البادية السورية في العصر الحجري القديم

29/تموز/2007

إن المعلومات المتوفرة عن استيطان البادية السورية، بمختلف أجزائها، لازالت قليلة نسبياً، لكن الدراسات تشير إلى أن وصول الإنسان الأول إلى تلك المناطق قد تأخر بالمقارنة مع المناطق الغربية الجبلية والساحلية من بلاد الشام. وقد أصبحنا نعلم أن الإنسان قد دخل إلى تلك المناطق في مطلع العصر الحجري القديم، منذ حوالي مليون سنة قادماً من الجنوب، من القارة الإفريقية، سالكاً الممرات الطبيعية على امتداد سواحل المتوسط والانهدام السوري الإفريقي. وقد وجدت آثار الإنسان الباكرة في العديد من المواقع المنتشرة على طول سواحل بلاد الشام المتوسطية أو في أحواض أنهار الأردن والليطاني والعاصي.

أقام هذا الإنسان، الذي كان من النوع المسمى الهومو أركتوس، زمناً طويلاً في الأجزاء الغربية من بلاد الشام قبل أن يتحرك نحو الشرق باتجاه المناطق الصحراوية، الفقيرة حالياً لكنها امتلكت في عصور ما قبل التاريخ كل مقومات الحياة الضرورية من ماء وكلأ وطرائد، وكانت فيها خامات رائعة من أحجار الصوان، استخدمت في صنع أسلحة وأدوات مجتمعات العصر الحجري القديم.

إن منطقة الكوم إلى الشمال من تدمر، ومنطقة تدمر نفسها، هي التي أعطت حتى الآن المعلومات الأهم عن استيطان الإنسان في البادية في العصور الحجرية. ونعتقد أن تقديم صورة عن نتائج الأبحاث الجارية في حوضة الكوم بشكل خاص، كاف لإعطاء الفكرة الضرورية حول الموضوع الذي نعالجه.

حوضة الكوم وتطور البحث فيها:
تقع حوضة الكوم في قلب بادية بلاد الشام وفي منتصف الطريق بين الرقة وتدمر، وهي تمتد من الغرب إلى الشرق بطول حوالي /70/كم ومن الشمال إلى الجنوب بعرض حوالي /30/كم. لقد تواردت معلومات متناثرة عن أدوات تعود إلى العصور الحجرية وجدت في هذه الحوضة من قبل بعض المهتمين بالأبحاث التاريخية أو غيرهم منذ مطلع القرن الحالي. لكن البحث العلمي والمنهجي الأول جرى في هذه المنطقة منذ منتصف الستينات (1965) على يد الباحث الهولندي موريس فان لون (M. Van LOON) الذي كان أول من لفت الأنظار إلى أهمية التل الأثري الكبير في قرية الكوم نفسها، (تل الكوم). ثم قام الباحث الأمريكي رودي دورنمان (R.Dornemann) بأول سبر كبير، ومتدرج من رأس هذا التل إلى قاعدته، حيث كشف عن آثار مستوطنة زراعية تعود إلى العصر الحجري الحديث، أي إلى الألف السابع قبل الميلاد. ولكن لم تتوفر لدينا معلومات عن العصر الحجري القديم إلا عندما قامت بعثة يابانية بمسح في مختلف مناطق بلاد الشام وكشفت عن العديد من المواقع العائدة للعصر الحجري القديم في البادية. إضافة لمعلومات بعض الروس والأمريكيين. ومنذ عام 1978 تعمل في حوضة الكوم بعثة فرنسية دائمة بإدارة الأستاذ جاك كوفان تشارك هذه البعثة إلى جانب طواقم عمل فرنسية وإسبانية وسويسرية وسورية تتوزع العمل في مواقع مختلفة تتكامل في معطياتها الأثرية والجيولوجية والبالنتولوجية وغيرها.

لقد بدأ العمل في حوضة الكوم مقتصراً على مواقع العصر الحجري الحديث ثم ما لبث البحث أن أثبت الأهمية الفائقة للعصر الحجري القديم، وهكذا حظيت مواقع هذا العصر أيضاً بالاهتمام المطلوب. إن التنسيق العلمي الدقيق بين مختلف طواقم البحث العاملة في الحوضة أدى إلى إبراز صورة متكاملة لهذه المنطقة على امتداد عصور ما قبل التاريخ، وإذا كنا في هذا المكان نقتصر على عرض مرحلة العصر الحجري القديم فلكي نترك لغيرنا من الدارسين هنا مجال الحديث عن عصور أخرى مكمِّلة.

