تدمر: غنى في التاريخ والثقافة والمجتمع

1ـ تدمر عبر العصور:
ذكر المؤرخ والجغرافي العربي ياقوت الحموي في معجم البلدان تدمر وقال فيها: "أنها مدينة قديمة مشهورة في بادية الشام، بينها وبين حلب خمسة أيام.... قيل سميت بتدمر بنت حسان بن أذينة بن السميدع بن لاوذ بن سام بن نوح.... وهي من عجائب الأبنية، وموضوعة على العمد الرخام. زعم قوم أنها مما بنته الجن لسيلمان... وأهل تدمر يزعمون، أن ذلك البناء قبل سليمان بن داوود بأكثر مما بيننا وبين سليمان، ولكن الناس إذا رأوا بناء عجيباً جهلوا بانيه أضافوه إلى سليمان، وإلى الجن".
تدمر في عصور ما قبل التاريخ:
دلت التحريات الحديثة في كهوف تدمر، على وجود تجمع بشري يعيش على الصيد في أواخر العصر الحجري القديم (50 ألف سنة) ولكن هذا الإنسان جذبه ينبوع الواحة. وحول النبع الدافئ فيها، بدأ حياته المستقرة. وكانت أوتاد خيمته وكوخه هي أول ما صنعته يداه بعد نزوله من كهوف الجبال القريبة. وتطلب هذا التحول منه الاهتمام بالزراعة، والعمل على تدجين الحيوانات المتوحشة. وجرى هذا التطور بصورة بطيئة جداًً، حتى إن الشكل الواضح لهذا الاستقرار لم يظهر إلا في الدور الحجري الحديث ـ الألف السابعة والسادسة قبل الميلاد. وقد جاءت نتائج الحفريات الحديثة في كهف جرف العجلة القريب من تدمر، لتؤكد أن الإنسان العاقل (هوموسابيانس) جد الإنسان الحالي قد نشأ ودرج في هذه البقعة التي كانت شبيهة بخزان بشري، فاضت منه الجداول البشرية لتغمر سائر القارات. وقد عثر على أدوات صوانية وبقايا عضوية من العصرين الآشولي ـ 60 ألف سنة ق.م ـ والموستيري ـ اللافالوازي ـ 30 ألف سنة ق.م. ولقد وجد ذلك الإنسان في ظلال غاباتها المندثرة ومراعيها الخضراء، خير مكان يقطنه آنئذ، لتعذر الحياة في المناطق الأخرى المغمورة بالجموديات والثلوج.
تدمر في العصر البرونزي:
لا نجد لتدمر ذكراً حتى بداية الألف الثانية قبل الميلاد، على رقيم فخاري آشوري، عثر عليه في كبادوكية (موقع كولتبه، كانيش) وكانت مستعمرة تجارية للآشوريين على الحدود الحثية بالأناضول. والنص يذكر بوزر ـ عشتار التدمري (تدمريم) كشاهد في عقد بيع، وذكرت تدمر بعد ذلك في رقيمين من مدينة ماري (تل الحريري على الفرات)، يعودان للقرن الثامن عشر قبل الميلاد ـ عصر حمورابي ـ، الأول يذكر أربعة رجال تدمريين ذهبوا لزيارة سيدهم. كما جاء في الرقيم الثاني أن ستين سوتياً آرامياً، ذهبوا لينهبوا تدمر، ونزالا (القريتين)، ولكنهم عادوا صفر اليدين، بعد أن قتل التدمريون رجلاً من السوتيين. وفي رقيم كشف حديثاً في مسكنة (إيمار) على الفرات، ذكر أنه أمام أربعة شهود، بينهم اثنان تدمريان، يدفع "يملك دوغان" فدية تبلغ 74 شاقلاً من الفضة إلى "خادم آتو" التدمري، وفيه أول طبعة ختم تدمري معروفة حتى الآن. وتذكرها حوليات الملك الآشوري تغلات فلاصر الأول (1100 ق.م)، عندما هاجمها لمقاتلة سكانها ـ الآراميين. وقد أحضرت إلى آشور الغنائم والمكاسب من مدينة تدمر.
وفي القرن الحادي عشر قبل الميلاد شهدت تدمر وباديتها أكبر تجمع للقبائل الآرامية. ثم يطوي التاريخ أسرار ألف عام من عمر تدمر (منذ القرن الحادي عشر حتى القرن الثاني قبل الميلاد)، حيث بقيت هذه الفترة مجهولة تقريباً، ولا يعرف شيء عنها.
يتحدث سفر الملوك عن "تامار في الصحراء". وبعد ثلاثة قرون، وضعت أسفار الأخبار التاريخية التي كتبت في بداية العصر الهيلنستي، كلمة "تدمر في الصحراء" محل "تامار في الصحراء". في الواقع، هناك التباس خطير بين تامار التي أسسها سليمان بالقرب من البحر الميت، وبين تدمر في الصحراء السورية. ربما كان يطيب لواضعي كتب الأخبار التاريخية رؤية حكم سليمان، وقد امتد حتى تدمر؟ وعلى أية حال، فإن اسم تدمر قد عرف منذ أقدم العصور ومازال حتى الآن لدى العرب، وفي اللغات المسماة بالسامية.
كانت تدمر مدية زاهية، في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، وذلك عندما بدأ "سلوقس نيكاتور" وهو من قادة الإسكندر المقدوني (355ـ280ق.م) ومؤسس دولة السلوقيين في آسيا سنة 312 ق.م. في تشييد مدينة أنطاكية وأخواتها الثلاث: اللاذقية وأفاميا وسلوقية البحر. ويرى بعض المؤرخين أن محاولة المؤرخ اليهودي (يوسيفوس) صاحب أخبار اليوم نسب تأسيسها إلى سليمان، على ما في هذه المحاولة من الخطأ، إنما يدل على أنها كانت مركزاً هاماً في أيامه (القرن الرابع قبل الميلاد على الأرجح). وانطلاقاً من هذه النقطة فقد بات من الثابت أن الكنعانيين قد استوطنوا في تدمر، وهم الذين أدخلوا إليها عبادة الإله بول (السيد) الذي رأس آلهة تدمر ثم اختلط بـ"بعل" كبير آلهة بابل إبان ازدهار الحضارة البابلية في الشرق كله ثم استوطنها الآراميون الذي حاربهم تغلات فلاصر الأول.
2ـ تدمر في العهد الروماني:
تلك هي "تدمرو" التي تعني بالآرامية "جميلة" أو "تدمرتو" وتعني "العجيبة". ولقد أوجد توسع الإمبراطورية البارثية وضعاً جديداً في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، شبيهاً بذلك الوضع الذي حدث بعد ثلاثة أرباع القرن، حين ضمت روما إليها سورية، حيث بقيت تدمر قائمة بين هاتين الإمبراطوريتين العالميتين، وساعد موقعها المنعزل في قلب الصحراء على عدم تمكين الفرق الرومانية، ومن قبلها الفرسان البارثيين من الاستيلاء عليها. واستفاد تجارها من وضعها الفريد، عند نقطة التقاء الطرق التي تعبر الصحراء من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب لتطوير قوافلهم التجارية. كما استغل رجال السياسة فيها بذكاء موقعها الاستراتيجي بين الدولتين الكبيرتين المتنافستين فكانوا يقفون مرة إلى جانب روما، ومرة إلى جانب الدولة البارثية، وفي الحالتين مع مصالحهم ومصالح دولتهم فقط، وبذلك أمكن لهم المحافظة على ميزان القوى، والالتزام بالحياد، تجاه الصراع الذي لا علاقة لهم به. وقد أبقوا على استقلال مدينتهم كدولة حاجزة عن طريق الإيقاع بين الدولتين المتخاصمتين.
لقد توافرت الشواهد المادية على أن تدمر كانت في القرن الأول قبل الميلاد، قد وطدت مركز إمارتها المستقلة، بالإفادة من حالة الفوضى التي أعقبت انهيار الدولة السلوقية، وقيام الحروب المدنية في روما على إثر مصرع يوليوس قيصر. وهكذا فعندما أرسل مارك أنطونيو فرسانه لنهب تدمر، إرضاءً لهم، اصطدموا بمقاومة أحبطت لهم نياتهم. ويستنتج من الكتابات التي تعود لمطلع القرن الأول الميلادي، أن تدمر كان لها نظام يقوم على وجود مجلس للشيوخ، ومجلس للشعب، شأن المدن الإغريقية. ولكن دور العشائرية كان هاماً جداً. وهذا الحكم نصف القبلي ـ نصف الحضري، لم يتغير كثيراً بعد إلحاق تدمر بروما، مما دفع بعض الباحثين للقول: "يجب أن نتحدث بحذر كبير جداً عن تبعية تدمر للإِمبراطورية الرومانية، لأن امتزاجها بالولاية الرومانية لم يحدث البتة". هذا الإِلحاق، أو التبعية، الذي يفترض الباحثون أنه تم في السنة التاسعة عشرة للميلاد، وفقاً لما ورد في القانون المالي التدمري الشهير، ووفقاً للكتابات التي عثر عليها في معبد بل، والتي تشير إلى أن الإِمبراطور الروماني تيبيريوس أرسل ابن أخيه (جرمانيكوس) لمفاوضة حكام تدمر، والاتفاق معهم على تنظيم علاقات روما بتدمر، وتم الاتفاق على تسيير جميع القوافل التجارية عن طريق تدمر الصحراوي، وتحت إشراف التدمريين وحمايتهم، مقابل قيام روما بتعبيد أهم الطرق التي تصل المدن السورية بتدمر، مثل دمشق وأنطاكية وحلب وحمص وشرقاً حتى الفرات.
لقد تناقضت وجهات نظر الباحثين بالنسبة لدرجة الاستقلال الذي كانت تدمر تتمتع به ، فمنهم من يرى بأنه "بقي لتدمر استقلالها الذاتي في تلك الفترة، ولم تخضع للحامية الرومانية، أو للممثل العسكري"، في حين يرى آخرون: "أن تدمر باتت تابعة لروما، وأن الممثل العسكري كان يتخذ القرارات الهامة". وأنها "كانت تدفع الجزية، وهي محرومة من الاستقلال تتحكم فيها مشيئة ـ الوالي الروماني ـ الذي يشرف على المؤسسات الديمقراطية التدمرية، مثل مجلس الشيوخ والحكام، وبذلك فإنه لم يكن لتدمر من السلطة إلا ظلها". ويتأكد ذلك على مايراه أصحاب هذه النظرية بالتغيير المباغت الذي حدث في عهد تيبيريوس، في النزعات الفنية، وخاصة العمارة، حيث حل تأثير أنطاكية محل التأثير الإغريقي البارثي الذي كانت تدمر قد اقتبسته من بلاد بابل. وقد ظهر هذا التأثير واضحاً في عمارة حرم معبد بل، الذي تم تشييده في ذلك التاريخ، وعلى ذلك فقد بات الاعتقاد السائد هو أن وصاية روما على تدمر في تلك الحقبة لم تتم بقوة الفتح، بقدر ما تمت كنتيجة طبيعية لتطابق مصالح تدمر الاقتصادية مع مصالح الرومان التوسعية، بعد أن بات هؤلاء يسيطرون على الطرق والمرافئ في سورية ومصر والأناضول.
