ماري جبران

1911-1956

يمكن اعتبار المطربة الكبيرة "ماري جبران" سيدة مطربات بلاد الشام، فصوتها القوي ـ سوبرانو ـ الذي اتصف بالخصائص الجمالية، جعلها تتربع على عرش مطربات عصرها.
تقول "ماري جبران" أنها ولدت في العام 1911 وتاريخ الولادة هذا الذي صححته فيما بعد وجعلته 1914 يضعنا أمام تساؤل حول تاريخ ولادتها الحقيقي، لأن الشيخ "زكريا أحمد" يقول في مذكراته، إنه التقى في العام 1927 في مقهى كوكب الشرق في بيروت برياض السنباطي، وأنهما استمعا مع غيرهما من الأصدقاء إلى المطربة الناشئة "ماري جبران" وأبديا إعجابهما بها. فهل يعقل أن يكون عمر "ماري جبران" آنذاك حسب ما ذكرت ستة عشر عاماً بالنسبة للتاريخ الأول، وثلاث عشرة عاماً بالنسبة للتاريخ الثاني، وأنها احترفت الغناء في الملاهي في تلك السن المبكرة.
قد تكون "ماري جبران" ذات موهبة خارقة، ولكن الاحتراف في سن مبكرة جدير بالتأمل والنقاش. فزكريا أحمد الذي كان يسجل مذكراته يوماً بعد يوم ـ كما عرف عنه ـ لم يغالط في تاريخ تواجده في بيروت، وهو يذكر أسماء معروفة مثل رياض السنباطي تأكيداً لما ذهب إليه، وهو حتى ذلك التاريخ لم يتعرف على "ماري جبران" وذكرها عرضاً في مذكراته كمطربة جديدة استمع إليها في ذلك المقهى، فإذا أضفنا إلى هذا بأن القوانين النافذة والسائدة حتى الآن، لا تسمح لفتاة قاصر بالعمل في الملاهي، فإننا نصل إلى حقيقة واضحة تعلن من تلقاء نفسها بأن تاريخ ولادة "ماري جبران" الذي قالت به غير صحيح ومشكوك فيه. وأنها ربما لجأت إلى تغييره كي لا تفصح عن عمرها الحقيقي شأنها في ذلك شأن أغلب النساء في العالم. ويمكن القول استناداً على ما سبق، وبالتحديد على مذكرات زكريا أحمد أن تاريخ ولادة "ماري جبران" على الأرجح هو عام 1907 إن لم يكن في عام 1905، وكلا التاريخين أتاحا لها الفرصة لاحتراف الفن في ظل القوانين النافذة. وماري جبران هي ابنة "يوسف جبور" الذي نزح بأسرته إلى دمشق واستوطن فيها هرباً من المجاعة التي اجتاحت لبنان في زمن الحرب العالمية الأولى، وطالما هي من أسرة "جبور" المعروفة فلماذا استخدمت كنية أسرة أمها "جبران"؟
عندما قدم "سلامة حجازي" إلى بلاد الشام في إحدى جولاته الفنية، وكان من عادته اكتشاف المواهب من الممثلين والممثلات لاستخدامهم في فرقته، وجد ضالته في الفنانة "ماري جبران" خالة "ماري جبور" التي وافقت على العمل في فرقته وانتقلت معه إلى مصر، وعندما قررت "ماري جبور" احتراف الغناء، استخدمت اسم خالتها لسببين: الأول، كي لا تسيء لاسم عائلة "جبور" التي لم توافق على احترافها الغناء في الملاهي، والثاني: لاكتساب شهرة خالتها الممثلة المعروفة، حتى أن بعض معاصري أول عهدها بالظهور على المسارح كان يظن أن "ماري جبران" الممثلة، هي "ماري جبران" المطربة.
تقول ماري جبران، أنها عملت في فرقة الممثل المصري "حسين البربري" وهي في الثالثة عشرة من عمرها، وأنها بعد أن عملت لمدة تسع سنوات في فرقته في مدن يافا وحيفا وبعض مدن شرقي الأردن الصغيرة عادت إلى دمشق لتعمل فوراً في مقهى وملهى قصر البللور في حي القصاع بدمشق. وأنها منذ ذلك التاريخ ـ أي بين عامي 1924 ـ 1925 ـ استقلت بالعمل لوحدها بعد أن بلغت من الشهرة ما يؤهلها لذلك.
التاريخ الذي تذكره ماري جبران مشكوك فيه، إذ من المعروف، أن القلاقل التي نشبت قبل الثورة بدأت في العام 1924، كما أن الثورة نفسها اندلعت في العام 1925، وكانت دمشق مسرحاً رئيسياً لتلك الأحداث، فمن المستبعد أن تكون "ماري جبران" قد عملت أكثر من بضعة أشهر في قصر البللور، وهي الأشهر التي سبقت الأحداث الجسام، ومن ثم حزمت حقائبها وتوجهت إلى بيروت، لتحط رحالها في ملهى "كوكب الشرق" الذي ذكره زكريا أحمد في مذكراته.
بعد انكفاء الثورة السورية على نفسها، واستتباب الأمن لصالح الاستعمار الفرنسي، عادت ماري جبران إلى دمشق لتعمل بعض الوقت في ملهى "بسمار" ـ مقهى الكمال اليوم ـ ثم غادرتها إلى حلب لتشتغل في ملهى الشهبندر، وبعد سنة على ذلك، عادت مرة أخرى إلى دمشق وإلى ملهى بسمار حيث بلغ أجرها الشهري أكثر من خمسين ليرة ذهبية.
