة حوارات ذات وظائف انفعالية وتفسيرية وإشارية، لتؤسس عبرها لغة روائية خاصة يندمج فيها المديني بالرّعوي والشرقي بالغربي، مع ما فيها من صدامات ومشاحنات وتنافر تصل حد الإذلال المتعمّد والمهين لكرامة الإنسان واستحقاقات وجوده الطبيعي في الحياة عبر كشف أساليب تعذيبية وحشية. فالرواية على وفق هذه الجدلية زاخرة بالمقابلات الضدّية مادياً ومعنوياً: الحياة والموت/الاتصال والانفصال/الثورة والرضوخ/السلطة والاستعباد/المقاومة والعجز، حيث التضاد شكل من أشكال الصراع الملحمي العنيف.


مفهوم الأنا والآخر والمسؤولية الثقافية


تثير مسألة الأنا والآخر إشكالية سردية ترتبط باختلاف وجهات النظر أو الزاوية التي ينطلق منها الروائي في إبرازها بصورة قد تكون معقدة وشائكة نوعاً ما، وربما تظهر الأنا مفردة بصورة أكثر وضوحاً فيما لو اقترنت بالآخر، ولا سيما إذا كان هذا الآخر هو العدو بحدّ ذاته، حيث يضع الأنا في موقع تصادمي وصراعي على الدّوام، وهو ما يؤسس إشكالية العلاقة، التي تحكمها أسس ثقافية وفكرية وفلسفية وسيكولوجية وأيديولوجية، تنهض بصناعة طبيعة العلاقة وكيفيتها على عدّة مستويات.

نبيل سليمان

ويتم بناء صيغة العلاقة وتلقّيها عبر المقابلة بين صورة الذات (أو «الأنا»، أو «النحن» العربية) وصورة «الآخر» الحضاري الغربي، مع فروق في الطرح تحددها مواقف ورؤى المفكّرين والأدباء. وقد تعاملت الرواية العربية منذ تجاربها المبكّرة مروراً بكل التحولات والثورات التي مرت بها حتى الآن مع هذه الإشكالية التي صارت ثيمة محورية في الخطاب الروائي العربي، واشتملت على طروحات ورؤى، حتى باتت أشبه بموضة طالت مشاغل أكثر الروائيين العرب، إلا أنها جاءت على مستوى عال من المسؤولية الثقافية والإبداعية عند الروائيين المخلصين لمشاريعهم، حيث تخلّصوا من سلطة التقليد وعالجوا القضية بوعي فنّي وفكري وتقاني متميز، انعكس إيجابياً على تجاربهم وأصبح قضية مركزية من قضاياهم الرّوائية.

فوضع الحدود الفاصلة للمفاهيم واجتراحها، هي النقطة الأهم والأشمل، خاصة إذا تعلق الأمر بالآخر، ذلك أن هذا الآخر لا يبقى على وتيرة واحدة وشكل واحد ورؤية واحدة وحساسية واحدة بمرور الزّمن، كما هو الحال في «مدارات الشرق».

إن نقطة الالتقاء بين الأنا والآخر هي التي تشكّل المادة الأساس لمشروع السّرد الرّوائي: «أنا النص والآخر، منتجاً جملة من الإحالات اللغوية والنفسية والفكرية، التي غالباً ما تكون في خصوصية المعنى، تعبّر عن أنا وآخر في الوقت نفسه، فالسّرد بوصفه التّوليفة المحايثة لتوظيف كل منهما في تركيبة الوعي، كرغبة إرادية تمتحن صيغ التعايش الممكنة بينهما، وتجعل من الآخر مرتدّاً في حيّز الوجود إلى الأنا في إطار الكينونة».

فنحن إذن أمام تعدّد الآخر وتنوّعه ـ في الشكل والهوية والمشروع والمنهج والفكر ـ فيما تبقى بالمقابل، الذات العربية، الأنا الفردية، والأنا الجمعية واحدة لا تختلف عبر مرّ العصور وإن اختلفت وجهات نظرها وتطلّعاتها وآمالها، على النّحو الذي يخلق إشكالاً تفاعلياً بين حركة الآخر في تغيّره المستمر وثبات الأنا في استمرارها النّمطي على حال شبه مستقرّة.

تتموضع الأنا والآخر إذاً في مكان واحد وفضاء عملي واحد، فلا يمكن الحكم على الآخر بأنه الآخر، ما لم يكن هناك صلة تربط الاثنين ببعضهما، يتحرّكان في فضاء مكاني وزماني واحد، ففي إطار هذه المفاهيم تتكوّن «فكرة الآخرية من حجم الصّراع بين الإنسان والإنسان، وكل صراع بين إنسان وإنسان يبتدئ من تموضع كلا الطّرفين في حيزيّ الآخرية، فلا يمكن أن يحدث بينهما صراع ما لم يكن كل منهما آخر بالنسبة للآخر، على المستويين الفردي والجمعي، والآخر هو الكلية المزدوجة للكينونة الذاتية وتقويضها في الآن نفسه».

فالصراع بين الطرفين يبدأ عندما يحس عامل الأنا، بأن رغبة الآخر تشتغل للاستحواذ على الفضاء الخاص به وتحييده وتهميشه وإقصائه، وممارسة إكراهات معيّنة على رصيده الأنوي المستقل.