كانت طريق الرافدين، قبل الرومان، تذهب عبر الفرات شمالاً، أو عبر البحر الأحمر جنوباً، ولكن في العهد الروماني أصبحت طرق البادية مألوفة. فمن حمص أو دمشق أو بصرى كانت تتفرع دروب طويلة تلتقي في تدمر، التي كوّنت مستودعاً ضخماً واستراحة وارفة الظلال، على الطريق إلى بلاد ما بين النهرين وفارس. وبشيء من التفصيل نقول إنه كانت هناك في العهد السلوقي طريقان رئيسيتان في المنطقة، الأولى شمالية من أنطاكية وسلوقية (السويدية) إلى حلب، فمنعطف الفرات، والثانية جنوبية من البحر الأحمر إلى الخليج العربي. وقد انتهى دورهما، فقد هجرت الأولى عندما قام البارثيون باحتلال الرافدين في القرن الثاني قبل الميلاد. أما الثانية التي سببت ازدهار الإسكندرية والبتراء، فقد أضاع امتيازها الفتح الروماني، وخلق الولاية السورية من قبل بومبي عام 63ق.م. ونهضت هذه الولاية بشكل سريع. وكان من مصلحة الرومان والبارثيين المشتركة رغم خصومتهم، إعادة النشاط لطريق الصحراء المختصر عبر تدمر، وهو مباشر، وآمن نسبياً واقتصادي. قضى الإمبراطور الروماني تراجان على نشاط العرب الأنباط في البتراء عام 106م ونقل العاصمة إلى بصرى وبدأ بتنفيذ مشروعه الذي أراد إيصال حدود الإمبراطورية الرومانية حتى دجلة والخليج العربي. وأفادت تدمر من ذلك وآل إليها ميراث البتراء، وتخلصت من مزاحمة العرب الأنباط التجارية الشديدة، وعنى تراجان بالطرق الموصلة إلى تدمر ـ وهناك عدد من أميال الطريق متوجة باسمه تم العثور عليها حوالي تدمر ـ كما طور التدمريون ميناء ميسان الواقع في مملكة قرخيدونيا المستقلة (في موقع بلدة المحمرة على الساحل الإيراني). ولاتزال مدافنهم وأطلالهم ماثلة للعيان في جزيرة خرج في الخليج العربي، وعرف منهم من كان يقود السفن في المحيط الهندي. أصبحت تدمر اعتباراً من هذا التاريخ، تابعة لروما، وفي العام 116م زارها الإمبراطور تراجان ومنحها امتيازات خاصة، لا تمنح إلا للمدن الرومانية. وتودد إلى أهلها، وحاول كسب صداقتها. وجاء الإمبراطور هادريان لزيارة تدمر في سنة 129م، واستقبل استقبالاً حافلاً، ومنح تدمر لقب (المدينة الحرة) الذي يخولها حق تشريع الضرائب وسنها وجبايتها بنفسها. وأصبحت تدمر، باسم مجلس الشيوخ والشعب، تقرر وتحكم وتفصل في القضايا البلدية. ويمثل الإمبراطور فيها، مندوب إمبراطوري يدعى (كوراتور) يراقب سير الخزانة، كما في جميع المدن الحرة. وتكريماً للإمبراطور الروماني، أطلق التدمريون على مدينتهم اسم (هادريانا تدمر). أخذت تدمر طريقها إلى الإزدهار بسرعة مذهلة بعد إنشاء الإقليم العربي، فأكملت بناء معابدها الجديدة، وجددت بناء القديمة منها ووسعتها (معبد بل، ومعبد نبو، ومعبد بعلشمين) وأنجزت بناء السوق العامة ـ الآغورا ـ ثم وسعتها بملحق، وبدأت بإنشاء الشارع الرئيسي الذي أزال مباني قديمة كثيرة، أو عدل مخططاتها أو واجهاتها على الأقل.
وفي مجال التنظيم العسكري، كان من أول ما أنجزه هادريان هو إنشاء فوج من الفرسان التدمريين التابعين للجيش الروماني. وكانت قوة الفرسان هذه تعسكر خارج المدينة، بمهمة مراقبة الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية، حيث وقع على تدمر واجب الدفاع عن الفرات، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي الهام. وكان على تدمر أيضاً تقديم قوات عسكرية مساعدة، وتأهيل الضباط، وخاصة ضباط الفرسان الثقيلة.
يظهر من خلال ذلك أن علاقة تدمر مع روما، كانت علاقة حسنة قائمة على المصلحة المتبادلة، غير أن تدمر لم تحظ برتبة (المستعمرة الرومانية)، وامتيازاتها إلا في عهد الأسرة السفيرية (193ـ235م) والتي تولت الحكم في روما، حيث كان سبتيموس سفيروس وأصله من (لبدة) في ليبيا قد تزوج الأميرة الحمصية جوليا دومنا، ابنة كاهن الشمس في حمص، ورزق منها الإمبراطور المقبل كركلاّ الذي منح في العام 212م مدينة تدمر اللقب المذكور، الذي يساوي بين تدمر وروما من حيث الإعفاء من دفع الضرائب. وكان في ذلك دفع جديد للاقتصاد التدمري. وفي الواقع، ظلت حركة تدمر التجارية مستمرة في التحسن، وتم مدُّ الشارع الرئيسي نحو معبد بل، وأقيمت له تلك البوابة الرائعة المشهورة باسم (قوس النصر)، وشرع التدمريون ببناء المدافن الفخمة التي اصطلح على تسميتها (المدافن ـ البيوت)، ووصلت تدمر في جمالها وفخامة عمرانها إلى مصاف كبرى مدائن العهد الروماني في سورية وخارجها. وبقدر ما أخذت تدمر في التطور الذي استمر زهاء قرنٍ ونصف، فقد تطورت مجموعة المدن التابعة لتدمر. ومُدَّت الطرق الرومانية التي تربط تدمر بالخطوط الدفاعية المحصنة. وقد أمكن الكشف حديثاً عن هذه الحصون والقلاع التي تبدأ في منطقة دجلة وتستمر في كل سورية وشرقي الأردن حتى البحر الأحمر. وأخذ المواطنون البارزون في تدمر يضيفون أسماء رومانية إلى أسمائهم، حتى أن تدمر ذاتها غيرت اسمها على نحو ما سبق ذكره. وأضافت إحدى الأسر اسم سبتيموس أمام اسمها، مما يدل على نيلها حق الرعوية في عهد سفيروس. ويرجح أن ذلك كان اعترافاً بالخدمات التي قدمتها في الصراع ضد الدولة البارثية. وتأتي مدينة "دورا أوروبوس" في طليعة المدن التي كانت تابعة لتدمر. وقد استخدمت هذه المدينة معقلاً لحماية التجارة التدمرية المتطورة. وكانت "الرصافة" من المدن الهامة الملحقة بتدمر. وقد دعيت باسم "سرجيوبوليس" فيما بعد، نسبة لقديسها المحلي سرجيوس والذي كان جندياً استشهد حوالي سنة 305م، وبقي لمدة طويلة القديس المفضل لدى الكنيسة السورية. وأصبحت مدينته مركزاً هاماً يقصده الزوار، وعثر فيها على كنيسة شهيد. وتذكر هذه المدينة باسم "رصابا" في كتابة أثرية آشورية تعود إلى أواخر القرن التاسع قبل الميلاد، وهي مدينة "رزف" نفسها بمعنى الجمر المتوهج، والتي هدمها سنحاريب على ما يقال.
4ـ اللغة التدمرية:
كانت تدمر مدينة متعددة الثقافات، ولذا فمن المرجح أنه سادت فيها إلى جانب الآرامية لهجات أخرى مشتقة منها محلية وإقليمية إضافة إلى العربية والنبطية واليونانية والفارسية. أما لغة الكتابة فهي بالتأكيد الآرامية، وكانت اللغة اليونانية مع اللغة الآرامية تستخدمان في الكتابة المنقوشة الدينية والتذكارية. وكانت اللغة الآرامية ـ كلغة مكتوبة ـ هي اللغة السائدة في جميع أنحاء العالم العربي المحدد حالياً ببلاد الشام، أو الشرق الأدنى. وقد لاقت أكبر انتشار لها في الألف الأول قبل الميلاد. وجعلها الفرس الإخمينيون (539 ـ 533ق.م) إحدى اللغات الرسمية. وانتشرت في إمبراطوريتهم، ووصلت إلى الهند وحدود الصين. وفي العهدين الهيلنستي والروماني ظلت اللغة الآرامية أكثر اللغات انتشاراً واستعمالاً في الشرق، على الرغم من وجود اللغة اليونانية رسمياً، كلغة للسلوقيين، ومن ثم للرومان في الشرق. وكان لابد لمدينة تدمر وممتلكاتها، وهي تمارس دورها كواسطة العقد والوصل بين بلاد الرافدين وبلاد الشام، من أن تتبنى بصورة طبيعية جداً اللغة التي يستخدمها جيرانها وعملاؤها وزباؤنها، والتي ظلت مستخدمة حتى عهد آل أذينة.
إن اللهجة الآرامية المستخدمة في الكتابات التدمرية هي آخر مظهر من مظاهر آرامية أصلية، يطلق عليها علماء اللغات "الآرامية الإمبراطورية" تمييزاً لها عن بقية اللهجات الآرامية. والتدمرية، كلهجة آرامية، ذات ميزات شرقية، كما أن فيها بعض خصائص اللهجات الغربية.
والكتابة التدمرية شكل من أشكال تطور الكتابة الآرامية، وهذا الشكل شبيه جداً بالكتابات الآرامية في برديات (الألفانتين) في مصر، قرب أسوان، التي تعود للقرن الخامس قبل الميلاد. عدد الحروف فيها (22) حرفاً تكتب من اليمين إلى اليسار. ويؤرخ التدمريون كتاباتهم بالتاريخ السلوقي (تشرين الأول 312 قبل الميلاد)، وفي التحويل للتاريخ الميلادي من كانون الثاني حتى أيلول نطرح (311) ومن تشرين الأول حتى كانون الأول نطرح (312) فيتبين لنا التاريخ الميلادي (الغريغوري). والكتابة التدمرية من أجمل الكتابات المعروفة. وقد أدخلت تحسينات مستمرة عليها حتى أصبحت تضاهي الكتابة اليونانية المعاصرة لها في اتساق حروفها وتناسبها. وتكتب التدمرية بنوعين من الخط:
1ـ الخط القاسي:
وهو الذي ينقش بالإزميل على الحجارة، وإن معظم النصوص على الأوابد الأثرية في تدمر محررة بهذا الخط المذكور، وكانت حروف الخط القاسي مدورة في القرن الأول الميلادي. ثم أخذت تتطور تدريجياً حتى أصبحت منكسرة في القرن الثالث الميلادي. وأقدم كتابة معروفة بهذا الخط تعود للعام 44ق.م وأحدثها هي من العام 272م.
