تطور التقنيات المعمارية في تدمر


الآغورا في تدمر

لقد أصبحت بعض المباني من تدمر كمعبد بل والساحة العامة وصفوف الأعمدة الضخمة والقبور الغنية بالزخارف، السمة المميزة للهندسة المعمارية الرومانية. فقد قامت تدمر على مفترق طرق الحضارات لزمن طويل، مما مكنها من الاحتفاظ بتقنياتها المعمارية الخاصة. ولقد كان لبناء معبد بل تأثير حاسم في تطور أعمال البناء المحلية. وأجريت أبحاث تفصيلية حول المدينة وأبنيتها تركزت غالباً على النواحي التاريخية والفنية. ولكن مما يؤسف له أن دراسات قليلة اهتمت بالتقنيات المعمارية. إلا أن البحث المعمق في هذا الموضوع أدى إلى تسليط الأضواء على أدلة جديدة.

إن تصميم البناء الأكثر قدماً والمكتشف في تدمر هو المدفن العائد إلى القرن الثاني قبل الميلاد، والذي عثر عليه في حرم معبد بعلشمين، فكان تصميمه بسيطاً يعتمد على اللبن، لكن السمة الهامة فيه تمثلت في استخدام التصميم القوسي. وحتى نهاية القرن الأول قبل الميلاد، كانت الحجارة ذات السطح الخشن واللبن المواد الأساسية في تصميم الأقداس والمعابد والمباني الأخرى. بينما استخدم الحجر الكلسي الطري ذو اللون الأبيض المصفر للأجزاء المزخرفة فقط ، واستخرج هذا الحجر من مقالع غير بعيدة عن تدمر. ومن المؤكد أن البيوت العائدة لتلك المرحلة كانت ذات جدران من اللبن المزّود بالمونة. ويمكننا أن نفترض أنها كانت ذات سقوف مسطحة بسيطة أو مقببة مبنية باللبن أو ذات بنية خشبية متلاصقة. فهناك بقايا بيت عائد لمرحلة أحدث، فيه غرفة مربعة ذات زوايا مفتوحة تدعم هذه الفكرة. كما أن هناك الكثير من الأمثلة ذات التصاميم القوسية تؤكد أن هذا التصميم كان معروفاً جيداً مع استنباطات متكررة في القرن الأول الميلادي بتدمر. ويثبت مقياس المدفن البرجي في مدفن "عتنتان" القدرات الفائقة للمعماريين المحليين في ذلك الوقت.
باستثناء المهندسين المعماريين والبنائين المبدعين الذين عملوا في تصميم معبد بل فقد كانت هناك حاجة إلى حجر ذي نوعية أفضل لتنفيذ ذلك المشروع الضخم، مما أدى إلى البحث مجدداً عن حجر كلسي أبيض قاسي، ومكنت طبيعة مكامن هذا الحجر من تقطيعه إلى كتل وإلى ألواح رقيقة كبيرة. فكان ذلك عاملاً مهماً للتحسينات اللاحقة بتدمر. وبعيداً عن أية مبالغة يمكننا أن نقرر أن الفضل في تطور العمارة التدمرية يعود إلى الفهم التام لخواص هذا الحجر. وقد استخدم في البداية حجر كلسي قاس لأغراض خاصة فقط مثل بناء المعابد أو لاحتياجات بنيوية كألواح الأسقف. ثم أصبح في القرون اللاحقة المادة الأساسية للبناء.

مر تطور تقنيات البناء بتدمر بمراحل قليلة. فيمكننا أن نلاحظ تقدماً سريعاً في تغير البناء المرتبط بأنظمة تصميم المدافن البرجية. فقد كانت جدران الأوابد الأقدم مبنية بحجارة غير مكسوة، بينما كانت المتأخرة منها العائدة لنهاية القرن الأول الميلادي مبنية بحجارة غشيمة، فنتج عن ذلك جدران خارجية شاقولية تماماً. لكن العامل الأكثر أهمية تمثل باستعمال ألواح الحجر الكلسي القاسي للأسقف.

في الأبراج المبكرة كانت الأحجار قصيرة ـ إلى حد ما ـ لم تتجاوز 1.5 متراً، مما جعل الحاجة ماسة لدعمها. في الحالات اللاحقة (المتأخرة) وصل أطول الألواح حتى 3 متر، مما سمح بجعل الحُجَرات أكثر اتساعاً و ساعد على التخلي عن عملية دعم الألواح القصيرة. واتضح ذلك في التصميم الأفقي للجدران الداخلية بجلاء. وإثر اتباع التقنيات الجديدة في البناء على شكل المدافن البرجية وحسّن من نظام بنائها.

