ساعات مع فاتح المدرس

ساعات مع الفاتح: أحب الطهارة في الفن على أن أبقى جانب الإنسان


في حوار نشرته مجلة «الحياة التشكيلية في العدد 55–56» كتبه أنطون المقدسي حول تجربة الفنان التشكيلي فاتح المدرس، في قراءة لأعماله وأقواله ومقابلاته تختزل تجربة فاتح المدرس بقلم فيلسوف، وفنان، وناقد استطاع التواصل مع تجربة فاتح المدرس تواصلاً نادراً، بين فيلسوف متذوق للفن والتجربة الفنية وبين فنان عظيم له تجربته الفنية وتمرده وعبقريته في نتاجه وكلامه.

ولأهمية هذه المقالة، نوردها كاملة كما نشرتها مجلة الحياة التشكيلية، لتكون مقدمة لملف الفنان الذي نقوم بإعداده في «اكتشف سورية»، ليكون مرجعاً دائماً عن فنان عظيم عاش معنا وعايش همومنا، وشاهَدَنا بطريقته، وصوَرَنا بأسلوبه، وَوَثَّقنا بأعماله، وتهكَّمَ علينا بألوانه وقماشته، وغادَرَنا مبتسماً.

وصورته هنا نستعيرها من ألبوم الفنان التشكيلي القدير فائق دحدوح الذي استطاع أن يصل في لوحته هذه إلى أعماق فناننا التشكيلي الكبير فاتح.

في الطريق إلى الحداثة العربية
عرضاً وقعت عيني في مكاتب الوزارة، على واحدة من لوحاتك، وتوقفت عند شارة ذهبية، بدت لي عن بعدٍ وكأنها شمس خريفية عند الغروب، تشُد إليها السماء، زرقتها صارت نيليّة، فالظلمة تغشاها وتتوضع منها، في بقع سوداء مرشحة للانتشار.

جمالٌ أُخذ؟ تساءلت.

قال: «عندما يتجلى لك الجمال، إستسلم له ولا تسأل».

قررت.. ومازلت حتى عَلَّقت اللوحة إلى جانبي. لم أفكر، لم يخطر ببالي التفكير في مقالتها، وما عساه يقول للجميل غير أشياء جميلة؟

ويمر بها الناس، قلٌّ بينهم من تُثير اهتمامه، هذا يتردد، يتمتم ويجلس، فأتساءل: أأنا أخطأت، أم أن الجمال ذاتي في تجلياته؟ وتمضي الأيام والشهور. وها هو الزمان يجعل من تحفتي واحدة من موجودات غرفتي الأليفة فأنساها، وينساها المراجعون.

يوماً، ها إني أقترب منها، أُقربها إليَّ وأضَعُها في الضوء، يا إلهي! عالَمٌ من الرموز والألوان والأشكال، ألوانٌ وأشكالٌ هي الرموز، النجمة الذهبية واحدة منها، كأنها عن كثب -لقد صارت في منتصف اللوحة إلى اليمين- وقد لملمت أشعتها، قلَّصَتْ فُسحة انتشارها، عَلّها تصمد زمناً، أمام الليل الذي احتل المكان.

قلتُ، بعد أن قرأت اسمها «زوار الليالي الأخيرة...» 1986... قد تكون أحلامُ نائمٍ أنهكه التعب، فآوى إلى فراشه مبكراً، ويظن أن ساعته دَقَّتْ، فها هو رأسه يستطيل ويستطيل حتى يحاذي الأفق الأبعد، ويبدأ باختراقه، في حين يلتصق جسده بالأرض، يتمدد، يكبر، بطنه ينتفخ، تبدو لي قدماه -ولمَ لا يكون امرأة؟- هما وجزعه يغوصان في التراب، حيوانات أسطورية فاحمة السواد في مواجهتها! اثنان منها كبيران، ربما من بقايا عوالم الديناصورات، واثنان صغيران شبيهان بالقنافذ المفترسة، واحدٌ منها فاغر فمه، ومع ذلك وجه الرجل هادئ، لكأنه رقيب حيادي، إلا أن يديه متشنجتان، ومتورمتان وهما تمسكان بالجسد للاحتفاظ به على وجه الأرض.


من أعمال التشكيلي فاتح المدرس

ونجمتي الذهبية؟ أتكون هي البقية الباقية من أمل يشتد، يتقد، قبل أن يضمحل؟

ألوان لوحتي، رأيتها في خمس أو ست لوحات -ربما أكثر- كلها بحجمها تقريباً مع إضافة الأحمر والأبيض بكثافة في واحدة منها، والتنويعات اللونية فيها كلها: اثنتان من هذه اللوحات أمامي، ثلاثة وربما أكثر في ذاكرتي، وكلها وغيرها بكل أنواعها، تقول، فيما يبدو لي، حالات حدية، أقصد أنها تضعك بين الموت والحياة «زوار آخر الليل - من مات» أو بين السماء والأرض، بين المطلق والنسبي «اللوحات الصوفية»، قد تضعك في مواجهة الخيار الحاسم -الكل أو لا شيء- وعليك أن تغامره الخيار، هذا هو مقال البُراق يعود إلى القدس، لوحة رسمها فاتح عام 1990، عندما كانت انتفاضة الأرض المحتلة والمقاومة اللبنانية، قد سقنا طريقاً للأمام لتحرير القدس، ومعلوم أن وجود العرب مرتبط، وحدة ومعنى، باستعادة المدينة المقدسة، لكأن اللوحة تقول، أن النقلة إلى القدس بحاجة إلى ما يشبه أو يحاذي معجزة البُراق، ولكن «براق» اليوم متعدد الوجوه والمواهب والقوى، فوجهه وجه إنسان هادئ، متزن، واثق من نفسه، ومن قدرته على تجاوز الأخطار كلها، أما جسده فجسد حصان أُسطوري له ملء الحيوية، وظهره يتسع إلى ما شئت من فرسان، بعضهم تشق رؤوسهم السحاب، ولن يسقط عن ظهره إلا من تزل قدمه، هذا تسحقه قوادم الحصان الشبيهة، بقوائم وحش مفترس.