2ـ الخط اللين:
وهو الخط الذي يكتب بالفرشاة أو الريشة أو القلم وبعض النصوص المحررة به تكتب من الأعلى إلى الأسفل في المدافن. وهو بالأصل يكتب به على أوراق البردي ـ ورق الغزال ـ، والخط اللين هو تبسيط للخط القاسي، وله طابع فردي. والكثرة من الكتابات التدمرية التي عثر عليها خارج مدينة تدمر محررة به، ولعل الخط السرياني الشطرنجيلي قد نشأ عنه.
5ـ الفن التدمري:
كان هناك فن تدمري قائم بذاته، ناضج ومتطور، نسيج بيئة مادية وفكرية محددة، منذ القرن الأول قبل الميلاد، حيث يظهر كفن واقعي ومنطقي واضح، ينبع من أعمق التقاليد الشرقية التي ترعرعت عبر التاريخ في هذه المنطقة من العالم.
فالمنحوتات التي وجدت في حمص ومنبج، والمنحوتات الوطنية في حوران وجبل العرب والسرير الجنازي الدمشقي، وبعض آثار النحت في القلمون ومنطقة الزبداني، وحى التماثيل النصفية التي عثر عليها في مقابر اللاذقية، كلها أولاًَ وأخيراً شرقية، ذات نسغ محلي يعود لأكثر من ألفي عام قبل ذلك. وإذا كانت الظروف الاقتصادية والسياسية قد أخضعت الفن التدمري أحياناً لبعض المؤثرات الغربية، فسرعان ما تظهر هذه المؤثرات وقد طبعت بطابع شرقي أصيل وواضح. وهذا ما دفع الباحث هـ. سيريغ للقول ضمن مقالة بعنوان "تدمر والشرق"! "... ولكن لأية درجة تمكن التأثير الغربي من تغيير الفن الموضعي والصناعات الفنية عموماً في تدمر. إن نتيجة هذا التأثير ظاهرة ولا ريب، إلا أنها سطحية بوجه الإجمال، وهي تعطينا مثالاً صالحاً عن عدم الاستعداد للتأثر، ليس بالأسلوب الأجنبي، وإنما بالعقلية الأجنبية... ولقد عجز الحكم الروماني الذي دام قرنين ونصف القرن، مع كل ما رافقه من احتكاك بالغرب، من تغيير النحو الغريب في ترتيب الأشكال المنحوتة، ذلك النحو الذي يشارك فيه التدمريون جيرانهم الشرقيين".
لقد سبقت الإشارة إلى تلك العلاقة الوثيقة التي ربطت تدمر في مرحلة نشوئها وتطورها بمدائن البارثيين في بلاد ما بين النهرين. ويظهر أن تدمر قد تعرفت على الفن اليوناني، من خلال هذه العلاقة. وكان هذا الفن قد امتزج في عهد السلوقيين بالفن الشرقي، وتأثر به عميقاً، وأصبح مقبولاً لدى الشرقيين، حتى لم يعد غريباً عنهم. وحصل ذلك خاصة في مدينة سلوقية دجلة، وغيرها من المراكز اليونانية الشرقية الهيلنستية، وهي المراكز التي كان التدامرة يحتكون بها بصورة دائمة. كان الفن التدمري إذن عند نشأته محلياً متأثراً بالفن الغربي ـ البارثي المعاصر الذي نضح من معين التقاليد البابلية والآشورية والسورية عموماً. كما استقى من الفن اليوناني الذي استشرق، وعلى هذا تجلت في الفن التدمري الروح الشرقية كخط عام أساسي. وعند وصول الرومان إلى تدمر، يبدو أن اهتمام التدمريين اتجه نوعاً ما ـ فيما يتعلق بالمخطط العمراني للمدينة، وتنظيم باحاتها وشوارعها وحماماتها ومسرحها والهياكل المركزية في معابدها، نحو التقاليد اليونانية ـ الرومانية مباشرة، الأمر الذي حصل من قبل أيضاً في أنطاكية ودمشق.
ولكن هذه التغييرات لم تؤثر كثيراً على الغالب في أذهان التدمريين. فإذا كان المخطط العمراني العام للمدينة يونانياً ورومانياً وكذلك التيجان والأعمدة وبعض التفاصيل الأخرى، فإن الآثار الفنية، بالمعنى الأصيل للكلمة، كالكثرة الساحقة من الزخارف البالغة الغنى، ظلت ذات أسلوب شرقي أصيل. وأكثر التماثيل والمنحوتات الدينية والمدنية والصور الجدارية بقيت إلى حد كبير خاضعة لقاعدة التوجه إلى الأمام، والاعتماد على الخطوط الواضحة، والتأكيد على الوجود الروحي لكل شخص بمفرده في كل تركيب فني، من غير الاهتمام بالتأليف الدراماتيكي لكل موضوع من المواضيع. ولعل من المفيد الإشارة إلى إحدى المقولات في النحت التدمري القديم وهي: "أن أقرب الأساليب شبها بالأسلوب الفني التدمري القديم في غرب الفرات، نجدها في عدد من الأساليب المحلية التي ازدهرت في القرون الميلادية الأولى، ألا وهي الفن المحلي في سورية الداخلية والنحت النبطي في شرقي الأردن وجنوب سورية، والفن القبطي في مصر، فإن اختلفت هذه الفنون نوعاً ما، فهي تتشابه بصورة عامة".
لقد بقي النحت بنوعيه المدني والديني من أبرز آثار الفن التدمري. وليس من قبيل المغالاة في القول أن ما أمكن معرفته حتى الآن من تلك الآثار مقتصر على النحت فقط. وكان التدمريون يعالجون الحجر بيسر وسهولة وثقة وتوحي بعض زخارفهم أنها منفذة على الخشب، لا في الحجر الصلد الأصم. ولعل مما ساعد النحاتين التدمريين في عملهم، هو قربهم من الجبال التدمرية الغنية جداً بأنواع عديدة من الحجر الكلسي. ومنه ما هو ضارب إلى الصفرة طري نسبياً، سهل المعالجة. ولقد تم تنفيذ أقدم المنحوتات التدمرية على هذا النوع من الحجر. وهناك نوع آخر، ناصع البياض، قاس جداً، شديد التبلور، أشبه بالمرمر، لكنه خال من اللمعان. وهناك أيضاً نوع ثالث، في مثل قساوة النوع الشديد البياض، ولكنه يضرب إلى اللون الوردي. وبين هذه وتلك نماذج ثانوية قليلة الاستعمال. كما أن النحت على المرمر قليل في تدمر على ما ظهر حتى الآن. وإن النماذج القليلة التي اكتشفت من تماثيل المرمر ومنحوتاته لا تساعد على تكوين رأي حاسم في منشئها، وما إذا كانت مستوردة، أو تم نحتها وصنعها في تدمر. أما الجص، وعجينة الجبس، فاستعمالها مقتصر على تزيين الأفاريز والنوافذ وبعض التفاصيل الصغيرة الأخرى. وفي بعض النواحي التطبيقية. ولم يعثر في تدمر إلا على أجزاء طفيفة من تماثيل البرونز التي تتحدث عنها النصوص. وهي تشهد، على كل حال، بمهارة التدمريين في معالجة هذا المعدن وصبه.
لقد كشفت التنقيبات في سنتي 1938 و1939 في باحة معبد بل عن أقدم المنحوتات التي وجدت حتى الآن في تدمر. وهي تعود لبناء معبد أقدم في مكان معبد بل، هدم عند بناء المعبد الجديد. واستخدمت بعض منحوتات المعبد القديم مقلوبة في بلاد المعبد الجديد، وقد يعود عهدها لحوالي القرن الأول قبل الميلاد، إذ عثر بينها على حجر يحمل كتابة تدمرية مؤرخة عام 269 سلوقي 44 ق.م. كما أن هنالك منحوتات قديمة أخرى تتبع للمعبد الجديد، وهي عبارة عن نقوش جدارية بارزة نحتت حوالي العام 343 سلوقي (32 بعد الميلاد وهو عام تكريس معبد بل)، وهي تختلف عن بقية منحوتات المدينة، وملونة لترى عن بعد. وأقدم منحوتات المعبد القديم وأسلمها هي منحوتة تمثل موكباً يتقدم نحو كاهن يحرق البخور، وهو متجه للأمام في وضع مألوف في مشاهد التقدمات في دورا أوروبوس وتدمر. والموكب مؤلف من كاهن يقدم تاجاً، أو إكليلاً، تتبعه امرأتان تتوشح كل منهما بعباءة فوق رأسها. والأولى تحمل مبخرة والثانية كأساً. ويظهر على منحوتة أخرى موكب مماثل تقريباً، وهناك منحوتة ناقصة نُقِشَ عليها رجل يحمل سعف نخيل.
هذه المنحوتات القديمة فيها صفات مشتركة، ثياب بسيطة مثناة على الأذرع كالأساور، والثنايا في بقية أجزاء الثوب على العموم منظمة بشكل محوّر غير طبيعي، والجسم إلى الأمام، والرأس وحده هو الذي يحدد اتجاه الحركة، الوجوه حليقة، والأنف متصل بخط واحد مع الجبهة، والعيون محددة جفونها بوضوح، والشعر خطوط متوازية، وتجاعيد الرقبة عبارة عن قوسين متوازيين.
كما وصلتنا من هذه الفترة القديمة منحوتات أخرى تمثل رجالاً وآلهة يمتطون خيولاً وجمالاً، وأخرى تمثل هرقل والأسد، وربة شمسية والإلهين (عجلبول) و(يرحبول). ويلاحظ أن الآلهة في هذه المنحوتات لا ترتدي الثياب الحربية التي تمثل بها في المنحوتات الأحدث عهداً. وهذه المنحوتات وما يماثلها تنتمي إلى مجموعة منسجمة قوية التعبير في مظهرها التحويري المتصلب. وهي تتشابه على كل حال بالخطوط الكبرى مع آثار الفن التدمري المتأخر. والفنانون التدمريون في الفترة القديمة لا ينحتون عدة مستويات في المنحوتة، بل يكتفون بمستوى واحد، وثنيات الثياب لديهم لا تتمشى مع العضلات والحركة. وفي المنحوتة بعدان فقط لا ثلاثة أبعاد. فإذا أضفنا التلوين الذي كانوا يستخدمونه فوق النحت نجد أنفسنا إزاء صورة ملونة، أكثر مما هي لوحة منحوتة. وعلى كل حال، فإنه بالمستطاع التمييز بين ثلاثة أنواع من المنحوتات: النحت المدني، والنحت الديني، والنحت الجنائزي.