الإطار الرباعي للحوضة:
تعود أول المعلومات عن الزمن الرابع في حوضة الكوم للمسح الجيومورفولوجي الشامل الذي أجراه الخبراء السوريون والروس في سورية. وقد تطرق هؤلاء لذكر التشكلات الجيولوجية الرباعية في البادية ولكن هذه التشكلات لم تحظ بالاهتمام الكافي وبقي موضوعها غامضاً وعرضها جزئياً وفيه الكثير من النواقص. إن المسح الجيومورفولوجي الدقيق الأول حصل في هذه الحوضة في عام 1980، واستناداً على المعلومات التي أتت إثر هذه المسح، الذي جرى بالتعاون بين مختصين في علم الجيومورفولوجيا ومختصين في علم ما قبل التاريخ، أصبحنا نعرف الخطوط العامة للواقع البيئي والجيولوجي الرباعي في هذه المنطقة.

إن حوضة الكوم منخفض شبه ـ صحراوي تحيط به من كل جهاته حدود واضحة، هي مجموعة من التلال الطبيعية والجبال والمرتفعات البسيطة الواقعة إلى الشمال، بينهما ضهر الأصفر وضهر المملحة، العائدة لعصر الباليوجين "إيوسين وأوليغوسين". وفي الجنوب تحد الحوضة جبال منشار والمقيبرة بينما تقوم جبال البشري إلى الشرق، وهي جبال تعود إلى عصر الكريتاسي الأعلى. تخترق الحوضة مجموعة من الأودية الرباعية المنشأ أهمها وادي قدير شمالاً ووادي فتايا شرقاً ووادي السوق جنوباً ووديان عرقبان والفيضة غرباً، وهي وديان تجري في اتجاهات مختلفة. بعضها يصب في السفوح المحيطة أو يستمر هابطاً حتى وادي نهر الفرات، وبعضها ينحدر إلى سبخة الكوم الرئيسية مشكلاً بحيرة كبيرة تجف مياهها في الصيف وتظهر على سطحها طبقة بيضاء، مدهشة، من الملح. إن من أهم ميزات حوضة الكوم هو كثافة الينابيع الارتوازية التي كانت أكبر عامل جذب إنسان العصور الحجرية. هذه الينابيع بقيت نشيطة بقوة، وتركت في الزمن الرابع توضعات رباعية اختلطت مع آثار الاستيطان التي قامت حولها وبلغت سماكاتها عشرات الأمتار أحياناً.

