«ذلك القبوُ الذي صارَ سقفاً»: ما جرى مع أدونيس في الجامعة الأميركية

.

لكأنَّ شيئاً ما غيرَ مُعتاد، بدا (وكأنّه) مُسبَّقَ الإعداد في المشهديَّةِ المُصنَّعة، بما لا يستقيمُ مع احتفائيَّةٍ استثنائيَّة (السنويَّة التأسيسيَّة المائة والخمسون للمؤسَّسة الأكاديميّة الأولى في الشرق)، وبما لا يليقُ بالمُضيفِ وضيافتهِ المعتادة لأيِّ ضيفٍ اعتياديّ، فكيف إذا كانَ المُحتفى به، قامةً وقيمةً، باستثنائيّةٍ أدونيسيّة، وحالةً عاليةَ الفرادةِ في التنويريّة (وتلك رسالةُ هذه المؤسّسة على كلّ حال)، وكذا في الرؤيويّة والثوريَّةِ الحقّة، وذُروةً إبداعيَّةً بين ذُروات الفِكر والشعرِ، أيضاً، التي لا يرقى إلى سُفوحها جُلُّ (إنْ لم يكن مُجملُ) المشاركين الآخرين في الاحتفاليّة (مع كامل الاحترام والتقدير)!

وأُنوِّهُ، هنا، بأنّني لا أتحدّثُ باسمِ أدونيس (الذي لا يحتاجُ من يتحدَّثُ باسمه) وإنَّما أعرِضُ لوجهةِ نظري فيما حدَث، وأصدرُ في ذلك عن دافع الحِرصِ على الجامعةِ، أولّاً، وعلى الموضوع الذي اجتمعنا عليه، ولأجلهِ ذلك اليوم، ثانياً. وعليهِ، فإنَّ ما حصلَ، ما خلا تقديمَ المُقدِّم الحَصيف، كان غيرَ لائقٍ، قَبْلاً، بالمُضيف. ففي حين لم يكن حُسنُ الوِفادةِ والتقدير ليُضيفَ للضَّيف الكبير، الشيءَ الكثير، فإنَّهُ يكادُ يكونُ نوعاً من الإدانة للمُضيف (وهو ما يعزُّ على من يعتزُّ بانتمائِهِ لهذهِ المؤسَّسة، ويحزُّ في نفسهِ)، ونوعاً من الإهانةْ لجمهورِ الضَّيف ومُحبيّه، حاضِرينَ وغائبِين، بل مُغيَّبِين بفعلِ تعتيمٍ إعلاميٍّ وإعلانيٍّ غيرِ مسبوق، وغير مُسوَّغ، بل مُفاجئٍ، إلاّ بالنسبةِ لأولئكَ الذين كان لديهم الوقتُ لإعداد لافتاتهم (غيرِ اللافتة)، ويافطاتهم ومنشوراتهم «الثوريّة»، ولإعدادِ مقالاتٍ مُسبقةِ الصُّنع، كُتبت (ونُشرت) قبل الحدث، أو كُتِبت مِن قِبَل مَن لم يكن بين الحضور!

وبالعودة إلى حيثيّات المشهد اللافتة، زمانيّاً، مكانيّاً، وإعلانيّاً، نجد أنّها حدثت ظهيرة يوم عُطلة أسبوعيّة!!. في صالةٍ متواضعة، يا للمفارقةِ الساخرة، في قبوِ أحدِ أبنية جامعةٍ زاخرةٍ ومُتخَمةٍ بالمدرّجات الخاوية في حينهِ! وفي غيابِ أيِّ إعلانٍ مُسبّق، وأيِّ إعلامٍ، سوى من أتى للمبالغةِ، رُبَّما، في تصوير اليافطاتِ المناوئة، والمساهَمة، بالتالي، في محاولةِ اختطاف اللحظة والحدَث!

وبالنظرِ إلى الطريقةِ التي وُظِّفت بها هذه الحيثيّات، نستَشعِرُ الاستغرابَ والارتياب، فهي تشي بمحاولةٍ ما للإيحاءِ بأنَّ الجامعة كَكُلّ، وليس البعض في بعضِ أقسامها فحسب، لم تكن لديها الرغبةُ بالاحتفاء بأدونيس (وهو ما يتنافرُ مع مبدأ الدعوة في المقام الأوَّل، ومع حفاوات التكريم الكبرى التي حظي بها الشاعرُ والمفكِّر في ذات المؤسّسة، في السابق)!. أو أنَّ أدونيس، مُرتَبِكاً ومُرتَكِباً، قد تسلَّلَ خِشيةً، وخِلسةً (وهو ما يتناقضُ مع الطبعِ، والطبيعةِ الأدونيسيّة)، وأنّهُ انسلَّ خِفيةً في غفلةٍ من أيّام الأسبوع إلى ذلك القبو (الذي تسامى، بالمناسبة، وصار مُذ ولِجَهُ أدونيس، الشُرفةَ أو السقفَ الأكثرَ عُلُوّاً وسُمُوّاً بين طبقاتِ ذلك الصرح العالي)!. أو أنَّ جمهورَ أدونيس العريضَ قد تَضَيَّقَ، وضَاقَ بهِ، وعَزَفَ عنهُ، وعن آرائِه (وهو ما يتنافى، فيما يتنافى، مع نفادِ، أو قُربِ نفادِ آخرِ إصداراتِهِ: «غُبار المُدن، بؤس التاريخ»). كُلُّ ذلك حصل (كما يحاول البعضُ أن يوحي)، بسببِ عدمِ إعجابِ أدونيس بالجحيمِ المسمّى «ربيعاً»، ولأنَّهُ لا يتماهى في مواقفهِ مع أغربِ «ثورةٍ» في التاريخ، وأكثرِها جحيميّةً وبهيميّة، ومع مُعارضةٍ هي غايةٌ في الإقصائيّة (بلِ الإلغائيّة)، لكلِّ من يختلفُ بالرأي معها، أو عنها، قليلاً أو كثيراً!