قد يبلغ نكد الدنيا درجة يمكن أن يصير معها الموت أفضل من الحياة، تلك مقالة «من مات 1986»، الكلمة الأخيرة بداية عبارة صياغتها ضمناً شرطية، «ليس من مات واستراح، بميت، من نكد الدنيا»، كتبها فاتح بخطة على شريط ذهبي اللون يشطر اللوحة شَطرين غير متوازيين: الأعلى -ثمن اللوحة- أزرق أبيض صافي يشير إلى الأفق البعيد، المفترض أن الإنسان يخلد فيه إلى الراحة، الأسفل حياة الدنيا بكل تعقيداتها، فموجوداتها عديدة، يختلط فيها البشر بالأشياء والحيوانات، يُوحِّد بين الكل، قاع اللوحة الذي هو نيلي اللون، الأشياء والحيوانات هنا -هذا عندما تستطيع عزل بعضها وتحديد هويته- «بقرتان أسطوريتان مثلاً» تساير نواميس الطبيعة، البشر، وبوسعك التعرف إلى بعضهم، وحدهم يشذون، أشكالهم كثيرة، شكل كل منهم يشير إلى مغامرة: هذا عملاق، عن بعد أشبه شيء ببرج طموح، آخر وجه بحجم عادي، يفكر، يتأمل، ثالث في أسفل اللوحة شارد يرنو إلى أعلى، سيناريو اللوحة له وجوه ثلاث متعامدة: واحد منها، رأسه يشق الأفق الأعلى وكأنه بدأ يخترقه، إلا أن وجهه الذي ما يزال في فلك الأرض هادئ، ربما لأنه تجاوز النكد، الاثنان الآخران بمحاذاة الأرض، أحدهما متعب، معذب، كله نكد، الثاني فوقه أحداً نسبياً، كلاهما يتطلعان إلى الذي سبقهما واستراح، ولكن المسافة بينهما وبينه كبيرة جداً، ثمة رؤوس كثيرة غير واضحة المعالم منثورة هنا وهناك.

من أعمال فاتح المدرس

سؤال من جمل أسئلة تطرحها اللوحة: لماذا رأى فاتح، وبعد أن سجل اسم اللوحة «ليس من مات» بخطه على خشبتها؟
أن يعطيها اسماً آخر يورده «طارق الشريف» في كتابه عن فاتح «بانتظار عودة الميت ـ ص 267 من الكتاب»؟ أليقول أن التبادل بين الحياة والموت مستمر فهما نسبيان؟
قال: أأنت متأكدة من قراءاتك؟
قلت: هي الأرجح.
قال: ولم لا نحتكم إلى صاحب اللوحة، فأهل البيت أدرى بمن فيه.
قلت: اللوحة أمرٌ، وقراءتها أمر آخر.

اللوحة كيان مبتكر، رؤيا فردة وفريدة دالة، انطلاقتها عفوية تتكون بين الشعور واللاشعور في لحظة لقاء متميزة؟
وتؤلف بين صور العالم الخارجي وأحاسيسه، وبين رصيد الفنان الذاتي، الذي هو مكونات شخصيته الاجتماعية، والثقافية والتاريخية، بالإضافة إلى وراثاته، وهذا ما يشير إليه «فاتح» نفسه في عبارة «الضوء الداخلي والضوء الخارجي»<<ص 237 من كتاب طارق الشريف، فاتح المدرس فنان تعبيري... ـ حديث مع حسان عزت. وزارة الثقافة، دمشق>>|1|. يلي تحقيق اللوحة الذي يستخدم تقنيات العصر وسبله في التعبير، أقصد هنا الخصائص الفنية التي تميز عصراً عن آخر، ففن «الحداثة» الذي ينتمي إليه «الفاتح» ألغى فن اللوحة، وفي بقية الفنون التشكيلية، كما في النص الشعري، وأحياناً الأدبي:
1 ـ مبدأ التناظر، فثمة البعثرة والفوضى للوهلة الأولى.
2 ـ مبدأ وحدة المحور، فبوسعك تجميع اللوحة حول هذا العنصر الأساسي منها أو حول ذاك.
3 ـ مبدأ الهوية، فالبراق إنسان وحصان ووحش في الوقت ذاته ذكراً أو أنثى.
4 ـ ألغى أيضاً البعد الثالث، الذي هو من إنجازات النهضة.
وبهذا كان عليه أن يُقَمِمْ الزمان في المكان، ويستعيض عنهما الفنان بتوزيع لوحته على مناطق هي حلقات سيناريو حققته، كما يجعل منه مستويات هي بديل آخر عن البعد الثالث، فـ «البراق» له ثلاثة مستويات: الأعلى للأفق الأبعد وهو أزرق أبيض ونحوه تستطيل الرؤوس الأشمخ، والأوسط، الأكثر حجماً، يلي البراق ذاته، وللذين قرروا الصمود والقتال معه حتى النصر، أما الثالث فالذين سقطوا على الطريق فتهشمت رؤوسهم.

قال: تؤكد في إحدى لقاءاتك أن الحداثة ألغت الدلالة.

فإيقاع المقطوعة الشعرية هو جمالها وحقيقتها، لا المعاني المفترض أنها تقول، وكذلك اللوحة تفرض ذاتها علينا بالأحاسيس المرهفة التي تبعثها في نفوسنا ألوانها وأشكالها، هي ذلك وحسب. ولا أعتقد أن فاتحاً يخالفك الرأي، فالمدرسة التجريدية -موندريان وغيره- هي عنده قمة فن الحداثة،<<المرجع ذاته، ص 245 من حديث مع ياسين رفاعية>>|2| ويؤكد موقفه هذا في نص هو واحد من أواخر كتاباته، تقديمه لمعرض ابنه فادي «معهد غوته بدمشق أواسط عام 1994»، حيث يقول عن المدرسة التجريدية التي يسير ابنه على هديها إنها طهارة وصفاء، أفلا يدين انحيازه هذا إلى نظرية الفن للفن ويساعدنا في محاولتنا قراءة بعض لوحاته أو البحث عن دلالاتها؟

قلت: ولكني أضفت في المقابلة ذاتها، على ما أذكر، أن الأزمات التي تتعاقب على العالم العربي، والتي هي أحياناً بمنتهى الخطورة، تجبر كلاً من فنانين، وشعراء مفكرين.. وأناساً عاديين على أن نتخذ منها موقفاً محدداً. والموقف هو حيث الدلالة، والحق أن «فاتحاً» غالباً ما يحاول التأليف بين خطين، كل منهما يشد النص الفني أو الكتابي وغيره إلى جهته.

فالتأليف بينهما هو قمة الفن والكتابة في كل زمان وكل مكان: خط المعنى -الدلالة وخط الصورة- الرؤية، فالصورة عنده دلالة، والولادة يجب أن تتحقق في صورة، «أحب الطهارة في الفن، على أن أبقى جانب الإنسان»<<من حديث مع حسان عزت صفحة 238 من كتاب طارق الشريف المذكور>>|3|«تجريب+إنسان» ذلكم هو تلخيصي لكلام «الفاتح».

