«قطيع من الخراف والماعز يرعى العشب على قمة تل. طفل في الثانية عشرة من عمره يرقب القطيع من فوق صخرة، مستنداً إلى عصا طويلة، وهو يعزف على الناي. يحوم كلب الصبي الراعي حول الأغنام الشاردة من القطيع، كي يعيدها إلى المجموعة. ترن الأجراس المتعلقة على أعناقها. الطفل منهمك في عزفه، سارح الذهن في المناظر الخلابة من حوله، عندما يوقظه نباح الكلب المتعالي ويقلقه. يتوقف عن العزف، يلاحظ هياج الكلب دون أن يدرك له سبباً، فيرميه بحجر ليسكته. لا يكف الكلب عن النباح، ما يغيظ الصبي ويثير فضوله في الوقت نفسه. ينهض الصبي متجهاً إلى حافة التل، وينظر إلى الأفق البعيد. عبر الأراضي الشاسعة، تبدو غمامة من غبار. تستحوذ الغمامة فضوله، فيتمعن فيها مغطياً عينيه من وهج الشمس. تتضح صورة خلال غمامة الغبار، ويكشف لنا تدريجياً كوكبة من الفرسان على خيولهم، وجوههم مطلية بأصباغ الحرب، وقد زُينت عمائمهم وخوذهم بالريش الملون. إنهم يرفعون رايات ورماحاً طويلة، في حين تلمع نصال أسلحتهم من سيوف وخناجر وبلطات. ينعكس هذا على وجه الصبي الذي يراقب بذعر اقتراب الخطر الداهم عليه وعلى قومه».
أسطورة وزلزال
هكذا أراد الكاتب المسرحي السوري د. رياض عصمت أن تكون بداية عمله الروائي الدرامي «تاج من شوك»؛ العمل «الملحمي» الذي يصوّر فيه «حكاية صراع دموي على السلطة عبر جيلين من أسرة واحدة، تتخللها دسائس ومكائد وحروب لا تنتهي إلا وتبدأ من جديد»، والذي يصفه الناشر(الدار العربية للعلوم ناشرون) بأنه: «عمل فريد من نوعه في الأدب العربي» وأن القارئ ما يلبث أن يجد شخصيات العمل وقد تحولت إلى «أبطال أسطوريين كأبطال ملاحم الإغريق في الأوديسة والإلياذة» إنما بقالب عربي «يشكل نبوءة لترددات الزلزال الذي يجتاح بلادنا منذ قدوم (الربيع العربي)». كذلك فإن الرواية الدرامية - تبعاً لما جاء بقلم الناشر- على الغلاف «تراجيديا عن شهوة السلطة والاستماتة للوصول إليها والاحتفاظ بها بأي ثمن».
حديد وجمال مكر ودهاء
في «تاج من شوك» نتعرف على الشخصيات الفاعلة في العمل وصانعة أحداثه الدرامية:
- الصبي الراعي «ساعدة» الذي يُقتل أبوه أمام عينيه، ويفنى قومه من بني جردش عن بكرة أبيهم على يد «الزغل» وتُقتاد أمه غنيمة حرب، ويصمم على الانتقام ويبذل في ذلك تدريبات شاقة ويشتد بأسه وتقوى شكيمته ويمارس كل فنون الحرب والدهاء و«الولاء» من داخل بلاط الملك القاتل الذي وقع قلبه في حب «لوذان» والدة الراعي فائقة الجمال، ليصبح الصبي الشقي مع مرور الوقت متمرساً، فمدرباً حربياً، ثم قائداً لحرس الملك وجيشه.. إلى أن ينجح في كثير من الذكاء والفطنة والحنكة والبأس والخديعة واللؤم والقتل في اعتلاء العرش ويتزوج أرملة الملك «نسرين» ويصبح آمراً ناهياً ويحكم بقبضة من نار وحديد.
- الملك «الزغل» الذي ظل أسير العداء والمكيدة بين أمه «زبيدة» وزوجه «وهيبة» وأثقل على الشعب بالضرائب والتضييق وعاش صراعات أفقدته توازنه ورشده ليقسّم المملكة بين ولدين أرعنين توئم له «وهب» و«عوف» لم يعرف أنهما ليسا من صلبه، وقد ماتت أمهما وهيبة بالسم/ الخديعة عبر «فستان» أرادته هدية قتل لـ«لوذان» لتزيحها عن درب الملك العاشق، لكن السحر انقلب على الساحر بتدبير من «ساعدة» ليذوب جسد «وهيبة» بالفستان ذاته المصنوع من خيوط مسمومة، مثلما انقلب سحر «زبيدة» على ذاتها عندما أرادت أن يصل السم إلى جوف «نسرين» عبر محاولة دسه بالحليب، لكن «ساعدة» الذي يقتل «ثمامة» صانعة السم ينجح في خداع «زبيدة» لتتجرعه مع دوائها. وينفي الزغل ولده «هميم» المهووس بالكتب والقراءة وغير المعني بشؤون الحكم والسيطرة، ويحرمه من الأبوّة والمُلك ليندم بعد سنين على فعلته بعدما تتكشف أمامه الحقائق.
