في يوم التاسع والعشرين من أيار ننحني أمام قامتكم الشامخة ونقول لكم وداعاً

الوطن تنفرد بنشر أدق التفاصيل عن مجزرة المجلس النيابي 1945

مَن يقفِ اليوم أمام دار البرلمان السوري (مجلس الشعب) يدركْ أنه يقف أمام صرح معماري عريق يعبق بالتاريخ والبطولة ولكل حجر منه حكاية، وفي كل ركن من داخله أسطورة، يؤرخ دار البرلمان السوري ذكريات وأحداثاً ومشاهد تراكمت مع أيام وليال قديمة سجل من خلالها رجالات سورية تاريخاً عملاقاً ناصعاً يشهد على إلياذة سورية الخالدة: «سورية كرمة قد نمت قدماً أمام وجه الشمس، وأعطت عنباً لذيذاً تمجدت بطعمه الآلهة، وخمراً سحرياً شربت منه الإنسانية فسكرت، ولم تصحَ بعد من نشوتها» - جبران خليل جبران.
مجزرة المجلس النيابي السوري
شهد دار البرلمان السوري مواقف رجالات سورية، وشهد على انتصارات شعبنا وتحدي المستعمر وأرّخ لبطولات شعب أبي يعشق الحرية والكرامة، ومن هؤلاء الرجال، الذين كتبوا إلياذتهم الخالدة على صفحات التاريخ الغائبة عنا جميعاً لأننا لا نكاد نتقن فن قراءة التاريخ، ثمّ لا ندري أن الأمة التي لا تقرأ تاريخها لا يمكن لها بناء مستقبلها، أبو نبيل الشلاح، من تُراه أبو نبيل الشلاح؟
ما علاقته بالاعتداء على المجلس النيابي السوري؟ نحاول في «الوطن» بين الفينة والأخرى تسليط الضوء على بطولات رجالاتنا هؤلاء الذين تكاد الذاكرة أن تنساهم وهم كانوا رجالاً أشداء في الدفاع عن سورية وصون كرامتها والوقوف في وجه الاستعمار، والآن ونحن في ذكرى التاسع والعشرين من أيار: ذكرى قصف مجلس النواب السوري من قبل المستعمر الفرنسي عام 1945، نستذكر أسطورة سورية متمثلة بالدفاع عن مجلس النواب من خلال قراءه سيرة الشهيد الحي المعروف باسم أبو نبيل الشلاح: نحاول إعادة قراءة بطولة حامية البرلمان السوري.
من هو أبو نبيل الشلاح؟
يَذكر أعضاء مجلس الشعب، قبل عام 2000، وموظفوه، أبا نبيل الشلاح حين كان يأتي كل عام قبل ظهر يوم التاسع والعشرين من أيار إلى مبنى المجلس ليلقي كلمة في استراحة أعضاء مجلس الشعب وهي قديماً قاعة اجتماعات المجلس التي تعرضت للنهب والتدمير عام 1945، في كلمته كان أبو نبيل الشلاح يستذكر ذكرى الاعتداء على المجلس النيابي، وأصدقاءه من حامية المجلس الذين سقطوا دفاعاً عن معقل الديمقراطية السورية.
أبو نبيل الشلاح هو الشرطي إبراهيم إلياس الشلاح، رقمه العسكري 782 - مواليد دمشق عام 1909، من سكان محلة باب توما، التحق بمرتبات شرطة البرلمان - متزوج وله عدة أولاد وكان شاهداً وشهيداً حياً على الاعتداء على دار البرلمان السوري يوم التاسع والعشرين من أيار عام 1945، إذ أصيب إصابات بالغة أثناء دفاعه عن البرلمان واخترقت جسده ثلاث رصاصات وشق الساطور وجهه وأنفه وأصيب بعدة كسور في رأسه وأطرافه وشاء القدر أن يعيش على الرغم من كل ذلك ليكون شاهداً على تلك المجزرة المخزية التي وقعت داخل المجلس النيابي، يروي حكاياتها وفصولها بكثير من المرارة والحزن والأسى بل بدموع من الدم حتى جاءه الموعد المحدد فرحل في الرابع والعشرين من أيلول من عام 2002 عن عمر يناهز ثلاثة وتسعين عاماً وشُيِّع آنذاك في احتفال جنائزي بسيط لم يشارك فيه سوى أهله وجيرانه، بعد أن سطر أسطورته في الدفاع عن البرلمان السوري.
