هيلاريون كبوجي

مطران القدس في المنفى

المحتويات

.

نبذة عن سيرة المطران كبوجي


ولد في مدينة حلب السورية عام 1922، وكان مطراناً لكنيسة الروم الكاثوليك في مدينة القدس منذ عام 1965.

عُرف المطران كبوجي بمواقفه الوطنية وانتمائه للقضية الفلسطنية بحيث لم يمنعه منصبه الديني من دعم الثورة الفلسطنية وقد استثمر علاقاته مع الفاتيكان لتوضيح الممارسات والاعتداءات الاسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني للعالم اجمع.

اعتقاله


اعتقل في عام 1974 وزُج به في سجون الاحتلال الإسرائيلي بتهمة محاولته تهريب سلاح للمقاومة الفلسطينية، وكذلك التعاون مع جهات معادية للاحتلال، وقد حُكم بالسجن لمدة 12 عاما، إلا أنه أفرج عنه بعد أربع سنوات من سجنه بوساطة من الفاتيكان، ونُفي عام 1978 إلى روما.

وفي تفاصيل عملية اعتقاله، كان المطران برفقة مساعده، يقودان مركبة محملة بالأسلحة والمتفجرات في طريقها إلى مدينة القدس، وكان حينها الاحتلال الإسرائيلي وجهاز الأمن العام يعملان على مراقبة المطران، إذ تقرر في ذلك الوقت إيقاف المركبة خشية تفجيرها بشكل متعمد أو دون قصد.

اعتقل المطران ومرافقه، واقتيدت المركبة إلى مركز شرطة الاحتلال في المسكوبية بمدينة القدس المحتلة، حيث تم اكتشاف «غنائم» كثيرة منها أربعة رشاشات كلاشينكوف ومسدسات وعدة طرود تحتوي على متفجرات بلاستيكية وصواعق كهربائية وقنابل يدوية.

أنكر كابوتشي أمام المحققين الإسرائيليين ضلوعه في عملية التهريب، إلا أن مغلفاً عُثر عليه لدى تفتيش المركبة، كُتب عليه بخط المطران، رقم المسؤول الفتحاوي «أبو فراس» في لبنان، أثبت التهمة وأدى إلى سجنه ومحاكمته.


المطران كبوجي



محاولات لدخول فلسطين


حاول المطران أكثر من مرة أن يدخل فلسطين من جديد، إلا أن سلطات الاحتلال كانت تحول دون ذلك، ففي شباط من عام 2009، كان كبوجي على متن سفينة الإغاثة التي توجهت إلى قطاع غزة المحاصر، والمحملة بالأمتعة والغذاء، في حين اعترضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي طريق السفينة وصادرت كل ما بداخلها. كما رافق أيضاً، طاقم سفينة «مافي مرمرة» التركية عام 2010.


طابع تذكاري


طوابع تذكارية تكريماً للمطران كبوجي

كرمته السودان ومصر وليبيا والعراق وسورية والكويت بطوابع بريد تحمل صورته. كما نشر المناضل الراحل داوود تركي شعراً مخصصاً للمطران معبراً عن تقديره واحترامه العظيمين له.


وفاته


غيب الموت المطران كبوجي في العاصمة الإيطالية روما عن عمر ناهز 94 عاما بعد مسيرة حافلة بالنضال في سبيل القضية الفلسطينية والدفاع عن المقاومة وسورية في مواجهة الحرب الإرهابية التي تتعرض لها.

وأعلن الفاتيكان مساء يوم الأحد 1 كانون الثاني 2017 وفاة المطران هيلاريون كبوجي في العاصمة الإيطالية روما.


الجنازة


بتكليف من السيد الرئيس بشار الأسد شارك سفير سورية في لبنان علي عبد الكريم في مراسم جنازة مطران القدس فى المنفى والنائب البطريركي العام للقدس هيلاريون كبوجي والتي أقيمت برئاسة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام في كنيسة سيدة البشارة في المقر البطريركي في أنطلياس بلبنان.

وأكد البطريرك لحام في كلمة له خلال الصلاة الجنائزية لراحة المطران كبوجي ان «نضال وجهاد وتضحيات فقيدنا الغالي لفلسطين وسورية وطنه وللبلاد العربية فخر لكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك».