- الوزير «بدران» مطلق الولاء، الناصح والمستشار الذي يولي شؤون الحكم كل إخلاص ويتزوج من «لوذان» عشيقة الملك بتدبير من «ثمامة» العرافة الساحرة و«زبيدة» أم «الزغل» على أنه إرادة الآلهة.
«ثعلبة» مهرّج الملك الناطق بالحكمة في قالب تهكمي ساخر ويصيب في نقد لاذع للملك وحاشيته كبد الحقائق.
- «معتم» كبير المدربين يُطعن غيلة على يد «ساعدة» تلميذه النجيب الذي يتخلص بالخديعة وتصنّع «الولاء» من كل الذين يقفون عثرة في طريقه وصولاً إلى العرش.
«الناسك» البارع في فنون الحياة والقتال وهو يعيش وحيداً مع أفعى وقرد وفهد يعلّم «هميم» الأمير الهش ويدربه حتى يصبح ذا بأس وقوة ما مكنه فيما بعد من منازلة «ساعدة» الملك، والإطاحة به يوم زفافه من «نسرين» في نزال دام أمام الجميع ليتوّج ملكاً. وهناك شخصيات أخرى من «أبناء» كبروا في لجّة الصراعات.
همهمات.. رمال ونوازع
في سرد من الإثارة والتشويق تمضي أحداث العمل في صراعات داخلية أشبه بهمهمات مكبوتة في غليان داخلي لخيول أصيلة يسابق بعضها الريح فيما يغوص بعضها الآخر في كثبان من الرمال وهي تعيش صراعات أخرى خارجية عبر المواجهات الثنائية أو الجماعية وعلى غير صعيد في حبكات متقنة لأحداث متلاحقة في لجة قتال واقتتال وسمل عيون وبتر أطراف وعبر لهاث للشخصيات تتقطع فيه الأنفاس، وسط المكائد والدسائس والتآمر والتحالف من جهة والحكمة والبراعة والقيم والجمال من جهة أخرى فتعيش الشخصيات في حروب ضروس، حيث شهوة السلطة والبقاء وإحكام السيطرة وتهميش وتقزيم وعزل الآخر وقتله، وكل تحركه نوازعه لجهة الخير أو الشر وهو يتفاعل أو يتقاطع مع الآخر في استخدامات قصوى للطاقات الشخصية بكل ما تحمل من براعة في المكر والدهاء والغواية وكل حسب الدور والهوى في اشتغال على بناء الشخصيات لتغدو كل واحدة على حدة على حضور طاغ في عوالم لها كيانها وخصوصيتها في تناغم أو تنافر مع الشخصيات الأخرى.
سلاسة.. ودون إكراه
الحوار جاء غنياً، بليغاً، مكثفاً أقرب للشاعرية، في أسلوب قصصي مشبع بالحكاية، وفي عربية فصيحة، وينضح بالحكم والأمثال على درجات متقدمة في العمق والسلاسة والتلقائية دون استطرادات أو تفاصيل مملة، خال من الحشو وبأسلوبية تخدم طبيعة العمل وأجواءه تبعاً للبيئة وشكل الصراع الدموي وتطور الأحداث ضمن السياقات والمطارح التي أراد لها الكاتب ودون قسر أو إكراه ليبدو الحوار نابعاً من روح الشخصية وكيانها، ويسبقه دائماً - وبطبيعة حال الاشتغال على أعمال كهذه - حالة وصفية مشهدية للمكان والشخصيات يلجأ إليها الكاتب بكثير من الإتقان.
