أدونيس تصوف لم يغادره وحداثة تعيد تشكيل ذاتها

ليس لي غير هذا الزمان الذي يُحتضر...

لا ندري إن كان ابن زماننا، أو كان ابن الزمن الذي حمل اسمه، فهو أدونيس، وهو علي، سليل طائر الفينيق عندما حط على أطراف جبلة، ليصنع بلدة حملت اسم قصابين، فأنجبت ناياً شعرياً متفرداً في المحيط العربي، بدأ أدونيس محلقاً بعيداً عن التقليد والقرزمة، لذلك سرعان ما غادر جوقة الشعر الغنائي العربي ليكون صاحب العمق والفلسفة، ينطلق من رؤية عميقة.

ويحمل معه قارئه إلى حيث نكهة الشعر الذي يحتاج إلى إمعان نظر وإعادة قراءة، فشعره جزء من الذاكرة والتكوين، وليس أهزوجة مع القفلة الأخيرة يزول أثرها.. عندما نتحدث عن الشعر العربي الحديث فأدونيس في المقدمة، وعندما نتحدث عن الشعر العربي فأدونيس من الأسماء المذكورة، وعندما نتحدث عن الشعر المطلق فأدونيس من الأسماء المعدودة التي حفرت اسمها بصبر وأناة وتبصّر وعمق.. لم يكن لقاؤه بالرئيس شكري القوتلي بعد الاستقلال محطة عادية في حياته، فقد التقاه وقال فيه شعراً، كلاهما أحب الآخر، ولكن أهم ما في هذا اللقاء أنه جعل نظر أدونيس من البداية متعلقاً بالكبير والنبيل والندّ، لم لا وأدونيس أحب القوتلي وذكر فضله في تعليمه، وعانى أدونيس من التضييق الفكري آنذاك.

ولم يكن اختيار أدونيس لاسمه عبثاً، ومن يعرف أدونيس يعرف أنه يحب اسمه مجرداً من الألقاب، فالكبير والصغير يناديه أدونيس، وهو سعيد بذلك، بل هو من علم الآخرين أن ينادوه باسمه، يذكر اسمه الأصلي، ويحبه من أمه الراحلة التي كانت تنادى أم علي، وكم ربطته هذه الأم بقصابين والمنطلق.. وحين غادر طائر الفينيق إلى لبنان تمسك بجناحيه في وجهتيهما فكان حداثياً حتى النخاع وغامر في تجربة مجلة «شعر» مع الشاعر يوسف الخال، ومن رحم هذه المجلة العبقرية- مهما كانت نظرة أحدنا إليها- خرج الماغوط وسنية صالح وأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال وغيرهم كثير ممن حملوا على عواتقهم الثورة الشعرية الحداثية، والتي منيت بخسائر عدة، لأن روادها كانوا كباراً، والذين جاؤوا بعدهم اكتفوا بالتقليد، ولم يكونوا في المستوى الشعري الحداثي، والطرف الثاني من جناحه كان التراث، ويخطئ من يظن أن أدونيس كان منعتقاً من التراث، وأدونيس نفسه لا يستطيع إلا أن يقرّ بالتراث، لكنه تراثي من نوع مختلف، قرأ التراث وهضمه، أحب بعضه، انتقد بعضه، التصق ببعضه، نفر من بعضه، فكان صاحب الرأي في إعادة تقييم التراث، وإن كان أدونيس منحازاً في رأيه أحياناً، إلا أنه كان صاحب رؤية من «مقدمة للشعر العربي إلى زمن الشعر إلى الثابت والمتحول إلى الأصول وتأصيل الأصول وصدمة الحداثة والموروث الديني وسلطة الموروث الشعري إلى فاتحة لنهايات القرن وغيرها».. وجانب الدراسات والأبحاث والنثر هو الذي يوضح تلك العلاقة الوطيدة التي ربطت بين أدونيس والتراث، وأدونيس المفكر لا يقع في مطب الانتقاد دون معرفة، ومن يقرأ «ديوان النثر العربي» وسواه من كتب المختارات والنقد يكتشف دون عناء أن أدونيس هو ابن للتراث العربي عامة، وللتراث الصوفي خاصة لم يستطع الانعتاق منه، بل لا يريد الانعتاق، وإن استطاع أن يقنع الكثيرين بابتعاده عن التراث ومناهله في الكثير من الأحيان فمرد ذلك لمهارته في الدمج بين المعاصرة والتراث وللمستويات التي تعرضت له ولفكره وفلسفته وشعره ولم تكن تحمل الزاد الكافي.. وأزعم أن ثورة أدونيس الحداثية لم تكن لتوفق لولا معرفته العميقة بالتراث والفلسفة والتصوف، وهذا ما يعزز القناعة بنجاح تجربة أدونيس واستمراريتها، فهو يأخذ من التراث ويهضم ليعيد التقويم.

