باسم مجلة «صباح الخير» مجلة الالتزام القومي بوحدة أمتنا ونهضتها القومية أود أن أعبر عن عميق الاغتباط والاعتزاز لانعقاد هذه الندوة الهامة وإسهامنا مع هذه المؤسسة الثقافية العامرة الكبرى، مكتبة الأسد، والسادة المحاضرين الأفاضل وأصدقاء دمشق القديمة والمعاصرة، في إقامة هذه الندوة التاريخية للمدينة السورية العظيمة.
يشرفنا في هذه الندوة التي تضم نخبة من الباحثين الأساتذة أن نلتقي حول تاريخ أعرق وأقدم مدينة في التاريخ:
عاصمتنا التاريخية دمشق.
ولقد أطلق اسم دمشق كما سيبين السادة الباحثون قبل ألوف السنين على هذه المدينة التاريخية في وثائق آشورية ومصرية وفي التوراة، وإذا كان قد ثبت مما اكتشف في التلال المحيطة القريبة قدم العمران الإنساني المأهول في هذه العاصمة العريقة، فالأكيد الأكيد أن الثروة الأثرية والحضرية التي تضمها المدينة في باطن الأرض غير المكشوف ربما تفوق التصور وعسى يأتي اليوم بتطور الوسائل الهندسية الذي يمكن فيه كشف أعماق الأرض مع الحفاظ على العمران، لكن ما هو معلوم عن دمشق يجعلها أعرق مدن العالم ليس من حيث أنها أقدم المدن كما أثبت البحث الأركيولوجي، ليست دمشق أقدم مدن التاريخ بل المدينة التي صنعت التاريخ، بل كونها مستمرة منذ ألوف السنين في عمران متقدم وعاصمة للتاريخ بحيث لا يمكن أن نقول فقط بأنها أقدم مدينة في التاريخ بل علينا دوماً أن نؤكد بأنها المدينة التي صنع فيها التاريخ مراراً والتي صنعت هي التاريخ وهذه هي فرادتها المميزة... فدمشق عاصمة الصراع التاريخي هي أيضاً دمشق الإبداع الحضاري في الطبيعة الفيحاء الجميلة، واسم دمشق في الأصل اللغوي القديم يعني التربة المسقية، فالمدينة التاريخية واقعة بين ضفتي بردى ومحاطة بالتربة الحوارية.
إن اسمها يدل على هذا العناق الدائم بين الإنسان والطبيعة.
فالنهر والخصب لازما المدينة منذ نشأتها، ثم بنى الإنسان ما بنى، ومن لطائف ما بنى البيت الدمشقي بنسقه الخاص والبركة والنوافير يتجلى كالحلم الدقيق. وهو يحفظ اليوم في أحيائها القديمة، وهو الذي امتد بنسقه في قصور الأندلس التي هي النموذج الأبهى الذي شع في الغرب عن حضارة مشرقنا السوري الدمشقي القديم.
ولذلك فندوتنا إلى جانب محاضراتها في الحقب التاريخية، خصص قسم من محاضراتها لدمشق العمران والمياه والمعالم الحضارية، وهكذا جاءت متنوعة شاملة بفضل السادة الباحثين واختصاصاتهم، ورغبتنا في أن تكون في هذا الاتساع لنفي جزءاً من روعة المدينة التاريخية، فكما توسدت دمشق الطبيعة الجميلة، توسدت الأمجاد التاريخية:
فدمشق الآرامية التي تنهض عليها بعد تحريرها من نفوذ الفرنجة الرومانيين، دمشق العربية، هي مدينة أثرها التاريخي لا يضاهى، فدمشق حاملة الرسالات الروحية من أمتنا إلى العالم، ولغة دمشق الآرامية أولاً والعربية ثانياً كانت لغة الرسالات الروحية فكانت الآرامية لغة المسيح وكانت العربية لغة القرآن الكريم.
والآرامية كانت لغة المعاهدات الدبلوماسية في العالم القديم كله كما كانت الكنعانية لغته التجارية.
الآرامية كانت لغة المسيح والمسيحية هي نبتة من بيئتنا وأرضنا:
والآرامية كانت لغة المسيح وهي نقطة لابد من تذكير الغرب والعالم بها في معرض تبديد تلك الخرافة التي تستأصل الجذور التاريخية للمسيحية لتجعلها تبدو وكأنها نبتة غربيّة، بينما لولا دمشق التي منها انطلق الوحي إلى الغرب ولولا أنطاكية والقدس لما كانت المسيحية، فالمسيحية هي بنت هذه البيئة، وحين تتنكر لجذورها تفقد جوهرها، ولعلّ هذا ما قصده الاستعمار فعلاً أن يحول إحدى رسالاتنا التوحيدية إلى مجرد امتداد لنفوذه، لذلك كان جزءاً من الثقافة القومية والحضارية إعادة الأمور إلى نصابها من منظور الحقائق التي تسقط الأباطيل.
دمشق في الإسلام، عاصمة الدنيا:
ودمشق في الإسلام هي عاصمة الدنيا، فيها تنشأ الدولة المركزية، ومنها تمتد الفتوح غرباً إلى الأندلس وشرقاً إلى الصين، فهي ناشرة راية الاسلام، وهي معرّبة الأقوام، وبها يبدأ ذلك التمازج الحضاري الذي يشكل ثقافة عالمية جديدة، وليس كل ذلك محض صدفة بل إنه الموقع الجغرافي والإرث التاريخي والانصهار البشري الذي يؤهل مدينة أو بلاداً للعب دور تاريخي مميز.