أشكال الأنا:


يتدخّل الراوي دوماً في إقحام ذاته، بين «الأنا» و«النحن»، وبالتالي يصبح ضمير الغائب هو الفاعل والمسيطر على هذا التلاعب في الضمائر، وذلك إنما يعود إلى أسلوب خاص يتبعه الرّاوي في التّحديدات الضمائريّة، وهي تحديدات تعلن مسبقاً عن مهارة الراوي وبراعته في التلاعب وقدرته على إدارة دفّة السّرد والتحكّم بمجرياته: «كان ميتاً بحق، على الرّغم من أنه قد طاف في ساحة البيت، وحوله، ثم حول النّهر، يتحاشى أن يصادف أحداً ممّن يعرف أو لا يعرف، يتلمّس الجنيه الذي أودعتَه في جيبه هذا الضّحى المشمس. وبعد المغيب يتسلّل إلى المحطة، يقعي في زاوية قذرة ومعتمة حتّى يأتي القطار، فيتسلّل إلى جوفه، ويدفن نفسه هناك.
أيّهما كان أكثر عجزاً: ذلك الشّاب الذي خلف شماً وراءه بلا عنق، أم هذا الكهل الذي خلف نجوم وراءه بلا سروال؟ أيّهما كان أكبر هزيمة؟ هل كان ما فعل رصاص الفرنسيين في الكهل أقتل مما فعلت سكاكين الخيالة في الشاب؟ شخصية العم حاتم أبو راسين من الشخصيات المثيرة حقاً في الرواية، تنمو وتتطور مع الأحداث على الرغم من إنه يتحرّك في نطاق مكاني ضيّق، ومع محدوديّة الدّور الذي يلعبه ـ إذ ينتهي هذا الدّور مع نهاية الجزء الأول ـ إلا أنه استطاع أن يترك بصماته على الأحداث، سواء أكانت الأحداث الماضية التي يعود إليها بذاكرته عبر تقانة الاسترجاع أم الأحداث الراهنة التي يعيشها في الحاضر، إذ يمكن اعتباره رمزاً، وانعكاساً فنّياً لمعاناة الإنسان المقهور في المجتمع الاستبدادي الشرقي المتطلع إلى الحرية والتقدم».


رواية سمر الليالي

وبفعل الروح الوطنية التي يحملها، فإنه يتحطم إنسانياً بفعل الضربات الموجعة التي تلحق بروحه وجسده وحلمه هزيمة ساحقة، هذه الهزيمة التي تترك أثرها في علاقته بنجوم، ومن ثم يبرز الهروب بوصفه بديلاً أو وسيلة للتخلّص من عقدة الذنب التي يحسّها، هذه العقدة التي نشأت لديه بعد أن ترك شمّا تُذبح أمام عينيه وهو ساكن وعاجز لا يتحرّك ولا يتمكّن من فعل شيء. هنا تتحول الشخصية التي عرفناها في بداية الرواية ـ مرحة، ثورية، فاعلة ومتفاعلة مع الآخرين، محبّة ـ إلى شخصية أخرى محطّمة، منسحقة، فيثور، وتبرز هذه الثورة في نقمته على نفسه، والتمرّد عليها، إذ ينشأ الصراع داخليا وذاتياً أكثر مما هو خارجي، وبفعل الضّغوط والمواجهة الحادّة مع النّفس تتشكّل رؤيته الخاصة لذاته ولشخصه ككيان يحمل في داخله آثار الدّمار والعجز ومحاولة إفناء الآخرين من غير تعمّد.

«أيقن عمر وهو يخرج من اللجة، ويلتقط أنفاسه، إنه قد جبل من طينة أخرى، ليست مثل طينة أحد ممن عرف حتى اليوم، وإذ راوده ذلك فيما بعد، لام نفسه على غرورها. فعمر التكلي هو على الأقل ابن الحاج المرحوم، شقيق هولو وخديجة. ولكن نفسه تأبت على هذا النّسب، استصغرته بالأحرى، كما لم تشأ أن تقترن إلى سليم أفندي ولا الباشا ولا الخواجة ثابت، بل أنها زينت له أن أولاء جميعاً قد يكون فيهم ما ينسبهم إليه، ولهم على أية حال أن يكونوا من طينة أخرى إن شاؤوا. أما هو، فله أن يشمخ عالياً، يبتدع أصلاً وفروعاً، ولذلك تكون النسبة إليه. وبقدر ما يقترب الآخرون منه يكونون من طينته، لا فرق بين طه اليتيم أو الباشا أو أمه العجوز أو أي كان. فسوى ذلك ليس ثمة إلا المساكين والحمير، سواء أكانوا باشوات أم خدماً، خواجات أم أمراء، فلاحين أم بدواً أم تجارا، فرنسيين أم سوريين. إنه عمر العمر، لا عمر التكلي، ولو أمكن لجعل الناس جميعاً ينادونه بهذا الاسم الجديد العتيد».

من خلال شخصية عمر التكلي نقف على نشأة البرجوازية الحديثة في الشرق العربي، واهتمامها بمصالحها الشخصية، وتحيّنها الفرصة للصعود، فهي شخصية نرجسية، تعيش في عالم آخر أكثر ثراء من العالم الذي تركته خلفها، فهاهو عمر مزهواً بذاته، متملّقاً حتى في أبسط الأمور، انتهازياً بكل معنى الكلمة، ونرجسيته هذه تجعله ينظر إلى نفسه بمنظار آخر إذ يحتفي بذاته ويتمركز حولها تمركزاً شديداً.