أبو نبيل الشلاح يروي مجزرة المجلس النيابي
إننا اليوم نعيش الذكرى الثالثة والستين لمجزرة المجلس النيابي السوري، حين واجهت حامية البرلمان، من رجال الدرك والشرطة الذين كانوا يحرسون مبنى المجلس، نيران المستعمر وقذائفه: حين تصدى حفنة من الرجال الأشاوس لقوات المستعمر وصمدوا في وجه عمليات التدمير الوحشية، وكان من هؤلاء الرجال الشرطي أبو نبيل الشلاح، الذي روى لنا تفاصيل هذه المجزرة.
استدعى المفوض يوسف سقاباشي الضابط في الضابطة العدلية ومساعد نائب الجمهورية بدمشق في التاسع من حزيران عام 1945 الشرطي إبراهيم الشلاح إلى مقر شرطة دمشق - مخفر المركز، بناءً على أمر من مديرية الشرطة العامة القاضي بالتحقيق مع الشرطي السيد إبراهيم الشلاح، وأعد المفوض يوسف سقاباشي التقرير التالي (ينشر هذا التقرير لأول مرة):
«في الساعة التاسعة من صباح يوم السبت الموافق في التاسع من شهر حزيران 1945 نحن مفوض المركز يوسف سقاباشي الضابط في الضابطة العدلية ومساعد نائب الجمهورية بدمشق نثبت ما يلي: بناء على أمر مديرية الشرطة العامة، القاضي بالتحقيق مع الشرطي السيد إبراهيم شلاح رقم 287 الذي أصيب بجروح مختلفة ضمن البرلمان أثناء الحوادث الأخيرة وعليه فقد ذهبت إلى مستشفى الإيطالي وقد شاهدته ممدداً على فراشه وهو مصاب بجروح في رأسه وأنفه ويده وساقه وعليه فقد بوشر بالتحقيق معه على الوجه التالي:
«هويته: اسمي إبراهيم إلياس الشلاح من سكان محلة باب توما رقمي 287 شرطي في مجلس النواب عمري 35 سنة متأهل ولي أولاد متعلم سوري.
إفادته: حدِّثنا عن كيفية مصرع المفوض سعيد القهوجي ورفاقه وأسباب الحادث الذي أصبتَ فيه.
فأجاب: في مساء يوم الثلاثاء الواقع في التاسع والعشرين من شهر أيار 1945 بينما كنت في البرلمان مع بقية المراتب وعلى رأسنا المفوض سعيد القهوجي، وكان اجتماع لمجلس النواب يعقد بالبرلمان في الساعة الخامسة، وإذ بسلطة إفرنسية من الأركان الحربية ترسل إنذاراً إلى الحامية الموجودة في البرلمان من الدرك والشرطة بوجوب أخذ التحية الرسمية للعلم الفرنسي حين إنزاله من على بناء الأركان الحربية وإلا فالسلطة المذكورة مضطرة لإطلاق النار وبالحال انفضت جلسة مجلس النواب لأنه لم يكتمل النصاب القانوني.
وفي الساعة التاسعة عشرة أنزل العلم الفرنسي ولم يأخذ الشرطة أو الدرك التحية الرسمية للعلم الفرنسي، وبعد برهة عشر دقائق بوشر بإطلاق الرصاص والقنابل وغيرها من الأسلحة المتفجرة على البرلمان من جميع أطرافه، أخذنا بالرد عليهم بالمثل حتى نفدت الذخيرة فدخلنا إلى قاعة البرلمان الداخلية ودام إطلاق الرصاص والمتفجرات حتى الساعة العشرين والنصف تقريباً بشكل متواصل.