وأضاف لحام «نجتمع معا لكي نودع فقيدنا الغالي المطران كبوجي.. فقيد حلب المنتصرة والرهبانية الحلبية المباركة وكنيسة بطريركية الروم الملكيين الكاثوليك وفلسطين والقدس عاصمة إيماننا وفقيد المقاومة والحرية والكرامة».

وأشار البطريرك لحام إلى ان المطران كبوجي استمر في الدفاع عن القضية الفلسطينية حتى آخر رمقٍ من حياته وكان يعلن دوما رغبته في العودة إلى فلسطين ليلتقي أبناءها ليكون قريبا إليهم ويشاركهم في آلامهم ومعاناتهم قائلا «انه سوري المنشأ.. فلسطيني الكفاح.. عربي الهوية».



من مراسم جنازة المطران هيلاريون كبوجي

فقيد القدس دُفِن في جونيه



كما حمل أوسمة مقاومة العدو الإسرائيلي في حياته، كذلك في مماته. مطران القدس المقاوم، هيلاريون كبوجي، يحمل وسام الأرز الوطني الذي قلّده إياه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. برئاسة بطريرك أنطاكيا والإسكندرية وأورشليم للروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام، وبحضور ممثلين عن الرؤساء الثلاثة، وعن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، والرئيس السابق إميل لحود، وممثل الرئيس السوري بشار الأسد السفير علي عبد الكريم علي، وممثل الرئيس الفلسطيني عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد، ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس موسى أبو مرزوق، إضافة إلى حشد من الفعاليات السياسية اللبنانية والفلسطينية والعربية، أقيمت أمس مراسم دفن كبّوجي في منطقة الربوة في المتن الشمالي.

وألقى لحام كلمةً نعى فيها «فقيد حلب الشهيدة المنتصرة، وفقيد القدس عاصمة إيماننا». كبوجي الذي قبّل أرض فلسطين لآخر مرة عام 1977، «كان نذره الآخر الوحيد الكبير فلسطين. هو حقاً بطل القضية الفلسطينية». وألقى الوزير سليم جريصاتي كلمة الرئيس ميشال عون، الذي عرف كبوجي «سند عزم في زمن نحتاج إلى رفعة الانتماء إلى الحق، فزادتني شهادته للمقدسات استنارة بمثاله». ثم قلّده وسام الأرز من رتبة كومندور تقديراً لنضاله. بعد ذلك، نقل جثمان المطران كبوجي إلى دير المخلص للرهبانية الباسيلية الحلبية في صربا «جونيه» حيث دُفن.

وبعد مراسم الجنازة تم نقل جثمان المطران كبوجي إلى دير المخلص للرهبانية الباسيلية الحلبية في صربا بجونيه حيث ووري الثرى في مدافن الرهبان الحلبيين وذلك احتراما لوصيته بأن يدفن إلى جانب والدته.


الرئيس اللبناني يمنح المطران وسام الأرز


أعلن وزير العدل اللبناني سليم جريصاتي أن الرئيس اللبناني العماد ميشال عون منح المطران كبوجي وسام الأرز الوطني من رتبة كومندور مشيرا إلى أن الرئيس عون كلفه وضع الوسام على نعش المطران الراحل.


كلمة السفير عبد الكريم


قال السفير عبد الكريم «باسم السيد الرئيس بشار الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية جئنا لنستقبل جثمان هذا المناضل الكبير المطران هيلاريون كبوجي» لافتا إلى أن سورية التي أنجبت هذا المطران المناضل تفخر به.

وأضاف السفير عبد الكريم «نرى في هذا المطران الكبير شهيدا حيا يتجدد رغم رحيله فيما تركه من مآثر ومن سيرة وإخاء وقدرة على الاستمرار في الدفاع عن قضايا أمته رغم سنواته التسعين .. ونحن الآن نتقبل عزاءه لكن بما تركه من مآثر يشكل العزاء الحقيقي لهذه الامة وصورة نتعلم منها دائما».

وأشار السفير عبد الكريم الى أن المطران الراحل كان صورة للمواطن الحق المنتمي إلى قضية أمته ووفيا لسورية وفلسطين وكان صورة مثلى للإخاء الإسلامي المسيحي لأنه نذر نفسه ومبادئه وسيرته ونضاله لخدمة أمته والإنسانية.

وتوجه السفير عبد الكريم بالرحمة الواسعة للمطران كبوجي مؤكدا أنه يمثل صورة الحياة التي ستبقى حية فينا وفي الأجيال اللاحقة.