كذلك شخصية فيّاض العقدة الذي أحب نجوم الصوان، ورغب الزواج منها، وبعد أن خطبها وحدث احتلال مرجمين، أُصيب فياض وتشردت نجوم بعد أن قُتِل أبوها وماتت أمها، تلتقي بعزيز فيأخذها إلى العم حاتم أبو راسين ويغيب عنها، تتزوج نجوم من العم حاتم، في أثناء ذلك يستطيع فياض الهرب من المستشفى والبحث عنها، يلتقيها هناك في بيت العم حاتم بعد أن يكون قد استشهد وتركها أرملة.

يتحوّل فياض إلى شخصية انتهازية وجشعة، نرجسية، يتنكّر لأصدقاء الأمس بغرور، يحاول السيطرة على الآخرين، محاولاً الاستحواذ على كل ما يمكنه الاستحواذ عليه في سبيل الإعلاء من شأن وجوده الشخصاني، وكأنه يعاني من «مركب النقص» ذلك أن إحساسه بفقدان الكثير مما كان يأمل الحصول عليه قبل الاحتلال، نمّى لديه شعوراً قويا بالعقدة - لاحظ التسمية المقصودة في اسمه - وهذه العقدة تدفعه إلى التعامل مع الآخرين بقوة مزعومة، فيتعامل مع الفرنسيين ويضطر الثوار إلى قتله.

أما شخصية فؤاد، فهو مثقف أولاً، عاش في الغرب مدة من الزمن، تنتمي عمته إلى إحدى الدول الغربية التي عاشت فيها وتزوجت هناك من المستر بيجيت، ينتمي إلى أسرة عريقة فأبوه الباشا شكيم أحد باشاوات سورية، له صلة بالإنكليز، عاش حياة مترفة، متنقّلاً بين الشرق والغرب. يتجاذبه طرفان، الغرب من جهة، والشرق من جهة أخرى، ومع هذا الانتماء فإنه لا يحس بانتمائه لأي جهة منهما، بل ينتمي إلى وطنه ويسمّي عشيقاته بسورية. ويتجلى أنموذج الأنا من خلال عنصر الشخصية، حيث تتمادى في أنويتها على حساب الذوات المجاورة مما يكسبها حسّاً فاعلاً بوجوب حصولها على استحقاقات إضافية ليست لها في الأصل.


إشكالية الأنا/الآخر:


تغدو الأنا في علاقتها بالآخر المحور المهم في توجيه الصراع الدائر ووضعه على طاولة المفاوضات الثنائية التي لا تجد مفراً سوى الرضوخ لهذه الثنائية وبالتالي التماهي بين الاثنين، وإن كانت النتيجة تحسم دوماً في صالح الجانب الآخر بوصفه الحلقة المسيطرة في عمليات الصراع ودينامياته.

فشعور العربي بتفوق الغرب عليه، في كافة المجالات خلق لديه هاجساً مريراً، فنشأ الصراع بين «الأنا والغرب» مع الأخذ بعين الاعتبار عدم تساوي كفتي الصراع. فصورة الآخر المتفوق والمهيمن والمركزي والمتسلط والصانع للحضارة دوماً، تجعل العربي يظهر بمظهر المهزوم، المضطرب والضعيف ويندرج ضمن هذا المحور عدة أقانيم تحدد شكل العلاقة وتفسّرها.


الآخر/الإنساني، وفيه:


الآخر/العربي. الآخر/الغربي. الآخر/الصهيوني. الآخر العربي في نظر الأجنبي. الآخر الغربي في نظر الأجنبي. الشرق/الغرب.

وتظهر صورة الآخر/العربي بكل قسوته وجبروته وطغيانه ضد الأنا/العربية المستضعفة والمقهورة التي لا حول لها ولا قوة. فشخصية عزيز اللباد في نظرته السلبية والدونية إلى عبود بك، مقابل نظرة هذا الأخير الفوقية المتعالية إلى عزيز، ورغبة الأخير في الإبادة التامة التي يمارسها على كل من يحاول الخروج عن الطاعة. أما القوة، العزوبية، الهدوء، الأمانة، عفّة النفس، فهي صفات يحملها القطب الآخر، المواجهة لعبود بك، الصفات التي يفتقدها ويبحث عنها عند الآخر، وتمسكه بعزيز وحرصه على بقائه معه، إنما يأتي من باب التمسك بهذه الصفات.

«لقد استهواه عمر منذ البداية، ومليا فكّر من بعد فيما ينطوي عليه ذلك الشاب من قدرات فيما يجذب الناس إليه، في ألغازه وتناقضاته. كان عمر يبدو لراغب ضعيفاً وساذجاً، يقدر أن يلعب بعقله مثل الطفل، حتى إذا همّ بذلك، تكشف عن رجل صلب ومحنّك، عن خبيث بخاصة. وأياً كان لا تنقصه القوة. كان راغب يشفق على ما يخيل إليه من تردد عمر وجهله، يودّ لو يأخذ بيده فإذا بعمر، حيث ينبغي أن يكون، خبيراً وصارماً، لا هو بابن الحرزة التي استهاب راغب بأصله، ولا هو مثل من عهد أو عرف من الوكلاء أو التجار...».