وفي هذه الأثناء طلب مني السيد شفيق المملوك قائد الدرك الصعود إلى الطابق العلوي لإسعاف الجرحى فأخذت معي ثلاثة من الدرك وبينهم السيد ياسين البقاعي وزحفنا كي لا نصاب بشظايا القنابل، أنزلنا الجرحى وأثناء نزولنا أصيب السيد ياسين البقاعي بطلقة رصاص في رأسه وتوفي في الحال، وأخذنا بإسعاف الجرحى في الصالون بوسائل بدائية ومن بين الجرحى زميلي السيد محمد مدور الذي أصيب بشظايا قنبلة، واستمر إطلاق النار حتى تهدمت واجهة بناء المجلس النيابي فسألت عن المفوض السيد سعيد القهوجي فقالوا إنه خرج إلى الحديقة فتبعته ووجدته مع اثنين من الشرطة وهما السيدان مشهور المهايني ومحمود الجبيلي، وإذ بالدبابات والمصفحات تهجم من الباب الخلفي الحديدي وبرفقتها مشاة من السنغال وهم يطلقون النار وكنا أربعة: مشهور المهايني ومحمود الجبيلي وسعيد القهوجي وأنا، واتجهت الدبابات إلى باب المجلس الداخلي وأخذوا يطلقون النار عليه حتى تهدم فخرج رجال الدرك والشرطة الموجودون في المجلس فإذا بالجنود الفرنسيين يطلقون عليهم الرصاص والرشاشات، وما زلنا نسمع أصوات الاستغاثة والأنين وإذ بخمسة من رجال الدرك يدخلون إلى القبو حيث نحن موجودون من النافذة الخلفية، وقد شوهدوا من قبل الجنود الفرنسيين فاتجهت أنظارهم إلينا وأخذوا يطلقون نيران أسلحتهم وكانت ذخيرتنا قد نفدت وطلب منا قائد الحامية الفرنسية الخروج فخرجنا رافعين أيدينا إلى الأعلى فتقدموا منا وأخذوا ينحروننا ويفتشوننا وكانوا يأخذون الأشياء الثمينة كالساعات والخواتم والنقود وغيرها وحاول أحد الجنود أن يخرج خاتماً من إصبع أحد الدرك فلم يستطع إخراجه فما كان منه إلا أن ضربه بساطور على مفصل إصبعه فقطعه وأخرج الخاتم وصاح الدركي من الألم وللحال ضربوه بالرصاص من الرشاشات وما زلنا ننتظر مصيرنا حتى فرغوا من تفتيشهم، وصفونا نحن الثمانية: أربعة من الشرطة وأربعة من الدرك، صفاً واحداً وأخذوا يطلقون الرصاص من بنادقهم وسقطنا جميعاً على الأرض وكانوا يضربون كل فرد يتحرك إذا وجدوه لا يزال حياً.
وكان نصيبي من هذه الرصاصات رصاصة دخلت في ثديي الأيسر وخرجت من ثديي الأيمن وأخرى في خاصرتي والثالثة في يدي حطمت عظم مشط الكف وحين حركت رأسي ضربني أحد الجنود السنغال على رأسي محاولاً قطعه فأصابني في أنفي وأخذ الدم يسيل على وجهي وحين حركت يدي من دون شعور داس أحدهم عليها بحذائه العسكري فلم أعد أتحرك أبداً وضربني ضربة أخيرة من بسطاره على رأسي لكي يتأكد من موتي وبقيت محافظاً على وعيي الكامل على الرغم من كل هذه الإصابات التي أصبت بها وذلك حفاظاً على حياتي.
وتوجهوا إلى المفوض السيد سعيد القهوجي فقطعوا يده ورجله وفقؤوا عينه فتوفي في الحال كما قام الجنود فربطوا أحدهم في شباك البرلمان وأخذوا يضربونه بالحراب في كل أنحاء جسمه حتى فارق الحياة، ثم دخلوا إلى مبنى المجلس فوجدوا السيد عبد اللـه برهان بن حسين باش إمام فأخرجوه وسألوه عن بقية الأفراد، فقال قتلتوهم اللـه يقتلكم فصاح الجنود تحيا فرنسا فقال فلتسقط فرنسا فما كان من أحد الجنود إلا أن قطع رأسه بضربة ساطور فتدحرج رأسه على الأرض ونفر الدم على باب المجلس ولا يزال أثره موجوداً، وخطا خطوة ونصف الخطوة من دون رأسه ثم سقط على الأرض وكان بدني يقشعر من هول هذه المناظر الوحشية، ثم تركونا وذهبوا إلى جهة البرلمان اليسرى فلويت رأسي إلى الجهة اليسرى، وشاهد حركتي هذه أحد الجنود فأطلق رصاصة على رأسي ولكن اللـه لم يرد إصابتي فلم تنطلق الرصاصة فتركني وذهب.