في أوائل الثلاثينيات، وفي فترة الاضطرابات التي غمرت القطر العربي السوري ضد الاستعمار الفرنسي، وفدت إلى دمشق الراقصة المشهورة "بديعة مصابني" التي كانت تملك صالة بديعة الشهيرة في القاهرة، وتسيطر بوسائلها الخاصة على دور اللهو في العاصمة المصرية. وعندما استمعت إلى "ماري جبران" في سهرة خاصة أذهلها صوتها وأداؤها وجمالها، فقررت أن تأخذها معها إلى مصر، وكانت ـ كما تقول ـ ماري جبران في الثامنة عشرة من عمرها وطبعاً فإن هذا القول غير صحيح، فلو افترضنا أنها كانت في الثالثة عشرة من عمرها عندما عملت لمدة تسع سنوات مع "حسين البربري" قبل عودتها إلى دمشق، تكون قد بلغت الثانية والعشرين من عمرها، وإذا أضفنا سنوات الثورة السورية وما رافقها إلى أن استمع إليها زكريا أحمد عام 1927 تكون قد بلغت السادسة والعشرين وإذا ما ضممنا سنوات عودتها ثانية إلى دمشق، وإقامتها في حلب ثم في دمشق، وافترضنا قدوم بديعة مصابني بين عام 1930ـ1931 تكون قد بلغت حتى ذلك التاريخ الثلاثين من عمرها.
رافقت "ماري جبران" "بديعة مصابني" إلى مصر بعد أن وقعت عقداً معها للعمل في صالتها لمدة سنة قابلة للتجديد، وهناك افتتن الناس بجمالها قبل أن يفتنهم صوتها وغدت بين عشية وضحاها قبلة الأنظار، فأحاط بها المعجبون والفنانون وأطلقوا عليها اسم "ماري الجميلة" و"ماري الفاتنة" وما إلى ذلك. وكان شيوخ التلحين من الذين أعجبوا بصوتها السباقين إلى خطب ودها، فتعرفت على محمد القصبجي وداود حسني والشيخ زكريا أحمد، وانفرد الأخيران بالتلحين لها، فحفظت على يدي داود حسني دور "الحبيب للهجر مايل" ودور "أصل الغرام نظرة" واهتمت بتدريبات الشيخ "زكريا أحمد" وتعلمت منه كيف تغني القصائد والأدوار والطقاطيق حتى أبدعت فيما غنت، مثل دور "ياما إنت واحشني" ودور "دع العزول" ودور "في البعد يا ما كنت أنوح".
وفجأة دب الخلاف بينها وبين "بديعة مصابني" فتركت مسرحها آملة في العمل بمسارح أخرى، ولكنها لم تستطع في البداية بسبب سيطرة بديعة مصابني القوية على ملاهي القاهرة. ويبدو أن بديعة مصابني اختلفت معها بسبب الأجر، وقيل بسبب رفضها مجالسة رواد الملهى، وقيل أيضاً أن بديعة مصابني اعتقدت بأن "ماري جبران" التي أدارت العقول بجمالها وسحرها وغنائها، أخذت تزاحمها في أمر لا تحب أن يزاحمها فيه أحد، فأنهت عقدها متعللة بأوهى الأسباب.
تمكنت "ماري جبران" عن طريق أصدقائها الكثر وبفضل ما تملكه من خصائص فنية من العمل في العديد من الصالات، وظلت تعمل على الرغم من القطيعة بينها وبين بديعة مصابني مدة سبع سنوات، ثم ولأسباب مجهولة قررت العودة إلى دمشق. وبعد عودتها مباشرة وقعت عقداً مع ملهى العباسية ـ فندق سميراميس اليوم ـ بمبلغ خمسين ومائة ليرة ذهبية في الشهر، وكان ذلك في أواخر الثلاثينيات وشبح الحرب العالمية الثانية المنذرة بالاندلاع يخيم على العالم. ومنذ ذلك التاريخ أخذت ترسخ قدمها في الفن الذي أتقنت وكرسته لرواد مسارح وملاهي لبنان وسورية وفلسطين، حتى غدت بحق مطربة ديار الشام الأولى. وكانت حتى ذلك التاريخ تغني أعمال مشاهير الملحنين كأدوار الشيخ سيد درويش وداود حسني وزكريا أحمد من التي كانت تؤديها سيدات الطرب آنذاك كفتحية أحمد وأم كلثوم ومنيرة المهدية ونادرة الشامية، ثم أخذت تغرف من ألحان محمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب في المونولوغ والقصائد والطقاطيق، وبعض الأعمال التراثية الشامية في الموشحات والأدوار والأغاني الخفيفة، لتكتشف شيئاً فشيئاً بأن عليها أن تغني أغاني خاصة بها يقوم بتلحينها ملحنون مختصون يعرفون خصائص صوتها وقوته، فاتصلت بمشاهير الملحنين من أمثال صابر الصفح ومحمد محسن ورفيق شكري وزكي محمد ونجيب السراج لتبدأ معهم رحلتها الفنية التي امتدت حتى وفاتها.
يمكن القول على ضوء ما قدمه هؤلاء الملحنون، أنها ارتاحت لألحان الفنان "زكي محمد" فغنت من ألحانه عدداً كبيراً من القصائد والمونولوغ والأغاني العاطفية الدارجة، وأول لحن غنته له مفتتحة بها حفلاتها الشهرية في العام 1937، مونولوغ شعري رومانسي ناعم بعنوان "الشباب" من نظم أحمد مأمون، ثم تتالت بعد ذلك أعماله لها، وبخاصة في القصائد التي حلقت بها كما في قصائد "دمشق" من شعر د.عزت الطباع، "خمرة الربيع" من شعر أحمد خميس، "زنوبيا" من شعر زهير ميرزا. وفي المونولوغ مثل مونولوغ "البلبل" والطقطوقة مثل طقطوقة "أماني". والجدير بالذكر أن قصيدة "دمشق" التي غنتها من الإذاعة السورية في العام 1948، كانت أول قصيدة قومية نظمت احتفالاً بضيوف سورية الذين اجتمعوا في دمشق بعد كارثة فلسطين، وقد أحدثت آنذاك ضجة كبيرة بألحانها وأداء ماري جبران الرائع لها.
هذي دمشق على العهد الذي كانا
طافت عليها كؤوس الدهر صافية
فما طغت وهي في نعمائها بطراً
نبت العروبة عرق طاب مغرسه
تلفتت وهي نشوى في خمائلها
يا نازلين على الفيحاء إن لكم
غناكم بردى في ظل ربوتها
رسل العروبة شد الله أزركم
هل تسمعون على القدس الشريف صدى
ذكرت أندلس الخضراء فانهملت
 