وفي مجال النحت المدني، لم تصلنا نماذج كثيرة. فالتماثيل المعدنية منها، نظراً لارتفاع قيمتها، قد صهرت ـ ذوبت ـ في عهد انحطاط تدمر، ليعاد استعمالها في نواح عملية أخرى، أو أغرت جنود أورليان ومن تلاهم فانتهبوها. والتماثيل الحجرية قد حطمت ولاشك، انتقاماً من تدمر. فهي تذكر أهلها بعهد ازدهار مدينتهم وأمجادها، أو ذهبت من الأوابد التي هدمت وحطمت شرَّ تحطيم. وعلى كل حال، فإن النماذج القليلة الباقية منها لم تكن كاملة. فهناك جذوع دون رؤوس أو بالعكس، اللهم إلا التماثيل شبه الكاملة التي اكتشفت في حفريات معبد بعلشمين. وإن النماذج المذكورة وإن كانت غير كاملة فإنها كافية لإعطاء فكرة واضحة عن النحت المدني، حيث مئات التماثيل كانت في شوارع المدينة ومعابدها وميدانها الآغورا. وفوق أعمدتها التذكارية، تخلد المقدمين من رجال تدمر مثل: شيوخ القبائل، وزعماء مجلس الشيوخ وأعضائه، وكبار الموظفين والقادة والكهنة الخ... وبينها يقيناً أباطرة الرومان وقادتهم. إن تماثيل أولئك الأشخاص هي غالباً بالحجم الطبيعي أو أكبر قليلاً، أو أدنى منه، وأسلوبها تقليدي رسمي، كما هي الحال في صور الأشخاص الرسميين في الأزمنة الحديثة. فالأشخاص يمثلون بهيئة وقار، قامتهم مائلة قليلاً نحو الوراء، وثيابهم طويلة تصل حتى القدمين وهي كثيرة الثنيات، إما أن تكون على النسق البارثي (قميص وسراويل مزركشة) أو بالزي المحلي (ثوب طويل فوق عباءة تدور بالعنق) وهي في الغالب تنتعل صنادل، وأحياناً أخفافاً وجزمات. وتكون اليد اليمنى على الصدر ملقاة على طرف العباءة الملتف. أما اليسرى فمسدلة إلى الجانب تحمل على الغالب غصناً من النبات أو ملفوفاً. وإذا كانت هذه التماثيل تخضع لأسلوب واحد أو أسلوبين، دون مراعاة الخصائص الجسدية لأصحابها، فعلى الراجح أن رؤوسها التي تكون قطعة واحدة مع التماثيل أو تركب تركيباً، هي رؤوس الأشخاص المكرمين ذاتهم بأعمارهم وملامحهم. ويدل لباس الرأس غالباً على مهنهم. فالكهنة مثلاً يعتمرون قلنسوات أسطوانية، وتكون خلواً من أية زينة أو محلاة بأكاليل نباتية مضفورة. والأكاليل أشكال حسب رتبة كل كاهن. والمدنيون حاسرو الرؤوس، ومنهم من يتوج بأكاليل الغار وغيره. وكما ألمحنا من قبل، فقد كانت هذه التماثيل توضع بالدرجة الأولى على حاملات مثبتة في الأعمدة، ومنها ما يكون على قاعدة عادية وبعضها يعتلي أعمدة تذكارية. وهناك في تدمر حالياً بضعة أعمدة من هذا النوع. هذا، وكان التمثال ينحت في حالات قليلة على العمود ذاته.
لقد أجريت دراسات كثيرة على النحت التدمري، وفي جملتها دراسة قسمت عهود النحت إلى ثلاثة:
العهد الأول:
يمتد حتى آخر النصف الأول من القرن الثاني الميلادي. ويتميز بأن النحاتين التدمريين كانوا فيه يمثلون عيون الأشخاص بدائرتين متداخلتين، ولا يرسمون حواجبهم، والذكور منهم حليقون ويتركون شعور النساء تسترسل على أكتافهن، ويضعون مغازل وخيطاناً في أيديهن، ويزينون صدورهن برصائع شبه منحرفة، وآذانهن بأقراط على شكل عناقيد عنب.
العهد الثاني:
يقابل النصف الثاني من القرن الميلادي، وتتلخص الميزات الفنية للتماثيل بمايلي: العيون دوائر في وسط كل منها نقطة، والحواجب ظاهرة، الرجال ملتحون ما عدا الرهبان. النساء يمسكن بأطراف أوشحتهن، وحليهن سداسية الشكل.
العهد الثالث:
يقابل النصف الأول من القرن الثالث الميلادي، عهد أسرة أذينة وزنوبيا تقريباً. والأشخاص الممثلون في تماثيله النصفية وألواحه منحرفون بعض الشيء عن صورهم، ويتطلعون إلى أحد الجانبين. والنساء يزحن أوشحتهن بأيديهن ويكثرن من التزين بالحلي.
تبقى هناك ملاحظة قد يكون من المناسب التعرض لها، وهي: هل كانت التماثيل النصفية، أو الألواح الجنائزية، تمثل أشخاص أصحابها فعلاً؟ لقد أشار الباحثون إلى أن كثيراً من هذه المنحوتات تعد وتجهز سلفاً عند النحاتين، وعند الطلب يوضع عليها اسم المتوفى. وقد يكون هذا الأمر محتملاً في بعض الأحيان، والأسباب مادية في الغالب. ولكن بالمستطاع التأكيد أن القاعدة العامة هي تمثيل الأشخاص بذاتهم، جهد المستطاع.
6ـ العمارة التدمرية:
قد يكون من الصعب، إن لم يكن من المحال، في هذا المجال، إعطاء موضوع العمارة التدمرية حقه من البحث والدراسة. فالأوابد التدمرية التي ما تزال قائمة قد بلغت من الوفرة والكثرة ما يجعل منها مجالاً رحباً للدراسة المتجددة في كل يوم. ولهذا، وعلى أساس مالا يدرك جلُّه لا يترك كلُّه فإن وقفة قصيرة على أطلال تدمر، قد تكون كافية لإِبراز منجزات المعماريين التدمريين الأفذاذ.
إن مدينة تدمر ـ كما تبدو للناظر اليوم ـ تتبع إلى حد كبير المخطط العمراني اليوناني ـ الروماني المعروف في مدائن سورية خلال العهدين الهيلنستي والروماني (أنطاكية ودمشق وبصرى). وليس هناك شيء من الغرابة في هذه التظاهرة التي نجدها في الزمن المعاصر واضحة في كل المدن الحديثة التي أخذت تشابه بعضها في الشرق والغرب، سعياً وراء سهولة المواصلات، وأسباب الصحة ومتطلبات الحياة الحديثة المختلفة. لكن تدمر في عهدها الأول لم تتبع مخططاً عمرانياً محدداً، بل تجمعت بين نبع أفقا ونبع المياه الحلوة. ولها مركزان رئيسيان أولهما معبد بل القديم والثاني عند التقاء طريقي حمص ودمشق في المكان المعروف حالياً بالساحة البيضاوية. وكانت أكثر بيوتها في الغالب من اللبن، أو الآجر وبعض الحجر. ومع ازدهار تدمر الاقتصادي والسياسي خلال القرن الأول الميلادي، أخذت المدينة تتسع، وتنتظم بشكل رائع منذ أواخر ذلك القرن. فامتد الشارع العرضاني المعروف بطريق دمشق، وازدان بالأروقة، ووصل عن طريق الشارع الطويل إلى مركز جديد للمدينة في مكان "التترابيل"، وهي المصلبة التي يتقاطع عندها شارعا تدمر الرئيسيان. وشيدت التترابيل من أربع دكات ضخمة فوق كل منها أربعة أعمدة غرانيتية، بينها تمثال، وفوق الأعمدة تيجان كورنثية تحمل نضداً مزينة بأفاريز وأطناف غاية في الذوق. وعلى مراحل ثلاث خلال القرن الثاني والثالث امتد شارع تدمر الطويل من جهة التترابيل حتى بلغ طوله حوالي كيلو متراً. وزين من على جانبيه بالأروقة التي تظلل المحلات التجارية والمشاة. وكان في نهايته من الجهة الشمالية للمدينة هيكل الموتى، وهو مدفن جميل له واجهة مثلثة مزينة بزخرفة نباتية تخلب الألباب بدقتها، والحياة تتدفق فيها. كما جعلت للشارع البوابة المعروفة باسم قوس النصر، وهي ذات ثلاثة مداخل معقودة فوق أقواس، وحافلة بأروع النقوش الهندسية والنباتية. وشيدت هذه البوابة بعد منتصف القرن الثاني بمخطط مثلث بحيث تنحرف بالشارع الطويل مقدار ثلاثين درجة، وتحوله بلطف جنوباً نحو معبد بل الأمر الذي يشكل حلاً عمرانياً في غاية الذوق لمشكلة المنعطفات. ومن هذا الشارع الرئيسي تتفرع طرقات مستقيمة تؤدي إلى بيوت المدينة، التي تظهر للعيان في خرائب تدمر، بعض باحاتها الداخلية المحفوفة بالأعمدة، ومن حولها الأواوين والغرف، كما تؤدي إلى معابد المدينة، ومنها معبد بعلشمين. وبين البوابة والمصلبة، نجد الحمامات المعروفة باسم حمامات ديوكليتيان (أو ديوقليسيان)، التي أمكن الكشف عنها حديثاً، فظهرت بضخامتها واتساعها، وما تحتويه من الأحواض الباردة والمقاصير الحارة والفاترة وردهة الرياضة، ولها مدخل جميل يشغل عرض رواق الشارع، زينت واجهته بأعمدة الغرانيت. وإذا ما سرنا قليلاً نجد في الجهة الأخرى من الشارع مسرح تدمر الذي بني في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي على الطراز الروماني، وهو في وضعه الراهن يكاد يكون سليماً، وهو مبني على مستوى الأرض المجاورة بشكل نصف دائري، ورواقه الخارجي هو رواق الشارع الطويل نفسه. وهو من حيث وضعه العمراني بالنسبة للمدينة غاية في الذوق والجمال. وهو في حد ذاته آبدة من أجمل الأوابد، تبهج النفس بأدراجها المتوازية ومداخلها المحكمة، وبمنصة التمثيل الرحبة (48 x 10م)، والمزينة بالأعمدة الرشيقة. ويحف بالمسرح رواق بشكل يؤدي إلى بناء مجلس الشيوخ، أو المجلس البلدي. وهو يضم في صدره ردهة للاجتماعات، فيها مصطبة بشكل نضوة حصان لجلوس الأعضاء. يقع ميدان تدمر أو الآغورا إلى الجنوب الغربي من المسرح. وفيه كانت تعقد الاجتماعات العامة. وهذا البناء من منجزات القرن الثاني الميلادي، وهو مشاد على الطراز الأيوبي، ويتألف من باحة مربعة واسعة (84 x 71م)، تظلله أربعة أروقة محمولة على أعمدة، وله أحد عشر باباً، وفيه سبيلان للماء ومنصة للخطابة. وكانت أعمدته تحمل حوالي مئتي تمثال: في الرواق الشمالي تماثيل أرباب الوظائف، وفي الغربي تماثيل العسكريين، وفي الجنوبي رؤساء القوافل. وفي الزاوية الغربية من الميدان بناء أو هيكل للموائد الدينية، يتوسط جدرانه مدماك محلى بإفريز جميل من الزخرفة الهندسية المعروفة باليونانية. وكانت هناك على طول الجدران مصاطب توضع عليها الطنافس والحشايا لجلوس المدعوين.