إن الواقع الجيومورفولوجي لحوضة الكوم فيه شيء من التعقيد، فالتشكلات الرباعية هي أوسع انتشاراً وأكثر تداخلاً مما ظهر في السابق. كما أن نشاط عوامل الحت والتعرية وتأثير التبدلات المناخية وتقلب العصور المطيرة والفاصلة أدى إلى تشكلات جيولوجية شديدة التنوع، بينها البحيرات والسبخات والهضاب، (هضبة القدير). وأخيراً وليس آخراً هناك مستويات مختلفة للمصاطب النهرية التي يمكن إيجازها كالتالي:
ـ مصاطب مرتفعة قديمة جداً تعود لصعر البليستوسين الأدنى "QIV" ولكنها لا تتضمن أية أدوات حجرية.
ـ مصاطب تعود للقسم الأول من عصر البليستوسين الأوسط "QIII" وهي تتضمن القليل من الأدوات الحجرية، وهي أقدم أدوات وجدت في حوضة الكوم حتى الآن.
ـ مصاطب تعود للقسم الثاني من عصر البليستوسين الأوسط "QII" وعليها تقوم معظم المواقع الأثرية العائدة للعصر الآشولي.
ـ مصاطب غنية تعود لعصر البليستوسين الأعلى "QI" وفيها الكثير من الأدوات الحجرية العائدة للعصر الحجري القديم الأوسط أي اللفلوازي الموستيري.
ـ مصاطب حديثة تعود إلى القسم الثاني من الرباعي الهولوسن، "Q0" وتتضمن آثار العصر الحجري الحديث.
استيطان الإنسان في الحوضة:
لقد كشف حتى الآن عن أكثر من /150/ موقعاً تحوي آثار استيطان تعود إلى العصر الحجري القديم كما أن احتمال العثور على مواقع جديدة قائم دائماً لأن الأبحاث جارية والنتائج تتكامل وتتجدد باستمرار. تغطي هذه المواقع فترة طويلة تمتد بين العصر الحجري القديم الأدنى، الثالث، المسمى الآشولي الأعلى أي منذ حوالي /300.000/ سنة تقريباً وحتى نهاية العصر الحجري القديم الأعلى منذ حوالي /15.000/ سنة ق.م. وهي مواقع ليست متساوية، لا في أشكالها ولا حجومها ولا آثارها ولا في أهميتها. بعضها محطات مؤقتة، موسمية، محدودة الاتساع والمعطيات. وبعضها الآخر معسكرات استيطان دائمة ومستمرة وغنية. ويمكن أن نحدد على الأقل أربعة أنماط من المستوطنات الباليوليتية في هذه الحوضة هي:
ـ مشاغل، ضخمة وغنية، لطرق الصوان تنشر على التلال المحيطة حيث تتواجد الخامات الحجرية التي استخدمت في تصنيع الأسلحة والأدوات.
ـ معسكرات سطحية انتشرت على السفوح والمرتفعات وعلى امتداد الوديان واختلطت فيها آثار من عصور مختلفة.
ـ مواقع تقوم ضمن الطبقات الرباعية وبخاصة في مصاطب الأنهار والوديان التي جرفتها المياه ووضّعتها مع مرور الزمن.
ـ مواقع ضخمة وبالغة القيمة العلمية، تتوضع قرب الينابيع القديمة التي سكنت بجوارها الجماعات البشرية الأولى. هذه المواقع هي الأهم ومن طبقاتها الأثرية الغنية حصلنا على المعطيات الحضارية والبالنتولوجية والجيولوجية التي تساعدنا في فهم بيئة وتاريخ هؤلاء الناس.

إن سكان البادية الحاليين في بحث مستمر عن المياه وانطلاقاً من حسهم السليم في تتبع صخور الترافرتين، وهي بقايا ينابيع قديمة جفت، فهم يحفرون بعمق أمتار عديدة للوصول إلى المياه الجوفية لكنهم بنفس الوقت يكشفون الطبقات الأثرية التي طمرها الزمن، مع أنهم للأسف يخربون أثناء حفرهم أجزاء هامة من تلك الطبقات.

إن الدراسات والأبحاث تتمركز الآن حول الينابيع القديمة. بعضها تنقيبات دائمة وبعضها الآخر تحريات وأسبار محدودة. وهكذا يجري التنقيب الآن بشكل منتظم في مواقع الندوية وأم التلال بينما أجريت أسبار في مواقع الهمل والجوال والقدير. وتكتمل هذه الأعمال من خلال عمليات مسح واسعة تشمل التعرف على مصادر خامات الصوان في تلك المنطقة التي تقدم فرصة علمية استثنائية، في إمكانية إجراء دراسة متكاملة في إطار جغرافي واسع، تتعاون فيها علوم منوعة بدونها يصعب فهم إنسان ما قبل التاريخ في إطاره البيئي القديم، الذي تبدل مراراً كما تبدلت مواقع ذلك الإنسان وحضارته. وهكذا فقد استطاعت طواقم البحث المنوعة، والمتضافرة علمياًً، تحديد الخطوط الرئيسية لاستيطان منطقة الكوم والبادية في العصر الحجري القديم.

مراحل استيطان حوضة الكوم:
لقد أقام الإنسان، كما أشرنا، في حوضة الكوم على امتداد جزء طويل من العصر الحجري القديم. ولكن مناطق إقامة ذلك الإنسان وآثاره لم تكن واحدة في مختلف مراحل ذلك العصر. وهكذا فقد مر الاستيطان الإنساني بفترات مد وجذر، كما تنوعت الأسلحة والأدوات الحجرية من فترة إلى أخرى.
ولابد أن عوامل كثيرة لعبت دورها في هذه التبدلات، بينها عوامل مناخية وبيئية وأخرى حضارية واجتماعية، دون أن نتمكن من تحديد الدور الحقيقي لكل منها، ولكننا نستطيع عرض تطور الاستيطان هنا وتبدله عبر الزمان والمكان، من خلال مراحل أربع على الأقل، أسميناها: الباكرة فالوسطى فالحديثة ثم الأخيرة.