من مراسم جنازة المطران هيلاريون كبوجي

حزب الله ينعي كبوجي


أصدر حزب الله في لبنان بيان نعى فيه المطران هيلاريون كبوجي جاء فيه «فقدت فلسطين والأمة العربية مناضلاً كبيراً، وقف مع الشعب الفلسطيني وقاتل في سبيل حقوقه المشروعة على مدى عقود، هو المطران هيلاريون كبوجي الذي أفنى حياته في سبيل حرية فلسطين وشعبها».

وأضاف البيان «لقد اجتمع المطران كبوجي مع كل الأحرار والمناضلين في أمتنا على هدف تحرير المقدسات وإزالة الاحتلال الصهيوني الغاصب عنها، وعمل من أجل توحيد طاقات أمتنا في سبيل هذا الهدف الكبير، وكان حاضراً في كل درب مقاوم، في لبنان وفلسطين وفي كل مكان آخر من عالمنا».


حركة فتح تنعي المطران الراحل


كما نعت حركة فتح وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان المطران الكبير هيلاريون كابوتشي بالقول: «إن فلسطين وشعبها وشعوب الأمة العربية مسيحيين ومسلمين خسروا برحيل المطران كابوتشي رجلا شجاعا ومميزا في التاريخ الفلسطيني الحديث لينضم الى قافلة الراحلين من القادة والعظماء وفي مقدمتهم شهيدنا الرمز الخالد ياسر عرفات، وكل الشهداء الذين عاصرهم وأحبوه وناضل إلى جانبهم والذين طالما تمنّى اللحاق بركبهم».

واضافت أنه سيبقى خالدا فيهم وفي الأجيال القادمة، فدائيا ومناضلا، مضيفين أنه سيبقى خفاقا في سماء فلسطين وفي سماء القدس الشريف عاصمة دولة فلسطين المستقلة.

يعتبر المطران كابوتشي نموذجاً ومثالاً لمدى انتماء وإيمان الشعوب العربية، على اختلاف انتمائهم الديني والجغرافي للقضية الفلسطينية، والنضال العادل والمشرف الذي يسعى لدحر الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.


المطران هيلاريون كبوجي



اسكندر لوقا: هيلاريون كبوجي.. أتم رحلته إلى السماء


الكاتب والروائي الدكتور اسكندر لوقا كتب في صحيفة الوطن السورية مادة بعنوان «صوت في البرية…. ودروب وعرة في الحياة … هيلاريون كابوتشي مطران القدس في المنفى… أتم رحلته إلى السماء» وفيها نقرأ:

أن يأخذ أحد على عاتقه مهمة التعريف بعالم صرح من صروح النضال من أجل الحياة بكرامة في زماننا الحالي، خطوة فيها الكثير من المجازفة، المعني بهذا الصرح هو سيادة المطران هيلاريون كبوتشي، الذي اختار لحضوره بيننا، في سنة 2007، دربا في الحياة هو الأشد وعورة بين الدروب، ولكن الأكثر رسوخاً في تاريخ أمتنا العربية.

ولأن مكانة المطران بين رعيته، كما جاء في توصيفه لها مجيباً عن سؤال أحد محاوريه في الخامس عشر من شهر كانون الأول عام 2000، بمنزلة الراعي فإنه من هذا المنطلق لم يبق واقفاً عند عتبة المتفرجين على ما يدور في ساحة المواجهة بين الرعيّة وأعدائها، كما الوقفة المترددة بين الخراف والذئاب في ساعة الخطر، فكانت نقلته المشهود لها من موقعه كراع في أبرشيته في مدينة أم الكنائس، إلى موقع المدافع عن هويتها التي استلبت في عدوان العام 1967، بغية طمس معالمها إلى أمد غير محدود.

هذه النقلة الوطنية أدت إلى الحكم عليه بالسجن اثنتي عشرة سنة، كما نعلم، قضى منها أربع سنوات إلى أن أثمرت جهود قداسة البابا بولس السادس، فخرج من السجن ليصير مطرانا على القدس في منفاه مدينة روما.


الرئيس الأسد يستقبل كبوجي

زار سيادته سورية عدة مرات، عبر عن هواجسه كإنسان منفي عن أرض الوطن، وفي هذا السياق أذكر قوله: «أنا أعيش في المنفى، والله يعلم ما المنفى ومن يعش في المنفى يعش الذكريات، وأنا أعيش في الذكريات، أنا دائماً في سورية ودائماً في القدس. والذكريات تولد الحنين وتولد العذاب، وابتعادي من القدس هو موتي المعنوي، أنا في هذا المنفى يومياً أموت أكثر من مرّة، أنا تعيس، كل طموحي في هذا العمر أن أرجع إلى وطني وأعيش في سورية بين شعبي وأرجع مطراناً للقدس».