يظهر عمر في صورة شخصية مركّبة، قلّما يستقر على حال واحدة، انتهازية نشأت مع الطبقة البرجوازية، ينمو مع الأحداث ويتغيّر معها، تارة يكسب أعداء كثيرين، وقلما يحتفظ بصداقاته مع الآخرين إلا بما يخدم مصلحته الشخصية الضيقة، وفي نظرة راغب إليه تتكشف هذه الحقيقة السردية التي تفصح عن نفسها في مونولوج يرصده الراوي بصيغة الغائب الذي يعبر عن مكنونات النفس الداخلية وما يحاول راغب التعبير عنه. وعلى الرغم من أن ضمير الغائب هو المهيمن على النص، إلا أنه يتناوب في الانتقال من شخصية إلى أخرى، فالضمير الغائب الموجود في «استهواه، بعقله، إليه، يود، ينقاد، نأى، يفكر، يقرأ، سره، يميل» يعود إلى راغب. فيما يعود الضمير نفسه في الأفعال الأخرى إلى عمر، والنص مسرود عن طريق الراوي كلي العلم، حيث السرد الموضوعي هو الطاغي على مجريات القول الروائي، حيث يبرز الصدام بالوعي الثقافي المغترب، في النظرة إلى هذه الثقافة التي تؤطّر نفسها داخل أسوار البيئة التي انبثقت منها، فيما تتحرر من هذه الأسوار بمجرد ما تنفتح على الخارج وتدخل في حوار مع ثقافة أخرى، فالمثقف الشامي، والعربي عموماً، يكبر بمجرد ما يهاجر. هنا يصبح الانفتاح على الآخر انفتاحاً تحررياً يدعم حرية الذات وصيرورتها على نحو ما، فالذات العربية عندما تجد نفسها في بوتقة ما محاصرة حصاراً ضيقاً يصل إلى حد صعوبة التنفس، تحاول التمرد والخروج على قوانين الأسوار المحيطة بها، ويستغل الآخر هذا التمرد والخروج على القوانين فيعمل على تلبية كل المطالب الممكنة لهذه الذات المتمردة، ليس بدافع التعاطف معها، بل إن ثمة دافعاً حقيقياً وراء هذه الاستجابة غير المشروعة. فهو وبكل بساطة يريد من هذه الذات أن تكون بوقاً أو أداة دفاع تم إعادة إنتاجها وفق صياغات هذا الآخر من جهة، ومن جهة أخرى يعمل على إذلال الآخر/العربي وعزله عن طريقه بوساطة مشاريعه الرامية عادة إلى استغلال الآخر/العربي على المستويات كافة، إذ يعطي الغرب حرية كافية للتغيير في محاولة منه لجذب الآخر/العربي إليه وإيهامه بحلم الخلاص والتغيير الذي يلوح أمام شخصيته، وهنا يكمن سر الهجرة وتكمن سرّ الإشكالية التي تحكم هذه العلاقة. يجد المثقف نفسه دوماً مقيداً محاطاً بمجموعة من التابوهات غير المسموح بتجاوزها (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية)، وربما كانت السياسة والجنس أكثر هذه التابوهات قبولاً.


الآخر/الغربي:


إن الاعتراف بالهزيمة، هزيمة الذات العربية ينطلق من الإحساس الفاجع بأن الذات العربية هي مصدر البلاء وأساسه، ولولا ضعفها واستسلامها لما كان للعدو أن يمزق جسد الأمة العربية على هذا النحو المرعب، يصول ويجول فيها ويتلاعب بمقدرات الذات العربية كيفما يشاء، فالعرب منهمكون دوماً في نواح مستمر وبكاء وجلد للذات على إحساس دائم بالانكسار والهزيمة لا ينتهي.

«إذا بقي الانكليز يحلبون الشام مثلما كان من قبلهم يحلبها. وكما لم يخرج من قبلهم إلا بالقتال، ظني أنهم لن يخرجوا إلا بالقتال. ولن يكون الحال أفضل مع الفرنسيين. هاهو الساحل كله أمامك، ألا تسمع بما يجري هناك؟ قل يا راغب بربّك: لماذا تطمع الدنيا ببلادنا؟ بل لماذا تطمع الناس ببعضها؟ ماذا يضرّهم لو تركونا نعيش بسلام؟ هل كتب الله علينا ذلك؟ مرة الأتراك ومرّة الإنكليز، ومرة الفرنسيين، وهاهي فلسطين تبتلى بالصهاينة!! شيء يحيّر! شيء يقبض القلب. لو كنا أقوى فهل تظن أن الآخرين كانوا يتطاولون علينا هكذا؟».

وتبرز روسيا ـ بوصفها مرحلة أخرى من مراحل النكبة التي شهدتها سورية ـ مبعثاً للوباء الشيوعي المستشري فيها، وبمقطع صحفي نقف عند نظرة العرب إلى الشيوعية: «وفي اليوم التالي جاءني بجريدة حلبية وقال لي: اقرأ. قرأت على قدر ما أستطيع، وحفظت وطار صوابي. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إليكم أيها العمال، أيها الفلاحون المغرورون بمحاسن المذهب الشيوعي والآخذون بدعاية رسل السوفييت وأضاليلهم. إليكم يا بني وطني هذه الصفحة السوداء عن روسيا الحمراء مبعث الوباء الشيوعي. والصفحة يا هولو حديث ليهودي روسي هارب من هناك، الشيوعيون ملحدون، يحاربون كل مؤمن، مهما كان دينه، يمنعون المسلم والمسيحي واليهودي من العبادة. الشيوعيون فجّار، يركبون بعضهم مثل البهائم. لا يحللون ولا يحرّمون، وروسيا مثلها مثل كل البلاد فيها الصالح والطالح، ولكنها تحاول أن تكون أفضل. ولم تمش مع الأبالسة الذين يقهرون الشعوب ويحلّلون دمها».