المرحلة الباكرة (القديمة):
بدأت هذه المرحلة مع وصول إنسان الهوموأركتوس إلى البادية في العصر الآشولي الحديث منذ حوالي /300.000/ سنة. وتمثلها المواقع الآشولية، أو المواقع العائدة للعصر الحجري القديم الأدنى، وأهمها مواقع أم التلال والندوية، والقدير /23/ والجوال /ب/ ووادي السوق. ولكن أكثر المعلومات اكتمالاً أتت من موقع الندوية (عين عسكر) الذي تبين أنه يشكل بقايا معسكر دائم بجوار نبع قديم بقيت طبقاته الأثرية والجيولوجية سليمة. وكشفت منها حتى الآن عدة مستويات بلغت سماكتها أكثر من خمسة أمتار، ميز فيها آثار عدة أرضيات سكن قديم تمتد من العصر الآشولي الحديث، وربما الأوسط، وحتى العصر الآشولي الأخير. كما أعطت مواسم التنقيب الأخيرة دلائل طبقات أثرية تعود إلى الحضارات اليبرودية والهملية واللفلوازية ـ الموستيرية والكبارية. وهكذا يمكن أن نقول بأن الموقع يقدم سجلاً متصلاً للعصر الحجري القديم بأكمله، تتلاقى فيه الأدوات الحجرية وبخاصة الفؤوس اليدوية المتطورة الأشكال والتقنيات، مع المعطيات النباتية والحيوانية التي لازالت قيد الدراسة والتحليل والتي أتت بشكل خاص من الطبقات التي تمثل أرضيات سكن غير مخربة وهي:
ـ الطبقة السابعة: وهي الأعمق ولا نعرف سماكتها الحقيقية حتى الآن وهي غنية جداً بالأدوات الحجرية، الفؤوس اليدوية، العائدة إلى بداية العصر الآشولي الأعلى وفيها بقايا حيوانية كثيرة.

ـ الطبقة الخامسة / السادسة: وهي طبقة غير مستقرة وغير واضحة تماماً يتخللها انجراف وانزلاق أدواتها الحجرية تعود للعصر الآشولي الأعلى وتمثل مرحلة أكثر تطوراً من أدوات الطبقة السابعة.
ـ الطبقة الأولى: وهي متجانسة جداً وتنتشر على مساحة واسعة من الموقع وعلى سماكات مختلفة تحت السطح، أدواتها الحجرية تعود إلى العصر الآشولي الأخير، وفيها بقايا عظام حيوانية هامة.
وفي موقع آشولي آخر هو الجوّال بـ (عين الزرقا) على ضفة وادي فتايا، كشف بئر للبدو عن مقطع جيولوجي ـ أثري هام، وأدى السبر والتدقيق إلى تحديد سوية أثرية تعود إلى العصر الآشولي الأعلى المتطور، منذ حوالي /250.000/ سنة، تميزت بأدواتها الحجرية، فؤوسها اليدوية الغنية، التي تكمل صورة العصر الآشولي في البادية. كما دلت التوضعات الجيولوجية على تبدلات مناخية قاسية، بين عصور شديدة البرد وصلت حد العصور الجليدية، وعصور أخرى دافئة، فصلت بين العصور الباردة. كما أن سبراً آخر في موقع القدير 23، على ضفة وادي القدير، كشف عن غزارة استثنائية لمصنع للفؤوس اليدوية التي ظهرت بالمئات، من مترين مربعين فقط، ولابد من دراسات مستقبلية لتحديد طبيعة هذا الموقع ومعطياته.

إن طبيعة انتشار المواقع العائدة لهذه المرحلة الآشولية تدل على أن الإنسان أقام بشكل خاص في الوديان الرئيسية، الأنهار الموسمية، مثل الفتايا والقدير والسوق. ولكنه بنفس الوقت استوطن بجوار ينابيع المياه كما دل على ذلك موقع الندوية، كل ذلك يشير إلى سيادة مناخ ماطر رطب سمح بالسكن أيضاً خارج مناطق المياه الدائمة.