ولأن ما أخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة، كما في أدبيات النضال منذ نكسة الخامس من حزيران 1967، رأى سيادة المطران كبوتشي، في هذا السياق، أن القوة ليس السلاح دائماً مصدرها، بل ثمة مرتكزات أخرى، وهي الأقوى كما نفهم من قوله: «بل القوة هي وحدة الصف والتضامن والاتحاد».

وأعطى مثالاً عن يقينه بهذه المعادلة، مشيراً إلى زمن طفولته في مدينة حلب قال: «أنا فخور بكوني سورياً، لأن سورية هي التي علمتني كل يوم ونحن أطفال، قبل أن ندخل إلى الصف «بلاد العرب أوطاني»، أنا سوري، لكنني ابن القضية الفلسطينية».

استناداً إلى رؤيته هذه أسهم سيادته في تسليح عملية لنسف مقر الكنيست الإسرائيلي خلال انعقاده في سنة 1974، بيد أن فشل العملية كشف عن دوره فيها وعلى ضوئها حكم عليه.

ولعلنا لا نخطئ بإشارتنا، في هذا السياق، إلى ما تعنيه حالة السبات التي هي عليه في الوقت الراهن أمتنا العربية، تجاه الخطر المحيط بها من جميع أطرافها، بينما أعداء العرب، يتربصون بمسيحيي ومسلمي الشرق الأوسط تحديداً، لجرّهم إلى ساحة الاستسلام للأمر الواقع، وهم وقوف في المكان لا يملون من ترديد عبارات المحبة والمؤازرة والتعاطف، والنتيجة، كما نراها في معظم الأوقات جعجعة في جرن ولا طحين.

هذا الوقع جسد سيادة المطران كبوتشي معناه بقوله رداً على سؤال: «إن المحبة حين لا تترجم على أرض الواقع تبقى مجرّد عاطفة، تقارب الكذب والنفاق والدجل».

ويروي سيادته، في هذه المناسبة، أن السيد المسيح سأله مار بطرس ذات مرة: هل تحبّني؟ قال له: «نعم، فسأله مرة ثانية، فأجابه بنعم، وسأله مرة ثالثة فقال له السيد المسيح: لماذا تسألني؟
ونحن بدورنا، إذا ما سألنا أحد عن سر محبتنا للمطران كبوتشي، نحيله إلى ما رواه عن حكاية مار بطرس والسيد المسيح.

في كتابنا المقدّس درسنا أن البيت الذي ينقسم على نفسه يخرب، ومن هنا دعوته إلى وحدة الصف والتضامن والاتحاد تبقى في حاجة إلى تفعيل وليس إلى مجرد كلمات تقال في مناسبة تقتضي من قائلها مسايرة المستمعين إليه، وثمة اعتبارات عديدة كما يعلم الجميع، تفرض على القائلين بمعادلات الوحدة والتضامن والاتحاد، أن يعلنوا ذلك أحياناً، ولكنها تبقى في مكانها بلا حراك، وتنطفئ جذوتها، مهما كانت ساخنة، مع انقضاء وقت المناسبة التي اقتضت مقاربتها، فتضيع بالتالي، ولا أقول تخفت معالم الالتزام بالقضية المطروحة أمام القارئ.

هذا الالتزام، يضعه سيادة المطران كبوتشي أولوية في الرهان على مستقبل المواجهة مع أعداء العرب، يقول إن القدس هي بمنزلة الروح للجسد، هي كذلك بالنسبة للأرض الفلسطينية، ومندداً بأطماع الإسرائيليين وادعائهم بأن هذه الأرض لهم ومن أملاكهم يروي ما شاهده شخصياً في سنة 1978 فوق باب الكنيست، قال: «أنا بأم عيني رأيت فوق باب الكنيست في القدس عبارة «من الفرات إلى النيل حدودك يا إسرائيل» أنا في سنة 1978 رأيتها هناك».

