الروضة: مدينة في الصحراء السورية من عصر البرونز القديم

الموقع:
يتوضع الموقع شمال سلسة الجبال التدمرية على بعد 50 كم شرق مدينة السلمية في محافظة حماة وعلى بعد 70 كم من موقع قطنا (المشرفة حالياً) في محافظة حمص. يأخذ الموقع شكل تل منتظم دائري الشكل، يرتفع حوالي مترين عن مستوى الفيضة في الجهة الجنوبية الغربية من الموقع (مجرى ماء ناتج عن الأمطار وهذه الفيضة ساعدت على وجود تربة خصبة في المنطقة) [1] (الشكل 1).


الشكل 1: مجرى الفيضة

تبلغ مساحة الموقع 11 هكتاراً داخل الأسوار و 15-16 هكتاراً مع المنشآت الدفاعية للمدينة، بالإضافة إلى ذلك نجد حياً سكنياً خارج الأسوار تبلغ مساحته 3 هكتارات، ويبلغ قطر المدينة حوالي 400 م، ويرتفع عن سطح البحر 528 م، ويحيط به سوران دفاعيان وخندق. شُغل الموقع في الفترة بين 2400 – 2100 ق.م (العصر البرونزي القديم الرابع) وقد أجري مسح جيوفيزيائي [2] للموقع قبل البدء بأعمال التنقيب الذي أظهر وجود مدينة دائرية الشكل ذات شوارع متقاطعة مع بعضها وأبنية مختلفة واضحة حيث أمكن معرفة مخطط المدينة وبالتالي ساعد هذا الأمر على اختيار قطاعات التنقيب (الشكل 2).

الشكل 2: الموقع بالتصوير المغناطيسي

أعمال التنقيب:
بدأت أعمال التنقيب في الموقع ببعثة سورية- فرنسية[3] منذ عام 2002 ولا تزال مستمرة حتى الوقت الحاضر. وقد تركزت أعمال التنقيب - بناء على التصوير المغناطيسي - في قطاعات مختلفة من المدينة وهي القطاع الديني، والقطاع الدفاعي، والقطاع السكني، إضافات إلى القطاع الجنائزي الذي يتوضع خارج الأسوار. وأثمرت التنقيبات عن نتائج مهمة فيما يتعلق بتاريخ استيطان المدينة ومختلف النشاطات سواء الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية وسنحاول ضمن هذا البحث إلقاء الضوء بشكل موجز على هذه النتائج ومراحل الاستيطان ضمن الموقع (الشكل 3).

الشكل 3: قطاعات التنقيب ضمن الموقع

القطاع السكني:
تم اختيار هذه المنطقة بناء على بقايا بعض الجدران التي كانت ظاهرة على السطح، وتتوضع في الجزء الغربي من الموقع، وبين عامي 2003 و2004 تم تنقيب مساحة 400 متر مربع وضمن هذه المساحة اكتمل إظهار ثلاث مجموعات سكنية وهي: C41 و C42 و C43 ( الشكل 4). وفيما يخص المجموعة الأولى والثالثة فهما يعودان لاستيطان عصر البرونز القديم 4 بينما المجموعة الثانية تعود لفترة الاستيطان الأخيرة من العصر نفسه وتتمثل بإعادة بناء بعض الحجرات. وهذه المجوعات السكنية القديمة كانت مبنية من اللبن (في الوقت الحاضر اختفت) وما هو ظاهر يتمثل بالأساس الحجري، وفوق أرضيات حجرات هذه المجموعات السكنية تم العثور على العديد من الأواني الفخارية التي كانت في مكانها[4]. أما بخصوص مخططاتها فنلاحظ وجود عنصر رئيسي في كل منها وهو الفسحة الداخلية وحولها تتوزع الحجرات السكنية والخدمية، وهذا المخطط معروف في المشرق العربي القديم في أغلب المواقع المعاصرة كما في قطنا (المشرفة) وإيبلا وتل الشعيرات.

الشكل 4: مخطط الحي السكني

القطاع الديني:
تم الكشف عن معبدين أولهما مؤلف من ثلاثة تراكيب دينية مجتمعة في الشمال الشرقي من الموقع (القطاع 1) مؤرخة على عصر البرونز القديم 4، وربما يعود التركيب الثالث لنهاية تاريخ استيطان الموقع في عصر البرونز القديم أي أنه يشكل الجزء الأحدث بين التراكيب الثلاثة (الشكل 5). إن البناء الأكثر قدماً (معبد الأجداد) يستند مباشرة فوق الأرض الطبيعية ويتألف من حجرتين وبهو داخلي (10 م طول × 4.55 م عرض)، ويتألف الأساس من قطع حجرية متوسطة الحجم غير مشذبة وهو القسم المحفوظ، وكان يعلوه جدران من اللبن غير محفوظة أيضاً.