يبقى من الضروري التعرض لذلك البناء الملقب بـ "معسكر ديوكليتيان (أو ديوقليسيان) الواقع على رابية في الطرف الشمالي من المدينة، والذي لم يحدد بعد تاريخ بنائه بصورة دقيقة. وهناك أيضاً القصر الملقب (بهيكل الأعلام) والواقع في معسكر ديوقليسيان، والذي يرى فيه البعض أنه كان قصر أسرة زنوبيا. وهذا الهيكل عبارة عن بناء ضخم، تتصدره حنية، يشكل بتيجانه الكورنثية الغنية وبعضاداته وواجهاته المخرمة بالزخارف النباتية الدقيقة معجزة في فن النحت والنقش والزخرفة. يكاد الإنسان لا يصدق أن مثل هذه الأوراق والزهور المتفتحة والعناقيد الناضجة قد قوّرت فعلاً في الحجر، فكأنها طرزت تطريزاً.
كانت المدينة كلها محاطة بسور من عهد زنوبيا، مدعم بأبراج مربعة أو دائرية، بين كل اثنتين منها قرابة أربعين متراً. وهناك من قبل زنوبيا سور قديم. وحدث من بعدها تعديلات على السور. ويبلغ محيط السور اثني عشر كيلومتراً، ولقد أصيب هذا السور بالدمار والتخريب على ما يظهر، عندما انتصرت جيوش الرومان بقيادة أورليان سنة 272م (583 سلوقي) على جيوش زنوبيا. فجاء الإمبراطور البيزنطي جوستينيان وجدد بناء السور، وأضاف إليه أبراجاً مستديرة بين كل ثلاثة أبراج مربعة، كما ضم السور عدداً من المدافن والبيوت وحولها أبراج دفاعية. وللمدينة سور آخر من اللبن والحجارة (سور الجمارك) يتسلق سفح جبل المنطار ليدور حول وادي القبور، ويلتقي بالسور الدفاعي، ولا يعرف حتى الآن مكان القسم الشمالي منه. وتجدر الإشارة إلى تلك القلعة المسماة بـ"القلعة العربية"، والتي نسب بناؤها إلى الأمير العربي "فخر الدين المعني" الذي حكم جبل لبنان وأجزاءً من سورية في النصف الأول من القرن الحادي عشر الهجري (بداية القرن السابع عشر الميلادي). إن موقعها الاستراتيجي المشرف على الواحة بكاملها يوحي أنها أقدم عهداً من التاريخ المذكور، ولم يعثر بين أطلالها على أية كتابة ونقوش تدل على تاريخها. وقد عثر مصادفة بين أنقاضها على قطع محطمة تعود إلى العهد المملوكي. ويحيط بالقلعة خندق عميق، كان يعبر فوقه بواسطة جسر ـ مفقود حالياً ـ إلى قمتها الجاثمة كالنسر فوق كتلة صخرية. وترتفع القلعة عن المدينة مئة وخمسين متراً (600 م فوق سطح البحر). وإن مشهد الواحة من القمة يترك في النفس ذكريات مثيرة وعميقة من الصعب نسيانها، لاسيما مشهد شروق الشمس وغروبها.
وفي تدمر ثلاثة أعمدة تذكارية معروفة، أقامها مجلس الشيوخ والشعب في المدينة للذين أسهموا في بنائها وعظموا آلهتها، وخدموا شعبها وأنعشوا اقتصادها. ويقع العمود الأول بين معبد بل ونبع أفقا، وعليه الكتابة التدمرية التالية:
"إن مجلس الشيوخ والشعب قد أقاما هذين التمثالين لبريكي بن أمريشا بن يرحبول، ولمقيمو ابنه لأنهما يحبان مدينتهما، ويخافان الآلهة. وقد أقيم هذان التمثالين على شرفهما في شهر نيسان سنة 450 سلوقي = 139م".
ويقع العمود الثاني جنوبي المتحف، أما العمود الثالث فهو منهار تحت أنقاض المسبح بجوار نبع أفقا. وهناك عمود تذكاري رابع منهار إلى جوار معبد اللات، أقدم من الأعمدة الثلاثة السابقة، أقامته قبيلة بني معزين المشهورة في تدمر، لأحد رجالها عليه كتابة تدمرية تقول:
"هذا التمثال هو تمثال شلم اللات بن يرحبولا بن نوربل الملقب بن يدع بل التدمري، من قبيلة بني معزين. وقد أقامته تلك القبيلة لأنه قام بأعمال كثيرة لصالح قبيلته، وكان رجلاً صالحاً تقياً، بنى كثيراً من الأبنية، وقدم كثيراً من التقدمات، وأنفق مالاً كثيراً. ولذلك أقيم على شرفه هذا التمثال والعمود في شهر شباط 375=63م". ويعتقد وجود أعمدة تذكارية أخرى تحت الرمال.
وإذا كانت أهرام مصر قد أعدت لتكون مدافن الفراعنة، وإذا كان معبد الكرنك وسواه من الأوابد قد ارتبطت بالدين وتخليد جثث الموتى، فقد كان لتدمر أيضاً فن عمارتها الدينية المميزة بالمعابد. وكان لها أيضاً مدافنها المميزة بأنواعها الثلاثة: 1ـ المدفن البرجي، 2 ـ المدفن البيتي، 3ـ المدفن الأرضي.
ولقد ارتبط هذا النوع من العمارة ارتباطاً وثيقاً بحياة تدمر وجذورها التاريخية، حيث تجلت في العمارة الدينية التدمرية، أكثر من سواها، المعالم الواضحة للعمارة الشرقية. وإذا ما تم إغفال بعض التفاصيل كالتيجان والأعمدة فسيظهر المخطط العام للمعبد التدمري، بشكله الشرقي الأصيل:
"صحن مقدس هو عبارة عن باحة ذات شكل رباعي، محاطة بأربعة جدران، وحولها أروقة وفي وسطها الهيكل المركزي الذي هو ـ بيت الإله ـ الذي يحتوي على تمثاله وسدنته، وفي الباحة حوض للتطهر والمذابح والتقدمات. وسنجمل البحث هنا على معبد بل الذي يعتبر هيكل كبار الآلهة التدمرية (يرحبول وعجلبول وملكبل)، ليس كأكبر آبدة دينية في تدمر بل في الشرق القديم إلى حد ما. يقوم المعبد الحالي على مرتفعٍ اصطناعي عالٍ. وقد شيد على أنقاض معبد سابق يحمل الاسم ذاته، يعود لما قبل الميلاد. وقد كرس الهيكل المركزي للمعبد الجديد عام 32 بعد الميلاد، وظل المعماريون والفنانون التدمريون يزينون ويوسعون ويجددون فيه جيلاً بعد جيل، حتى آخر أيام تدمر. وصحن المعبد عبارة عن باحة مربعة رحيبة (حوالي 205 x 210م)، يدخل إليها صعوداً بدرج عريض إلى بوابة فخمة، أمامها رواق،ولها مداخل ثلاثة، كانت تغلق بأبواب من البرونز المذهب. وكان في طرفي البوابة برجان مزينان بشراريف مسننة (ميرلونات)، وفي ذلك أسلوب عمراني شرقي قديم، يظهر بصورة خاصة في مباني العرب، كالأنباط، كما يظهر في معبد عمريت ـ إلى الجنوب من طرطوس، من القرن الخامس قبل الميلاد، ومن قبل في المباني الفارسية والآشورية. ولصحن المعبد مدخل آخر يمر تحت أرض الرواق الغربي لتدخل منه الحيوانات المعدة للأضاحي. وحول الصحن من جهاته الثلاث أروقة مزدوجة، أما الجهة الغربية فرواقها أعلى من الأروقة الأخرى، ولكنه غير مزدوج. وكان هناك مئات من أعمدة التيجان الكورنثية الواسعة الانتشار في ذلك الحين، تحمل الأروقة، وعلى الأعمدة حاملات للتماثيل التي كان يحفل بها المعبد. وجميع واجهات الأروقة على الداخل والخارج، وكل أقسامها العليا كانت تتوجها الشراريف المسننة. كما أنَّ تحت الأروقة محاريب وأطراً فيها منحوتات تمثل مواضيع دينية مختلفة. وأما الهيكل المركزي المستطيل الذي هو لؤلؤة هذا المعبد، وواسطة العقد في هذه المجموعة العمرانية الوضاءة، فكان بالأصل فوق دكة مدرجة، ثم جعلت الأدراج بشكل منحدر، وباب الهيكل مفتوح في الجدار الجانبي المقابل لمدخل المعبد. والهيكل محاط من جميع جهاته برواق محمول على أعمدة رشيقة باسقة مخددة، كانت تتوج بتيجان كورنثية من البرونز المذهب، وفوقها إفريز نقشت عليها صور جن مجنحة، تحمل أكاليل مضفورة بالفواكه. وتحمل سقوف الأروقة جسوراً هائلة من الحجر محلاة بأُطر من التزيينات النباتية الرائعة، وعليها نقوش بارزة، تمثل مشاهد دينية منها عجلبول وملكبل، وهما في ثياب عسكرية أمام مذابح محملة بالفواكه. ومنها مشهد الطواف الشهير الذي يبدو فيه تمثال الإله محمولاً على جمل في قبة حمراء، وفيه نساء محجبات. وهناك أيضاً الآلهة التي تشهد الصراع مع الأفعوان. وفي الرواق، أمام مدخل الهيكل الرئيسي، بوابة هائلة غنية بزخارفها. أما سطح الهيكل، فهو بالأصل سنمي مزين بالشراريف المسننة وبأربعة أبراج، يصعد إليها بأدراج من الداخل لإجراء بعض الطقوس فوق سطح الهيكل.
وفي داخل الهيكل محرابان شمالي وجنوبي، الشمالي منهما كان يضم صور الآلهة التدمرية الرئيسية، وسقف المحراب مؤلف من حجر واحد محفور على شكل قبة نقشت عليها الكواكب السبعة، وحولها البروج الإثنا عشر. أما المحراب الجنوبي الذي كان يضم تمثال الإله بل، والذي كان يحمل في المواكب، فقد سقف بحجر واحد، نفذت عليه مجموعة زخرفية غاية في الإعجاز، في وسطها زهرة متفتحة، ضمن دائرة يضمها إطار هندسي جميل. وحول ذلك مثلثات ومربعات ومسدسات متناسقة في داخلها مختلف أنواع الزهور. وإن هذه العناصر الزخرفية المتساوية، الباذخة وثيقة الصلة، بمستقبل الفن الزخرفي العربي الرائع.