وأدونيس الإنسان واضح للغاية، ولن تتمكن من معرفة ذلك إلا بمعاشرته والغوص في كتبه وآرائه، فلن تأخذ الصورة الكاملة له من آراء هبشت من هنا وهناك، ومن أحكام يطلقها محب أو كاره، ملتصق به أو نافر منه، وعندما اختارت جريدة «الوطن» محاورة أدونيس في حوار مطول أظنه كان موفقاً للغاية اكتشفت في جلساتنا العديدة هذا الشخص المتنور المتواضع المحب، الذي يطرح أمامك آراءه دون مواربة، ولا يكلف نفسه عناء الشرح لك لاعتقاده أن من يحاوره لا يحتاج لشرح، وهذا من قبيل الاحترام، ولك بعدها أن توافق أو ترفض، ولا أزال أذكر رفضه التسليم بالتراث القادم إلينا، خاصة الفقهي، مهما كان توجه هذا الفقه مذهبياً، فعنده تتساوى المذاهب الإسلامية، ويتساوى الفقهاء المسلمون في التجني على النص والقارئ من أجل غايات محددة تخدم هذا الجانب أو ذاك، وهؤلاء يستغلون نسبة الجهل العالية في الأمة، لذلك يدعو إلى إعادة النظر في كل ما جاءنا من تراث مهما كان مصدره.

أدونيس المترجم
أقف عند أدونيس المترجم لأكثر من سبب، أولها مكانته، فهو صاحب مكانة شعرية ونقدية عالية، وهذا يجعل اختياراته من الكتب المترجمة ذات سوية عالية تقوم على رفع الذائقة لدى القارئ العربي، فقد ترجم مسرح جورج شحادة، وأشعار سان جون بيرس، وأشعار إيف بونغوا، ومسرح راسين، وكتاب التحولات لأوفيد في أعلى ترجمة له، ومع أنني قرأت أشعار أدونيس مبكراً إلا أنني لا أزال أذكر أن أشعار إيف بونغوا هي أكثر ما ربطني بأدونيس، فقرأتها مرات عديدة، وأزعم أنني أخفقت في الفصل بين أدونيس وبونغوا في هذه الأعمال، وعندما قدم لي الصديق الشاعر سامي أحمد كتاب «التحولات» لأوفيد الذي قام على نشره وقفت عند أهمية أن يلتقي أوفيد وأدونيس في عمل واحد، وعندما يقوم أديب بوزن أدونيس بهذه الترجمة التي جعلت المترجم رائقاً كما لو أنه وضع بالعربية ولم ينقل إليها، ووقوف أدونيس عند ترجمة هذه الأعمال جعلها تقف مع كلاسيكيات الأدب العالمي القديم والحديث الذي نال شهرته بمترجميه كدريني خشبة وعبد الرحمن بدوي وغيرهما، كما أن هذه الترجمات تعطينا فكرة عن الإيمان بالآخر والغيرية، فشاعر بوزن أدونيس يمكن أن يكتفي بشعره، وليس بحاجة لمال أو شهرة، لكن إيمانه بالآخر جعله يقدر الأدباء الكبار إن كانوا قدامى أو من أصدقائه ليقدمهم للقارئ العربي، وهو في الوقت نفسه يقدم خدمة جليلة للقارئ العربي بأن يقدم له هؤلاء الأدباء الجادين الذين قد لا يلتفت إليهم الكثيرون، وحسبنا أن نعلم أن أدونيس تبنى مشروعا كبيراً لترجمة الشعر الإيطالي بدأ الصدور تباعاً عن دار التكوين بدمشق، بعد أن وجد أن الاهتمام بهذا الأدب ليس كما ينبغي، لا يقوم بالترجمة بنفسه، بل يقرأ ويراجع ويتابع.. فالترجمة وتعريف القارئ العربي بالآداب غير العربية عند أدونيس مشروع ثقافة وليس عملاً تجارياً آنياً.

ولابد من الإشارة إلى مختارات أدونيس العديدة، وهي- كما أرى- باستثناء ديوان الشعر العربي وديوان النثر العربي دون المستوى الأدونيسي، وهي ذات طابع تعليمي بحت، وهي مهمة يمكن أن يقوم بها أي باحث، ولا تحتاج إلى جهد رجل بمستوى أدونيس، وتبقى قمة اختياراته «ديوان الشعر العربي» و«ديوان النثر العربي» مع أن الثاني لم يكن بالمستوى المأمول منه، ولم يرق إلى مستوى ديوان الشعر.

