طرق القوافل التدمرية

إن تفحص شبكة الطرق التي كانت تدمر عروس الصحراء مركزاً لها، خير ما يمكن عمله لدراسة الدور الواسع الذي لعبته مدينة تدمر في تجارة القوافل، ويمكننا بذلك فهم التأثير الذي كان لسكان الهلال الخصيب والجزيرة العربية على تدمر وسكانها، فقد تأثر السكان بعمليتي المد والجزر التي خضعت لهما هذه المنطقة التي بلغت الأوج خلال القرون الثلاثة الميلادية الأولى بفضل التنظيم البارع لشبكة الطرق الممتدة من تدمر إلى كافة الاتجاهات والمجهزة تجهيزاً يدل على السيطرة الكاملة بحصونها وطرقها الممهدة وآبارها وحامياتها العسكرية والعشائر المتحالفة معها، وتقسيمها إلى مراحل ومحطات وأميال تحدد المسافات.

1ـ حركة المد: وتكثر أسبابها في تدمر من عناصر وافدة حضرية أقبلت من شمالي الجزيرة العربية والجزيرة الفراتية وحوران، ومن البداة نصف الحضريين من جميع القبائل المحيطة بتدمر، وبينهم التاجر والعامل والصانع، جاؤوها من المدن السورية وخاصة حمص وريفها ليساهموا في الحركة التجارية الواسعة.

2ـ حركة الجزر: يلاحظ هجرة عكسية إلى البادية والقرى المحيطة بها كمنطقة جبل البلعاس الغربي (عقارب = عقاربة، والسعن، والسخنة ومدن الفرات، وحمص وحماه وحلب وحوران وأريافها) وتشمل مجموعات تدمرية من التجار والزراع وأرباب القوافل ترتكز عليهم التجارة التدمرية بيعاً وشراءاً أو نقلاً وحراسة وتنظيماً الخ...
وكانت الحياة في تدمر ومنطقتها خلال عصر الازدهار (القرون الثلاثة بعد الميلاد) ناشطة شاملة كل صنوف التجارة، بفضل التنظيم العلمي الذي أعد للقوافل وحركتها الدائمة في كل الاتجاهات، من تهيئة طرق وجسور ومراكز حراسة وآبار ومحطات استراحة وأميال حجرية تشير إلى أسماء الأماكن والمسافات.

وقد أمدتنا دراسة الكتابات المكتشفة فيها، وبشكل خاص القانون المالي المشهور باسم (التعرفة الجمركية) الصادر في 18 نيسان عام 137 م والمحفوظ اليوم في متحف الأرميتاج في لينينغراد بالاتحاد السوفييتي على مدى اتساع التجارة وتنوعها وإن تدمر كانت أهم مركز لها على الإطلاق، وساعدت السيولة النقدية المتدفقة من أرباح التجارة الدولية على مدن ما بين النهرين وخراسان والسند وجزيرة العرب ومدن حوض البحر المتوسط والأناضول ومصر على إشادة مجد تدمر، وإن شبكة الطرق خير شاهد على العلاقات التجارية فهي شرايين الحياة وينابيعها، ونظرة بسيطة على خارطة الطرق في المنطقة التدمرية، تبين أن تدمر كانت ترتبط ارتباطاً وثيقاً اقتصادياً وتجارياً بمتحضري الغرب الذين تأثروا بالحضارة الهيلنستية، وقد انصرف الكثير من الباحثين وعلماء الآثار منذ أمد طويل لرسم خارطة لطرق تدمر ودروبها ومسالكها المختلفة. وتم تقييم هذه الدراسات بفضل الدراسات الميدانية والرحلات التي قام بها السيد أوليس موزيل A.Musil أواخر القرن الماضي، وعاش السيد موزيل خمس سنوات بين مضارب عشيرة الرولة في البادية السورية وأطلق عليه موسى الرويلي، ثم توسعت هذه الدراسات بالاستكشاف الجوي الذي قام به الأب (بواد بار P.Poidebard) خلال الحرب العالمية الأولى. ومن الكتابات المكتشفة حديثاً من قبل المديرية العامة للآثار والمتاحف ومديرية آثار تدمر على أميال الطريق غربي تدمر وجنوبها وشرقها وسوف نذكرها في سياق البحث، وعلينا أن لا ننسى أن الأسماء اللاتينية هي ترجمة لأسماء المواقع العربية.