الشكل 5 -أ: المعبد بتركيباته الثلاث

المعبد الثاني وهو أصغر من المعبد الأول ويقع إلى الشمال ويعود أيضاً إلى نهاية تاريخ استيطان الموقع في عصر البرونز القديم ويحيط بالمعبدين سور حجري بطول 60 متراً وقد تم العثور على العديد من اللقى ضمن المعبدين منها أوانٍ فخارية كبيرة الحجم ضمن الأرضيات كانت تستخدم للتخزين وأحواض ماء مبينة من الجص ربما كانت تستخدم للتطهر والاغتسال. وأهم ما يميز ذلك القطاع الديني القطعة الحجرية الكبيرة الحجم الصماء وهي واحدة من الأمثلة النادرة المعروفة في القرائن السورية وهذا الاكتشاف يعتبر في غاية الأهمية في تلك المنطقة في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، وما تقدمه من معلومات تتعلق بالمعتقدات والطقوس الدينية المتبعة[5].

الشكل 5-ب: أحواض ماء من الجص

القطاع الدفاعي:
توضع هذا القطاع في الغرب والشرق من الموقع حيث تظهر حجارة السور ويبلغ عرضه 2.55 متراً ومن خلال أعمال التنقيب تبين وجود عدة مستويات للسور: المستوى I ويعود لعصر البرونز القديم IV كما هو الحال بالنسبة للسويات المعروفة في الموقع، أما المستوى II المبني من اللبن فيعود لمرحلة الاستيطان الأولى للموقع، وهناك المستوى III وهو غير محفوظ ولمعرفة المرحلة التي بني فيها لا بد من متابعة أعمال التنقيب في مناطق أخرى من السور. من جهة أخرى تم الكشف عن نظام دفاعي كامل بجانب البوابة الشرقية للمدينة، حيث تم عمل سبر طولي بجانب البوابة الشرقية باتجاه الخارج وتبين وجود سورين وخندقين (الشكل 6)، كما تم كشف أحد الأبراج بجانب السور الثاني[6]، وهذا النظام الدفاعي المزدوج يقدم معلومات هامة فيما يتعلق بوسائل الدفاع عن المدينة في تلك ذلك العصر. والسور في هذا الجانب يستند مباشرة إلى الأرض الطبيعية، يبلغ عرضه 2 م ويتألف من أساس حجري يعلوه مداميك من اللبن محفوظ حتى ارتفاع 1.30 م وهذا يمثل المرحلة الأقدم في بناء السور.

الشكل 6 -أ: السبر على السور الشرقي


الشكل 6-ب: مخطط السبر على السور الشرقي

القطاع الجنائزي:
تمتد المقبرة في الجهة الغربية على حواف السهل المطل على الموقع خارج الأسوار و المنطقة الزراعية، وتحتوي على عدة أنواع مختلفة من القبور وبأعداد كبيرة منها:
- 45 مدفناً على شكل بئر حفرت في طبقة صخرية كلسية وهي موجود ة بشكل خاص في مركز المقبرة.
- 15 مدفناً في أغلب الأحيان محاطة بقطع حجرية على شكل دائرة.
- بعض مدافن التومولوس وتتوضع خصوصاً في الجنوب الغربي من المقبرة.

ونلاحظ ضمن هذه المقبرة أن النوع السائد هي المدافن البئرية، ولها شكل بئر فتحته ضيقة محفور بشكل عمودي ضمن الطبقة الصخرية وعلى عمق معين يصل في بعض الأحيان إلى 2 م يأخذ الحفر شكلاً أفقياً حيث نجد ما يشبه الحُجرة بأبعاد 4×4 م والتي كنت تستخدم للدفن فوق الأرض مباشرة وأغلب هذه المدافن مؤرخة على عصر البرونز القديم 4 أي أنها معاصرة لعصر استيطان الموقع (الشكل 7)، وقد قدمت هذه المدافن صورة واضحة عن عادات الدفن والطقوس الجنائزية التي كانت سائدة في ذلك العصر.

الشكل 7 -أ: مخطط المدافن البئرية


الشكل 7 -ب: مدفن بئري

خلاصة:
ظهرت الروضة كمدينة في الصحراء لها عدة وظائف، منها دينية، ودفاعية، وكذلك زراعية وتجارية، فهناك قسم كبير من السكان استقر فيها لفترة طويلة من السنة. والمسوحات الجيوفيزيائية التي أنجزت في الروضة وفي المواقع السورية الأخرى أظهرت وجود نموذج للمدينة بقي في سورية خلال الألف الثالث قبل الميلاد، وهذه المدن دائرية الشكل وهذا يدفعنا أن نفهم أن سكان الروضة استطاعوا العيش كذلك ضمن القرى المحيطة داخل الصحراء خلال فترة البرونز القديم 4، وهذه الدراسة تعتمد على دراسة وتحليل العينات النباتية والكسر العظمية الحيوانية[7] وكذلك على التجهيزات المائية التي أظهرتها الصور الجوية ضمن محيط الروضة.

