دخلتِ بلادي وكانت "عمبتشتي الدنيا ثلج"، تأخرتِ علينا، كما تأخر الثلج، وعدت إلينا كما عاد الثلج ...
أهلاً وسهلاً بك...
يا فيروز
في "شآم المجد"...
اشتاق بردى لصوتك، كاشتياق مجراه لمياهه، التي ستعود مع هذه الثلوج، كما عودَتُكِ....
كَتَبَتْ الشام اسمكِ على "حورها العتيق" وقدمت لك وردة "خبيتيها بكتابك، وزرعتيها عالمخدة" هذه الوردة الدمشقية التي قدَّمَتها لك الشام منذ زمن، تقدمها لك اليوم من جديد....
لو كان بإمكاني لصنعت "طيارة من ورق وخيطان" لتطير في سماء دمشق احتفالاً بقدومك،
ولأحضرت لك "القمر البعيد من السما العالية"....
لو كان بإمكاني لوضعت "قنديل كبير" على جبل قاسيون "ليضوي بيوت كل الناس وعلى ليل كل الناس" ..
ليتني أستطيع أن أحضر لك "الطير اللي طاير على طراف الدني" يرافقه سرب من "طير الوروار" ليرافق موكبك ويرحب بقدومك.
أهلاً بك بالشام
يا فيروز
والشام، كل الشام تقول لك اليوم
"زورينا كل سنة مرة... حرام...".
آخر مرة شاهدت فيها السيدة فيروز كان عام 2003 في مهرجان بيت الدين...
قطعت البطاقة، واستقليت سيارة الأجرة وتوجهت إلى بيروت... طوال الطريق كنت أشعر بأني أكثر واحد يحب فيروز في الدنيا... وكلما اقتربت السيارة من الحدود كان هذا الشعور يزداد، وأصبحت كما الحبيب الذي يسافر للقاء موعود، وكما الابن الذي اشتاق لوالدته بعد سفر طويل، وكما المغترب الذي يجتاحه حنين لوطنه وحارته وضيعته وعريشته ...
بعد ساعات كنت في الفندق، واجتمعت مع عدد من الأصدقاء وانطلقنا في مشوارنا المنتظر إلى بيت الدين الذي أصبح بيت الدنيا مع ست الدنيا فيروز...
هالني منظر الحشود والسيارات الزاحفة إلى ذلك المكان، ومع ذلك بقي شعوري يتملكني، ويزداد كلما اقتربت أكثر من ساحة الاحتفال ...
في الممر الطويل المؤدي إلى ساحة المسرح، كنت أسمع لغات العالم، وكل لهجات الوطن العربي، ورويداً رويداً أصبحنا على مقاعدنا بانتظار اللحظة الموعودة ...
سجادة حمراء في منتصف المنصة، وكراسٍ وآلات موسيقية وإضاءة خافتة تلف المنصة، أما المقاعد فقد امتلأت عن بكرة أبيها، حتى الأسطح المجاورة، والساحات والمقاهي المحيطة بالمسرح ...
امتلأت الكراسي على المنصة بالعازفين وبدأت الإضاءة تشتد، وساد سكون كامل ... وكأن المكان ليس فيه إلاّ أنا ....
وفجأة، تتوهج المنصة وتظهر فيروز، بفستانها الأبيض، رافعة يدها، حانية رأسها، بهدوئها، وخجلها، ووقفتها المحببة....
إنها هي
فيروز.
أما الحضور، فقد التحم فجأة، كل أياديه أصبحت وكأنها يدٌ واحدة، تصفق وتلوح وترتفع تحيةً للسيدة الحبيبة فيروز ...
لم أشعر إلاّ وأنا أرفع يدي وكأني أريد أن أقول شيئاً ... إلاّ أن غصة اجتاحتني ودمعة كادت أن تغافلني، وتنهمر ...
وما أن بدأت بالغناء، بالشدو، بالترتيل، حتى همد الجميع... ولكن هنا... شعرت بأن حبي وشوقي لهذه السيدة ما هو إلاّ شعور متواضع أمام شعور هذه الآلاف التي توحدت فجأة أمام هذه السيدة العظيمة، التي استطاعت بصدقها، بعفويتها، بطهرها، بالتزامها، بصوتها أن توّحد ما عجز عن توحيده التاريخ والزمان....
إنها فيروز التي غنت للفرح وللحزن، للأمل والانتصار...
إنها فيروز التي غنت لجنوب وطنها كما شرقه، غنت لدمشق كما جبل شيخه، كما عمان، كما بغداد والكويت....
إنها فيروز التي غنت للطفل في المغارة كما غنت مكة وأهلها الطيبين...
إنها فيروز التي غنت لجبران ومحبته، كما غنت للقدس العتيقة ولغضبنا الساطع...
إنها فيروز... التي أصبحت جزءاً من ضميرنا .. من وجداننا .. من شعورنا ولا شعورنا.
إنها باختصار
فيـــــــــــــــروز ...
آ.سلامة