كان التغير الأكثر إثارة للدهشة في تقنيات البناء التدمرية متمثلاً باستعمال الألواح الرقيقة في التصميم الجداري. فقد عدّل تصميم الجدران بدءاً من منتصف القرن الثاني الميلادي، وظهرت توجهات لزيادة أبعاد الكتل عن البناء بحجارة غشيمة. ويبدو أنه سيطرت على قياساتها فكرة الحفاظ على الوزن ذاته للكتل الإفرادية، فزاد طولها وعرضها بينما تقلصت سماكتها. أدى التصميم المعتمد على كتل أكبر وسماكة أقل إلى اعتماد التقنية الجديدة. فواجهات المسرح تتألف من مداميك كتل حجرية متوضعة بشكل مزدوج لزيادة السماكة، وتفصلها عن بعضها طبقة رأسية. ومن المرجح أن هذا النموذج من التصميم المعروف جيداً في اليونان وآسيا الصغرى قد تم تبنيه في تدمر للمرة الأولى. وفي التوسع اللاحق للجدار الشمالي من المسرح اتخذ قرار التحسين باستعمال ملاط للبطانة بين الكتل المتوازية. لذلك غدا الجدار أقل سماكة بحوالي 20 سم. لكن النقطة الحاسمة في تطور فن البناء بتدمر تمثلت في الاستغناء عن المداميك الرأسية. فتألف الجدار في هذا النظام الجديد من ألواح طويلة /1×3.5×0.35/ توضعت بشكل شاقولي على الحافة والتحمت مع بعضها بملاط البطانة. وكانت الجدران بسماكة 70سم ولم يُستعمل فيها التعشيق أو التثبيت من أجل تقويتها. ويستنتج من تحليل قياسات الألواح والأجزاء المطلية أن معدل الكتل الحجرية بحجم 1 متر مكعب وبوزن 3 طن هي التي كانت مفضلة في تدمر.

تقود هذه الملاحظة إلى طرح فكرة أن البنائين التدمريين تقيدوا بوزن الكتلة الحجرية أكثر من قياسها. ويفترض أن ما شجع على التخلي عن الحجارة المكعبة لصالح الألواح الطويلة بعض المميزات الاقتصادية والتقنية. فسمح ذلك بتقليص العدد من عناصر التصميم اللازمة للبناء الجداري، وأدى تقليص تلبيس الأحجار إلى الحد الأدنى الضروري إلى توفير بالوقت وبالطاقة البشرية الماهرة.

كان هذا النظام البنائي الجديد فائق الفعالية ورخيصاً بالنظر لأن الألواح تحتاج إلى وقت أقصر للتحضير والتركيب. وهو تطور قيّم في مجال العمارة، يدفعني أصله وتطبيقه بالشكل التدمري أن أطلق عليه تسمية أسلوب "العمارة التدمرية" وقد نشأت هذه الطريقة نتيجة لتطور أسلوب البناء المعتمد على الحجارة الغشيمة. فأنشئت بيوت كثيرة وحوانيت وأبنية أخرى بهذه التقنية. ومن الضروري التنويه أنه كانت هناك أوابد أيضاً طبقت فيها أساليب العمارة التدمرية مترافقة مع تقنيات أخرى. وأصبحت هذه التقنية الجديدة هي المعتمدة في تدمر بدءاً من القرن الثاني.

باستثناء الأبنية الحجرية يوجد شواهد كثيرة من البيوت المبنية باللبن، كما يوجد أيضاً أمثلة لم تكن فيها إلا الطبقة الأولى من البناء منشأة من الأحجار، بينما الطبقة الثانية مبنية باللبن المكسي بالجص. عملياً لم يكن هناك إنتاج للآجر، ولم يستخدم إلا في تصميم بنى تقنية قليلة كالأحواض وخزانة الحمامات وبعض أجزاء السقوف. ولم تستخدم أجزاء الأسقف المائلة إلا في أبنية هامة، فقد عثر على الكثير من هذه الأجزاء في القبور كجزء من التصميم. كانت الأخشاب في الواحة العديمة الأشجار مادة بناء ثمينة جداً ولم يكن هناك داعٍ لإهدارها في شي اللبن، لكن الأبنية الفخمة والهامة كانت مزودة بأسقف خشبية، يرجح بأنها استوردت من أرز جبال لبنان. وقد عرفت قديماً في تدمر وفي الشرق الأوسط الطريقة الاعتيادية في تغطية السقوف المماثلة للأسقف الحالية، فبنيت بخشب النخيل وبأغصان الأشجار وكان يوضع عليها الطين والملاط. واحتوت الغرف الصغيرة على حنية جدار من اللبن كما هو موجود حالياً في منطقة تدمر.