الطرق بين تدمر ـ دمشق:
وعددها ثلاثة طرق تبدأ من تدمر وتدل على النشاط التجاري المتبادل بين هاتين المدينتين. والطرق المباشرة بينهما تساير وتوازي جبل الرواق أو السلاسل التدمرية المتفرعة عن جبل لبنان الشرقي. وتسير من تدمر إلى موقع البيضا ـ فقصر الحير الغربي (واسمه القديم هليا راميا Helia Ramia) وقد ظل الموقع مزدهراً إلى نهاية خلافة الأمويين، ثم إلى القريتين (وهي نزالا القديمة Nazala) وجيرود (جيرودا Geroda) ـ القطيفة (أدارين Adarin) ـ دمشق. وتقدم لنا لوحة (بوتنجر La Table de Peutinger)، اتجاهاً آخر يبدأ من القريتين ثم إلى مهين (قديماً Danaba) ثم تلتف حول كتلة صخرية لتلتقي بطريق حمص ـ دمشق، مارة بقارة (كيهيرا Cehere) والنبك (كزاما Casama) فالقسطل (أدامانا Adamana) والقطيفة ـ والقصير Admedera فدمشق. والطريق الثالثة: تبدأ من تدمر وتعتمد على سلسلة من الخانات والحصون الصغيرة المجهزة بالآبار والوسائل الزراعية التي تكفي لطعام الحامية ومواشيها، وقد بقيت هذه الحصون مستخدمة كمحطات وخانات تبدأ من الخان الأبيض الواقع على السفح الشرقي لجبل هيان ويبعد (20 كم) غربي تدمر، ثم خان الحلابات (وهو موقع بارياركا Beriarca) وقد تأكد هذا الاسم من كتابة محفورة على ميل حجري، عثرنا عليه عام 1984 على بعد (4 كم) شمالي خان الحلابات وقد كتبت عليه المسافة بين تدمر وبرياركا على الطريق الديوقليسيانية (لايزال الميل في موقعه) وخان القطار ـ أكرنيلا الواقع شمالي موقع خنيفيس بـ (6 كم)، وقد كشفنا ميلاً حجرياً عام 1985 أثناء موسم الترميم في خان الحلابات على بعد (5 كم) إلى الغرب منه، كتب عليه (ستراتا ديوقليسيانا أكرنيلا ـ برياركا 8 أميال × 3 أميال) والمسافة هي خمس كيلومترات من الموقع إلى خان الحلابات و(12 كم) إلى خان القطار. مع العلم أن الميل الروماني يساوي (1482 متراً) والميل عبارة عن عضادة مستطيلة من الحجر المنحوت كتب عليها لاحقاً وهي منقولة من بناء أقدم قمنا بنقلها إلى جوار الجدار الجنوبي بخان الحلابات ـ ثم يستمر الطريق إلى خان البصيري (أوراكا Auraca) وهو حصن في ممر إجباري كانت تقيم فيه حامية تدمرية ويتحكم في ممر جبلي اضطراري يؤدي إلى سد خربقه (والخربق لغةً: الأرض الصلبة) وقصر الحير الغربي حيث يلتقي فرع منها بالطريق الأولى. ولعل كلمة أوراكا ترجمة لاتينية للاسم العربي (الورك) وهو المفصل الرئيسي بين الجسم وعظم الفخذ، وهو الممر الفاصل بين كتلة جبل الرواق وجبل هيان، ومن البصيري تمتد الطريق جنوباً إلى خان (عنيبة Anabatha) ثم إلى خان المنقورة (Valle alba) ومنه إلى خان التراب (Valle Diocletiana) ثم إلى خان أبو الشامات ومنه إلى الضمير (Thelsea) فدمشق، والطريق الديوقليسيانية تنحرف قبل الضمير بقليل بفرع نحو الجنوب مارة بدير الشمالي وتل أصفر وشقا ودير الكهف والقصر الأزرق ممتدة إلى وادي السرحان في العربية السعودية. ويوازيها درب آخر يمتد من البخراء الواقعة جنوبي تدمر بـ 24 كم وهي مدينة مسورة، والاسم مشتق من البَخَر وهو الرائحة النتنة المنبعثة من مياه آبارها الكبريتية، ذكرها أبو الفرج وقال أنها قصر النعمان بن بشير الأنصاري كان والياً على حمص في العهد الأموي، وقال عن الوليد الثاني أنه (نزل حصن البخراء وقتل فيه) ويظن أن اسمها القديم باللاتيني (غورية أو كورية) كما تذكر المصادر الكلاسيكية، والاسم على الراجح عربي وترجمة لاتينية للاسم العربي (القرية) ومن البخراء إلى مليكة وبها حصن وبئر ثم إلى العليانية وبها عدة آبار ثم إلى السبع بيار ومنه إلى قصر الصيقل وخبرتها الواسعة (والخبرة منطقة منخفضة كتيمة تحفظ الماء). ثم أبو الشامات (Thama) متصلاً بالطريق الشمالي ويتفرع منه درب من السبع بيار إلى الجنوب فجبل سيس فالزلف ـ فالنمارة.