من هنا دعوته للتشبث بالأرض، والسعي لاسترداد قدسها، محذراً من نتائج هجرة شبانها وشاباتها بحثاً عن سلام هنا أو هناك، وفي يقيننا كما أقدّر، أن فراغاً إذا ما حدث في مكان ما نتيجة هجرة أصحابه، لابد سوف يملؤه الغرباء عنها، ويروي التاريخ أمثلة كثيرة عن هذه الظاهرة- الكارثة التي صنعها الغزو الصهيوني لأرض فلسطين في العام 1948 وما بعد، وهي مستمرة حتى اليوم، وذلك وصولاً إلى خلق دويلات صغيرة، ضعيفة، متناحرة بعضها مع بعضٍ، ويضرب سيادته مثالاً ما كان يحدث في ثمانينيات القرن الماضي، وينسحب على أيامنا الحاضرة. قال: «إن ما يحدث في لبنان من سوء الطالع مخطط له وليس مصادفة. إن ما يحدث ليس من أجل خراب لبنان وتجزئة لبنان فحسب، وإنما انطلاقاً من لبنان بهدف بلقنة المنطقة برمتها. إن أعداء المنطقة يحاولون خلق دويلات طائفية لكي لا تكون إسرائيل الدولة الوحيدة في هذه المنطقة ذات الطابع الديني».


المطران كبوجي

وأنا هنا قد لا أملك حق القول إن غياب الراعي الصالح عرض خرافه لخطر القهر والتشرد، ولكن ماذا عن هذا الغياب في رعاية من تبقى من أفراد القطيع؟ إن سيادة المطران حتى ما قبل سنوات قليلة يحذر من تفاقم خطر الهجرة من الأرض، حيث الشرعية لم يعد لها أثر في مستقبلها. والشرعية الدولية، كما أشار إليها سيادة المطران كبوتشي، ذات يوم تقول إنه لا لاحتلال أرض الغير بالقوة. ومشيراً إلى حق العرب بأرضهم التي سرقت منهم، ينوه بالقرارين 242 و338.

وعند هذه الفاصلة في سياق كلامه عن الحق والقوة، يضيف قوله: «إن المساومة على الحق جبن وتخاذل واستسلام».

ويرى في هذا السياق أيضاً أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. يقول: «الكرامة هي الحياة، وعنوان الكرامة هو وطن. ويضيف قوله: من هنا وطني فلسطين المناضلة، وطني سورية التي علمتني الصمود ورفض أي مساومة على الكرامة مقابل رغيف الخبز».

ولا أظن أحداً منا يرى غير هذا الرأي. إن عودة إلى الماضي القريب نسبياً، توضح له ما معنى الاكتفاء بالخبز وحده، منذ تاريخ إبرام اتفاقية كامب ديفيد، واتفاقية أوسلو، مروراً باتفاقية الإذعان، واتفاقية وادي عربة، وكلها اتفاقيات برهنت على أن إسرائيل نجحت في اختبار قدرتها على ترجمة قانون «الغاية التي تبرر الوسيلة». وها نحن نقطف ثمار المساومة على حقنا في أرضنا المقدسة. ولا يظنن أحد أنني أبالغ في قولي إن غياب السلام في وقتنا الراهن يضعنا أمام معادلة لا بديل لها: «إما سلام وإما حرب».

وبالإشارة إلى امتناع إسرائيل عن مد يدها لصنع السلام العادل والشامل مع العرب، لسيادة المطران نظرته التالية. قال: «السلام يعني الجغرافيا. وهذا ما تردده سورية في كل مناسبة».


ولهذا الاعتبار كثيراً ما أشاد سيادة المطران كبوتشي بمواقف سورية الوطنية والقومية. على سبيل المثال قوله التالي: «لأن سورية امتداد لفلسطين وفلسطين امتداد لسورية، والتربة نفسها، سألت عن حالة قلبي، وإذ بقلبي يجيبني أنه ما زال ينبض ويكبر، وهذا بفضل هذه الانتفاضة المشرفة التي نرفع بها رأسنا حالياً، وتقف سورية إلى جانبها بكل شرف وأمانة. البارحة، عندما نزلت من الطائرة، بلا شعور رأيتني أقبل الأرض السورية، أرض العرب كل العرب. وحين وضعت أذني على هذه الأرض فذلك لكي أسمع صدى القلب الذي زرعته في فلسطين عندما أجبرت على تركها. وهناك أيضاً، قبل أن أنفى ركعت بلا شعور وقبلت الأرض وكأنني دفنت قلبي هناك. وهكذا سورية دائماً في قلبي وأجيء إليها لأتموّن فيها المؤونة الروحية، إن العالم العربي من دون سورية مثل طاولة على ثلاثة أرجل، ولكي تقف لابد من الرجل الرابعة».