وبهذه السلبية تظهر فرنسا في نظر العرب، فزين العرب يعقد مقارنة بينها وبين غيرها من الدول الغربية وفيها تظهر إشارة إلى أصالة الأمة العربية وكيف يعمل العربي على الإعلاء من شأن أمته على الرغم من السلبية التي ترزح تحتها، وتظهر هذه المقارنة عبر أصوات عديدة تحاول الكشف عن همجية فرنسا والدول الغربية.


الندوة النّقديّة التّكريمية


كرّمت وزارة الثّقافة مؤخّراً الرّوائي والنّاقد نبيل سليمان في المركز الثّقافي العربي باللاذقية، بإقامة النّدوة النّقدية التكريمية، التي تناولت عطاء المبدع الرّوائي والنّقدي، الذي امتدّ على مساحة نصف قرن، بلغ فيها نتاجه سبعة وثلاثين كتاباً.

الناقد والكاتب نبيل سليمان

استمرّت النّدوة لمدّة يومين متتاليين، تضمّنت ثلاث جلسات شارك بها عدد من الباحثين النّقديين من مصر، العراق، السّعوديّة، وسورية، وأفصحت أبحاثهم عن مكوّنات إبداعه ومزاياه الدّاعمة للرّؤى الفكريّة والإنسانيّة القوميّة.

أهدى المبدع سليمان تكريمه إلى من هو أولى منه في هذه المدينة، وخصّ بالذّكر بو علي ياسين وإلياس مرقص وهاني الرّاهب، وحضّ القيّمين في اللاذقية على ذكرهم على الأقل باسم شارع أو مدرسة. وحثّ وزارة الثّقافة لتوالي نهجها الحميد بتكريم من ذكر ومن فاته ذكرهم. مضيفاً: «أصارحكم بأنني كلما اقترب هذا المساء كنت أزداد غبطة وقلقاً، إنّها الغبطة بهذه المودّة وبهذا التّقدير. وإنه القلق في اشتباه التّكريم بالوداع الأخير في ثقافتنا المعاصرة، حيث نصيب التّكريم أدنى بكثير من نصيب النّسيان والنّكران. لكنني متمسّك بالبقاء معكم، أي بالكتابة معكم وعنكم وإليكم، أمّا التّرميم فلعلّ أبْلغه هو في دراسة ونقد أعمال المكرّم».‏

وأكّد السيّد وزير الثقافة د. رياض نعسان آغا على أنّ معرفته بنبيل سليمان بدأت بعدم حبّه للنّهج النّقدي الذي يكتب ويتّخذ المواقف النّقدية من خلاله، ثم بدأ حباً به كشخص ليتحول إعجاباً بنتاجه الرّوائي بشكل عام، وهذه كانت إحدى مفارقات نبيل سليمان. ‏


إنجاز ضخم:


في الجلسة النقدية الأولى التي تمحورت حول نبيل سليمان ومواقفه الفكرية والأدبية والنقدية شارك د. سيد البحراوي من مصر الذي تحدث عن نبيل سليمان النحلة والإنسان مؤكداً على أن المحتفى به إنسان يمتلك الكثير ويحرص على أن يقدم هذا الكثير إلى العالم وأنجز عشرين كتاباً نقدياً وثقافياً وسبع عشرة رواية، وهو إنجاز ضخم على مستوى الكم يحتاج إلى وقت.‏ غير أن الأهم هو الخصائص النوعية، فمع أن تركيز سليمان غالب على الرواية إبداعا ونقداً، إلا أن أعماله النقدية تنوعت، فبالإضافة إلى النقد الروائي هناك اهتمام واضح بالأيديولوجيا والثقافة عامة والماركسية والتراث العربي. مضيفاً بأن نبيل سليمان لا يتورع من تجريب كل أشكال الكتابة الروائية من حيث الطول، فلديه القصيرة (جرماتي)، والخماسية التي تتجاوز الألفي صفحة (مدارات الشرق)، ومن حيث التوجه الفني بين الواقعية والسيرة الذاتية وتيار الوعي والحلمية.

وتناول د. سعيد الدين كليب نبيل سليمان ونقد النقد مبيناً أن سليمان قدم خدمة كبرى للحركة النقدية الأدبية في سورية، سواء أكان ذلك من خلال المشاركة والمتابعة والمساجلة النقدية أم من خلال توطيد النقد ونقد النقد في الوعي الثقافي. وعرض الدكتور كليب سمات نقد النقد لدى سليمان والتي تتحدد بنقد النقد المتبع في النص النقدي في علاقته بالنص الأدبي، ونقد الأسس النظرية الكلية الناظمة للنقد، ونقد الآراء والأفكار الجزئية في علاقتها فيما بينها وعلاقتها بالأسس النظرية الكلية، ونقد النقد من منظور علاقته بالفعالية الاجتماعية - الثقافية.