قال: تقصد بالدلالة خط الالتزام؟
قلت: أبدأ، فالالتزام هو مرض فن التعبير، أياً كان نوع التعبير، يضعه في ركابِ سياسةٍ تُسَّخِرهُ لأهدافها، فتُصَيِّقْ موقفه وموقعه، وإذا دفعت بالالتزام إلى أقصى حدود قضيت على حرية الإنسان.

يقول «فاتح» في حديثه المذكور مع «حسان عزت» عن الخلق الفني إنه عملية صحو وطاقة متواجدة في الإنسان هي والمعاني الكبرى للوجود -الإخلاص، المحبة، العدالة والوطنية- وعودة إلى الطفولة كما يضيف، يبدو من كلامه أن للطفولة عنده وجهين: الواحد فطري سابق على التجربة أو هو رصيد بدئي، ليس واحداً عند كل الناس «وجود، طاقة ذاتية، لغة حضارية كامنة فيه، أحاسيس عميقة» على حد تعبيره، الوجه الثاني مكتسب هو شخصية الإنسان التي تتكون بين الرابعة والثامنة. <<المرجع المذكور 237-238>>|4|

هذا المخزون الأولي يظهر عند التعامل مع العالم الخارجي، ومنه يستمد الفنان مادته الأولى، ألواناً وأشكالاً وأشياءً، وهو متعدد ومنوع، فمن جهة الأرض التي عاش عليها «فاتح» وعاشها، ولا تزال وستبقى مصدراً من مصادر إلهامه الكثيرة؛ هي والذين يعيشون عليها، «يبدأ الرسم بمحبة الأرض ومن عليها» كما يقول في مذكرات لم تنشر،<<أورده طارق الشريف في كتابه صفحة 51>>|5| أرض الشمال هذه التي احتضنت طفولته وشبابه الأول، صارت بعداً من أبعاد شخصيته، يرتاح إلى ألوانها، صخورها، رياحينها، هي وكل بقعة من بقاع سورية تشبهها، أما أهلها «الوجه الثاني للعالم الخارجي» فتصوراتهم مشكلاتهم، والآلام التي زرعتها في نفوسنا كلنا معاركنا الخاسرة، وهي هَم حياته الأول والأخير، فلوحات النزوح والمقاومة، كما سنرى، والدمار الذي خلفته في ديارنا ونفوسنا معارك فلسطين والحرب الأهلية في لبنان، تحتل لدى «فاتح» حيزاً يكاد يضاهي الحيز للأرض ويزيد، فآخر لوحة وضعها على ما أعلم كانت بعنوان «خُلِقوا ليُصلَبوا».

من أعمال فاتح المدرس

أضف الوجه الثالث وهو رحلاته المستمرة إلى أوروبا وأمريكا وغيرهما، طالباً وفناناً صار عالمياً، فهو دوماً بحاجة إلى صور وأحاسيس ورؤى تُجدد رصيده منها وتزيده ثراءً، والفنان، كما يقول «شاهد على عصره»<<صفحة 238 من كتاب طارق الشريف حديث مع حسان عزت>>|6| «يستمد منه، ويضيف إليه، وإلى التراث الإنساني، أحساسيس جديدة،<<صفحة 243 و244 من حديث مع ياسين رفاعية، المرجع المذكور>>|7| ففي فعل الخلق فائض عن الرصيد هذا، يشير إليه «الفاتح» عندما يقول: «أرسم لأتعرف إلى الموجودات»، <<صفحة 247 و248 من حديث مع محمود شاهين في المرجع المذكور>>|8| فالفنان لا يكرر ولا يقلد بل يُنشئ، إنشاؤه عالم مبتكر بموجوداته وإيحاءاته وصوره، هو غير العالم الذي يعيش فيه وإياه، أو هو في الوقت ذاته شخصي، وإقليمي، وقومي وإنساني، والإنسان بما هو كذلك دوماً حاضر عند «الفاتح»، «المواقف التي قلت منها إنها حدية».

وهذا شأن المفكر والشاعر والمسرحي، وكل من يعالج أمور فن التعبير ومشكلاته فالخلق هو قمة المعرفة.

قال: اعتراضٌ يُنقض اعتراضي السابق: إن للفاتح وجهاً واقعياً يبدو واضحاً في مجموعته القصصية «عود النعنع»<<نشر وزارة الثقافة بدمشق بداية السبعينات>>|9| وأيضاً في لوحاته الكثيرة المكرسة للأرض وفي اللوحات التي صور فيها أناساً عزيزين على قلبه «والدته مثلاً».

قلت: مجموعته القصصية هي ضريبته لليساريين، الذين حاولوا مراراً شده إلى جهتهم، أدّاها وانتهى الأمر، ألم يقل أيضاً في حواره مع «ياسين رفاعية» بعد ذلك بسنوات: «لم أمِل إلى الأمور الحسية».<<صفحة 237 من حديثه مع حسان عزت في كتاب طارق الشريف>>|10|

إن الواقع بعد من أبعاد العمل الفني، حتى لو كان تجريدياً وأيضاً العمل الشعري، أو الفكري، وغيرهما؛ بعدٌ قد يُقَلِصه الفنان إلى حدٍ يحاذي معه درجة الصفر، وقد يُشدِّدْ عليه، فالدراسات التي تُقَدَمْ لطلاب المدارس هي التي أقامت هذه التقسيمات القاطعة واقعي-مثالي، موضوعي-ذاتي...، وبقولٍ أدق فإن فعل الخلق ينطوي على «شخصية الفنان كلها المتعددة الأوجه والأبعاد والمستويات، فكل محاولة لنَقْلِ هذا الفعل إلى مستوى التعبير المنطقي، كثيراً ما توقعنا -وتوقع الفنان- في التناقض، ففاتح يقول: «أرسم لأُدرِك من أنا»، ولكنه يعتبر بالمقابل أن البصر هو المحك الذي يستخدمه للتأكد من دقة الصورة، ويقول في سياق آخر: أرسم من الذاكرة، والذاكرة تُقَرِّب البعيد، وتُبْعِد القريب، ففيها، للون ثقله، وللحزن وزنه..<<تجد الكلمات هذه وغيرها مما ذكرت ومما لم أذكر على الخصوص في الحوارات الثلاثة التي أضافها طارق الشريف إلى كتابه المذكور عن فاتح. ومن المؤسف أن الأستاذ طارق الشريف لم يذكر إلا تاريخاً واحداً وهو المقابلة مع حسان عزت صحيفة تشرين 20/3/82>>|11| ولكن في حوار مع السيدة «هالا محمد نشرته صحيفة الوسط<<صحيفة الوسط العدد 123>>|12| يسلط «الفاتح» سيف غضبه على الذاكرة، على أنها الوزن الميت الذي علينا أن نتخلص منه.