أدونيس الشاعر
بدأ أدونيس نشر قصائده منذ خمسينيات القرن العشرين فنشر «قصائد أولى 1957، أوراق في الريح 1958، أغاني مهيار الدمشقي 1965، وصولاً إلى هذا هو اسمي 1980، تنبأ أيها الأعمى 2003، وغيرها من المجموعات» وقد احتفت أكثر من دار بأشعار أدونيس من دار مجلة شعر إلى العودة والآداب والساقي، وبدايات والتكوين في سورية، وقد جمعت أعمال أدونيس الشعرية الكاملة أكثر من مرة وفي أكثر من دار نشر.. ولم يحظ شعر أدونيس بالقراءة الكثيرة على المستوى الشعبي بسبب احتوائه على قيمة فكرية عالية، ينسبها بعضهم للغموض، وينسبها آخرون لأشياء عديدة، ولكن حداثة أدونيس وخروجه عن بلادة الغنائية هو السبب في ذلك، وإن كثيراً من القراء والنقاد يضعون فاصلة في تجربة أدونيس الشعرية حيث يعدون أغاني مهيار الدمشقي 1965 من قمم التوهج الشعري عنده، وما بعد مهيار صار أدونيس برأيهم بعيداً عنهم وعن قراءتهم.. وهذه الأحكام غير صائبة بشكل كبير، وأذكر أن أحد أصدقائي، وهو مقرب من أدونيس وقريب قال لي ونحن نتذاكر في الشعراء، المعري أهم من المتنبي، فكان الرد أن هذه الأحكام متعجلة وخاطئة فالمعري أعمق، لكن المتنبي أهم وأشعر، وإلا بماذا نفسر افتتان المعري بالمتنبي وشرحه لديوانه تحت اسم «معجز أحمد»؟ كذلك يكون الأمر في زماننا، فأدونيس شاعر عميق يحتاج إلى عمق ورؤية عند قراءته، وقد اختار ذلك بنفسه، وفي هذه الوقفة سأحاول اختيار بعض القصائد التي تكون قريبة من الذائقة.

وجه مهيار نار
تحرق أرض النجوم الأليفه
هو ذا يتخطى تخوم الخليفه
رافعاً بيرق الأفول
هادماً كل دار
هو ذا يرفض الإمامه
تاركاً يأسه علامه
فوق وجه الفصول
وفي قصيدته «الأرض» يقول:
كم قلت: لي بلادي الثانية
وامتلأت كفاك بالدموع
وامتلأت عيناك
بالبرق من تخومها الآتيه
هل عرفت عيناك أن الأرض
أنى بكت أو هلّلت خطاك
هنا، كما غنيت أو هناك
نعرف كل عابر سواك
وأنها واحدة
يابسة الأحشاء والضروع
وأنها تجهل طقس الرفض
هل أيقنت عيناك
أنك أنت الأرض؟
وفي قصيدته «عودة الشمس» يقول ببراعة وعمق:
القد اهتزّ على البحار
وانكسرت خواتم الخرافه
وها هي الأغوار
فاترك لنا أن نزرع الشطآن بالمحار
أن نرسي الفلك على حنين
واترك لنا أن نصعق التنين
يا سيد الخرافه
وحينما تنتحب الأجراس والطريق
في هجرة الشمس عن المدينهْ
أيقظ لنا، يا لهب الرعد على التلال
أيقظ لنا فينيق
نهتف لرؤيا ناره الحزينة
قبل الضحى وقبل أن تُقال
نحمل عينيه من الطريق
في عودة الشمس إلى المدينة

ولنقرأ معاً «الباب» لنفتح صورة مشتهاة قد نخاف من أن نلمسها بعيداً عن أدونيس:

منذ أسابيع وأجفانه
تربض في الباب
الجسم في فراشه ضائع
يبحث والقلب على الباب
هيا من يد دقت على الباب
يشتاق أن يبكي
«ما أكرم البكاء ما أغناه، في نهره
سفينة تقلّ أحبابي»

ومن حالات نبوءات الأعمى الموحية والمعبرة نختار هذه الحالات:

حالة الشاعر
بعد الموت، يقول لذاك الحاكم: زلت، وزال الملك
وكل جيوشك زالت
وبقيت أنا
حتى لكأني أولد كل صباح
ويقول لذاك الحاكم: انهض واشهد
سترى أنك تقفو أثري، تقفو خطواتي
سترى شعري
ملكاً للضوء، وأنت شعاع
مني، يتوهج في كلماتي

حالة الصعلوك
ليس لي غير هذا الزمان الذي يُحتضر
ليس لي غير ذاك الكتاب الذي يحتضر
ليس لي غير هذي الطريق التي تحتضر
ليس لي غير تلك البلاد التي تحتضر
ليس لي غير هذا الفراغ الذي يتقدم
يعلو، ويمتد في خطوات البشر

حالة الفيلسوف
كل يد أفتش عن هارب تحت جلدي يقول
يكرر: جسمي حصار، وأرضي حصار
ويؤكد: لا لست أشكو ويسأل:
ما ذلك النواح؟ المدينة، هذا المساء
ورق طائر
هل يقوم التراب على قدميه؟
عاصف من هباء..