وقد وضع سقوط مملكة تدمر واضمحلال جيشها على يد الرومان عام 273 م أمام الرومان قضية خطيرة، وبفضل كتابة النمارة عرفنا أن ملك الحيرة كان يقوم بنشر الأمن في البادية الشرقية، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لنشر الحماية للسكان المتحضرين من غزوات البدو، ومن الكتابات التي درسها السيد بفلوم Pflaum المكتشفة في درعا وبصرى، تشير إلى أن أورليان (بعد سقوط تدمر) باشر بتحصين مدن الولاية العربية، وجاء بعده ديوقليسيان يرمم ويجدد بعض الحصون الواقعة على ما يسمى باسمه (ستراتا ديوقليسيانا) المعتمدة على محور تدمر، وستراتا ترجمة لاتينية لكلمة الصراط العربية وتعني الطريق المستقيم الممهد، وإن الإمبراطور المذكور عهد إلى الملوك الغساسنة بحفظ شؤون الأمن في البادية وحتى الفرات.

وقد تعرف الأب بواد بار على درب تلتف إلى الشرق حول ديرة التلول والصفا وتمتد إلى الجوف في الجزيرة العربية، تتفادى حمم البراكين الصعبة جداً بالنسبة للقوافل، فهي درب للبدو يعود إلى زمن قديم سلكه العرب الصفويون والثموديون في نجعتهم بين الشمال والجنوب، وفي العهد الروماني استخدم هذا الدرب، وتم بناء قلعة (برقع) للتحكم فيه ومنع غارات البدو على سالكيه وعلى الأراضي المزروعة ولمراقبة الدروب المؤدية إلى شرقي بصرى والقصر الأزرق جنوباً وقلعة برقع شرقاً والنمارة شمالاً. وقد سلكته قافلة الحج خلال الحروب الصليبية تفادياً لتعدياتهم على الحجيج، ويعدد المؤرخ ياقوت الحموي مراحل هذه الطريق، كما يوجد درب آخر يقع إلى الشرق منه ويمتد من موقع البصيري جنوبي تدمر إلى موقع السبع بيار ثم إلى جبل عنيزة فالجوف في العربية السعودية.

الطريق بين تدمر ـ حمص:
الطريق الأولى تبدأ من وادي القبور ـ فسهل الدو حيث (موقع الكراسي) وهو مفترق الطريق المتجه إلى البيضا ـ تياس ـ الفرقلس (بيت بريكليس Bet Proclis) وعيفير ـ حمص وقد أقام التدمريون عام 114 م آبدة تذكارية في هذا الموقع تشير إلى الخصب وعثر على ثلاثة مذابح قدمتها تدمر للإله الذي تبارك اسمه للأبد عام 114 م، ولا تزال بعض الأميال في مواقعها حالياً على بعد 20 كم غربي تدمر، نقل أحدها إلى متحف تدمر وهو من عهد تراجان ونشره الدكتور البني في الحوليات العدد رقم (10) ومن الكراسي إلى بيار حجار ـ مران ـ تلال الشومرية ـ حمص.