ويأتي بعد ذلك المجال الذي حلق فيه الفن التدمري عامة، وفن العمارة خاصة، وهو المدافن. وإذا كانت بعض المدافن المصرية والصينية قد اشتهرت بضخامة بنيانها وامتداد متاهاتها، وبكنوزها وأثاثها الجنازي، فالمدافن التدمرية اشتهرت بروعتها الهندسية، وخصائصها المعمارية التي هي على جانب كبير من الذوق والجمال الرائع. ولعل من الظلم إطلاق كلمة المدفن في هذا المجال، فالمدفن التدمري بنماذجه الثلاثة (المدفن البرج، والمدفن البيت، والمدفن الأرضي)، خلو من رهبة المقابر. وإن المدفن أشبه ما يكون بدارة أنيقة سكانها من الحجر الناصع، مجتمعون ومتجاورون، على الأرائك متكئون، في لقاء سرمدي، وفوقهم الأقواس المزهرة والأفاريز المكللة. وأبواب المدافن من الحجر، ولكنها توحي بأنها خفيفة كأبواب الخشب وعليها دقاقات. وكل شيء في خارج المدفن يوحي بمظهر البيت (بيت الأبدية) أو (بت عالما)، كما يدعوه التدمريون. والنصوص أكثر من أن تعد في هذا المجال.
ليس هناك مجال هنا للذهاب بعيداً في بحث المدافن غير أنه من المفيد القول بأن الأوابد الباقية من المدافن الأربعة المكتشفة قد أفادت الباحثين كثيراً في الكشف عن بعض الجوانب التاريخية في حياة تدمر الإجتماعية والإقتصادية والسياسية خلال تلك الأحقاب الغابرة. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن التشابه بين المقابر التدمرية (البرج) مع تلك التي عرفتها منطقة الفرات الأوسط وحمص وحوران، لا ينفي عن المقابر التدمرية خصوصيتها المميزة لها، مما دفع بعض الباحثين إلى القول بأن: المدفن البرج مرتبط بتدمر ارتباطاً وثيقاً، وهو أول ما يلفت نظر زائرها.
7ـ الديانة التدمرية:
عَبَدَ التدمريون كثيراً من الأرباب التي عرفتها الديانات العربية القديمة أيام الجاهلية، من أمثال: اللات والعزى، وشمس، ورحم، ورضو، وشيع القوم. علاوة على تلك الأرباب التي عبدتها بلاد الرافدين من أمثال نبو، وعشتار، ونرغال. كما اتحدت أرباب التدمريين وامتزجت ببعض أرباب اليونان والرومان من أمثال زوس، وأبولون، وأثينا، وهرقل. وقد بدأ هذا الامتزاج في الرافدين وسورية منذ أيام فتح الإسكندر المقدوني للشرق (334ـ323 ق.م)، وتأسيسه دولة السلوقيين. ولا تخلو الديانة التدمرية من تأثيرات أخرى، وعلى هذا فليس من الغريب أن يرتفع عدد أرباب التدمريين إلى أكثر من ستين ربّاً. ويمثل التدمريون أربابهم وهم شاكي السلاح، يرتدون الدروع، ويضربون بالسيوف والرماح، إلا أنهم بالرغم من ذلك ينزعون إلى الرفق، حيث تصفهم النصوص بالرحمة والطيبة (رحمنا، شكريا، طيبا) ولقد كثرت الاجتهادات بشأن رأس أرباب التدمريين. والأمر الثابت حتى الآن هو أن الرب بل هو الذي كان يحتل مرتبة كبير الأرباب و"بل" هذا هو "بل ـ مردوخ" البابلي ذاته. وهو يعادل زوس لدى اليونان وجوبيتر لدى الرومان. ويفترض الأب جان ستاركي أن "بل" حل في العهد البابلي الجديد (612ـ539 ق.م) محل الرب "بول" الذي كان رباً تدمرياً أصلياً. وهو "بعل" نفسه الرب السامي المعروف والذي ظل محتفظاً باسمه في الرب "بعلشمين". وقد كان بول رأس الأرباب التدمريين، وعندما حل بل محله بقي بول في أسماء بعض الأرباب التدمريين مثل "يرحبول" (رب الشمس) و"عجلبول" (رب القمر)، وفي بعض أسماء الأعلام التدمريين، مثل "زبدبول" و"بولبرك" و"بولنا"، وأسماء العشائر التدمرية مثل: "بني جديبول" و"بني متابول". وليس من المستغرب أن يلفظ اسم الرب بل بشكل بول، وذلك بدلالة استعمال أسماء تكتب بشكلين مثل "بل عشتور" أو "بول عشتور" و"بل برك" أو "بول برك". وقد ظن البعض أنه رأى اسم الرب بول مستقلاً في نص تدمري محرر باليونانية، غير أنه من الصعب حالياً الأخذ بهذا الظن وتثبيته أو نفيه، لاسيما وأن كلمة بل ترد في النصوص التدمرية ـ اليونانية مضافة بالشكلين بيلوس وبولوس: (ملكبيلوس، عجليبولوس). وعلى أي حال، فإن بول أو بل مردوخ، الذي هو بعل والمساوي لـ"زوس بيلوس الماجستوس" أي (الجليل)، هو رأس مجمع الأرباب التدمريين، ورأس الثالوث التدمري الشهير: بل ويرحبول ـ رب الشمس وعجلبول ـ رب القمر، وله أكبر معابد المدينة، بل أكبر معابد الجزيرة العربية والشرق. وقلما تذكر النصوص الرب بل وحيداً، وإنما تقرنه في الغالب بشريكيه الأصغرين اللذين سبق ذكرهما. كما أنه يمثل في المنحوتات معهما، في أكثر الأحيان، وفي تدمر وحتى في خارجها حتى إن معبده عندما كرس بشكله الجديد في العام 32م كرس له ومعه يرحبول وعجلبول اللذين يقابلان مبدئياً سول ولونا اللذين كانا يحفان بجوبيتر، مما دفع إلى الاعتقاد بأن الثالوث التدمري الأساسي ليس بعيداً عن تلك التركيبة اللاتينية. على أن الرب بل يمثل في المنحوتات مع عدد كبير من الأرباب، ومع ملكبل وشمس، وحتى مع بعلشمين منافس الرب بل الأساسي، هذا فضلاً عن تمثيله مع قرينته المعروفة باسم بلتي ومع الربة عشتارته. ودوماً يكون بل في الوسط، في صف الأرباب التدمريين الذين يمثلون كالجنود في نسق واحد وبل يكون دوماً بالزي العسكري كالعديد من الأرباب التدمريين وشعره مصفف بشكل مستدير حول وجهه، مثل في ذلك مثل يرحبول وعجلبول وملكبل وشمس. وتنتشر منه أشعة الشمس، ولكنه يمتاز عليهم بأن له قلنسوة صغيرة أسطوانية مقلوبة غالباً. ونجد معه أحياناً كرة في اليد اليسرى. وهو يرتدي ثوباً قصيراً فوقه درج مضفورة مميزة له، بينما دروع الأرباب تكون دروعاً عضلية، وهو يتمنطق بسيف ويستند باليد اليمنى إلى رمح أو صولجان. أما قرينة بل سواء بلتي أو عشتارته فترتدي عادة ثوباً فضفاضاً كأكثر الربات التدمريات.
وقد يكون من المناسب استعراض بعض تلك الأرباب:
يرحبول:
وهو يمثل الشمس في ثالوث الرب بل. وأمره مستغرب إذ إن اسمه يدل على القمر (يرح ـ يعني قمر أو شهر) رغم أنه رب الشمس ولم يزل هذا الأمر موضع جدل بين الباحثين. وهو يرتدي الزي العسكري، وهو رب النبع أيضاً.
عجلبول:
وهو يتميز علاوة عن الأشعة الشمسية بهلال ينطلق من الخلف على جانبي عنقه (وفي إحدى منحوتات القرن الأول يظهر الهلال على جبين عجلبول). وعجلبول كما ذكر سابقاً يمثل القمر، سواء مع ثالوث بل أو مع ثالوث بعل شمين.
ملكبل:
ويقترن غالباً بالرب عجلبول ويعني اسم ملكبل ملاك الرب بل، أو رسوله. وإذا مثل ملكبل وحيداً يكون أحياناً على عربة. وقد يجرُّ هذه العربة فهدان أو أربعة غريفونات، كما يمثل كرب شمسي في ثالوث "الرب المجهول الاسم"، وقد يحل أحياناً محل يرحبول في ثالوث الرب بل. وهو يرتدي غالباً سروالاً وقميصاً، وأحياناً رداء عسكرياً. وله صفتان: رب شمس من جهة، وراعي الحقول والقطعان في الواحة من جهة ثانية. وقد تكون تلك أقدم مهماته.
عجلبول وملكبل:
وهما يعرفان باسم الأخوين المقدسين، ويمثلان معاً في المنحوتات. وقد اقترن اسما ملكبل وعجلبول منذ القديم، ولهما معبد مشترك أمكن الكشف عنه حديثاً.
نبو:
هو الابن البكر لبل مردوخ، واسمه في البابلية (نبيوم) التي تعني النبي أو الرسول. وهو كاتب الأرباب الذي يسجل المقادير في اللوح المحفوظ. وهو سيد القلم. وكان له حظوة في الرافدين، ومن ثم في سورية حيث كان يقرن مع بل في الجزيرة والشمال، وتدل على شعبيته في تدمر أسماء الأعلام الكثيرة المركبة مع اسمه: (برنبو) و(نبو جدى) و(نبو يدع) الخ.
بعلشمين:
سيد السموات هو الرأس الثاني لمجمع الأرباب. وتختلط مهماته وصفاته بمهمات الرب بل وصفاته، إذ إنه يعتبر أيضاً سيد الخلود وسيد العالم، وهو يمثل بملابس مدنية وعسكرية جاثياً أو واقفاً. ومن رموزه حزمة السنابل كرب للخصب والزوبعة ورب العواصف والمطر.
الأرباب العربية في تدمر:
إن اللات والعزى (عزيزو) ومنوه (مناة) ورحم وأرصو (رضو) وشيع القوم هي أرباب عربية رئيسية لاشك فيها. وثمة أرباب عربية ثانوية مثل منعم، وسلمان ومعني، وأبجل، وسعد وأسعد وأسد (أو أشر)، وأسلم، وذو رحلون. وفي هذا يظهر الأثر الكبير الذي كانت تمارسه المعتقدات الوثنية العربية على تدمر وبشكل أخص على إقليمها منذ القرون التي سبقت الميلاد.