تخييل.. إسقاطات ومطبات
«تاج من شوك» عمل درامي سبق أن عرض على الشاشة (1998) لعصمت عن شكسبير في مسلسل تصدى له شوقي الماجري مخرجاً، ولعب بطولته كل من أيمن زيدان وجيانا عيد وعبد الرحمن آل رشي وحسن عويتي وفتحي الهداوي وآخرين.. وبدا المسلسل - الذي لم ينل وقتها حظوة المشاهدة والاحتفاء النقدي - أنه حافظ على روح الورق، لكنه بدا أيضاً أنه أهمل الكثير من الأجواء والأحداث التي يتضمنها الكتاب الصادر حديثاً في 686 صفحة؛ الكتاب الذي جاء غنياً في زخم كبير من الأحداث والشخصيات في أجواء ملحمية، وربما لجأ الكاتب عصمت إلى الإضافات والبناء على الشخصيات في أحداث وخطوط موازية أو داعمة في كتابة جديدة لعمل يذّكر أيضاً بأعمال للراحل ممدوح عدوان، ولا يبتعد كثيراً عن أعمال لوليد سيف في بعض العناوين العريضة في فترة اشتغال درامي متقاربة شهدت موجات من الاشتغال على التاريخي المطعم بنكهات التخييل والإسقاطات على الراهن، لكن لدى عصمت هنا حضور جلي على صعيد التأثر بالأعمال الشكسبيرية التي ألهمت الكاتب عصمت لتأليف عمل جدير بالقراءة ويسجل في عداد الأعمال الكبيرة وإن وقع المؤلف أحياناً في مطب «مصادفات إنقاذيه» تحدث في اللحظات الأخيرة لتعيد للأحداث تطورات جديدة.
شهوة.. ونار
يمزج د. رياض عصمت في عمله الدرامي التراجيدي القصة بالمسرح، وما أن تخمد النار المستعرة رماداً في مكان حتى تعود من جديد أشد لهيباً وأقوى سعيراً في آخر وتبعاً لسياق الأحداث وتفاعلاتها الحكائية والدرامية فتجد الجَلَد والانتقام والثأر والتشفي والشهوة والاغتصاب والندم والنكران والجحود والطيش والرعونة والإحباط والقبح في تعالق واشتباك مع الفروسية والنبل والحب والإخلاص والوفاء والصفح والجمال والإرادة والعزم.
أنفاق وسجون
عصمت الكاتب المسرحي صاحب «طائر الخرافة»، و» جمهورية الموز» يلجأ في «تاج من شوك» إلى إدخال المسرح في عمله الروائي، ويوظف المسرح في عمله عبر إدخال فرقة مسرحية تقوم بعروض تمثيلية في السر وضمن احتياطات مدروسة وحذرة في تأهيل المكان «أنفاق- أسلحة- خيول..» تحسباً للنجاة وضماناً لاستمرار العمل، حيث تمارس الفرقة النقد لأداء الملك وحاشيته وهو يضيّق على الشعب ويزج أفراداً منه في السجون ويفرض الإتاوات والضرائب لملء خزائن المملكة لأجل حروب مجانية في شهوة السلطة والسيطرة يروح ضحيتها الآلاف من الشباب وتثكل الأمهات ويعيش السواد الأعظم من الشعب في فقر مدقع وجوع وضيق ذات يد وحيلة وسط بطر العيش والرخاء لقلة قليلة من أصحاب النفوذ والحظوة.
فنون أداء.. وتصفيات جسدية
الفرقة المسرحية ذاتها المدربة على القتال والتي تثير البلبلة وحفيظة البلاط الملكي مستفيدة من الأداء التمثيلي حيث الأقنعة والأصباغ والحركات الإيمائية والتعبيرية وتقليد أصوات الحيوانات وارتداء جلودها تنجح في «التفلت» أكثر من مرة من محاولات القبض عليها في مداهمات من قبل جنود الملك وحراسه لتجد تعاطفاً من ابني الملك «سلمى» و«هميم» اللذين يحضران عدداً من العروض وتفتح عيونهما على مشكلات الرعية وآليات تعاطي السلطة، كذلك فإن الجانب المسرحي الموظّف ضمن سياق الأحداث ضمن خط درامي يأتي أشبه باستراحة والتقاط الأنفاس من زخم العمل حيث تحضر هنا الخفة والرشاقة وفنون الأداء في قالب مسل تهكمي وساخر لكنه يأتي أيضاً لصيقاً بالأحداث وفي صميمها، حيث تفضح الفرقة في أدائها التمثيلي وهي تتقمص شخصيات الحكم الكثير مما يجري داخل القصر الملكي وتفضح أيضاً في عرض لها داخل البلاط وعلى مرأى ومسمع الجميع عمليات الاغتيال وخاصة تلك التي قام فيها «ساعدة» الذي استولى على العرش بالتصفيات الجسدية لأفراد من الأسرة الحاكمة.
من رأس لرأس.. الدم والصُلب
التاج الملكي وإن كان من شوك تبعاً لسياق الحكاية فإنه ينتقل من رأس إلى آخر ضمن صراع الأجيال رغم رابط سرّة الدم والصلب في تصاعد ذروات وحبكات وسيل المكائد والدماء؛ في أجواء وسياقات تنتمي إلى الأعمال الشكسبيرية - لجهة الحوار والصراع إنما في البصمة والذهنية للشخصية العربية في التاريخ حضوراً وخصالاً وتعاطياً وصراعاً على سلطة العرش.
علي الحسن
الوطن السورية