في سياق هذه النقلات السريعة بين القول والفعل، بين الفكرة والفكرة، أستذكر إجابته عن سؤال لمراسل وكالة الـ«قدس بريس» في أيار من العام 2002 جاء فيها: «إن تل أبيب تشن حرباً جهنمية على الشعب الفلسطيني الأعزل إلا من إيمانه بعدالة قضيته وحتمية انتصاره».

بهذه الرؤية الواضحة لديه حول تلازم الإيمان بعدالة القضية، أضفى سيادة المطران كبوتشي، عملياً، بركته على مسار المقاومة في التصدي للاحتلال الصهيوني، مشدداً، في الوقت ذاته على حتمية الانتصار، لتتحرر الأرض المغتصبة وتعود إلى أصحابها الشرعيين. وهو إلى اليوم لا يمكنه تصور نفسه بعيداً عن هذه الأرض. ويروي ما يلي: «أنا في بيتي لديّ "كابيلا" أي مصلى صغير. ومن يعجبه هذا فليعجبه، ومن لا يعجبه لا يعجبه. وإلى جانب صورة سيدتنا مريم ثمة صورة لسيادة الرئيس حافظ الأسد، وذلك اعتزازاً بذكرى اليوم الذي استقبلني في قصره، في الحادي عشر من شهر كانون الثاني عام 1988. ويومياً عندما أصلي أغمض عيني وأسكت قليلاً، ثم أطلب من الله أن يحفظ سورية ويحقق لأهلنا فيها ما تصبو إليه نفوسهم».

ولا أعتقد أنني سأنسى يوماً، تلك الابتسامة الدافئة التي قابل بها قائدنا الراحل الرئيس حافظ الأسد مشاعر المطران كبوتشي، معقباً عليها بالقول: «من دون مجاملة، هنا في البلد كل الناس يقدرونك، حتى الأطفال ينظرون إليك كمواطن سوري، ويفتخرون بأن مواطناً من بلدهم، رجل دين، يمر بكل هذه الظروف الصعبة والمعقدة، ولم يحد عن الطريق أو يضيعه، بكل الصدق أقول لك إن كل الناس عندنا يتتبعون أخبارك ويعتزون بمواقفك».

ومع تفاقم تدفق يهود العالم، إلى فلسطين، وبينهم من لم يعرفها في حياته، على حساب من هجّروا عنها قسراً، في سنوات الاحتلال، يتساءل سيادة المطران كبوتشي بصوت عال: «كيف يكون من حق هؤلاء المجيء إلى فلسطين، وأنا ابن فلسطين ليس ليّ الحق أن أعود إلى بلدي؟».

تلك هي المعاناة التي يعيشها سيادة المطران كبوتشي منذ أن غادر فلسطين في الثامن من شهر تشرين الثاني سنة 1978، مودعاً أبرشيته التي تولى إدارة شؤونها منذ قدومه إلى القدس في سنة 1965. وفي يقينه، وهو في منفاه، أن ضمير العالم لابد أن يستيقظ يوماً، وأن العالم العربي والإسلامي لابد أن يتخطى حالة الغرق في نومه، بأمل عودة كل المهجرين والمهاجرين إلى بيوتهم في أرضهم فلسطين، حيث ولد المخلص وصلب من أجلنا نحن البشر، وقام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء.


من أرشيف المطران الراحل

وحين يصف سيادة المطران كبوتشي حالنا اليوم- نحن أصحاب القضية- يشبهه بحالة المغلوب على أمره كما في المثال الذي يروى: «رغيف خبز كامل لا تقسم. المقسوم لا تأكل. وكلْ حتى تشبع»!

ولا يخفي سيادته قناعته بأن المناضلين من أبناء أمتنا العربية سوف يواصلون نضالهم حتى يوم تحرير كل ذرة من تراب وطننا العربي المقدس ويضيف: «يبقى أملنا بيقظة الضمير ذات يوم ليتبين الجميع الخط الأبيض من الخط الأسود، الخط الفاصل بين الخير الذي يكمن في قلوبنا والشر الذي يكمن في قلوب أعدائنا».