لقد تم تبني الفكرة الجديدة في التصميم بالألواح الحجرية الكبيرة لإشادة الأعمدة. وكان يوجد في تدمر في القرن الثاني العديد من الأعمدة الحجرية ذات الكتلة الواحدة، بينما صممت الأوابد الأقدم بأعمدة مؤلفة من أجزاء أسطوانية صغيرة. يمكن إثبات ذلك من خلال إجراء مقارنة بين أعمدة بوابة معبد نبو التي يبلغ ارتفاعها 4 م وأعمدة بيوت القرن الثالث. كما أن تحليل تطور صفوف الأعمدة الضخمة يثبت الفكرة ذاتها. كانت أعمدة القرن الثاني بارتفاع 7.3 متر ومؤلفة من 7 أو 8 أجزاء اسطوانية.وقد استمرت هذه الحالة حتى بداية القرن الثالث. في حين صممت الأعمدة التالية بالاعتماد على أربع اسطوانات، كانت الاسطوانة الحاملة للقنصلية (حاملة التماثيل) أقصر من غيرها. وكان من السهل الحصول على الأعمدة ذات الكتل الواحدة وكذلك الأجزاء الأسطوانية الطويلة بالنظر إلى الامتداد الأفقي لمكامن الحجر الكلسي، ومثل هذه الكتل كانت تنصب عمودياً بالأسلوب ذاته كما هو في الألواح الطويلة.

كذلك فإن تصميم العقود والأقواس في تدمر يسترعي اهتماماً خاصاً. فأقدم مثال لهذا التصميم عثر عليه في مدفن يرجع للقرن الثاني قبل الميلاد. لكن المدافن والقبور البرجية العائدة للقرن الأول الميلادي تقدم شواهد من العقود الحجرية المصممة بأسلوب خاص جداً. ومن الجلي أثناء مقارنة سماكة أحجار الأقفال أنها كانت ذات نوعية رديئة من الحجر الكلسي الطري.

إن لهذه العقود والقباب أقفال بوصلات ملبسة ومنزلة. وأثناء تشابكها مع بعضها تشكل الأقفال مصارع حيث يصب بداخلها الملاط الكلسي فيتشكل تصميم البنية الواحدة القوية. كما تبنى مثل هذه الأجزاء لتكوين القبة.
يبدو أن البنّائين التدامرة خبروا تصميم فكرة القوس والقبة، إلا أنهم ولأسباب مجهولة لم يريدوا تقديمها بالصيغة المنتظمة. ويحتمل أنهم شكّوا بخبرتهم في بناء العقود الحجرية الثقيلة. وفي النماذج المتأخرة استعملت أيضاً الوصلات المنزلة والأقفال المتصالبة ذات الطول غير العادي في التصاميم الحجرية المتينة بحيث شكلت العقود ما يصح أن يطلق عليه القوس الحقيقي. وهناك أمثلة كثيرة تبدو فيها الفقرات الدنيا ممتدة إلى أبعد من كتفي القوس، وإن الشكل الإسفيني يتجلى فقط في الحجر القفل للقوس.

نُفذ التقطيع الحاد للأقفال المتصالبة أثناء الممارسة الاعتيادية لأغراض تتعلق بالمظهر، وكان لهذه الناحية بتدمر أهمية بنيوية. فيحتمل أن مثل هذا الحل قد ضمن للبنائين التحمل البنيوي. يتبدى ذلك في المدخل الجانبي لمعبد بعل حيث يوجد قوسان متزامنان ومتطابقان في الامتداد، مختلفان إنشائياً من ناحية حمولتهما.

إن تصميم القوس الضخم الشهير الذي يبلغ امتداده 6.9 متراً، لا يمكن أن يعتبر في الحقيقة كقوس، فقد تطلبت القرارات التقنية له إبداعاً في بنية الكتل المتداخلة. لكن القفل الحجري الرئيسي أكثر بروزاً وله شكل العارضة الضخمة الداعمة للقوس، مما أدى إلى إنقاص في شكله شبه الدائري فأصبح مجزّءاً. من المؤكد أيضاً أن هذه البنية الدقيقة تحتاج إلى فريق من البنائين المهرة الذين يفترض أنهم نفذوا تجارب كثيرة، وجمع تجريبي له قبل أن يبنى القوس بصيغته النهائية. يمكن اعتبار القوس التدمري الضخم المبني في المرحلة الانتقالية ما بين القرنين الثاني والثالث، واحداً من أكثر التصاميم دقة ليس في سورية وحدها فقط. كما أن مسألة بناء أقواس القرنين الأول والثاني في تدمر حالة تسترعي الاهتمام إذا ما قورنت مع الإنجازات الرومانية وبخاصة التصاميم القوسية العديدة المشادة في الوقت ذاته في منطقة حوران القريبة.

