«حمّام بغدادي» للمخرج المسرحي جواد الأسدي

هل كان حمّاماً بغدادياً تطهرت فيه النفوس، أم كان حالة من الجنون والهلوسة؟!

العمل المسرحي «حمّام بغدادي» للمخرج العراقي جواد الأسدي الذي قُدم على مسرح دار التربية الثقافية بـحلب، بدعوة من فرقة الورشة المسرحية التابعة لوزارة الثقافة، مديرية المسارح والموسيقا، كان محطة مهمة من محطات المسرح التجريبي في مدينة حلب التي تفتقر إلى مثل هذه العروض الجادة والمهمة في آن واحد.

هذا العرض الذي جسده على خشبة المسرح كل من الممثلين البارعين نضال سيجري وفايز قزق، كان في منتهى الروعة والإبداع، نصاً وتمثيلاً وديكوراً وتقنية.

يحيل هذا العمل المسرحي إلى المشهد العراقي بعد الاحتلال بكل تداعياته على الحياة العامة، ويبرز حالة التناقض التي تعتري المشهد العراقي ككل من جانب وجهة النظر إلى الاحتلال نفسه، فـ «مجيد» الذي جسد شخصيته فايز قزق و«حميد» الذي جسده نضال سيجري، هما شقيقان يعملان سائقين على خط عمان – بغداد، يرى الأول في الاحتلال صفقة رابحة لإنعاش تجارته وأعماله، فهو يشكل حالة فرد ضاعت أحلامه في التعلم وفي رغبته في أن يصبح مغنياً مشهوراً، فيصبح أسير الملذات والنساء، أما الثاني فهو يجسد حالة فرد بسيط ضعيف أسير خوف ورعب سيطرا عليه وامتلكاه منذ فترة النظام السابق عندما شهد أحداثاً دموية ظلت راسخة في ذاكرته، وشكلت لديه نوعاً من عقدة ذنب، إذ شارك بصورة قسرية في مجازر جماعية تحت وطأة التهديد والقتل، وهو أيضاً ضحية جشع واستغلال شقيقه الأكبر الذي يغتصب حقوقه، ويتخلى عن عائلته إلى درجة عدم مشاركته في تشييع جنازة والده، أو حتى زيارة والدته المسنة.

وقد سعى المخرج جواد الأسدي إلى كشف ما يعتري هاتين الشخصيتين بعد الاحتلال، ونبش الزمن الماضي من خلال الحالة الأسرية التي كانت تجمعهما، والحالة التي أصبحا عليها بعد الاحتلال، ليعمل على إضاءة مناطق معتمة في النفس الإنسانية العراقية، بين حنينها إلى الماضي، وانخراطها في واقع لا يمت إلى تاريخها الحضاري بصلة، وبين انجرافها نحو مستقبل غير معلوم وغير واضح الملامح.

«الحمام» كان مكاناً أول وفضاء سينوغرافياً بامتياز يحمل الكثير من الدلالات والرموز التي تحيل إلى المشهد الخرائبي التي أصبح عليه العراق اليوم، وتم استخدام هذا المكان على خشبة المسرح ليتم فيه التغلغل إلى الماضي بكل أحداثه ومشاهده الجميلة والمحزنة في آن معاً، وليتم فيه التعبير عن مكونات كل شخصية على حدة، وعن الصراع الفكري بينهما، ثم كانت الحدود الفاصلة بين عمان وبغداد المكان الثاني الذي تم فيه التعبير عن حالة الفساد والانتخابات السياسية الوهمية، حيث الجثث العابرة للحدود، والذل والهوان الذي يتعرض له المواطن العراقي إلى درجة أن يقدم فرد كـ «حميد» كل أشكال التذلل والانبطاح للجيش الأمريكي المرابض على الحدود، لتمرير بضاعة فاسدة هي شخصية المرشح التي تحولت إلى جثة هامدة، حاول في الوقت نفسه استغلالها للحصول على مكسب مادي.

أما المكان الأخير الذي تم قفلت به المسرحية فهو الحمام مرة أخرى وقد أحال إلى نوع من التطهير، تطهير «حميد» من العمى الذي ربما سيقود إلى البصيرة ، وليختتم العرض بمشهد تلاشي الشخصيتين، وقد استخدم المخرج رؤيته الإخراجية السينوغرافية مستفيداً من التشكيل البصري عبر لوحة فنية للفنان التشكيلي العراقي جبر علوان ومن تركيب الصورة السينمائية في مشهد تصاعد البخار في الحمام.