اللات:
تتخذ اللات تلك الربة العربية الشهيرة أحياناً صفات الربة أثينا ـ مينرفا وتتوحد بها، وذلك أمر واضح من النصوص المزدوجة، ومن أسماء الأعلام وهب اللات ـ أثينودورس. كما تتحد أحياناً صفاتها الخاصة وحيوانها الأسد وتحمل أحياناً السعف، ولها رموز أخرى كالنجم المثمن. والدليل القاطع على شعبيتها كثرة أسماء الأعلام المركبة، مع اسمها في تدمر وإقليمها تيم اللات = عبد اللات، وهب اللات = هبة اللات، شلم اللات = سلام اللات، وكذلك حد اللات، ونصر اللات، وسعد اللات، وأمة اللات.
أما أرصو ـ رضى ـ أو رضو، وعزيزو (العزى) فهما كوكبا الصباح والمساء، ومن أرباب القوافل المحببة. ومنوه (وهي ربة المصير المحتوم)، والرب شيع القوم هو رب القوافل الصاحي الذي لا يشرب الخمر أبداً.
تلك هي صورة الديانة التدمرية ومعتقداتها، والمرتبطة كما هو واضح تماماً بالبيئة التدمرية ومجتمعها وتاريخها.
8ـ الأسرة التدمرية:
لم تكن الأسر التدمرية على مستوى اقتصادي واحد، أو مستوى اجتماعي غير متفاوت. وقد انعكس ذلك قبل كل شيء على البيت التدمري في طريقة تشييده وبنيانه وتأثيثه. فبينما كانت بيوت اللبن كثيرة ومنتشرة على ضفة الوادي الغربية، في مقابل الساحة العامة (الآغورا)، كانت هناك أيضاً بعض البيوت الرائعة التي هي أشبه بالفيلات في العصر الحديث، ونموذجها ذلك البيت الذي أمكن الكشف عنه شرقي معبد بل، والذي زُينت أرضيات غرفه بالفسيفساء، وبُلِّطت باحاته بالبلاط الجميل، وزينت جدرانه بزخارف الجص النادرة، وانفتح على بساتين الواحة. ولكن، وعلى الرغم من هذا التفاوت في مواد البناء، فإن البيت التدمري لم يخرج في مخطط بنائه عن مخطط البيت الشرقي. مدخل بدهليز، وباحة ذات أروقة محمولة على أعمدة كورنثية أو دورية، وفي الباحة أحواض ماء، وزهور وتماثيل تكتنفها الغرف. والغرفة الرئيسية موجهة للشمس وهناك أحياناً أكثر من باحة، وطابق ثان يطل حتماً نحو الداخل. والغالب أن يكون الطابق الثاني من اللبن أو الآجر، ولا يستبعد أن يكون هناك مدماك واحد أو أكثر من الحجر، والمداميك الأخرى من اللبن والآجر. وتطلى البيوت بالمؤونة الجصية، وتحدد الجدران وتؤطر بالزخارف الجصية. وفي أحيان كثيرة كانت هناك صور جدارية لطيفة. وفي البيت بئرٌ أو أكثر، حسنة التنسيق مع بلاط الباحة. وثمة خواب للزيوت والخمور وأفران. ولم يعثر على شيء من الأثاث، إلا قلة، ولكن بالمستطاع الاستنتاج من المنحوتات والمقارنات وجود أرائك وكراسٍ قابلة للطي وطنافس مزركشة، وبسط أنيقة، وسرج نحاسية وفخارية مزينة بأشكال نباتية وحيوانية وكتابات. وهناك علاوة على ذلك تماثيل وقدور وكؤوس. ومن المؤكد أن بعض البيوت فيها مصليات، ومكتبات، واسطبلات، وقسم للعبيد.
مكانة الزوجة في الأسرة التدمرية:
كان نظام الأسرة التدمرية، شأنه شأن النظام العشائري العربي والروماني في ذلك العصر، يعتمد بالمعنى الواسع على رب الأسرة، فهو محور حياة العائلة، ويزيد قدره بزيادة سنه واتساع عدد أفراد أسرته ونسائه وعبيده. وهو السيد المطلق على أسرته، ولا راد لمشيئته. على أن سيادة الرجل لم تكن لتمنع من احتفاظ المرأة بملكيتها الخاصة، أو تحرمها من حقها في أن ترث أو تورث، أو تتصرف بممتلكاتها وإرثها كما تشاء. ولم يكن الزواج بأكثر من امرأة مجهولاً، غير أن الأمر المجهول هو ما إذا كانت الزوجتان، أو حتى الزوجات، يتعايشن معاً في كنف الزوج، أو كانت كل واحدة مستقلة في مسكنها. وكان المنزل هو مملكة المرأة، إذ أن نصيبها في الحياة العامة بقي محدوداً، باستثناء من كانت تتوافر لهن الكفاءة والطموح معاً، مع توافر الظروف من أمثال زنوبيا. وقد أبرزت المنحوتات التدمرية المرأة، وهي ذات زي ودل وقلائد وأقراط وأطواق وذوائب وعصائب ورصائع. ولكنها رغم ذلك بقيت محتفظة بمغزلها، وهي تمثل جالسة عند قدمي الرجل المضطجع في الوليمة. غير أنها كانت تتقدم على ابنها.
الأولاد:
يتزوج التدمري والتدمرية في سن مبكرة على الراجح، وليس الزواج بالأقارب ـ أبناء العشيرة ـ هو القاعدة العامة، فالغريبات كثيرات، والزواج مسموح، ولا يعترضه عائق. ويظهر الأولاد الصغار في المنحوتات بشكل البالغين، فالطفل حتى وإن كان رضيعاً على ذراع أمه فهو يمثل بهيئة الرجل وبزيه فيبدو بشكل رجل قصير. والأمر كذلك بالنسبة للطفلة فهي امرأة قصيرة، ولكن لباس رأسها مختلف أو غير موجود، وعلى هذا فإن تمييز الأطفال يكون بأشياء ترمز لهم، من عناقيد عنب، أو طيور (حمائم غالباً)، وأشياء أشبه بالحقائب المدرسية وغير ذلك. ومهما كان هذا التمثيل مجافياً للمألوف، فإن مجرد تمثيل الأطفال مع الكبار في الولائم الجنازية، أو على سواعد أمهاتهم، أو لوحدهم، إنما يدل على الاهتمام الكبير بالأطفال، وما ينالونه من الرعاية والعناية. والقاعدة العامة هي أن الولد البكر يحمل غالباً اسم الجد، أو والد الجد، أو الجد لأمه. ويحب التدمريون لأولادهم أسماء يبسطونها ويصغرونها، ويتوددون بها، ويدلعونها مثل: وهبي وسعدي وتيمي وعويد وحبيبة الخ...
زي التدمري وزينته:
على الرغم من غزارة الحلي الظاهرة في المنحوتات التدمرية فإن ما عثر عليه من الحلي خلال أعمال التنقيب قليل جداً. وإن المدافن التي بقيت سليمة حتى الآن، لم يعثر فيها من حيث زينة المرأة والرجل إلا على أشياء عادية، كالأقراط والخواتم البسيطة. وإذا كانت المتاحف لم تحظ بمثل هذه الكنوز، فإن المنحوتات التدمرية قد أعطت عنها فكرة واضحة جداً. وقديماً تغنَّى العرب بالأذن التدمرية كناية عن جمال الأقراط. كما أن الشاعر الفرنسي بودلير قد تغنى بالحلي المصنعة في تدمر القديمة. وقد يكون من الصعب الإحاطة بهذا الموضوع الشامل، وقد تكفي الإشارة، إلى أن تمثال سلمة بنت تيم آرصو في متحف "كارلسبرغ" في كوبنهاغن يمثل هذه الحسناء بسبعة عقود وإكليل معقود بثلاثة صفوف، وسوارين في كل معصم، ما عدا الرصيعة والخواتم. وظهر في أثناء أعمال التنقيب في مدفن شلم اللات تمثال الفتاة مارتي، حفيدة مؤسس المدفن وهي تحمل خمسة عقود وقلادات متعاقبة، ولها سواران، وخمسة خواتم، اثنان منهما في إصبع واحد. وتظهر المنحوتات علب المجوهرات، وبعضها يحمله العبيد، وتكون هذه الحلي في التماثيل ملونة أحياناً بماء الذهب، وببعض الألوان الأخرى تمييزاً للحجارة الكريمة، كما يظهر تخطيط الحواجب وتكحيل الجفون، وأحمر الشفاه بأكثر من لون. وظهر طلاء الشفاه في إحدى الحالات وهو من ماء الذهب. وكان لتصفيف الشعر أنماطه المتنوعة وأساليبه الكثيرة، كالتجعيد والضفائر والرفع والذوائب المشذبة على الجبين والصدغين.
لقد وفرت لنا المنحوتات معلومات كافية عن أزياء الكهنة التدمريين الكهنوتية وقلنسواتهم التي تشبه قلنسوات الكهنة الفينيقيين. فالقلانس مبطنة، وهي غالباً من اللباد أو ما في حكمه. وعلى القلنسوات شعار قد يرمز إلى رتبة الكهنة. فهناك قلنسوات خالية من أية زينة، وأخرى مزينة بإكليل من أوراق النباتات، تتوسطه زهرة. وأخيراً قلنسوات يتوسط إكليلها تمثال نصفي يمثل كاهناً. وكانت الزينة من البرونز، وقد تأكد لنا ذلك من خلال المكتشفات الكثيرة. ومع ذلك فهناك أيضاً كهنة دون قلنسوات. ويغلب على معاطف الكهنة أن تكون حواشيها مطرزة أو منزلة. وكذلك ياقة القميص وأطراف الكمين. وعلى الخصر نطاق عريض، والكهنة حليقون دوماً. أما الرجال العاديون فهم حليقون أو ملتحون، وشعورهم مجعدة أو مموجة. وهم يرتدون عادة زياً محلياً بسيطاً، أو زياً يونانياً أو فارسياً. وإن اللباس البسيط أو غير المخيط مما كان يرتديه رجال تدمر على اختلاف مستوياتهم، قد حل محله فيما بعد لباس يتألف من قميص قصير شبيه بالسترة، وتحتها سراويل وأخفاف معقوفة حافلة جميعها، مما كان مألوفاً في بلاط بلاد الفرس.
كان اللباس التقليدي للنساء التدمريات يتكون من عباءة أو وشاح ينزل من الرأس إلى الكتفين، ثم يلف كامل الجسم، وهو مثبت في الجهة اليسرى من الصدر برصيعة أو شكلة. وعلى الرأس تحت الوشاح عمرة أو حطة ملفوفة تحتها عصابة مطرزة. وتحت العباءة ثوب بكمين طويلين أو قصيرين. وطراز الثوب واحد تقريباً بتعديل في جيب الرقبة، وبعض التفاصيل والزخارف. ويبدو تحت الثوب أحياناً ثوب آخر، أو غلالة، ونادراً ما تظهر السيدات دون عمرة الرأس، بطاقيات أو دون شيء. ويرتدي الأطفال من الذكور ثوباً فضفاضاً، يشده حزام في الوسط، أما البنات فأثوابهن طويلة ضيقة.