أذكر ذلك، حتى لا يبقى الصوت يتردد في البراري وليس ثمة من يسمع حتى لا يكون السؤال كما سأل الشاعر:
هو صيحة ملأ الفضاء دويّها
فسل العروبة هل لها آذان؟


غسان الشامي: الكبوجي العظيم


الباحث والإعلامي اللبناني غسان الشامي كتب مقالة عن المطران هيلاريون بعنوان «الكبوجي العظيم» يدعو فيها البطريركية الكاثوليكية إلى دفنه في مسقط رأسه والدولة السورية إلى تكريمه وأهل المشرق ليرفعوا رؤوسهم بهذا المشرقي الأنطاكي المقدسي الحلبي الجليلي الجليل، جاء فيها:

«قابلت المطران هيلاريون كبوجي بعد نفيه من فلسطين عام 1978 وكنت في مطلع حياتي المهنية. لاشك أن الرجل يترك انطباعاًمضمخاً بالود والاحترام منذ اللفتة الأولى،..تراكم عندي عبر السنين.

كان نفيه إلى روما خسارة للمشرق والكثلكة،ولقد قبلَ الحلبي العتيق بالواقع الكنسي جزئياً وتابع نشاطاته تارة علانية وأخرى بشكل سري، ويمكن لبعض المطلعين أن يفشوا الأسرار بعد وفاته (مثلاً..اسألوا سماحة مفتي أنطاكيا وسائر المشرق الصديق أحمد بدر الدين حسون).

عندما كنّا عام 2010 في حلب زائرين مار مارون،وصل المطران كبوجي،وبالكاد أقنعته أن يجلس بين الإكليروس خلال القداس في براد،لأنه كان يريد أن يبقى بين الناس، وعندما انطلق برنامج أجراس المشرق عام 2012 كان من أوائل من اتصلت بهم..رد علي بصوت مجروح من روما،إنني متعب وليس لدي مقدرة على الكلام ..ثم تهرّب أكثر من مرة، أحياناً عن الرد وأحياناً عن الاستجابة.

على حين مصادفة وجدته في فندق من ثلاث نجوم قرب مونترو،قبل ثلاث سنوات بعصاه التي تدق على الباركيه القديم،وسماحة وجهه التسعينية،..كان قادماً من روما ليحضر المؤتمر الأفعواني حيال بلده،من دون دعوة،ودخل إلى القاعة بعصاه رغم الإجراءات الأمنية ، وغادر كما النسمة ..كررت عليه طلبي أن نسجل حلقة لأجراس المشرق،..أجابني هذه المرة مواجهة وبحسرة: أنا يا غسان لم يعد يمكنني التركيز لساعة وعندي عيّ في الكلام وأنت تحبّني ولا تريد أن أخرج إلى الناس بهذه الصورة..وهناك كثيرون يجيدون التعبير أكثر مني.

طبعاً كان كلامه بطيئاً وخافتاً،وأعتقد أنه أراد الحفاظ على صورته الصلبة أمام الناس..لم أتراجع عن الإلحاح،وخاصة بعد أن أرسل لي الصديق فيصل جلول مشيراً إلى عدم حضور الكبوجي في البرنامج،وقد كان ضيفي في تلك الأيام الأب الباسق الياس زحلاوي..تحدثنا وقال لي أنا سأهاتفه وأقنعه رغم كل شيء.

أيام ويرن الهاتف ويخبرني أبونا الياس بفحوى حديثه مع الكبوجي..وهو الكلام ذاته الذي أسمعنيه في مونترو.


وداع المطران كبوجي في كنيسة «بوكا دي لا فيرتا» في روما

اليوم يرحل هذا المشرقي المقدسي الحلبي وفي قلبي غصة..لأنني ما زلت أعتقد أن لديه الكثير ليقوله،وأن كنيسته قد قصّرت بحقه وبحق سامق حضوره وعظيم إيمانه..وما يعزيني أنه عاش حتى سمع بتحرير حلب،ولم يلتفت للضالين الذين اتهموه يمنة ويسرى...

نعم أعلم كم كانت القدس تعني له وكم كانت حلب توجعه،..لذلك أدعو البطريركية الكاثوليكية إلى دفنه في مسقط رأسه والدولة السورية إلى تكريمه وأهل المشرق ليرفعوا رؤوسهم بهذا المشرقي الأنطاكي المقدسي الحلبي الجليلي الجليل».

وفي كلمة للباحث والإعلامي اللبناني غسان الشامي في حفل تكريم المطران كبوجي التي أقيمت في كاتدرائية مار جرجس بحلب قال فيها:

«شكراً لمئات الحلبيين الذين غصّت بهم كاتدرائية مار جرجس في حلب رغم البرد القارس.