وقد حاولنا خلال لقائنا الممثلين القديرين فايز قزق ونضال سيجري تسليط الضوء على بعض قضايا هذه المسرحية بشكل خاص، وبعض قضايا المسرح بشكل عام، عبر الحوار الآتي الذي بدأناه مع الفنان فايز قزق:

- كيف يمكن لممثلين اثنين أن يقوما بعمل مسرحي قائم على تسليط أضواء على احتلال قام بحرب غاشمة على شعب أعزل، وعلى تداعيات هذه الحرب؟

«شرط المسرح هو شرط يرتقي إلى تقديم الأشياء التي لا يستطيع أي فن آخر أن يقدمها في الواقع، من خلال شرطيته يمكن تجييش جيش بعدة آلاف من الجنود وتجريده من سلاحه بثانيتين متتاليتين، هذا شرط المسرح، هذا الشرط المفهوم من قبل المشاهد المسرحي الذي يأتي متواطئاً في لعبة المسرح مع الممثلين، والممثلون الذين يعرفون كيفية استخدام هذا الشرط يمكن أن يقدموا أعقد القضايا من خلال عدد محدود من الممثلين.

ما قدم من واقع، ليس القضية العراقية وكل تداعياتها، بل تم تقديم جزء وناحية معينة وقصة واحدة تعني شخصين من العراق، لكن ما قدم بالتأكيد هو جانب مهم من حياة هذين الشخصين في علاقتهما مع الموقف الجديد بعد الاحتلال، في علاقتهما مع مهنتهما، في علاقتهما مع تاريخهما وذاتيتهما كفردين، وأخوين، كانا في وضع وانتقلا إلى وضع آخر، في ظل وجود احتلال أمريكي للعراق».

- كيف تلعب كل من الموسيقى والديكور واللوحة الفنية التي رأيناها على خشبة المسرح دورها في إثارة مشاعر الممثل على الخشبة؟

«الأمر تم بناؤه وتشكيله على خشبة المسرح كفضاء من خلال عمل الممثل وعمل المخرج، والأستاذ الفنان التشكيلي جبر علوان كان معنا في معظم الوقت، وكانت هناك دوماً رغبة في أن يتم تكثيف هذا الفضاء المسرحي وجعله يعمل عمل الدال – إذا جاز لنا التعبير وإذا ما استخدمنا لغة الإشارة – فهناك دائماً شارات للمكان وشارات للمواقف وشارات للشيء الذي يجري على خشبة المسرح وهو مكان جريان الحدث. ليس بالضرورة أن تكون هناك حدود كاملة، إذ تكفي أصوات للسيارات والازدحام الموجود على الحدود البرية التي نراها عادة في أماكننا في البلدان العربية، فما بالك عندما يكون هناك احتلال، وهناك قطع للطريق وهناك قطع للأرزاق وقطع للأعناق ...الخ، إذن كان كافياً بالنسبة للمشاهد أن تكون هناك هذه الأصوات، والأمر نفسه ينطبق على المسألة البصرية عندما تتواجد هذه اللوحة في الخلف، هل هي كافية بما تحتويه من رموز على الإدلاء بأكثر من مجرد لوحة أو أكثر من مجرد شكل لامرأة، أو لشال موجود، أو لجسد غارق في الضباب هنا في اللوحة؟!».

وفي لقائنا مع الفنان نضال سيجري تحدث عن رموز ودلالات هذه المسرحية وعما بإمكان الفن أن يوصله إلى الجمهور المتلقي، فكان هذان السؤالان:

- هناك رموز مسرحية ودلالات كثيرة في هذا العمل المسرحي، إلام يرمز «الحمّام» و«الجثة» بالنسبة للممثل نضال سيجري؟

هذه الدلالات والإشارات يمكن أن نراها بعمقها الحقيقي وجوهرها الحقيقي من خلال الفن لأننا نرى حالة العرض ككل، وما نراه هو كل لا يتجزأ، الجثة هي ورطة حقيقية، لأنها جزء من الشارع العراقي، لكن الفرق بين مجيد وحميد وبين الجثة، هو أنه من المفترض أن يستفيدا من هذه الجثة ولكن طريقة تفكيرهما مختلفة، فمجيد الشخص الوصولي الانتهازي المستفيد من وجود هذا الاحتلال، وسواء أكان هذا المرشح موجوداً على قيد الحياة أم ميتاً، سيستفيد من نقله من عمان إلى بغداد، لدرجة أنه عندما تحول إلى جثة، وهذه الجثة ذهبت إلى العفن، إلى الخراب، أقول برغم هذا يريد أن يستفيد من هذا الخراب، وكما أرى أنه مثلما هو موجود في كل العالم من تجار الحرب، فمجيد هو جزء لا يتجزأ من تجار الحرب الموجودين، إذ لديه القدرة على الاستفادة من أي كارثة، فهو يراها من منظار آخر، من الجانب المالي، من جانب الدولار.