... أن تكون جميلة

إن فن الحداثة، إذ فجر -منذ بداية هذا القرن وحتى أواسطه «بيكاسو، براك..» وعلى الخصوص «المدرسة التجريدية»- اللوحة الكلاسيكية بإلغاء المبادئ التي قامت عليها، وقد ذكرتها لِلتَوْ شقٌ للإبداع الذاتي ولكن أيضاً للنزوات الشخصية، وللرؤى الأكثر غرابة وللاستمالات الأبعد عن المألوف، دروباً لا تحصى، فالإمكانات كلها جائزة التحقيق، شريطة أن تخلق فناً.

قال: وما الفن؟
قلت: ما ابتدع.
قال: تحصيل حاصل..
قلت: ... هو امتحان لعبقريتك.
فالمدارس لن تكون أكثر من خطوط كبرى حولها يلتقي الفنانون بالسرعة التي فيها يتفرقون، فثمة مدرسة أخرى.

قال: أألغينا الطبيعة؟

قلت: صارت بعداً من أبعاد الطبيعة التي تُبدع، ولكن لا تَنسى أن الحرية المطلقة مسؤولية مطلقة، أبوسعك أن تجعل من فوضى عناصر غير متجانسة، وكأنها رشقت بالصدفة على الورقة أو الخشبة، لوحة لها تماسك اللوحة الكلاسيكية، انسجامها، قدرتها على استدعائنا، إغناء حساسيتنا، تطوير ذوقنا؟ أبوسعك أن تخلق جمالية غير الجمالية الكلاسيكية ولها فتنتها وسحرها؟ حذار أن تخفق، فسرعان ما تسقط، كثيرون سقطوا على الطريق، لكأن السقوط في فن الحداثة -وشعرها- هو الأصل والنجاح هو الاستثناء.

من أعمال التشكيلي أدهم اسماعيل

قال: وكيف نقيم الحد بين الجميل وغير الجميل، إذا كنا قد أسقطنا معايير الجمال كلها كما سبق وارتأيت.

قلت: كان «حمّال» أدهم إسماعيل عندما عُرِضَ لأول مرة خريف 1952 في صالة مديرية الآثار والمتاحف في دمشق، بمثابة فضيحة فنية؟ واليوم ألم نضعه مع تراثنا الكلاسيكي؟

تتكون صورة الجميل عند الناس من التفاعل بين الفنان ومجتمعه، بالأحرى بين فعل الفنان ورد فعل مشاهديه، فنقطة التلاقي تدل بشكل عام على درجة حساسية المجتمع ومستواه الذوقي، الأمر الذي لاشك فيه عنده هو أن فن الحداثة، وعلى قصر عمره، بدَّل ذوق الجمهور ورفع درجة حساسيته، وما نزال في منتصف الطريق.

قال: عادة وألفة.

قلت.. وشيء آخر.

وهنا يطرح السؤال الكلاسيكي الذي كان وما يزال وسيبقى الجواب عنه خلافياً: هل المعاني الكبرى للوجود «الحقيقة، العدالة،... الجمال» لدى الإنسان معرفة أم تَعَرُّفْ، تكوين أم كشف؟ لقد غامر «أدهم إسماعيل» عندما وضع لوحة «الحمال» وأيضاً عندما عرضها، ولكنه بعرضها تحدى الفنانين أن يتجاوزوا روتين المحاكاة السهلة، أو يخسروا معركتهم، وهم يتوهمون أنهم يزكونها، قال: يبدو أن المغامرة صارت اليوم هي القاعدة.

قلت: وهو كذلك، فلا توجد مدارس فنية في الوطن العربي، على ما أعلم، ولا حتى بشكل اتجاهات كبرى، يلتقي حولَ كلٍ منها عددٌ من الفنانين، شأن الفن شأن السياسة، أمرٌ واحد طرحه الفنانون عفوياً وقبل كل تفكير: أن تنطق الحداثة من موقع عربي، وكان الفاتح دوماً في طليعة الذين يحاولون تكوين حداثة عربية، يشهَد له الطلاب الذين استمعوا إلى دروسه منذ بداياته الأولى في كلية الفنون كما تعرفوا إليه في معارضه، التي أخذت تتكاثر، وفي كل واحد منها «فاتح» جديد هو الأول وغيره.<<العدد 2 من صحيفة التشكيل السوري تاريخ 2/4/1994 مقالتان الواحدة للفنان رضا حسحس والثانية للناقد سعد القاسم>>|13|
وتبلغ جرأة «الفاتح» في تجاوزه ذاته، تجاوز الكلاسيكيات الأقدم والأحدث، بعد الثمانينات، على ما أعلم، ففي «ملاخانة 1987» حرفياً بيت الملا، والأصح حيث يمارس جماعة «الملا» طقوسهم الصوفية، أشهرها وأروعها رقص الزوار، فحين يبلغ الوجد حدوده القصوى يفقدون هيئاتهم وتبدو رؤوسهم وكأنها تتطاير في الهواء وأيديهم وكأنها تتبعثر هنا وهناك، إنهم أشبه شيء بعواميد حمراء وسوداء ونيلية غير متناسقة، تبدو ساكنة لسرعة دوران كل منها على ذاته، لكأن الشطحات الصوفية صارت شطحات لونية.

قال: لوحة تجريدية؟.

قلت: ولم لا؟.

فالاقتراب من المطلق عنيف، ولكنه أكثر المواقف الإنسانية حرية، وعند الحدود يتوارى الواقع، ويصير المعنى مجموعة رؤى غير واضحة المعالم، تتسارع أمامك؛ فملء الوجود يحاذي العدم، فلا يقال بل يعاش، ويُستعاض عندئذ عن التعبير برموز تدل أكثر مما تُفصِح.

ويقابله مع «بيروت في الليل 1989» ملء الدمار، دمار النفوس والعمران، فالبشر رؤوس سابحة، في فضاء معتم، والمدينة حطام تخيم عليه ظلمتك، لا تدري لونها أخضر أم أسود أم نيلي، وأشكالها طُمِستْ معالمها هي أيضاً، فلا تُميِّز وأنت تتأملها، بين الـ«فوق» والـ«تحت» بين اليمين واليسار.