وفي نحو الساعة الرابعة والنصف صباحاً جاء بعض الجنود ومعهم سيارة كبيرة وأخذوا ينقلون جثث القتلى من الدرك والشرطة فشعرت أنني بينهم وجثث القتلى فوقي وتحتي وسارت بنا السيارة إلى حيث لا أدري وتوقفت السيارة أخذوا يلقون الجثث في حفرة كبيرة وحينما وصل دوري بدرت مني حركة، فصاح الجندي هذا حي وألقاني على الأرض، وجاء آخر ومد يده إلى عنقي وحسبته يريد خنقي فصرخت فقال هذا حي حقاً خذوه إلى المستشفى وقال آخر ما فائدة نقله إلى المستشفى؟ وطلب أن يصب عدة رصاصات في رأسي حتى يريحني ولكن اللـه سلمني وذهب صوت الجندي هباء، ونقلت إلى السيارة ثم إلى المستشفى العسكري الفرنسي حيث وجدت نفسي بين يدي الأطباء الدكتور صباغ والدكتور شارل والدكتور بيرقدار وبعدها غبت عن الوعي.
وفي اليوم التالي شاهدت الدركي عبد النبي برنية مضروب برأسه بضربة ساطور وفارق الحياة بعد مدة وجيزة. ثم جاءت سيارة الجيش البريطاني ونقلوني إلى المستشفى الإيطالي، وهكذا استطعت أن أروي قصة البرلمان لأنني الوحيد الذي بقي حياً من هذه المجزرة الرهيبة والعمل الإجرامي من قوم يدّعون المدنية وينادون بشعار الحرية». (هذا التقرير محفوظ لدى وزارة الداخلية ونشرناه بحرفيته).
وأسدل الستار
هكذا كان أبو نبيل الشلاح الشهيد الحي الذي عاش بعد استشهاده خمسة وسبعين عاماً ليكون شاهداً على تلك المجزرة المخزية التي وقعت داخل المجلس النيابي، هكذا كان شهداء البرلمان أبطالاً تطول قاماتهم أعالي السماء، ‏ونتساءل هنا ماذا قدمنا لأبي نبيل الشلاح الشرطي الشاهد والشهيد عن الدفاع عن أعرق مباني دمشق، عن معقل الديمقراطية السورية وهو البرلمان، ماذا قدمنا لشهداء حامية مجلس النواب؟ فحين أسدل الستار وانتهت المسرحية وترجل أبو نبيل الشلاح عن صهوة جواده يوم الإثنين في الرابع والعشرين من أيلول عام 2002 بعد خمسة وسبعين عاماً من نجاته بأعجوبة من مجزرة البرلمان، شُيِّع في احتفال جنائزي بسيط إلى مثواه الأخير في كنيسة الصليب المقدس في دمشق مخلفاً لنا ولأولادنا وأطفالنا والعالم أجمع أسطورة خالدة في الدفاع عن كرامة الوطن وحرية الوطن وأنه سطر في تاريخنا أنه من حماة الوطن.
رحل الشهيد الحي من دون أن نقول له وداعاً، من دون أن نسمع أن أي جهة رسمية قامت بعمل ما لهذا الراحل، من دون أن نسمع أو نقرأ أن جهة إعلامية قالت لنا، لأولادنا، لأطفالنا من هو هذا الرمح الشامخ الذي رحل من دون وداع؟ ومرت ذكرى رحيله الأولى، والثانية و... ومرت ذكرى التاسع والعشرين من أيار سنة بعد سنة، ونتساءل: ماذا قدمنا لهؤلاء الشهداء؟.
أيها الشهداء الأحرار في يوم التاسع والعشرين من أيار ننحني أمام قامتكم الشامخة ونقول لكم وداعاً وسنبقى نذكركم ونذكر بطولاتكم في الدفاع عن البرلمان السوري.