استمرت الندوة التكريمية للروائي نبيل سليمان في يومها الثاني وتصدت الجلستان النقديتان لنبيل سليمان قاصاً وروائياً. شارك في الجلسة الأولى د. سعد البازعي من السعودية وتناول ارتباك العيش في «درج الليل- درج النهار» فهذه الرواية تطرح جملة من القضايا على مستوى الثيمات والشكل وتقترح توظيف الشكلي للدخول في المستوى الآخر، فالاقتباس أولاً: لرواية تضيء دلالات العنوان مثلما تعين على تبين بعض جوانب الثيمات التي يتناولها العمل. وفي المجمل فإن ما تطرحه الرواية هو صورة من مجتمع نخبوي تكنوقراطي يعيش حالة من الارتباك الوجودي، أي المتصل بقيمة سلوكه مثلما هو متصل بالظروف التي تحيط به على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويتابع البازعي مؤكداً: الاقتباس الأول، المستمد من مصدر صوفي، يوحي بأن ثمة حقيقة يمكن الوصول إليها وراء تلك الأدراج المتعاقبة في الليل والنهار بإشارته إلى «درج الحقيقة» لكنه في الآن نفسه يشير إلى حجم الاضطراب والزيف اللذين تموج بهما أحداث الرواية، وذلك بإشارته إلى تخلي الأصدقاء وحجم المعاناة المطلوبة للوصول إلى تلك الحقيقة، أو إلى إنقاذ المجتمع من الوضع الذي يعيشه، ومنها التحقيق الأمني والاضطهاد الذي تلقاه فئة دينية هي فئة الإيزيديين. كما تفيض الرواية بقلق إزاء الأحداث السياسية المحيطة، وفي طليعتها الحرب المتوقعة في العراق حين كتبت الرواية.‏


إضاءات‏:


وقدم د. محمد صابر عبيد من العراق مجموعة من الإضاءات التي كشفت عن مفاصل القراءة لرواية «دلعون» بوصفها الرواية الأخيرة للمحتفى به، وعرج فيها على التشكيل الإيروسي وحساسية التعبير السردي. فـ «دلعون» أتت بعد تجربة ثرة امتدت على مساحة زمنية اشتغل بها الروائي على عدة كتابات، وتفنن بالتقانات الروائية الحرة التي أعطته فرصة للكتابة كما يشاء.‏
فتجربة سليمان أسهمت إسهاماً فاعلاً في إنتاج الرواية المعاصرة، ورواية «دلعون» مغامرة روائية شكلت موقعاً متميزاً في المدونة السردية العربية الحديثة.‏

أطياف العرش

وأشار د. عبيد إلى أن الروائي حاول كسر هيمنة القضية المركزية وسيطرة الحكاية على المسرود الروائي وراح يفتح أفقه على مسارات سرد سيري شخصاني، مشتت نسبياً، لا يعبأ بالعناصر والمكونات والسياقات التقليدية في الحكي والتصوير السردي بغية إنشاء عمارة سرية ذات هندسة روائية خاصة، تنهض على تفوق حضور الشخصية الروائية ذاتها، وانفتاحها على المشهد السردي بتلقائية مقصودة تتعمد استظهار باطنية الشخصية على سطح ظاهرها .‏ مبيناً أن الفضاء العام والمهيمن على الرواية فضاء مقهور ومتوتر ينطوي على ضياع مأساوي عميق، ويحظى التشكل الإيروسي فيه بحضور طاغ وجوهري ومقصود، وهو في مضمونه الدفين يسعى إلى الانتصار على اللحظة السردية المشبعة بالقهر والتوتر وفقدان الأمل.‏


نص كرنفالي:


وتصدت د. زبيدة القاضي لرواية «مجاز العشق»، ملتقى النصوص والفنون، واعتبرت الرواية نصاً «كرنفالياً» مشيرة إلى أن المواد غير الأدبية فيها انفتحت على جملة من الخطابات والنصوص غير الأدبية استعارها الكاتب من فضاءات مختلفة، واختزلتها في ثلاثة حقول (إعلامي، ثقافي، اجتماعي). واستمدت الرواية حداثة كتابتها من التفجير المتعمد من قبل الروائي لأبنية اللغة وأنساق الأسلوب بغية اشتقاق لغة جديدة من اللغة ذاتها، ونحت أسلوباً متميزاً من خلال تدميره أنساق الأسلوب التقليدي بتحويل التناسق إلى تفكك يصبح هو الآخر تناسقاً يطبع كلية النص، لا تجزئة ولا تفصيلاً، وتأتي الكتابة وكأنها جملة واحدة متواصلة.‏

واتخذ د. وفيق سليطين رواية سليمان الأخيرة «دلعون» مادة لبناء «الذرى السردية في التأويل والتنازع الدلالي»، فبدأ بتعريف مقترح للذروة السردية، يفرق فيه بينها وبين الحبكة ويميز بين أنواع الذرى السردية، المركزية منها والفرعية، على قاعدة الربط بالبنية والوظيفة من جهة، وبإنتاج الدلالة الكلية من جهة أخرى، كما ذهب إلى تطبيق مقترحه الموصول بالذروة السردية على الرواية مشخصاً ذروتها المركزية في احتدام المواجهة عند شليطا (سردياً ودلالياً)، وقدم من خلال التحليل الموضوعي فحصاً لحوافز التنامي، ولمركبات التعقيد والتنازع المشكلة للذروة الموصوفة في منحى تحريض ممكنات التأويل والانفتاح عليها، من خلال الربط بتحولات السرد وخاصيات بناء لحظة (الذروة) لرد ذلك على باقي الأجزاء في تعالقها وتفاعلها، بما يهيئ الدلالة الكلية للنص من منظور هذا التناول.‏