كنت أعرف أن غمر محبة يربطني بحلب، لكن بعد رحيل الكبوجي اكتشفت أن ما يشدّني إليها أيضاً أنها بيته هو..هو بيدر عزم طلع منها وبات حنطة البيدر نفسه وطحين الفقراء وعجين الفدائيين وخبز روح المقاومة وقائد حرس الوفاء للأرض.

من باب أنطاكيا الحلبي خرج الكبوجي ذات صباح ليدخل من باب دمشق إلى قلب القدس ..عاصمة الله وفي دروبها التي مشاها معلّمه كاشف المكيال عن السراج وحجر الزاوية المكين اكتشف كيف يغتال ابن الإنسان يومياً على يد جنود يهوه، وليتعرّف على درب صليبه وجلجلته.. ولذلك كلما حنّ باب من أبواب القدس السبعة المعذبة إلى الضوء وجدت صدى تنهيدة في أبواب حلب التسعة التي علّقت أيضاً على خشبة الحقد،..وطالما بقيت حجارة هذه الأبواب سيبقى طيف إيلاريون كبوجي يلوح على محيّاها.

لا تستغربوا إيناع فلسطين في هذا الحلبي الأنطاكي، فلكل امرىء من اسمه نصيب .. فهو يرث اسم شفيعه الفلسطيني القديس إيلاريون الذي من طاباتا جنوب غزة حيث تحفر آلام الناس عميقاً في قلب الله وقلوب القديسين والأمهات،.. ولأن معنى اسمه "البهيج" بذل حياته ، رغم المآسي والنكبات، يزرع الفرح في قلوب محبيه والمحتاجين وقلوب الأطفال المتعبين والحزانى حتى يأتيهم بالطوبى فيعزّون..ألم أقل لكم لكل امرىء من معنى اسمه نصيب؟

رغم كل طواحين الحزن والتعب والأسر والوقوف وحيداً بوجه العواصف كان صبر الكبوجي عظيماً مثل صمته، فكان يتلقى سهام ونميمة وأعين الحاسدين الضالين والفريسيين المعاصرين ويرمي بها في سلّة خلفه ويمضي لأن معلّمه الجليلي قال له اتبعني لأجعلك صياداً للناس..وهكذا اصطاد أنقياء القلوب واصطادوه رغم قلّتهم.

ولأن إيلاريون المعاصر مثل شفيعه الغزّي القديم لم يأبه للسارقين واللصوص ...يروى عن القديس القديم أن اللصوص داهموه وهو يصلّي فلم يلتفت..قالوا له ألا تخشانا، فأجابهم " من لا يملك شيئاً لا يخاف " فردّوا: سنقتلك، التفت إليهم قائلاً: " أنا لا أخاف الموت ومستعد له"..وهذا إيلاريون الحلبي كنزَ حنطته في أهراءات السماء فما أرهبه لصوص الأرض فغادرها فقيراً عن كنزتين وثوب كهنوتي واحد..هكذا يكون أتباع الناصري ..يبيعون أرديتهم ويتركون كل شيئ ويتبعونه.

هذا السوري المشرقي الذي رأيته ذات يوم يتوكأ على تسعينه وعصاه في مونترو يلف عنقه المرفوع بشال علم بلاده غير هيّاب ضباع الكون، مستعيداً مجد الكبوجي المقدسي الذي فقأ بجرأته عين موشي دايان الثانية وكل أجناد يهوه ليقول لمن سيأتي إن أبواب الجحيم لن تقوى على من يغذ السير إلى الله والناس معاً.

إنها حلب الخارجة من جحيمها..حلب التي أحب..حلب التي كان يتسقط أخبارها كل صباح ويسأل عن ناسها ويتألم ، تسعى إلى تكريمه بعدما خذل في وداعه الأخير وغض الكثيرون بصرهم وانكفأوا عن قامة الكبوجي..حلب التي يحق لها أن تفخر بأنها مسقط رأسه كما كان يفخر بها ويتألم لها،.. ونحن الذين أحببناه واحترمناه نقول: إن هذه البلاد وهذه الكنائس إن لم تزرع كبوجيين كل يوم لن يكون لها مكان تحت الشمس ..بل سيهال عليها تراب الأرض...
شكراً لكم شكراً للكبوجي..تشفّع لنا يا ابن حلب والقدس».



اكتشف سورية

وكالات