مجزرة المجلس النيابي السوري
استشهاد المفوض سعيد القهوجي
يروي لنا مختار باب الجابية في عام 1958 استشهاد المفوض سعيد القهوجي قائد حامية البرلمان فيقول: «ترك ثلاثة أطفال.. لقد ترك بنتين وصبياً.. إن بنتيه كبرتا الآن.. إنهما لا يذكران وجه والدهما.. ويتابع مختار باب الجابية قائلاً: خرج يومها «سعيد القهوجي»: من الفجر.. ودع زوجته وقبّل أطفاله الثلاثة وحمل سلاحه ومضى كان يعلم أنه يحرس البرلمان... إن سعيد قهوجي قاد المعركة الأولى في الدفاع عن البرلمان.. ظل يقاوم حتى نجا أعضاء المجلس ومكث هو بجنوده.. أمره الفرنسيون بصفته ضابطاً يتبع قيادتهم أن يلقي سلاحه ويستسلم. رفض أن يسمع الأمر.. هاجمه الفرنسيون بالدبابات.. كان مسلحاً بالبنادق.. ظل متحصناً بالبرلمان.. حتى اخترقت دبابتان باب الحديقة الخلفي.. استدار على الصوت. بحث عن جنوده فوجدهم قطعاً من اللحم المتناثر على الأرض. أحس أن أقدامه تسمّرت.. نظر في فوهة مدفع الدبابة.. وضغط زناد مسدسه. أصابته قنبلة المدفع في صدره. امتلأ حلقه بالدم.. وذهب.
ذهبت زوجته لتبحث عنه.. لم تستطع أن تعثر عليه.. زارها سعد اللـه الجابري رئيس المجلس النيابي.. قال لها إن زوجها مثّل الفرنسيون بجثته، كانوا يقطعون الرؤوس ويعلقونها بعد أن يطمسوا معالم الوجه.
كبرت بناته الآن. إن ابنته في الصف العاشر بالتجهيزي.. وابنه في الصف التاسع ويريد دخول الجيش.. إنه يعلم امتداد والده.. إنه يحلم بليل يحرسه..» (مجلة صباح الخير المصرية العدد 119 الصادر يوم الخميس في السابع عشر من نيسان 1958).
مجزرة المجلس النيابي السوري
استشهاد الضابط طيب شربك
تروي خطيبة طيب شربك، «الضابط الثاني الذي قاد معركة الدفاع عن البرلمان بعد استشهاد سعيد القهوجي» تروي قصة استشهاد خطيبها فتقول «حديثها يعود لعام 1958»: يوم 29 أيار سنة 1945 أفطر معي في منزل أبي ودعني عند الباب.. ضغط يدي.. ونظرت إليه.. شربت عيوني كل ملامحه.
إنني أذكر ذلك اليوم.. كان الأطفال يقفون جماعات.. بلا لعب والقبضيات يربضون خلف المتاريس ويحملون البنادق.. وبائع اللوز قلب عربته ووزع اللوز على المعسكر وحمل بندقيته ووقف ومضى هو.. نظرت لقامته وهو يمضي.. خيل إليّ أنني أودعه.. لم أجرؤ على التفكير في الأمر.. لم يلتفت هو خلفه.. التأم الناس خلفه كالجرح.. وغاب عن عيني.
علمت بعد ذلك أنه قاد المعركة الثانية عن البرلمان بعد قتل سعيد قهوجي.. لم يستطع أحد أن ينقل لنا تفاصيل المعركة..
لم يعش منها أحد..
لم ينج مخلوق..
لم أعثر عليه.. لم أجد جثته.. وجدت أصبعه وفيها دبلة الزواج وحدها.. إنني أحتفظ بالدبلة.. إن الزمن مسح الجرح.. لم أعد حزينة عليه كما كنت..
يخيل إليّ أنه مات من أجل البرلمان..
إن ما يعطي الحياة معنى.. يعطي الموت أيضاً معنى!!..» (مجلة صباح الخير المصرية العدد 119 الصادر يوم الخميس في السابع عشر من نيسان 1958».
ملاحظة
التقرير الذي كتبه الشهيد إبراهيم إلياس الشلاح يُنشر لأول مرة. الصور التي تخص الاعتداء على مجلس النواب صُوِّرت من قبل مكتب المعلومات الأميركي الحربي يوم الثالث من حزيران عام 1945، وأُرسلت إلى نيويورك ولندن والقاهرة، وهي أيضاً تُنشر للمرة الأولى.

شمس الدين العجلاني

الوطن