 
لم تتخذ غير دين العرب إيمانا
حيناً ومترعةً بالجور أحيانا
ولا وهت تحت وطئ الذل بنيانا
وموئل الوحي إنجيلاً وقرآنا
تستقبل العرب قواداً وأركانا
في كل قلب بها أهلا وأوطانا
نشوان يلمح فيكم عهد مروانا
ولا نبا منكم عزم ولا هانا
يقطع الليل أوجاعاً وأشجانا
مدامعي إذ بدت أطيافها الآنا
 
غنت ماري جبران من ألحان نجيب السراج أغنيتين ناجحتين هما قصيدة "الغريب" ومونولوغ "يا زمان" ومن ألحان محمد محسن، قصيدة "زهر الرياض انثنى" وطقطوقة "حبايبي نسيوني"، وتدين بنجاحها للفنان الكبير "جميل عويس" الذي قاد فرقتها الموسيقية، وعمل معها في كل المرابع التي عملت بها، وقد لازمها عدداً من السنوات قبل أن يدفعه الحنين من جديد للهجرة إلى مصر.
عانت ماري جبران في حياتها الشيء الكثير من وضع والدتها الصحي، وقد انعكس هذا على علاقاتها العاطفية التي توجتها بالزواج من الرجل الذي تفانى في حبها ـ نقولا الترك ـ، ورزق منها بولد واحد، لم ينعم طويلاً بحنانها وحبها، إذ أصيبت بالسرطان الذي عانت منه الأمرين لتقضي به في العام 1956، فقيرة معدمة مهملة من الناس الذين كانوا يلتفون حولها في أوج مجدها، وكانت جنازتها متواضعة، لم يمش بها سوى بضعة أفراد من الذين أحبوها وعلى الرغم من عطائها الثر، فإن التسجيلات التي تحتفظ بها إذاعة دمشق لعشرات من أغانيها التراثية والمعاصرة، قلما تذاع هذه الأيام.
يصنفها النقاد صوتاً وأداء في مرتبة أم كلثوم، ويفضلها بعضهم على أم كلثوم، ولو امتد بها العمر لكان لها شأن آخر.



[1]راجع كتاب "زكريا أحمد"، تأليف: صبري أبو المجد.

صميم الشريف

الموسيقا في سورية|