عالم سديمي، وحدها عارضة بشكل جسر لها صورة ما، ولكنها تسقط في الفراغ عند منتصف المنظر ويخُيِّمْ على الكل ليل كئيب يخترقه ضوء باهت، فالألوان مزيج حائر. 1989 عام بداية نهاية الحرب. في الوسط إلى اليسار بقعةٌ شكلها شكل وجهٍ بعينٍ واحدةٍ، زرقتها سماوية صافية، ولكن تحيط بها حيةٌ رقطاء تبعث القشعريرة في بدنك، -عندما تنتبه إليها-، هل الأمل مهدد؟ ربما، في، أعلى اللوحة شريط عرضاني ضيق في فسحته، بقعٌ بيضاءٌ وزرقاء وذهبية، لكأنها تقطع الليل وتبشر هي أيضاً بمنفرج ما يزال هشاً.

قال: لوحة تجريدية أخرى.

قلت: الحق بجانب «فاتح» عندما يرفض بتصميم حشَرَهُ في مدرسةٍ ما.<<المرجع السابق صفحة 7>>|14| فكل موضوع يستدعي شكله، الذي قد يكون نفياً لكل شكل وألوانه التي هي رموز عليك أن تقرأها.

من أعمال المدرس

إن الفنان الموهوب، وإن كانت لديه ثوابته، فهو يفترض، يتصور، يبحث، يجرب.. ينتقل بسرعة من اتجاه فني لآخر «قد يكون عكس الأول»..
والريشة بيده تنقل رؤاه إلى ورقة أو خشبة أمامه.
ويعتقد أنه أنهى عمله فيتركه لك وها أنت أمام العمل المنجز حائر.
في موقفك من رسالة وُضِعت من أجلك..
كلنا حائر يا صديقي أمام العمل العظيم.

نبحث في لوحة «الرجل الذي ينتظر 1982»، عن إنسان ما أو عن انتظار ما، أمامك رجل بمحاذاته امرأة -امرأة على الأرجح- كل منهما مستقل عن الآخر، وفوقهما إلى الجبهة اليمنى -على الضبط رأس المرأة- بومة سوداء وجهها برتقالي، وعيناها تأزان، وبين الثلاثة أشكال بالنيلي الغامق، على قاعٍ أزرق فاتح مشوب بالأبيض، أشكالٌ من مقاييس مختلفة لا تدري ما هي ولا لماذا وضع واحد ما هنا أو هناك.

هذا على المستوى الأول.

أما المستوى الأعلى فأشبه شيء. بمساء خريفي صاحٍ، شمسه اختفت، مخلفة وراءها ألواناً، ولوينات شتى، يغلب عليها الأحمر البرتقالي مع بقع بيضاء مشوبة بالأحمر البرتقالي، وهو لون بومة أخرى، فوق الأولى تقريباً مباشرة وأكبر منها، هذا بالإضافة إلى لطختين سوداوتين: الواحدة فوق الفاصل بين المستويين، تشبه قنفذاً كبيراً قلب على جنبه، والثانية الأصغر تشبه الحيوانات المائية الملتصقة بتربة البحر.

قال: هذه البعثرة في الأشكال والألوان، مثيلاتها بعدد وفير في لوحات «فاتح»، تقريباً كلها، قل لي مثلاً بربك؛ علام غُرِسَت بعض الرؤوس، في ظهر البراق، والبعض الآخر في بطنه؟

قلت: البعثرة هذه كاملة أو تكاد، في لوحة «الرجل الذي ينتظر»، فلا تدري أبداً مثلاً علام رأس الرجل أسود، ووجه المرأة أبيض، أو لماذا وضعت الشارة الذهبية على وجه البومة الكبرى وفي مواضع أخرى، ولكن أذكر أن عينيك تتعلقان أول ما تعلقان، بالألوان والأشكال، يلي السؤال عن الموضوع ودالة اللوحة، فتوازن الألوان، وانسجام الأشكال فيما بينها، هو الذي يستوقفك، سيان تقيد الفنان بقواعد لعبته أم تحرر منها، فالفوضى لها أيضاً نظامها، تلي مقالة اللوحة، يلي اسمها الذي هو قراءة الفنان للوحته، فربما خطرت كلمة «انتظار»، أو كلمة «الذي ينتظر» لـ«فاتح» وهو يضع اللوحة أو بعد وضعها، وقد يُبَّدل الفنان قراءته فيستنبط اسماً آخراً، كما في لوحة «ليس من مات» التي صارت «بانتظار عودة الميت»، ولم لا نقول «تكوين»؟ ولم لا تبقى اللوحة بدون اسم كما عند فنانين كثر؟ كلها خيارات ممكنة، أو قراءات مفتوحة، قد تستدعي قراءات أخرى، والاسم الذي يضيفه الفنان إلى لوحته ليس أكثر من مؤشر، أو واحدة من قراءات اللوحة الممكنة.

من وجوه فاتح المدرس

وجوه، وجوه، وجوه...
كنا في «مديرية الفنون الجميلة» بين لوحات «للفاتح» نتأملها، واحدة تلو الأخرى، عندما التفتت نحوي صبية معنا وأشارت إلى لوحة صغيرة القياس، علقت بها أنظارنا كلنا؛ آية بين آيات..!
ونقرأ على خشبتها «الحب والصورة 1986» فيزداد إعجابنا، الحب حاضر في العديد من لوحات «فاتح»، إلا أنه قلما كرس له لوحة خاصة على ما أعلم.

فتنتقل اللوحة إلى مكتبي فأسأل الصبية. «أين الحب»؟

- في كل مكان وليس في مكان، قالت إشاراته؟

فتحار.

رجل وامرأة، كلاهما في سن النضج، لكل منهما بعض من جمال، إلا أنك لا تلمح عند أي منهما ما يشي إلى لهفة نحو الآخر.

قال: «وتظن أن للحب نموذجاً واحداً هو عشق المراهق الرومانسي، يفترض تصَنُّعْ الوجد والآهات والكلمات المسحورة، والمواقف العاطفية»؟

قلت: «أهو الحب إذاً، ذكريات تعود كما الصورة في مرآة، عندما تكون قد انتهت الأحلام؟ فالعالم ربيع ولكن في نهاية أوانه؛ ألوانه ما تزال زاهية وأشياؤه أنيسة بهيجة، ولكن في طريقها إلى الأفول».