ومن الكراسي أيضاً إلى بيان حجار ـ عقارب (عقاربة) - قصر بن وردان ـ اسريا سريان ـ حلب أنطاكية.
وطريق رابعة من تدمر إلى خان الحلابات ـ خان القطار ـ خان البصيري ـ فقصر الحير الغربي (موقع هليا راميا) ـ الفرقلس ـ حمص. ولا يزال الطريق بين تدمر وحمص يمر عبر الطريقين الأول والرابع.

ومن الكتابات العربية المكتشفة في قصر الحير الشرقي والتي تعود إلى زمن الخليفة هشام بن عبد الملك والمؤرخة عام 110 للهجرة الموافق 726 م، نعرف الأهمية البالغة التي تعقدها حمص على منشآت وحصون البادية السورية. كما نعرف طريقاً آخر من حمص يمر بالسلمية ـ اسرية (سريان Seriane) والزراعة (موقع عمشردى) وجب كديم (اكاداما Acadama) والطيبة (وهو موقع العُرض القديم الذي أطلق عليه في لائحة بوتنجر اسم اوريزا = العُرض Oriza) وهو الترجمة اللاتينية لاسم العرض، وموقع قصر الحير الشرقي ثم البغالي ـ قباقب ـ الشولة ـ البصيرة (قرقيسياء) على الفرات.

تدمر ـ الفرات:
تحدد لائحة بوتنجر الطريق الممتدة نحو الشمال إلى سورا على الشكل التالي: تدمر ـ أرك (Araka) ـ أوريزا ـ (الطيبة) ـ الشولة (موقع الكوم) ـ الرصافة ـ سورا.

وأضاف إليها بتولمي (بوتيا) وذكر السيد دوسو أنها موقع السخنة الحالي وأركا: مشتقة من شجر الأراك الذي كان يكثر في تلك المنطقة، وقد عثرنا عام 1970 قرب المنصف وعلى ميل طريق من عهد الإمبراطور فسباسيان بن تيتوس عام 70 م ويحدد المسافة إلى تدمر بـ 9 أميال. وعلى طريق ثانٍ من الحجر قرب موقع المنصف يحدد الطريق بين تدمر ـ أرك من عهد قسطنطين من القرن الرابع لميلادي ويدل على استمرار استخدام الطريق المذكورة لغايات عسكرية وربما تجارية وأمنية بعد سقوط المملكة التدمرية.

والطريق الثانية نحو الشرق: تدمر ـ أرك ـ المحطة الثالثة ـ البئر الجديد ـ الصالحية أو دورا أوروبوس. ومعناه: (الحصن الأمامي) ويستمر فرع الطريق على ضفة ضفة الفرات اليمنى حتى عانة (Anat) ومنها إلى كرك ميسان فالخليج العربي.

والطريق الثالثة: تدمر ـ البازورية ـ أم العمد (حيث أقام التدمريون عموداً تذكارياً لتكريم سوادة بن مالك أحد رجال القوافل المشهورة الذي حمى قوافل التدمريين من اللصوص وقطاع الطرق، فكرموه بإقامة العمود التذكاري في الموقع المذكور ويحمل تمثالاً لسوادة، وأربعة تماثيل أخرى في معبد بل والآغورا ومعبد بعلشمين وفي الغابة المقدسة عام 198 م، ومن أم العمد إلى موقع مليكة ـ ثم إلى أم الصلابيخ في وادي المياه وفيه بقايا حصن وآبار، والصلابيخ هي حجر الصوان ـ فقصر صواب - فالكعرة ـ فهيت على الفرات ومنها إلى ميسان حيث يتفرع الطريق إلى طريق بحرية تصل إلى ميناء باربايكوس وطريق برية تجتاز بلاد فارس شرقاً.

الطريق الرابعة:
تدمر ـ البخراء وهي مفترق طرق إلى دمشق، والاسم اللاتيني لها هو كورية أو غورية على لائحة بوتنجر، ومنها طريق أخرى تستمر إلى مليكة (وبها بقايا أساسات خان وبئر) فموقع جفة ـ فالسجري ـ ثم إلى أم الصلابيخ ـ فقصر صواب ـ فعانة على الفرات ومنه إلى ميسان.