في غيابها

ورغم أن د. فيصل درّاج لم يتمكن من الحضور شخصياً، إلا أن بحثه قدم من خلال د. صلاح صالح وجاء فيه: «يمثل نبيل سليمان منذ ثلاثة عقود تقريباً الصوت السوري الروائي الأكثر اجتهادا وتنوعاً، إن لم يمثل حالة ثقافية خاصة تمارس النقد والنشر والكتابة الروائية والمداخلة الفكرية الضرورية، وإذا كان في هذه الممارسة أعطى الرواية السورية أفقاً جديداً، فقد كان ذلك الجهد المتراكم الذي صوب أدوات الروائي، وأتاح له أن يكتب مدارات الشرق التي قرأت التاريخ القريب بأدوات روائية، وأن يساجل التاريخ القائم في مساحات يومية ضيقة، كما في روايات أخرى (السجن، ثلج الصيف). إلا إنه على هذا السجال الخصيب الذي يقرأ الواقع في نزوعه وينظر إلى هذا النزوع من دون غبطة ولا مسرة. والتاريخ اليومي الذي يرصده سليمان ويؤوله ويرفضه، مرآة للقيم الإنسانية التي إن ارتقت وعدت بخير وإن تسفلت أنذرت بمستقبل من هشيم».

وتشير الورقة إلى أن أعمال سليمان الروائية تنتج بمعنيين مختلفين للتاريخ: يساوي الأول منهما بين التاريخ والوقائع الماضية حيث ما مضى أخذ دلالة خاصة به تقبل أكثر من تأويل، أما المعنى الثاني فمرتبط بوقائع حاضرة لا تزال تتكون وتتطور ولم تأخذ صيغة نهائية بعد، والمعنى الثاني صادر عن شخصيات مختلفة تعيش حياة يومية وتسهم في تشكيلها وبنائها انطلاقاً من ممارسات ومواقف وتصدرات متعددة. يتعين المعنى الثاني في حقل القيم، ذلك أن التاريخ في تقدمه وتراجعه مرآة لتقدم القيم أو تراجعها.


تجليات ثقافية:‏


وتناولت د. شهلا العجيلي «تجليات النسق الثقافي في نص سليمان الروائي»، والتي أكدت خلال عرضها أنه نص متطور وتجربته في الكتابة تجربة تصاعدية يتحول النص فيها من الأيديولوجي ليصير إلى الجمال المعرفي الذي تسعى إليه نظرية الرواية، ويبدو هذا التحول جلياً في انتقال سليمان من كتابة «المدارات» بأجزائها الأربعة إلى كتابة رواياته الأخيرة: «في غيابها»، «درج الليل- درج النهار»، و«دلعون». إذ يلحظ المتلقي انتقال الكتابة الروائية لدى نبيل سليمان من مرحلة استقطاب النص لمقولات النظرية إلى مرحلة كتابة التجربة، فكيفّ نصه ليكون أيديولوجياً، وتاريخياً، وسياسياً من غير أن يتخلى عن الأيديولوجيا والتاريخ والسياسة. ويعود ذلك التحول إلى اكتشاف المبدع وجوهاً جديدة لعلاقته بالنسق الثقافي، ما اقتضى الشغل بلعبة سردية جديدة على كل النسق المسيطر والنسق المعارض في الثقافة.‏


تعدد بنية السرد‏:


واختتم القراءات النقدية د. رضوان قضماني بقراءة لخطاب نبيل سليمان الروائي «من الحكاية إلى تأويل الحكاية: السرد ولغة التشكيل الدلالي فيه»، مشيراً إلى أن منذ صدور روايته «ينداح الطوفان» (1970)، وحتى صدور روايته الأخيرة «دلعون» (2006) راحت بنية السرد الروائي عند سليمان تتعدد بين عمل وآخر منتقلة من الحكاية القائمة على أحادية صوت الراوي إلى تجاوز الراوي إلى عدة ساردين سعياً إلى خلق تعددية الأصوات، وراحت لغة السرد الروائي في تشكيلاتها الدلالية تتجاوز الخطاب التنويري ثم الثوري الأيديولوجي إلى اختراق التابوات السياسية والدينية والجنسية في محاولة للخروج من حكي الحكاية إلى تأويلها ليخرج صاحبها بذلك عن نهج الرواية السورية قبل حروب عام 1967، متجاوزاً الواقعية بأنواعها وأشكالها إلى تشكيلات سردية جديدة تتجاوزها على الرغم من حفاظ السرد على تفاصيل الحياة الدقيقة التي قد تصدم القارئ بما تحمله من كشف وصراحة وصدق ومرارة في حياة جيل كامل نشأ في سورية.‏


ختام الندوة:‏


في ختام الندوة التكريمية تلت د. شهلا العجيلي رسالة الناقد سعيد يقطين التي وجهها إلى الروائي المكرم وعنوانها «نبيل سليمان شهريار التخييل العربي»، جاء فيها: «لقد تبين لي من خلال اللقاء والقراءة والاطلاع أن نبيل سليمان من معدن نادر من الرجال. وحسبه أنه ممن يؤلف ويألف. يملأ المجالس الثقافية بهجة وحبوراً، وكيف والبسمة لا تفارق محياه حتى في أحلك الظروف وأصعبها، كما أن نقاشاته الجادة تكشف عن شخص لا يسالم ولا يهادن، ليس حباً في السجال والخلاف، ولكن مبتغاه تحقيق حلم راوده أبداً، وهو أن يرى للإنسان العربي موقعاً جيداً في العصر الحديث».‏