قال: «لكل عمر حبه».

قلت: «لم لا يكون الاسم، هنا أيضاً، قد ألحق باللوحة عند انتهائها، كما في «الرجل الذي ينتظر».

هذه لوحة «الانتظار»، انتظار أمرٍ مجهولٍ، قد تكون نهاية وضع صعب مثلاً، فالذي ينتظر ينتقل بسرعة من توقع الأحسن «المستوى الأعلى» إلى توقع الأسوأ «المستوى الأدنى»، كما قد تكون «الحب والصورة» لوحة الحب، وقد صارت الغريزة الجسدية مجرد شهوة حيوانية، فالحب صورة ما لزمن ما، يوماً نقدسه، ويوماً يبعث في نفوسنا ابتسامة صغيرة ساخرة. وبالفعل فثمة بعد سافر في اللوحتين، عليك أن تكتشفه بين أسطر اللوحة، إن جاز التعبير، مثلاً المرأة التي جُزَّ شعرُ رأسها «الرجل الذي ينتظر»، أو استُبدل بجزةٍ صغيرة حمراء «المرأة في الحب والصورة»، وبالمقابل، في لوحات أخرى الرجل الذي وضعت على رأسه طاقية المولوية، ومُطَّت فارتفاعها غير معقول، أو في الموقف الحيادي الذي يأخذه الرجل والمرأة كل منهما تجاه الآخر في اللوحتين المذكورتين «الرجل الذي ينتظر» و«الحب والصورة».

من أعمال فاتح المدرس

ولفاتح لوحتان عرضهما في صالة المركز الثقافي الفرنسي في شباط 1994، يبدو منهما أن الرقص الصوفي، وحالات الوجد المفترض أنه يدخل فيها قد مَسَحَتْ وجه كل من المعلمين المولويين، على الخصوص في الفم المفتوح على لا شيء، وبلا سبب. وإلى جانبهما لوحتان، أخريان لمريدين في الطريق إلى هذا الوضع نفسه، ويبلغ من التهكم عند «الفاتح» حداً قلما يبلغه عند أي فنان آخر في لوحتين لـ«الجنرال» كلتيهما من عام 1993 عرض واحدة منهما في صالة أتاسي في خريف 1993، حيث تبدو ابتسامته كأنها تعلن: أنا جميل، أنا عظيم، أنا أمل من استحقاق الألقاب والأوسمة الأرفع، أنا أجدر بتقديركم وحبكم أكثر من أية نجمة سينمائية.

والحق أن فناناً من مستوى «الفاتح» بلغ سن النضج العقلي والفني والعاطفي، تستوقفه عفوياً أكثر ما تستوقفه، لغزية الوجه الإنساني، وبالفعل فإن الإنسان ليس «طبيعياً» في واقعة العادي عندما يلقى الناس ويقيم معهم علاقات عادية، إذ أن حقيقته أو طبيعته الحقة تخفيها عنه، وعنا حجب عدة راكمتها الوراثة والكبت، والصدمات العاطفية والأعراف الاجتماعية والتربية وتجارب الحياة، فعندما يذهب إلى لقائك، يرتب الوجه الذي يريد أن يُظهِرهُ لكَ، والمرأة لا تخرج إلى الشارع، إلا بعد أن تكون قد أضافت الـ«الماكياج» و«البوز»، الذي يعطي لوجهها الشكل الأجمل والأكمل، ولكن عندما تُنزِل قدمها وتقع، تصل أو تكاد تصل إلى الأرض تخاف، تخجل، تصرخ، فتكشف عن بعض من صورتها العادية، أو فلنقل الطبيعية، و«فاتح» كما يبدو من وجوهه، راصد متميز للحظاتٍ كهذه، حيث تسقط بعض من الأقنعة، التي تحجب عن الإنسان المعني ذاته -وعنا- صورة، تسجلها آلياً ذاكرة «فاتح»، وفي الوقت المناسب ينقلها إلى الورقة أو الخشبة أمامه، هذا النهج الذي يعرفه عفوياً الفنان التشكيلي، يدفع به «الفاتح» إلى بعض من حدوده القصوى وينوعه إلى درجة تجعل من وجوهه، فيما لو جمعت متحفاً أكاد أقول بسعة القطر، ويفيض، فيشمل الصور، التي التقطها هنا وهناك أثناء رحلاته الكثيرة.

قال: «أو ليس هذه هي الطريق التي يسلكها علم النفس التحليلي؟ فهو أيضاً يفاجئ الناس، أفراداً في أحلامهم، وزَلاّتِهم اللسانية، وجماعات في أساطيرهم، وحكاياتهم، وأعرافهم، وردود أفعالنا العفوية، كلها تكشف عن رغباتنا وتمنياتنا الدفينة وعن شؤون أخرى كثيرة نخفيها حتى عن أنفسنا، أفلا تعتقد أن «فاتحاً» استخدم طرق علم النفس التحليلي، كما استخدمها على نطاق واسع «سلفادور دالي» هو وتشكيليون أُخُرْ قبله ومعه وبعده إلى اليوم للكشف عن النواة الانفعالية للذات الإنسانية، بما هي كذلك؟

قلت: عفوياً؟

وأذكر بالمناسبة أن «فاتحاً» قال في إحدى أواخر ندواته موضحاً طريقه إلى اللوحة: «إن الصورة التي تفرض ذاتها عليَّ -وهي في الحقيقة رؤية- تستحيل في كياني إلى حالات غريزية –حيوانية-، وفي اللوحة بقعاً متعددة الألوان، والأشكال، قد لا تمت بصلة إلى الحدث الذي أملاه ولا إلى الفكرة التي استدعتها».

وأقول في الندوة ذاتها مستوضحاً لذاتي وللمنتديين وللصالة القول الوجيز الكثيف هذا: «يقصد أن الصورة -الرؤية- في بداياتها عفوية في علمها كأجهزتنا البيولوجية أو الحيوانية، عنيفة كالغرائز الهائجة، وتنتقل إلى اللوحة في شكلها الخام هذا، وكنت أستعيد وأنا أتكلم، العنف الذي كنت أشعر به، كلما مرة أتأمل «ملاخانة» أو «بيروت 1989»، حيث عبثاً تبحث عن لون أو شكل ما له علاقة ببيروت وهي تستيقظ فتجد نفسها أنقاضاً، أو بالمُلاّ وقد بلغ به الرقص حدَّ الوجد.