حالة الأمة
أمةٌ- غابةٌ
ذبحت طيرها
لترى في دم المذبحة
كيف يجتر جسمُ الطبيعة ذاكرة الأجنحة

وفي ترجمته الرائقة والمتميزة لتحولات أوفيد يصوغ أدونيس كما لو أنه يكتب لنفسه ومن روحه:

ولم يكد يلامس الأرض بقدميه حتى قال لها:
أنت يامن خلقت
لا لمثل هذه السلاسل
بل لتلك التي توحّد بين العشاق
استجيبي لطلبي
اكشفي لي اسم هذا البلد، بلدك
ولماذا أنت مثقلة بالحديد؟
التزمت الصمت بادئ بدء
لم تجرؤ هي العذراء أن تخاطب رجلاً
ولو لم تكن مقيدة
لكانت غطت بيديها وجهها البسيط
لم تكن قادرة إلا على البكاء
فامتلأت عيناها بالدموع
وفي بدايات تجاربه الحداثية يقول أدونيس:
يحلو لخطوي اللهب الأحمر
يحلو له المجد
وكلما طال به البعد
يعلو ويستكبر
وكلما قلت لدربي: ترى
إلى متى عبء السّرى، والسّرى
متى أرى المشتهى
وأبلغ المنتهى وأهدأ
قالت لي الدرب: هنا أبدأ..

نعم إنه أدونيس صاحب القصيدة الحدثية أو الكلية كما يطلق عليها أدونيس في كتابه (مقدمة للشعر العربي).

ويذكر الناقد الدكتور أحمد بسام ساعي في دراسته عن حركة الشعر الحديث في سورية تعريفات مهمة تفيدنا ونحن نقرأ القصيدة الحدثية (الأدونيسية): «تتجه القصيدة الحدثية، الكلية، إلى العقل متخلية عن القلب الذي كانت تصدر عنه في معظم الأحيان لدى شعوب العالم، وغدا كبار شعراء العصر أصحاب نظريات شعرية يدعون إليها ويشرحونها ويضعون لها القوانين والمقاييس.. وأدونيس أبرز نموذج لهذا الفريق من الشعراء... وللعقل أعماق متفاوتة البعد، أولها الوعي وآخرها اللاوعي كما يقول فرويد، ومن هذه الطبقة الأعمق، اللاوعي، يحاول الشاعر الحديث أن يمتح أفكاره عن طريق التسامي أو الترفيع كما يسميه كولن ولسن في كتابه «الشعر والصوفية»... وتقوم القصيدة الحدثية على أنقاض الرمزية والسريالية، مع إضافات جديدة ومتباينة لدى كل شاعر، وأدونيس هو رائد القصيدة الحدثية بين شعراء سورية خاصة والمشرق العربي عامة، ولا شك أن لوجوده المستمر في لبنان منذ 1956، وتمكنه هناك من عقد صلات حميمة بالثقافات الغربية ومراكزها المختلفة، أثره في نمو تلك البذور الرمزية والسريالية والصوفية التي حملها معه من سورية ليهتدي من ثم إلى القصيدة الحدثية.. وتلك البذور يمكن أن نعثر عليها في ديوانه الأول «قصائد أولى» الذي وضع قصائده في سورية ما بين عامي 47- 1955، حيث نجد له انطلاقات صوفية وسريالية مبكرة».

هكذا يجب أن نقرأ أدونيس الشاعر والمفكر، ووقوفي عنده لتقريب شعره إلى قرائه الذين لا صلة لهم بشعره، ولم يقرؤوا له شعراً، وجلّ أحكامهم تأتي دون قراءة.. هذه الصفات وأخرى غيرها هي التي جعلت أدونيس علامة فكرية وإبداعية سورية وعربية وعالمية، وجعلته في كل مناسبة الأديب الأبرز على المستوى العالمي فاقتربت منه نوبل أكثر من مرة، لكنها آثرت ألا تكون بين يديه حتى الآن.

لكنه الأديب والشاعر والمثقف المميز، وعلامة الإبداع السوري والعربي.

اسماعيل مروة

نقلاً عن صحيفة الوطن السورية