المرحلة الوسطى (الانتقالية):
وهي مرحلة الانتقال من العصر الحجري القديم الأدنى، أي العصر الآشولي وعصر إنسان الهوموأركتوس، إلى العصر الحجري القديم الأوسط أي العصر اللفلوازي ـ الموستيري وعصر إنسان النياندرتال.
تقع هذه المرحلة بين حوالي /150.000ـ100.000/ سنة خلت. وهي تمثل عصراً معقداً جداً تشابكت فيه الحضارات والصناعات الحجرية، وتعايشت في نفس المناطق الجغرافية جماعات بشرية صنعت أنواعاً مختلفة جداً من الأسلحة والأدوات، وتعتبر منطقة الكوم من أغنى وأفضل المناطق في الشرق القديم بآثار هذه المرحلة، فقد وجدت في مواقع عديدة صناعات حجرية شديدة الاختلاف عن بعضها من الناحية التقنية والنمطية، ولكنها متجاورة ومتعاصرة زمنياً، وأهم هذه الصناعات ما نسميه باليبرودي، وهو نمط من الأدوات الحجرية كشف لأول مرة منذ الثلاثينات في يبرود، يعتمد على استخدام المقاحف الغليظة والقصيرة ذات التشذيب المتدرج العالي. لقد كشف عن عدة مواقع يبرودية في منطقة الكوم مما دل على أن هؤلاء اليبروديين قد انتشروا على منطقة واسعة من المشرق، ومن الأردن جنوباً مروراً بفلسطين ولبنان وحتى البادية السورية شمالاً. إلى جانب اليبروديين عاشت جماعات بشرية استخدمت الحراب الطويلة أطلقنا عليها اسم الحراب الهملية، نسبة إلى موقع بئر الهمل، حيث وجدت لأول مرة وهي أدوات صيد شديدة الفعالية ظن سابقاً أنها لم تصنع إلا على يد الإنسان العاقل ولكن اتضح أنها كانت معروفة قبل ذلك الإنسان بزمن طويل، مما يؤكد قدم تقنية تصنيع الحراب في المشرق. إن مكتشفات موقع بئر الهمل، والحراب الهملية، أجبرت الباحثين على إعادة النظر في دراسة تطور تقنيات تصنيع الأدوات الحجرية عبر العصور وطرحت أمامهم تحديات جديدة نأمل أن نستطيع مواجهتها في المستقبل. إن موقع بئر الهمل، العصي على التنقيب الآن، والذي بلغت سماكة طبقاته الأثرية العشرين متراً، قد أعطى أول تأريخ، بالطرق المخبرية المطلقة، معروف من سورية حتى الآن. فقد أرخت فيه طبقات المرحلة الانتقالية التي ضمت الآثار اليبرودية بين حوالي 156.000ـ100.000 سنة خلت وذلك من خلال تطبيق طريقة اليورانيوم ـ ثوريوم في التأريخ. إضافة إلى ما ذكر فقد أتت آثار هذه المرحلة من مواقع أم التلال والجوّال التي قدمت دلائل ناطقة للصناعات الحجرية اليبرودية والهملية والتي لازالت قيد الدرس حتى الآن. إن تمركز هذه المواقع بجوار ينابيع المياه يدل على سيادة عصر مناخي جاف دفع الناس للارتباط بمراكز المياه الدائمة بعد أن جفت الأنهار والوديان الموسمية.

المرحلة الحديثة (النياندرتالية):
وهي مرحلة العصر الحجري القديم الأوسط، التي تراجع فيها إنسان الهومو-أركتوس وحل مكانه إنسان النياندرتال، وبكلمة أخرى تراجعت فيها بالكامل الصناعات الحجرية الآشولية التي تعتمد على استخدام الأدوات الثقيلة وأهمها الفؤوس، لتحل مكانها الصناعات الحجرية اللفلوازية الموستيرية التي تستخدم الأدوات الثقيلة وبخاصة المقاحف. بدأت هذه المرحلة منذ حوالي /100.000/ سنة واستمرت حتى حوالي /40.000/ سنة. مرحلة العصر الحجري القديم الأوسط، مواقعها كثيرة ومنوعة ويمكن أن نميز فيها مرحلتين. المرحلة الأولى، الأقدم، انتشرت فيها الجماعات البشرية النياندرتالية في أحواض الوديان الكبرى في الحوضة وضمت أدوات حجرية متوسطة المستوى التقني، وجدت ضمن الترسبات النهرية لوديان الفيضة والقدير الفتايا. في المرحلة الثانية الأحدث، أصبحت هذه الأدوات الحجرية أكثر تطوراً بينها رؤوس حراب دقيقة ومكاشط وسكاكين ونصال حضِّرت بعناية، وجدت بخاصة بجوار الينابيع ومراكز المياه الدائمة.