والأخطر بالمناسبة أن كلام «فاتح» الوجيز هذا هو بين أدق وأعمق ما قرأت عن فعل الخلق الفني، ويذكرني بسعيد عقل الأربعينات، يوم كان يعبر بطريقته عن الفكرة ذاتها، إذ ينسب فعل الخلق هذا إلى اللاشعور، أو يضعه فيه.

ويعقب فنان تشكيلي يشترك في الندوة: «اسم اللوحة زيادة، فسيّان بقي أو حذف».

فأجيب: «قد لا تكون قراءة الفنان للوحته هي الأصح، ولكن من المفيد الاستعانة بها للدخول في عالم اللوحة».

ويضيف أحدهم: «أولا يُستَخْلَص من كلامك أن الفرق هنا شاسع بين اللوحة وأصلها»؟

فأجيب: «الفرق الشاسع هذه هي فسحة الخلق، أو فسحة الممكنات التي ينتقي منها الفنان واحدة، فالفنان الواقعي بالمعنى الدقيق للكلمة، يضيِّق هذه الفسحة إلى حد تكاد تتلاشى معها».

وأضيف الآن: «من المؤكد عندي أن لوحة «جور ساعة 1985» هي محاولة لتحويل مفهوم الظلم إلى صور أو إلى تجسيد هذا المفهوم إذا شئت».

واسأل الآن القارئ: هل عرفت شهيداً أو أكثر من شهداء الانتفاضة، والمقاومة، وقد صاروا بالمئات؟ هل على الأقل رأيت صور عدد منهم، وسمعت أخبارهم وقرأت وقائع استشهاد بعضهم؟. فلا تكاد تخلو صحيفة عربية أو أجنبية، أسبوعية وأحياناً يومية من ذلك. بدون شك، ولكن لا أعتقد أنك انتبهت إلى السؤال الذي طرحه الفاتح على ذاته يوم رسم لوحات «الشهيد» وأمامي منها ثلاثة، واحدة من عام 1967 عام بداية الثورة الفلسطينية، والثانية عام 1981 والثالثة عام 1975 على ليالي الانتفاضة، وفي كل منها عدد من الوجوه، في إحداها يفيض عن العشرة، وأشياء أخرى كثيرة طمس النقل السيء معالمها.

قال: «أثناء الشهادة أم قبلها عندما عرف الشهيد أنه سائر نحو الموت أم بعدها».

قلت: «لا أدري، اللحظات الثلاث على الأرجح، الوجوه أمامي تتأرجح بين الطمأنينة 1967 والشموخ 1981».

كانت قد فُرِضَت على الفاتح في الفترة الزمنية ذاتها وجوه كثيرة، جلها النزوح، والنازحين، والأُسر النازحة، والصبايا النازحات، وأيضاً لبيروت التي تحترق 1986، ولبنان الذي تركزت صورته المقاومة في يدين اثنتين مشدودتين كل منهما على سلاحها ووجوه قررت الصمود حتى الموت أو النصر، «لبنان-المقاومة 1978»... ثمة «للنزوح والمقاومة في الجنوب 1968»، لوحة هائلة شخصها أشبه شيء بعمالقة، أطوالهم متفاوتة، رؤوسهم مغطاة بتيجان المولوية، خطاهم وئيدة، يتحركون كأصنام: لن يبدلوا خط سيرهم مهما كلف الأمر، أمامهم رأس شهيد وضع على خشبة، وفي أعلى مستوى ثانٍ، دقيق العرض، سماؤه زرقاء صافية، وفيه ما يشبه البيوت، خلفوها وراءهم وإليها يعودون...

يؤكد «الفاتح» أنه رأى هذه الوجوه كلها، ونستطيع التأكيد أنه عاشها، عاش مأساة كل منها في جسده، رؤى جمعها في واحدة منها دفع فيها إلى أبعد حد يمكن أن تدفع إليه، هي «المسيح يصل من جديد 1980» التي كشفت عن معناها الذي هو الفداء.

المسيح لفاتح المدرس

وطريق النزوح، تقابلها طريق العودة، تعلنها وتبشر بها «المسيح يعود إلى الناصرة 1980»، التي هي عودة الفلسطيني ومعه السلام إلى أرض آبائه وأجداده<<إن اللوحات التي ذكرت وأذكر وسأذكر، وباستثناء تلك التي حاولت أو أحاول قراءتها، جلها نسخ صغيرة بالأسود والأبيض وردت في كتاب طارق الشريف عن فاتح، وقد أشرت إليه أكثر من مرة. فخطوطها الكبرى غائمة وقد تكون ممحوة. فكل قراءة تتجاوز الموضوع مجازفة، ومع ذلك فلا بد في كل كلام عن فاتح من تبين طريقه إلى مسألة فرضت وتفرض ذاتها عليه وعلينا اليوم وغداً كما بالأمس>>|15|.

تلك صوفية المقاومة والتاريخ، تستجيب لصوفية الأرض التي رافقت «الفاتح» حياته كلها وكرس لها عشرات اللوحات، آخرها معرضان، الواحد في صالة دمشق عام 1993 والثاني عام 1994 في صالة المركز الثقافي الفرنسي، وقد أشرت إليه. وصوفية أبناء الأرض، وأهلها، تجمعهم فيها وتكشف عن معناهم، ومعنى وجودهم، ووجودها والمدة تنبثق من الأرض التي اتحدت بها؛ فلونهما واحد «بني عسلي، لون الشمال، القلمون وأغلب مناطق سورية».

كل منهما «الوالدة والأرض» يبدع ذاته فيجسد الخصب الذي لا حد يحده الأم هي الأرض وغيرها، تفيض عنها فائض الإنسان عن الموجودات التي هو راعيها، وجه نبيل، وقور، مشرق، نوراني، معطاء، يبعث في النفس الهدوء والطمأنينة، «في عصر القلق المعمم»، وبالإنسان «في عالم يدوس الإنسان» تفتح يديها، توجه عينيها نحو السماء، تطلب وتشكر، تعرف أن طلبها لن يرد، وبالفعل فمواسم الخير حولها، رمزها شجرة الزيتون المقدسة المنتشرة في كل مكان، فلن تكف عن الشكر، وتكاد تكون «سيدة جبل الزيتون 1986»، والدة الفنان ذاتها في لقطة أخرى..

صوفية الأم تستدعي صوفية الأسرة «عائلة 1961، عائلة 1970 وغيرهما»، وصوفية الطفولة «أطفال القرية 1977 وغيرها».

... وصوفية الصلاة، جوهرها الاستسلام لرب الإنسان وطلب رحمته، فهو الينبوع الأول لكل خير «ريفيات يذهبن إلى الكنيسة 1962» و«أيقونة 1964».