أما حميد فعلى العكس تماماً إذ يذهب في علاقته مع الأشياء بشكل واقعي إلى حد ما، بمعنى أنه يريد أن يستفيد من المليونير لأنه حي، ولديه رغبة حقيقية في أن يكون هو سائق السيارة، لأنه نادراً ما يقود هذه السيارة، إذ عادة ما يكون هو في مرتبة المعاون، أما في هذه المرة فكان انتهازياً أيضاً إذ طلب من أخيه أن يقود هو السيارة، وهو الذي يريد أن يتقاضى باليورو وليس بالدولار، فحاول اللعب على مجيد، وذلك بأن يذهب معه بشرط ألا يغمطه حقه، أي أننا لا نستطيع أيضاً أن نرى حميد على أنه الملاك والبريء، ومع أنه ضد الشكل العام للاحتلال إلا أن وجود مجيد، هذا الوجود الشيطاني الذي يقنعه في كل لحظة من الاستفادة من الاحتلال، يجعله ينزلق في لحظة من اللحظات، إلا أنه في بعض الأحيان يعود ليصحو ضميره، وخاصة عندما رأى المليونير قد تحول إلى جثة هامدة، فشعر بأنه في ورطة كبيرة لم يكن ليتخيلها، وعندما تطلب منه المجندة تفتيش الجثة لتعريته، هنا أيضاً كارثة أخرى، إذ ذهب حميد للهلوسة بشكل أكبر وللهذيان أيضاً، وللجنون، حتى ليتساءل أمن المعقول أن يكون هذا العهر موجوداً إلى هذه الدرجة، وإلى هذه القسوة والوقاحة في التعامل، كان هذا الأمر خطيراً جداً بالنسبة له.

أما بالنسبة لي - وعبر هذه المواقف - فنحن نتبنى ما حدث ونصدق ما يحدث، وخاصة أننا نحن الاثنين (نضال وفايز) نعرف أن هذه حكاية من الحكايات وتفصيل صغير من كارثة كبيرة، فهذا يعني أن نسعى لأن يصدق المشاهد ما يحصل أمامه، ولذلك كان علينا توضيح الدلالة بشكل أكبر حتى ولو كانت مكثفة وصغيرة، ثم إن هناك مؤامرة ضمنية بين مشاهد المسرح وبين الممثل والمخرج والعاملين على خشبة المسرح، هذه المؤامرة الضمنية الإيجابية تقول تعالوا نلعب وتعالوا نقتنع بأن هذه حدود، وأن هذا فريق حدودي، وأن هذا الصوت الذي نسمعه هو صوت سيارات أو صوت مقصلة أو صوت خازوق ...الخ، هذه المؤامرة الضمنية الإيجابية ما بين المشاهد الذي لديه الرغبة في الدخول في هذه المؤامرة وبين خشبة المسرح مهمة بشكل كبير، حتى أن هذه المؤامرة موجودة أيضاً بشكل فطري لدى الأطفال، فعندما تشتغل عملاً للطفل، يكون هذا الأخير على استعداد ليدخل معك في هذه المؤامرة، ولكن يبقى العبء ملقى على عاتق الممثلين على خشبة المسرح في كيفية اقتناعهم وتبنيهم لما يفعلون، ليصل هذا الصدق وهذا الانفعال الحقيقي إلى المشاهد بشكل عفوي وتلقائي وصادق.

- برأيك هل هذا يعني أن جروح المواطن العراقي أو جروح أي مواطن تعرض للقسوة والظلم والمعاناة - تلك التي خلفها الاحتلال - بإمكانها أن تلتئم من خلال الفن؟

«أنا برأيي لا الفن ولا الرواية ولا الشعر، ولا حتى الأسطورة تصل إلى جزء بسيط مما حصل بشكل حقيقي في حالة الاحتلال، المسرحية هي تقديم وجهة نظر، تقديم لحظة من لحظات كثيرة من الوجع والألم والانتكاس لدى هاتين الشخصيتين اللتين التقتا في اليوم الأول في الحمّام، ثم على الحدود، ثم كان اللقاء الأخير في لحظة الهلوسة عند الشخصيتين بعد حصول الكارثة عند كل واحد منهما.

مهما كان الفن عالياً وعميقاً ومهماً ومهما كان ذا وزن نوعي وثقيل فإنه لا يصل إلى جزء وإلى لحظة حقيقية من لحظات الإعدامات التي حصلت والجرائم الكبيرة التي رأيناها في العراق ولم نرها جميعها، ومن تخريب وتهشيم هذه النفوس والأرواح.

أنا أرى أن هذه المسرحية إذا قدمت في العراق، فسيراها العراقيون هزيلة جداً أمام ما حصل أمامهم على أرض الواقع بشكل حقيقي».

.

بيانكا ماضيّة - حلب

اكتشف سورية