لقد جلب القرن الثالث إلى تدمر أفكاراً مختلفة تماماً، فغدت التصاميم القوسية نموذجية بشكل مطلق لذلك فإن هذا التغير الكبير هو الأبرز. وقد أنشئت في ذلك الوقت ثمانية أعمدة ضخمة على الأقل بين صف الأعمدة الضخمة، فبنيت من تسع إلى إحدى عشرة اسطوانة منتظمة الشكل. لكن فكرة الحجر الرئيس (القفل) المكون بشكل عارضة لم يتم التخلي عنها بالكامل في تدمر، فكانت تُبنى لتصميم الأقواس الصغيرة، وتستخدم غالباً لأهداف تزيينية، وقد بلغ امتداد تلك الأقواس 2.5 متراً، وتكونت من جمع ثلاث كتل فقط ـ اثنتان بارزتان وعارضة ضخمة لها شكل شبه دائري في جانبها الداخلي.

أوقف اجتياح أورليان تطور المدينة، فأعيد استخدام القسم الأكبر من مواد البناء. وفي نهاية القرنين الثالث والرابع جلبت الحجارة من المدافن المهجورة أو المتهدمة والمباني الأخرى، فأنشئت مباني معسكر ديوقليسيان من مواد معادة الاستخدام. أما تصنيع الكتل الحجرية الكلسية الجديدة فقد تقلص إلى أقصى الحدود الدنيا، كما جلب مهندسو العمارة الرومان إلى تدمر حلولاً تقنية جديدة كانت معروفة جيداً في الإمبراطورية الرومانية، كتقنية القطع الرأسية التي توضع بين قطع التمديد. وسبق أن استخدمت هذه التقنية في مبادئ العمارة الديوقليسيانية ومخزن الحبوب، وأدى هذا الحل الجديد إلى إنهاء العمل بالصيغة الكلاسيكية لفن العمارة التدمرية.

مر تطور البناء التدمري بالمراحل التالية:
ـ تقنيات اللبن المحلي المشابهة للاتجاهات العامة في البناء الشرق أوسطي.
ـ اتباع الاتجاهات الهلنستية، حيث طبقت استخدامات مترافقة ومختلفة التقنيات القائمة حتى سنة 80م.
ـ مرحلة التبني التام لتقنيات البناء الجديدة، استمرت حتى بداية القرن الثالث الميلادي.
ـ مرحلة الميل الجديد التام لمادة وتكنولوجية البناء.
ـ الاحتلال الروماني، حيث تحسنت تقنيات البناء التدمرية الأصلية من خلال الحلول الجديدة.

إن توضع تدمر عند مفترق طرق الحضارات لزمن طويل مكنها من الاحتفاظ بتقنيات البناء الخاصة بها، وقد كان لمعبد بل أثر حاسم كنقطة تحول في تطور العمارة المحلية. ونستطيع أن نقرر أن إنجازات تقنيات البناء الرومانية تلاءمت في تدمر بشكل متأخر مع النماذج الزخرفية. إن تقدم فن العمارة التدمرية المشابهة لتقنية "الكسوة الضخمة" مكَّن تدمر من الاحتفاظ بمكانتها الرفيعة. ويمكن أن يقارن حجم العمل المنجز بتدمر مع مدن الشرق الأوسط الأخرى ـ جرش، أفاميا، بصرى، لكن وقوع تدمر في الصحراء يجعلها تواجه مشاكل أكبر من غيرها في مجال البناء.

فخلو تدمر من الأشجار يماثل مشاكل حوران، لكن هذه المشكلة حُلت في تدمر بأسلوب مختلف. تؤكد الأبحاث الجديدة التي أجريت في جرش وحوران ومدن في آسيا الصغرى أن تبني الاتجاهات الجديدة القادمة من روما يعود الفضل فيه إلى معماريين محليين مجددين وإلى الاستخدام الملائم للمواد المحلية المتوفرة. ولقد كانت هذه الأسباب الرئيسة للتطور المعماري الجريء في المنطقة.

مارك بارانسكي

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996