موقع اسرية شمالي تدمر:
(وهو موقع سريان القديم) يقع في منتصف الطريق التي تجتاز الصحراء السورية من الغرب إلى الشرق. وكان قديماً مركزاً نشيطاً وعقدة مواصلات كما تدل على ذلك شبكة الطرق الممتدة منه وإليه، ومركزاً هاماً لينابيع المياه والمراعي ويدل على رخائها معبدها ذو الطراز الكلاسيكي، وقد تحول إلى كنيسة خلال القرن الرابع الميلادي، ويدل على الحالة الحضرية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت آنئذ، وتشير إلى ذلك شبكة التوزيع المائية والأقنية الغزيرة لتغطي المنطقة المجاورة له شرقاً في موقعي الزراعة (عمشة ردي) وكديم (أكاداما) حيث جاوزت الجهود المبذولة لاستنباط المياه وتوزيعها وأساليب الزراعة المرحلة البسيطة لحفر الآبار لري الإنسان والمواشي، وبلغت مرحلة تجهيز الريف بالمزروعات الدائمة والفصلية، وبقيت هذه الواحات عامرة وخضراء حتى نهاية الأمويين، وكان ذلك جهداً مثمراً قام به العرب المتحضرون. فمن اسرية تمتد طريق نحر الغرب فتلتقي بالقرب من تل عداي واسمه اللاتيني (تيليدا Theleda) بالطريق الممتدة من تدمر إلى أفاميا التي سيرد ذكرها بعد قليل.

ومنها طريق أخرى نحو الشمال الغربي فتبلغ الأندري (اندرونا Andarona) ثم إلى قنسرين (كالسيس)، فأنطاكية.

ومنها طريق إلى الشمال حتى خناصر (اناصرتا Anasartha) ثم سفيرة ـ فحلب ومنها طريق تمتد نحو الشرق مكملة الطريق الواصلة إلى السلمية ـ حمص ـ فتجتاز اسرية ـ خريبة ـ الرصافة.

وفي جنوبها طريق تلتف حولها دون المرور باسرية، وتصل حمص ـ بالسلمية والقسطل والزراعة والرصافة. ولم يحدد حتى الآن موقع (الزراعة)، ويمكن أن يكون موقع عمشة ردي، حيث يوجد حصن وصومعتان مسيحيتان ومراع غنية وأقنية. ويشير الإدريسي من القرن الثاني عشر ميلادي إلى أنه: (كان في الزراعة حصن تحتله حامية وأن البدو كانوا يرعون أغنامهم حولها).

وتفصل كتلة جبلية كثيرة التمزق تشكل (جبل البلعاس) اسرية عن تدمر، وتمر مستقيمة بينهما عبر بير سليم ـ وادي الأبيض، وطريق أخرى تسير غربي جبل البلعاس فتلتقي في موقع عقارب (عقاربة) بطريق أفاميا ـ تدمر. وهناك طريق ثالثة موازية للطريقين تتجه من اسرية إلى السخنة.

الطريق بين تدمر ـ أفاميا ـ حلب:
إن الجزء الأول من الطريق غير واضح، وإن موقع (سانتوم بوتيا Centum Putea) الذي قال عنه دوسو أنه موقع السخنة بينما يجعله شلومبرجيه في خربة رمضان بجل شاعر، ووضعه موزيل في بيار حجار؟ ولم يتأكد موقعه حتى الآن، وإن كان من المرجح أن يكون موقع السخنة الحالي ونحتاج إلى دليل يثبت ذلك من النصوص الجديدة أو كتابات أميال الطريق.