لقد غطى وجود الإنسان في المرحلة الحديثة كامل حوضة الكوم، الوديان والسفوح والينابيع والهضاب، فكان هذا الاستيطان هو الأغزر من نوعه حتى الآن ويدل على تزايد عدد الناس وتطور قدراتهم التقنية التي استفادت من مناخ أفضل وأمطار أغزر من العصر السابق.

المرحلة الأخيرة (مرحلة الإنسان العاقل):
بدأت منذ حوالي /40.000/ سنة واستمرت حتى حوالي /15000/ سنة وفيها ظهر الإنسان العاقل بعد أن اختفى إنسان المرحلة السابقة النياندرتال، وتتوافق مع العصر الحجري القديم الأعلى. وبشكل عام فإن هذه المرحلة فقيرة وغامضة في المشرق كله، مما يثير جدلاً لم يهدأ بين الباحثين. وفي سورية مر زمن طويل اقتصرت فيها آثار هذه المرحلة على الملجأ الثالث في يبرود، ولكن منطقة الكوم قدمت اكتشافات حديثة من هذا العصر فاجأت الجميع. فقد عثر في موقع أم التلال على الآثار المنسوبة للحضارة الأورينياسية والكبارية ضمن طبقات جيولوجية سليمة أرخّت بالطرق الحديثة على حوالي /30.000/ سنة خلت، وهكذا أصبح هذا الموقع هو الثاني، بعد يبرود، وأحد أندر المواقع من هذا العصر ودل بدوره على أن سورية والبادية، لم تكونا خاويتين إلى الدرجة التي ظنها البعض. لقد كشفت آثار هذه المرحلة أيضاً على السطوح في هضبة القدير وفي الجبال (ملاجئ) وهي تكمل الصورة وتبرز دور بادية الشام في هذا العصر الغامض ولابد أن الأبحاث الجارية سوف توضح العديد من الأمور التي لا نود التسرع في الحكم حولها قبل أن تتضح نتائج هذه الأبحاث.

خاتمة:
حاولنا أن نبين في هذا العرض كيف أن منطقة الكوم تشكل نموذجاً متكاملاً لدراسة عملية استيطان بادية بلاد الشام على امتداد الجزء الأكبر من عصور ما قبل التاريخ أي العصر الحجري القديم، الباليوليت، ومع أنه جرت دراسات في أجزاء أخرى من هذه البادية فإنها لم تكن بدرجة أهمية دراسات الكوم ولكنها بنفس الوقت تؤكد نتائج أبحاث الكوم وتوضح بعضها. لقد أعطت منطقة تدمر دلائل استيطان متزامن ومتشابه مع الكوم في الشكل وفي الجوهر، وعثر على آثار العصر الآشولي في مواقع بئر السكري جنوب مدينة تدمر وفي حوض الدوارة شمالاً. وأتت آثار هامة للعصر الحجري القديم الأوسط، أي اللفلوازي الموستيري، من العديد من المواقع المكشوفة والمغاور وعلى رأسها مغارة جرف العجلة وكهف الدوارة في السلسلة الجبلية التدمرية الشمالية. كما وجدت آثار العصر الحجري القديم الأعلى، الأورينياسية، ضمن الطبقات المتحجرة لنبع أفقا في مدينة تدمر نفسها، وآثار العصر الكباري في أرك إلى الشمال من تدمر. كل ذلك يشير إلى أن البادية السورية شكلت وعاءً جغرافياً واحداً وجد فيه سكانها الأوائل كل مقومات العيش والتطور على امتداد العصور الحجرية.


سلطان محيسن
الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996
وزارة الثقافة|دمشق