في المتن، قال الكبير أدونيس، في المحاضرة وبعدَها، في الشِعرِ، وفي الفِكْرِ، وفي الموقف، وبعيداً عن التفصيل الشَّكليِّ العابر، أو الشكلانيِّ العاثر، كلاماً كبيراً تجاوَزَ صغائرَ وهوامشَ المشهديّة المسرحويّة الشَّعبويّة المُفتعَلة، والمُبتذلة، والتي لم تكن إلاّ شهادةً على مَن صنّعها. بقي خطابُ أدونيس ذُروةً من ذُروات الحُبّ، ولم ينـزلِق إلى قبو البُغضِ، الذي انزلَقَ إليهِ البعض. وكم كان يجدر بـ»واجهةٍ» يُفترضُ أنَّها مدنيّة (لـ»ثورةٍ» أقلُّ ما يُقالُ فيها إنها غير مدنيَّة)، أن تُدرك الفارقَ بين مُحاولةِ النهوض والارتقاءِ نحو القامةِ الأدونيسيّة، ومُحاولةِ التسلُّقِ عليها، وكم أرثي لمن أتى الشجرة ونبعةَ الماء، لا لينهلَ منها أو يقطِفَ الثمرة بل ليرميها بحجر! وكم كانَ حريّاً بها أن تُقدِّمَ نفسها، ولو لمرَّةٍ واحدة، بشكلٍ إيجابيّ (أو شِبه إيجابيّ)، فلا تبدو بأنّ لا قدرةَ أو رغبةَ لديها إلاّ في الاستماعِ إلى صوتها! ولا تبدو أن لا أخلاقَ لها (مع الأسف) ولا خَلاقَ، حتّى مع قامةٍ خلوقةٍ وخلاّقةٍ بامتياز! لقد أثبتَت مرّةً أُخرى، ويا للفاجعة، أنَّها لا ترى في المُفكِّر، والفنّان، والإنسان، إلاّ إلى طائفتهِ بالولادة، وإلى موقفهِ الفكريِّ أو السِياسيِّ المُختلف. وفي حين ترى أنّهُ يحقُّ لـ «ثورتها» الاختلافُ العُنفيُّ الأقصى، والاعتراضُ بكلِّ أنواعِ السلاح، والتحالفُ حتّى مع الشيطان، وتجاوزه في الارتكابات، ترى، في المقابل، أنّه لا يحقُّ لأحدٍ، كائناً مَن كان، الاختلافُ معها، أو الاعتراض على أفعالها! كم كانَ يعوزها، ويعوزُ تلك الصحافةِ، الحصافةُ، فلا تُقدِّمَ نفسَها حليفةً للظلاميّةِ والرجعيّةِ والتكفير، ومتخاصِمةً مع التقدميّةِ والتنويرِ والتفكير، ومع واحدٍ من أهمِّ رموزه في العصر الحديث!

بعضُ كُتّاب المقالات مُسبقةِ أو لاحِقةِ الصُّنع (والدَّفع ربما)، أعطوا أنفسَهم الحقَّ بالحُكم على أدونيس ورميهِ بالإثم، وأسقطوا عنه الاسم، فصار مُجرّد ‹علي أحمد سعيد إسبر›، كنوعٍ من الشُروعِ بإعدامٍ معنويّ يندرِجُ في سِياقِ الإعدامات التي تمرَّسَت عليها ثورتهم، إزاءَ كلِّ من لا يَرَى في هذا «الربيعِ» ربيعاً، وفي هذهِ «الثورةِ» ثورة! لقد أسقطوا عنه الاسم بعدما أسقطوا عليه ما أسقطوا من الاتِّهامات الباطلةِ، كُلَّ البُطلان، وبما يتساوقُ مع دأبِ ماكينةٍ إعلاميّةٍ مدفوعٍ لها، أو بها، ومنذ اليوم الأوّل لـ«ثورةٍ» مشؤومة، موسومةٍ بسلميّةٍ مزعومة، على اختطاف الحقيقةِ، وأخذها في غير اتِّجاهها، بشكلٍ مُمَنهَجٍ ومُبرمج، بل وصناعتها تصنيعاً دنيئاً ورديئاً، لا يقومُ على تضخيم بعض الوقائِع، وتوظيفها بالباطل، وللباطلِ، فقط، بل يقوم على اختلاقِها وتلفيقها كُليّةً، أو لَيِّها وقلبِها رأساً على عقبٍ، أيضاً، بحيث يتحوّل الضحايا، هكذا وبكلِّ بساطة، إلى جُناةٍ و»شَبِّيحة»، فيما يصبحُ الجُناةُ ضحايا، والغُزاةُ أحراراً وثُوّارا!