فمن تدمر إلى موقع الكراسي في سهل الدو غربي تدمر، مجتازاً جبل شاعر حيث اكتشف شلومبرجيه العديد من المواقع الحضرية وأهمها خربة سمرين حيث وجد معبداً للرب (إيجال) ومنها إلى عقارب (عقاربة Ocariba) وتل عداي (Theleda) وكفر الراع (كفرياس Cappareas) ـ أفاميا ـ أنطاكية، ويلتقي في موقع كفر الراع بطريق دمشق ـ حمص ـ ابيفانيا (حماه) المؤدية إلى حلب عبر معرة النعمان وقنسرين. وحتى أواخر القرن التاسع عشر كانت الطريق الممتدة من البصرة إلى بغداد إلى حلب تمر بمنطقة تدمر (بموقع قصر الحير الشرقي) وأهملت هذه الطريق منذ افتتاح ترعة المحمودية بمصر عام 1844م. وانقطعت بافتتاح قناة السويس عام 1869م، وقد ذكرها كثير من الرحالة الذين مروا بها ومنهم: بطرس بيلا فالا من القرن السابع عشر وبليستد من القرن الثامن عشر ودوسو من بداية القرن التاسع عشر وموزيل وغابرييل في بداية القرن العشرين وشلومبرجيه وسيريغ عام 1930، وقد وصفها بدقة القنصل الفرنسي روسو Rousseau بعد رحلته عام 1808م. وذكر أنه بعد أن فارقت قافلته بغداد وصل إلى (هيت Hit) ثم إلى أبو كمال متجنبة المرور بعانة، ومن هيت انقسمت القافلة إلى قسمين الأول: ذهب غرباً إلى دورا أوروبوس (الصالحية) فوادي المياه ـ بير السجري ـ السبع بيار ـ قصر الصيقل ـ أبو الشامات ـ دمشق.

وصعد القسم الثاني: باتجاه حلب إلى تل مدقوق ثم انحرف إلى الشمال الغربي إلى جب الغانم ـ فالسفح الجنوبي لجبل البشري ـ وجبل الضويحك ـ فالطيبة، حيث وصلها من الجنوب، ويذكر أنه انتهز فرصة استراحة القافلة فيها، فزار موقع قصر الحير الشرقي ووصف أطلال القصر الأموي، وشاهد الكتابة العربية الهامة التي تشير إلى أن هشام بن عبد الملك قدم هذه الأطلال عام 110هـ، 726 م، وقام بالعمل بها ورشة من عمال حمص وعلى رأسهم المعلم سليمان بن عبيد ثم تابع روسو وقافلته طريقهم من الطيبة عابراً الطريق الواقع بين جبلي المنشار والمقيبرة ومنها إلى كديم ـ وأبو الفياض، فحزم الصر، ثم إلى بحيرة الجبول فبوز الخنزير وإلى سفيرة (وكانت مخفراً للجمارك) ومنها إلى حلب.

ويذكر أن أحد أفراد القافلة انتزع الكتابة العربية من عضادة الجامع ونقلها إلى حلب ثم ضاعت أخبارها، ولكن دوسو أخذ لها طبعة نشرها غانو عام 1899م. إن حاميات عسكرية كانت تقيم في كل من: خان التراب وخان البصيري وخان المنقورة وكانت مواقع محصنة ومجهزة بآبار مياهها دائمة، وحولها مساحات كافية تستغل في زراعة الحبوب وتربية المواشي لتأمين المؤونة الدائمة لأفراد الحاميات.

كما كانت المحطات الأخرى المتجهة إلى الشرق عبر وادي المياه والسجري وأم الصلابيخ وأم العمد والورك والكفرة، أو المتجه شمالاً عبر جبل البلعاس وجبل شاعر، فكانت تضم حاميات وتستند إلى دعم مباشر من العشائر العربية المتبدية فيها، لقاء هبات تدفعها مملكة تدمر إلى شيوخ العشائر وتكريمها لمساهمتها في حفظ الأمن والقوافل عبر هذه الطرق البعيدة، فشيخ العشيرة هو المسؤول عن كل خلل أمني يقع ضمن حدود مواقع عشيرته، وأفراد العشيرة ملتزمون بتنفيذ تعهدات شيخهم، وأي اعتداء على القافلة يستلزم الرد الفوري من العشيرة وإيصال القافلة إلى مأمنها، وبين الكتابات المكتشفة في معابد بل وبعلشمين واللات والأغورا بتدمر الكثير من كتابات التكريم لرجال العشائر الذين دافعوا عن القوافل التدمرية وأوصلوها سالمة إلى المدينة.
وإن معالم الابتهاج والأفراح تغمر المواطنين أثناء توديع القافلة وعند استقبالها سالمة يشترك فيها جميع المواطنين، ولعلنا نلمح الشيء ذاته حتى عهد قريب، وذلك فيما كان يقام لقافلة الحج الشامي في دمشق عند سفرها وعودتها من الديار الحجازية.

خالد الأسعد

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996