نبيل سليمان

ويضيف الناقد سعيد يقطين: «مكانة نبيل سليمان متميزة في المشهد النقدي والروائي العربيين، وهذه المكانة لم تتحقق إلا له بصورة فريدة، وتكمن هذه المكانة في كونه متتبعاً جيداً دؤوباً ودقيقاً لكل ما يصدر في العالم العربي من نقد ورواية وسواهما.‏ والكاتب نبيل سليمان المهووس بقلق السرد لأنه يتصادى مع هموم الأمة وشجونها، والناقد المشاكس لأنه يهوى الارتقاء بالإنساني فيه في الواقع من الشجن إلى الشجو.‏ تقصر الكلمات عن الإحاطة بعوالم كتاباتك الزاخرة والغنية والمتنوعة. طالما أجلت اقتحام هذه العوالم وارتياد فضاءاتها الرحبة. هنيئاً لك هذا التكريم الذي أنت أهله، ومزيداً من العافية والعطاء».‏


مؤلّفاته


ـ سيرة القارئ، دار الحوار، 1969.
ـ جرماتي، أو ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1977.
ـ النّسوية في الكتاب السّوري المدرسي 67-76، دمشق، وزارة الثقافة، 1978.
ـ ثلج الصّيف، دار الفارابي، بيروت، 1979.
ـ النقد الأدبي في سوريا، بمثابة البيان الروائي، بيروت، 1980.
ـ الرواية السورية 67-77، دمشق، وزارة الثقافة، 1982.
ـ ينداح الطّوفان، دار الحوار، 1983.
ـ الأيديولوجيا والأدب في سوريا، تأليف نبيل سليمان وبوعلي ياسين، اللاذقية، دار الحوار، 1985.
ـ وعي الذات والعالم: دراسات في الرواية العربية، دار الحوار، 1985.
ـ هزائم مبكّرة، اتحاد الكتاب العرب، 1985.
ـ أسئلة الواقعية والالتزام، دار الحوار، 1985.
ـ أيديولوجية السلطة: بحث في الكتاب المدرسي، دار الحوار، 1985.
ـ الرواية العربية بين الواقع والأيديولوجيا، تأليف: محمود أمين العالم، يمنى العيد، نبيل سليمان، 1986.
ـ السجن، دار الحوار، 1986.
ـ مساهمة في نقد النّقد الأدبي، دار الحوار، 1986.
ـ الماركسية والتراث الإسلامي: دراسة للنزعات المادية، دار الحوار، 1988.
ـ قيس يبكي، دار الحوار، 1988.
ـ في الإبداع والنّقد، دار الحوار، 1989.
ـ مدارات الشّرق، دار الحوار،1990ـ 1993.
ـ التخلّف وعلم نفس المعوقين، دمشق، جامعة دمشق، 1991.
ـ اللباس والزينة في العالم العربي: دراسة موثقة بالصور، تأليف: بينول، بو عجينة، بوحلفاية. ج: نبيل سليمان، بيروت شركة المطبوعات، 1992.
ـ فتنة السّرد والنّقد، دار الحوار، 1994.
ـ حوارات وشهادات، دار الحوار، 1995.
ـ الثقافة بين الظلام والسلام، اللاذقية، دار الحوار، 1996.
ـ المسلّة، رواية، القاهرة، مصر العربية، 1997.
ـ مجاز العشق، دار الحوار، 1998.
ـ حوارية الواقع والخطاب الروائي، دار الحوار، 1999.
ـ أسئلة في الطّب النفسي، دمشق، مكتبة صايمة، 1999.
ـ الرواية العربية: رسوم وقراءات، القاهرة، مركز الحضارة العربية، 1999.
ـ متن المثلث، دار الحوار، 1999.
ـ أطياف العرش، اللاذقية، دار الحوار، 2000.
ـ الكتابة والاستجابة، دراسة، اتحاد الكتاب العرب، 2000.
ـ سمر الليالي: رواية، دار الحوار، 2000.
ـ أقواس في الحياة الثقافية، اللاذقية، دار الحوار، 2001.
ـ جماليات وشواغل روائية: دراسة، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 2003.
ـ في غيابها، دار الحوار، 2003.
ـ أسرار التخييل الرّوائي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 2005.
ـ درج الليل - درج النهار، دار الحوار، 2005.
ـ دلعون: رواية، دار الحوار، 2006.
ـ شهرزاد المعاصرة: دراسات في الرواية العربية، اتحاد الكتاب العرب، 2008.
ـ عبد السلام العجيلي: حكواتي من الفرات، الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية، 2008.

يعمل حالياً على نص جديد، بعد سنتين من صدور روايته «دلعون». وكان في العام الماضي قد أثار سجالاً بعد هجومه على الرواية الجديدة خلال مؤتمر الرواية العربية في دمشق والمؤتمر الأول للرواية في عمّان.


الخاتمة


إن احترام الإنسان، والدّفاع عن المظلوم، وتخليد البطولة المنسيّة، بلغة حوار جذابة، قوية، وصور لا تُمحى من الذاكرة، هي الخيوط التي رُبطت بطائرة الرّواية الورقيّة، والتي يستطيع القارئ أن يمسكها، يحرّكها، ويركض بها لتحلّق بعيداً بعيداً ويحلّق معها في فضاءات الواقع والبيئة والإحساس، وكأنّه صانع لهذه الطّائرة بنفسه.


المصادر


ـ موقع البودي.
ـ جريدة الأخبار.
ـ جريدة الثورة.
ـ رواية بنات نعش.
ـ جماليات التشكيل الروائي، د. محمد صابر عبيد، د. سوسن هادي جعفر البياتي.
ـ فضاء النّص الروائي، تأليف: محمد عزّام.
- مواقع إلكترونية.

إعداد: أميرة سلامة

اكتشف سورية