أيّاً كانت تلك المواجهة مع أدونيس، فلقد فشلت هذه الواجهة، كما رأيت، في استفزازه، وفي ابتزازهِ، وإرهابهِ، أو الضغطِ عليه، فتَرفَّعَ وسما فوقَ أقبيتها، وردَّ على أسئلتها النمطيّة (البعيدةِ كُلِّ البُعد عن موضوع المحاضرة)، وغير المُحرِجة أصلاً، بأسئلةٍ شديدة الإحراج لهذهِ «الثورة» وجمهورها! وهي، برغم بساطتها وشِدّةِ وضوحها، ظلَّت عصيَّةً على الإجابة! كمثلِ طلب الإتيان بأيِّ بيانٍ معلَنٍ لهذه «الثورةِ»، ورُعاتِها ودُعاتِها، يوضِّحُ الموقفَ من: إسرائيل..حُريّةِ فلسطين..تحريرِ الأرضِ العربيةِ المحتلّة..تحريرِ وحقوقِ المرأة، وهي تُمثِّلُ الأكثريَّةَ العدديّة..الرجعيّةِ، والسلفيّةِ، والماضويّة..التبعيَّةِ للغرب الاستعماري... المسألةِ السياديّةِ ذات الصِّلة... المسألةِ الدِّينيَّةِ والطائفيّة..المدنيّةِ، والعَلمانيّةِ، والتعدُّديّة..مفهومَي الأكثريّةِ والأقليّة، بمعنيَيهما السياسيِّ والانتخابيّ، مقابل معناهما العدديّ: العُنصريّ أو القطيعيّ، والفئويّ: المذهَبيّ أو القَبَليّ...

لم يُدافع أدونيس، كما شأنهُ دائماً، عن أيِّ «نظامٍ» أو «حكومة»، ولكنَّهُ كانَ، ولا يزال، يدافعُ ويُرافِعُ عن الإنسانِ كإنسان، وعنِ الوطنِ كوطن: عُنواناً، مكاناً، زماناً... أو تاريخاً وجُغرافيا، وعن مفهوم الدَّولةِ الوطنيّة المدنيّة، وعن مفهومِ الثورةِ الحقّة كمشروعٍ مشروع (لا يروقُ لأصحاب المشروعِ المضادِ). لقد كان أدونيس هو مَن يَسأل، لا مَن يُسأل. وفي مقابل كلِّ ما فعلَته هذه «الثورة» من شُرورٍ جحيميّة عَصيّةٍ على التعداد (فاقت في الفساد كُلَّ فساد، وفي الاستبدادِ كُلَّ استبداد)، طلَبَ من سائلِيه أن يُسمُّوا خيراً حقيقيّاً واحداً صنعَته تلك «الثورة»، نقلَت به البلادَ من حالٍ إلى حالٍ أفضل (كما يُفترضُ بالثورات، كُلِّ الثورات أن تفعل)! وهو ما يؤكِّدُ أنَّ أدونيس لم يُخدعُ بحيثيّات المشهدِ المصنَّعةِ وإيحاءاتها المُصطنَعةْ؟! وبالتأكيد لا يخضَعْ لإرهابٍ أو ابتزازٍ فكريٍّ يطالُ رأيَه وقناعاتهِ الراسخةَ، رسوخَ الأرضِ في أرضها، ورسوخَ الشرقِ في الشرقْ، كما لم يخضعْ من قبل سوى لسُلطةِ الحُبِّ والحقيقةِ والحقّ...

إذن،لم يكنِ الزمانُ في إجازةٍ، في ذلك الزمان، والمكانُ لم يكن فارغاً، أو شِبهَ فارغٍ، كما أرادَ له البعضُ (أو تمنّاه)، بل كانَ، وسيبقى مُمتلئاً ومنشغِلاً بأدونيس، الشاغلِ والمالئِ، والمُمتلئِ كعادتهِ، حُضوراً، والذي أشعلَ المكانَ، كعادتهِ، بـ«ألَقهِ الأدُونِيسيّ»، وبالأسئلة التي ألقى بها قبل أن يرحلَ ويُحوِّلَ ذلك القبو إلى غابةِ ضوء... سوى أنه لا يرحل، ولن يرحل، إلاّ إلى المُستقبَل، رغماً عن الماضَويّة والماضَويين...

*استشاري ومصمم معماري، أستاذ محاضر في الجامعة الاميركية في بيروت

سنان حسن

al-akhbar.com