عاصمة الصمود في وجه الغزوات البربرية:
ودمشق رمز صمود أمتنا في وجه الغزوات البربرية وعاصمة التصدي لتلك الغزوات.
تذكرها التوراة على أنها تشن الحملة تلو الحملة لمواجهة تلك الغزوة البربرية التي اجتاحت بعض أرضنا في جنوب سورية لبعض الزمن وعرفت بالعبرانيين، واسم يرد كثيراً في التوراة كرمز للملك الآرامي المعادي ويبدأ صعود دمشق الآرامية متزامناً مع نهاية إسرائيل العبرانية، بحيث عندما تقرأ التصريحات الإسرائيلية الأخيرة والمستمرة منذ سنوات حول أن سورية هي العدو الأول نكاد نتلمس الصورة نفسها التي كتبت في التوراة عن آرام دمشق الذي جمع الإمارات الآرامية حوله في تضامن مصيري لمواجهة الأخطار الخارجية.
دمشق الأموية كانت عاصمة الفتوح والتعريب، ولبست ثوب الانتصار الوقور، لكن دمشق بعد ذلك كانت دوماً عاصمة الصمود في وجه الغزوات البربرية، فمن صلاح الدين إلى يوسف العظمة في ميسلون تراث من التصدي للاستعمار الوافد على الأمة بقرار المقاومة ورد الغزوات حتى النصر أو الاستشهاد.
وهذا التراث نفسه الذي يجعل من دمشق التحرير، دمشق التوحيد، فكلما تصدّت للعدو الخارجي حاولت أن تستجمع القوة القومية، من زمن الآراميين وائتلاف إماراتهم إلى حركة صلاح الدين التوحيدية إلى اجتماع المؤتمر السوري الكبير (1919-1920) ليعلن إرادة الأمة في رفض تجزئتها في معاهدات الاستعمار المعاصر ورفض المشروع الصهيوني إلى دمشق المعاصرة مركز القرار القومي.
سايكس بيكو أم مصائبنا:
ولكن إذا كانت حطين على طريق دحر الغزاة هي وليدة الوحدة التي حققها صلاح الدين، فإن ميسلون وقفة العز والاستشهاد ليوسف العظمة كانت عنوان المقاومة الشريفة، ولكن مع فقدان إكسير الوحدة بعد أن خيضت معركة الأمة على أبواب دمشق بدل أن تخاض على الساحل الذي نزل فيه المستعمر، فالتجزئة بكل أنواعها كانت دوماً حليف الاستعمار وسايكس بيكو هي أم مصائبنا.
الانتقام لميسلون من خلفاء غورو:
قيل عن غورو أنه بصلف المستعمر زار قبر صلاح الدين بذهنية المنتقم المتشفي لكن المقاومة الوطنية في لبنان الثمانينات المستندة إلى قرار دمشق القومي بالصمود والتصدي، ردت على خلفاء الجنرال غورو بنقل مسرح معركة التحرير من ميسلون إلى جنوب لبنان وإلى الشواطئ التي نزل فيها الغزاة، فكانت مقبرة مشروع المحمية الإسرائيلية الأطلسية. ذلك أن التلاحم القومي على أساس مركزة القرار هو عدة النجاح في المعارك المصيرية. وهكذا لم تكن معركة لبنان في (1982-1985) مجرد وقفة عز فقط وقد كانت أيضاً إلى ذلك انتصار المعادلة القومية على الصهيونية وقوى الاستعمار العالمي. كانت الانتقام لميسلون على طريق حطين المعاصرة.
وأكدت أهمية التواصل والتكامل بين الوطني والقومي، فالوطني المنسلخ عن القومي يقع في مطب الانعزال والكيانية والقومي المستغني عن الوطني أو المزدري بإرادته في معادلة النضال يقع في مطب القهر والضم والإلحاق، بينما الوطني الملتزم بالقومي والقومي المحتضن الوطني هما طريق الوحدة والتحرير.
دمشق التاريخ، وشام العرب والتسمية الشعبية المألوفة:
دمشق التاريخ هكذا ورد اسمها في اللغات القديمة المختلفة، إنما العرب عرفوها بالشام وسميت سورية الطبيعية بلاد الشام.
ولكن اسم الشام غلب على أنه يعني تحديداً دمشق في الكلام العامي والمألوف فرمز اسم العاصمة لاسم البلاد، بينما بر الشام وأبناء بر الشام كانت التسمية التي تطلق على السوريين من كل سورية الطبيعية، وبقيت الشام بمعنى العاصمة الأقرب للعفوية الشعبية، لذلك كسبت أغنية فيروز «يا شام» القلوب عدا الصوت والنغم والمعنى لأنها اشتقت من المشاعر الشعبية.
ذاكرة جيلنا والنضال الذي حسم لصالح المرجعية القومية:
وإذا كنا نلتقي في الحرم العلمي لنستمع إلى إضاءات تاريخية حول أهم مدينة في تاريخنا فاسمحوا لي أن أنقل إليكم إلى جانب العلم والتاريخ اللذين سيوفيهما حقهما السادة المحاضرون المشاعر العميقة التي صاحبت تكوّن ذاكرة جيلنا في معرفته الحميمة والمتنامية لدمشق الشام.
إنها تعبر من خلال قصيدة أحمد شوقي الشهيرة التي كان يرددها جيلنا والأجيال التالية وأمامه صورة لدمشق الثورة الكبرى والمستعمر يقصف أحياءها:
قم ناجِ جلّق وانشد رسم من بانوا
ثم يرتفع مع ملاحم الصراع فيردّد:
إنعام رعد
دمشق أقدم مدينة في التاريخ|ندوة آذار الفكرية في مكتبة الأسد|دمشق، سورية، 1991