فقد مارس السكان الزراعة واعتمدوا عليها في معيشتهم وكانت الحبوب من أهم زراعاتهم وهذا ما أكدته دراسة العينات النباتية التي تم العثور عليها أثناء التنقيب[8] حيث ثبت وجود زراعة الشعير، كذلك القمح وبعض أنواع الحبوب البرية. وهناك دلائل أخرى تشير إلى أنهم عرفوا نوعاً من أنظمة الري عن طريق عمل تجمعات مائية في المناطق التي تسيل عبرها مياه الأمطار وكانت أهم الأشجار التي عثر على بقاياها شجرتا الزيتون والعنب، وإذا ألقينا نظرة حالية على التجمعات البشرية البدوية المحيطة بالموقع نجدها تعتمد حتى الوقت الحاضر على زراعة بعض أنواع الأشجار مثل الزيتون والعنب والرمان رغم عدم توفر المياه (الشكل 8).

الشكل 8: مدفن بئري

أما فيما يتعلق بالحياة التجارية فقد أثبتت اللقى التي عثر عليها أثناء أعمال التنقيب عن وجود عملية تبادل بين الروضة والمواقع المجاورة حيث أن الروضة كانت بمثابة مركز للتجمعات البدوية في الصحراء حيث تتم عمليات التبادل التجاري والمقايضة، كما عثر على لقى مثل الصدف وبعض أنواع الحجارة المستوردة من الأناضول، والصدف الذي كان مصدره البحر المتوسط أو الخليج العربي، وهذا يدل على أنواع التبادلات التجارية التي كانت سائدة في تلك الفترة، وهذا مرتبط بدون شك بمدن كبرى معاصرة كان لها نفوذها ووزنها السياسي مثل ماري وإيبلا وقطنا.

إن المعلومات المتوفرة حتى الآن تعتبر في غاية الأهمية فيما يتعلق بماضي الصحراء السورية، التي كانت مأهولة في أغلب أجزائها، وهي على عكس ما نراه في الوقت الحاضر. إن أعمال التنقيب الأثري التي لا تزال مستمرة في المنطقة من شأنها أن تلقي الضوء على العديد من المسائل المجهولة عن السكان الأوائل للصحراء الحالية وعاداتهم وتقاليدهم ومختلف نشاطاتهم اليومية.

الحواشي:
[1] - GEYER B;1998, pp. 213-223
[2] - CASTEL C, AL AWAD N; 2003, pp. 6-10
[3] - البعثة السورية الفرنسية في موقع الروضة تعمل في الموقع منذ عام 2002 بإدارة الأستاذ نظير عوض عن الجانب السوري وقد شاركت البعثة كمدير ميداني عدة مواسم، وكورين كاستل عن الجانب الفرنسي ومشاركة العديد من الباحثين الفرنسيين في اختصاصات مختلفة.
[4] - CASTEL C; 2005, P. 66, 67.
[5] - CASTEL C; 2008, pp. 12,13.
[6] - CASTEL C; 2004, pp. 48, 55.
[7] - VILA E. AL BASSO M; 2006, p. 111-119.
[8] - HERVEUX L; 2004, p. 79-91.

قائمة المصادر والمراجع:
-CASTEL C; 2008, Rapport préliminaire sur les activités de la mission franco-syrienne dans la micro-region d AL RAWDA , AKKADICA, 129, fasc.1, Paris. p. 5- 45.
-CASTEL C; 2005, Rapport préliminaire sur les activités de la mission franco-syrienne dans la micro-region d AL RAWDA , AKKADICA, 126, fasc.1, Paris. p. 50-90.
-CASTEL C; 2004, Rapport préliminaire sur les activités de la mission franco-syrienne dans la micro-region d AL RAWDA , AKKADICA, 125, fasc.1, Paris. p. 27- 75.
-CASTEL C, AL AWAD N; 2003, Première mission archéologique syro-francaise dans la micro-region d AL Rawda, Orient express, 1, Paris. p. 6-30.
-GEYER B; 1998, Les marges aride de la Syrie du Nord, Bulletin de l association des Géographes français, 75/2, Paris.
-HERVEUX L; 2004, Etude archeobotanique préliminaire de Tell AL- Rawda, AKKADICA, 125, fasc 1, Paris, p. 79-91.
-VILA E. AL BASSO M; 2006, Résultats préliminaire de l étude de la faune d al – Rawda, AKKADICA, 126, fasc 2, Paris, p. 111-119.

إعداد: همّام شريف سعد

اكتشف سورية