وتبلغ الصوفيات هذه درجتها القصوى في «الله محبة»، تجسده «الله»، وتجسدها «المحبة»، الطفولة: العضوية، الشفافية، النقاء، ومجانية العطاء بإطلاق المعنى.

... هو الإنسان قبل الشر.

غودو، أم البراق؟

... وجوه، وجوه، وجوه، التقطها «فاتح» شاردة على الطرقات، يبحثون عن مأوى حيث يحطون رحالهم، وعن ملجأ يشعرهم بدفء الإنسان، المرأة ابنها على ظهرها، والرجل على كتفيه زاد العائل ومتاعها، ترافقهم على الدرب أبقارهم ومواشيهم الأخرى، يتوسطهم، يحتويهم، ونحوه يتطلعون شبح النزوح، صنم عملاق ملتف على ذاته أشياؤه فيه، وعلى رأسه تاج المولوية إياه، صنم -شبح- يسكنهم كما تسكن الخطيئة الإنسان «النزوح 1986».

وجوه مما الخوف أو كاد تقاطيعها، وفي أمكنتها سمَّرها فلن تتحرك.

بعضها كتل لونية هي والأشياء سواء بسواء، والبعض الآخر يصغون ولا يسمعون، يتطلعون ولا يرون، وجوه رصفها الفنان هي والعناصر الأخرى بعضها إلى جانب البعض الآخر «وجوه 1986»..

وجوه تتحسس الخطر القادم، فيتوجهون إليه بعيون جامدة، يرونه كما يرى العصفور الباشق الذي سيفترسه، الأم تلف بذراعيها ابنها المراهق، عيناها هي أيضاً حيث الخطر المتوقع والفم يصرح مستغيثاً «ترقب 1986»<<عام 1986 هو واحد من الأعوام الأكثر انتاجاً في حياة فاتح الفنية.

لا أدري إذا كانت اللوحة هذه من عام 1973 أو 1977. فالتاريخان مسجلان عليها ولكن النتيجة واحدة>>|16| الولد، الطفل هو الذي يشعرك بعضة في حلقك، عندما تقع عليه عينيك، وهو يكتشف فجأة أنه وحيد، غريب، مقطوع الصلة بدنيا أضاعها وأضاعته، لا يدري أين يذهب ولا إلى أين يتجه ترى بجانبه ولداً آخراً شريداً واحداً، وجهان قادان لكل حيوية، تكاد لا تميز الواحد عن الآخر لولا أن أحدهما بني اللون والآخر أبيض. تلك، على ما يبدو، سيرة «فتاتان من الجولان»، العالم حولهما عار، باهت، كالح بما ذي الغير حتى بشجيراته الجرداء والمتباعدة بعضها عن البعض الآخر. كل ما في اللوحة يشترك بالشلل الذي أصاب الفتاتين: الخط، الجبل الأسود، الذي يحكم ربط الواحدة بالأخرى طولاً وعرضاً. وأيضاً العارضة التي تفصل الساقين عن بقية الجسد وهي رمز العجز عن الحركة، والمقابل اللبناني لفتاتي الجولان هو «أطفال لبنان 1982»، هنا الألوان، كألوان جبل لبنان قوية وأكثر تنوعاً، فالبني الذي يشكل القاع في اللوحتين بتدرج من الغامق إلى الفاتح فالأبيض، والقماط الذي يربط الطفل الواحد بالآخر ويخفي الساقين أسود فاحم، وحول الطفلين حيوانات هي أيضاً سوداء فاحمة تتعرف بينها إلى حمارين هزيلين، الطفل إلى اليمين خائف: عيناه غائرتان، ويخشى السقوط فتمسك يده بشيء ما تشده حتى التشنج، الولد إلى اليسار منفرج الأسارير، عيناه مفتوحتان على أمر متوقع.

المستوى الأعلى من اللوحة، سماؤه صافية، وكل ما فيه يشير على أنه العالم الذي غادره الطفلان، وهو يتوارى أنظارهما: عرضه الضيق وأناسه، الذين أداروا ظهورهم إلينا وإلى الطفلين، قال: أو الفلسطيني «آدم» هذا الزمان، أُخرج من جنته، وها هي اليوم تتبعه ذرية تكاد تغطي سطح أرض جف ماؤها، تصحر، فنباتها شوكٌ وعوسج.

قلت: «لأن كل إنسان آدم غير الأول وإياه، يستفزه، وها هو في أرض اللعنة. آدم الأول رافقته لعنة، آدمنا لعنات».

قال: «واللبناني»؟

قلت: مهاجر في أرضه وتحت سمائه، يبحث عن لبنان فلا يجده، وينادي فلا يصله إلا صدى صوته، يلم حفنة من ترابه، وها هي، تجد بين أصابعه ثقوباً فتهر هاربة ومع الريح تمضي، ليست «بيروت» وحدها هي التي احترقت، فقلوبنا ما تزال تذوب معها، أما مع «القدس» فقد ذهبت هويتنا.

قال: «وعلام جمع الفاتح هذا البؤس كله؟ أليقذفه في وجهنا صارخاً: تلك حقيقتكم، لم تستحقوا مقدساتكم فانتزعوها منكم».

قلت: ولم لا؟! فأنت تهرب من ذاتك والفنان يعيدك إليها.

أما الشاعر فيناديك: «المواجهة هي بداية البدايات في الطريق إلى العودة والخلاص».

قال: أهو انتظارنا انتظار «غودو» أم توقع براق آخر يحلق بنا ويحط برحاله ورحالنا في قلب القدس؟

قلت: الخيار خيارك وعليك أن تتحمل مسؤوليته!

أجل، أخي «فاتح» غدوت فينا والبراق أيضاً، والهزيمة تكون أول ما تكون في قلب الإنسان، ومنه تنتقل إلى الأرض حيث تصير نزوحاً، وتشرداً، وهجرة وبؤساً، وصحراء لا حد لها. ووراء كل طريق طريق كما تلف الطريق وفوقها وتحتها وبعدها طرق أخرى، والحياة طرق في طريق أو هي طريق مخارجه ومداخله كثيرة، لكن طريق الذهاب تدل على طريق الإياب وطريق الهزيمة على طريق الصمود، وعندما نقرر الصمود، يدلنا «الناصري» على طريق «الناصرة»، فنعود إليها وإلى الخليل وإلى القدس.

أنطون المقدسي

الحياة التشكيلية عدد 55 - 56