9ـ الحياة الاجتماعية التدمرية:
تشكل الحياة الاجتماعية بدورها مرآة تعكس تاريخ تدمر وحضارتها، فالأعياد والولائم والمسرح والمآتم، كلها من الظواهر المرتبطة بالتطور الاجتماعي خلال حقبة معينة. وقد كشفت الأوابد، وكذلك المنحوتات عن جانب هام من حياة تدمر في عصر زهوها وتطورها.
العيد:
لا ريب أنه كان لتدمر أكثر من عيد، وأكثر من مناسبة، فوداع القوافل، وما تحمله من الآمال واستقبال هذه القوافل، وما تحمله من خيرات كان يشكل عيداً في حد ذاته. وإن تعدد الآلهة يشير إلى الاهتمام بما هو مرتبط بحياة الناس (الزراعة) على سبيل المثال. غير أن من بين الأعياد كان هناك عيد سنوي لتدمر هو يوم السادس من نيسان، وهو يوم كانت له قدسيته الخاصة على ما يظهر. ففي 6 نيسان تم تأسيس وتكريس معبد بل، الذي يعتبر أكبر معابد المدينة وبيت أربابها. وهناك كتابة يونانية تسمي يوم 6 نيسان (اليوم الطيب). وقد بات بالمستطاع وصف الاحتفال الديني بهذا العيد، وفقاً لما هو متوافر من النصوص، في معبد بل ذاته.
لنتصور هذا المعبد ـ بل ـ بحرمه المركزي الشاهق، وأعمدته المذهبة التيجان، وصحنه الرحيب الذي يبلغ أربعين ألف متر مربع، وأبوابه المذهبة المشرعة وكؤوسه وصوانيه ومباخره الذهبية. وقد وافته القبائل من كل حدب وصوب، وتظللت بأروقته الشاسعة، وانتشر في صحنه، عشرات الألوف من المتعبدين شيباً وشباناً، نساءً وأطفالاً. وقد ارتدوا جميعاً أفخر ما لديهم من الثياب وتطيب الرجال، وشذبوا من لحاهم، ورجلوا شعورهم وتزينت النساء. وقد تجمع باعة التحف والطيوب والأيقونات والزهور والمآكل الشعبية.
وأمام الناس مئات الكهنة (القمرا ـ أو الأفكلا)، على رأسهم الكاهن الأكبر لمعبد بل أكبر شخصية دينية في المدينة، وهم حليقو الرؤوس واللحى، يرتدون الملابس البيضاء، ومنها المطرزة والموشاة بالعقيق والتوباز والزمرد، وفوقها معاطف مثبتة إلى الكتف الأيمن، ولهم زنانير عريضة مرصعة، وهم يعتمرون بقلانس أسطوانية، عليها أكاليل بسيطة أو مزهرة أو مصورة. وبأيديهم البخور وأباريق الزيت المعطر والنخيل والآس. ثم يأتي الكهنة الكبار المولجون بقدس الأقداس، ثم الكهنة المرتلون والعازفون والمصفقون والمولجون بالناس، ثم العرافون والخدم، ويأتي بعد ذلك زعماء البيوتات التدمرية ـ شيوخ القبائل ـ ورجال الدولة وكبار الزوار، وممثل روما. ويرى الناظر إلى الجهة الغربية النذور والأضاحي من المواشي، وهي تتدفق على المنحدر، فيتجمع الناس للنظر إليها، وهي تتدافع لتصل إلى المذبح الكبير، الذي ستهرق الدماء فيه، فتسيل قنوات قرابين مقبولة، ونذوراً مستوفاة. ورائحة البخور والند والآس والأرز والطيوب الفاغمة المتصاعدة من المباخر والمذابح تملأ جو نيسان الدافىء. والخمور المحلاة بالعسل تراق على اسم الأرباب. وأواني الطقوس وآلاتها تغسل في الحوض المقدس. وإذا كان من غير المستطاع استعادة سير الطقوس وترتيبها، فإن هناك طقساً أساسياً معروفاً في المعبد، هو الطواف الذي يثير حماسة الجمهور. وهو يتضمن إنزال صنم الرب من محرابه في يمين الهيكل المركزي، وحمله على سرير مذهب، والنزول به على منحدر الهيكل إلى الباحة. والمرجح أنه كان يحمل بعد ذلك على جمل كريم، ويطاف به حول الهيكل ووراءه نساء محجبات وسدنة. ولقد عثر على مشهد لهذا الطواف منقوش على جسر حجري كبير، كان في سقف رواق المعبد. وهذا المشهد يمثل جملاً عليه قبة حمراء يقوده سادن، وأمامه وخلفه رجال رافعو الأيدي. وإن هذا المشهد مطابق لما هو معروف من الطقوس والعادات التي كانت متبعة في العصر الجاهلي، وعبادة الأوثان.
الوليمة:
كانت الأضحيات التي كانت تذبح بأيدي كهنة مغتسلين متطهرين، يحملون سكاكين خاصة، ويتبعون إجراءات دقيقة، تعدُّ من أجل الوليمة المقدسة في غرفة المائدة، وهي الغرفة التي لا يدخلها إلا الكهنة الكبار وعلية القوم. والدخول لهذه الوليمة ببطاقات صغيرة من الفخار، وقلما تكون من المعدن أو الزجاج، عليها صورة الرب، أو رمزه، واسم مقدم الوليمة، ورموز شتى. وتحمل البطاقة أحياناً كمية الطعام والشراب المخصص لكل ضيف. وفي الوليمة كان المدعوون يستلقون على طنافس فوق مقاعد حجرية بموازاة الجدران. والمقاعد مصفوفة بشكل نعل الحصان وفتحته نحو الباب، وفي الصدر يجلس رئيس المائدة أي رئيس الوليمة الدينية، وهو هنا الكاهن الأكبر لمعبد بل. وفي القاعة عدد من المباخر والمذابح من الحجر والمعدن. وفي إحدى زوايا المكان جرن حجري كبير كالجابية (جباتا في التدمرية) فيه كمية هائلة من الخمر، يغرف منها للمدعوين الذين يحتسونها بكؤوس ضخمة تمسك باليدين، وثمة زقاق للخمر كانت مستخدمة أيضاً.
إن الوليمة في تدمر لها دور أساسي على نحو ما بات معروفاً عن قاعات الولائم في معبد بل، ومعبد بعلشمين، وفي الشارع الرئيسي وفي الآغورا. وليس معروفاً ما إذا كان هناك فارق بين ولائم المعابد وولائم الأخويات خارج المعابد. ومن المعتقد أن ولائم كثيرة دينية وقبلية واجتماعية، كانت تجري بالمدينة في هذه المناسبة وغيرها من المناسبات.
المسرح:
إن مسرح تدمر في وضعه الراهن هو مسرح صغير، ولا يدل على أن مثل هذا النشاط في وجهيه الثقافي والترويحي كان واسع الانتشار في تدمر. ثم إن هذا المسرح الذي لم يكن ليتسع لأكثر من ألف شخص كان يؤدي وظيفتين أساسيتين هما: التمثيل، وصراع الوحوش، ونزال المصارعين. فهو مسرح وحلبة في وقت واحد. وإن منصة التمثيل واضحة جداً. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فهناك مدخل للوحوش والمصارعين في صدر المدرج، وآثار قضبان الشباك التي تحمي المتفرجين لم تزل ظاهرة في الحواجز. وليس ثمة ما يدل على أن هذا المسرح قد استخدم للاضطهاد الديني، إذ إن التدمريين اشتهروا بتسامحهم الديني الظاهر.
قد يكون من المتعذر إعطاء فكرة عن نوعية المسرحيات التي كانت تقدم في المسرح، إلا أنه من المناسب الإشارة إلى ما روي عن زنوبيا، من أنها غضبت على تاجر في المدينة، فأمرت بوضعه في المسرح لتنهشه الوحوش الضارية أمام الجمهور. وبينما كان هذا الجمهور متحفز الأعصاب والتاجر المقيد في الحلبة يرتعد جزعاً، فتح الباب، ودخل منه ديك... فكان ضحك الجمهور فوق الوصف، وكان هذا العقاب من ناحية ثانية دلالة على أصالة ذهن زنوبيا ورفاهة حسها. وروح النكتة اللاذعة والذكية لديها.
المآتم:
لعله من غير المستطاع إجراء دراسة لتحديد متوسط الأعمار لدى التدمريين. غير أنه بالإمكان، عن طريق المقارنة بالبيئات الحديثة المماثلة، الوصول إلى نتيجة محددة وهي أن وفيات الصغار والشبان كانت من الأمور المألوفة والشائعة. وكان هذا الموت يشغل حيزاً كبيراً من نشاط التدمريين اليومي، بدلالة ذلك التركيز الكبير على العناية بالمدافن، وجمالها، وازدهار النحت الجنائزي، ويتصور الإنسان أن صناعة التجهيز للحياة الأخرى كانت رائجة، وأن هناك أخويات (نقابات) متخصصة بهذا الشأن، وحوانيت كبيرة تهتم بالمواكب، ومن ثم بالدفن، وتجهيز القبور بالشواهد. وواضح جداً من المنحوتات التدمرية وجود الندب واللطم وشق الأثواب، وتجريح الصدور، وعرض الميت على الأهل والأصدقاء. وهناك في بعض المدافن بعض الجثث المحنطة محفوظة بقدر متوسط.
لقد كانت من أبرز المظاهر في تكريم الموتى بتدمر الوليمة الجنائزية التي تتم في مناسبات معينة، ويشترك الأهل بأكل طعام معين على روح الميت، إذا صح التعبير. وهناك وضع الزهور أمام القبور، واستعمال النخيل لحمل الستار الذي يفصل الأموات عن عالم الأحياء. وفي النصوص ما يدل على أن المساس بحرمة الموت كان يعتبر جريمة منكرة تستحق اللعنات.
لقد توافرت آلاف النصوص المكتشفة في المدافن والمتحف، على أن هذه النصوص لم تكشف شيئاً عن الجانب الروحي لموضوع الموت لدى التدمريين، على أنه بالمستطاع الإشارة إلى أن المنحوتات والصور قد ضمت بعض الآثار الأفلاطونية الجديدة، والمسيحية في نبذ الجسد، واعتبار الموت انتصاراً، وإن الإنسان يعيش في الحياة الدنيا مرتدياً أثواباً مستعارة.
تلك هي في سطور قصة تدمر وتاريخها. ويمكننا أن نستخلص منها مدى التلاقحات الثقافية والحضارية التي كانت تتم في تدمر الواقعة في ذلك الوقت في قلب الطرق التجارية على تخوم الصراع بين أعظم إمبراطوريتين في الأزمنة القديمة، فارس وروما.

اكتشف سورية|بتصرف