أسعد باشا العظم...الأرض والجدود، واليوم الموعود

.

لعب آل العظم خلال القرن الثامن عشر، دوراً مهماً في حياة بلاد الشام في شتى مناحي الحياة الإدارية والاجتماعية وحتى الاقتصادية.

ومنهم من وجد في قونية أو في المعرة وحماة، كما وجدوا في البلقاء وقد ظهر منهم رجال كان لهم شأن في حياة بلادنا خلال خمسين عاماً من ذلك القرن. ويمكن القول إنه بعد معركة مرج دابق في حلب التي أزاحت حكم المماليك عن بلاد الشام برز دور عزيم أوغلو شيخ قبيلة عزيم فاتخذه السلطان سليم العثماني على نيابة سورية، بعد أن أخذ أولاد الشيخ السبعة كرهائن، خشية أن يثور الشيخ عزيم هذا على السلطان العثماني. كما ظهر من آل العظم خلال الحكم العثماني لبلاد الشام إبراهيم عميد آل العظم الذين استوطنوا المعرة وحماة وقد تسلسل من إبراهيم رجال تولوا شؤون سورية وبرّ الأناضول، ومنهم من قام ببناء الدور والقصور والجسور والمدارس والخانات. وكان أبرز أبناء إبراهيم الاخوين إسماعيل باشا والد أسعد باشا وسليمان شقيق إسماعيل.

وقد نشأ إسماعيل في المعرة وتقلبت به الأحوال فأصبح حاكماً للمعرة ثم حماة ثم طرابلس مع إمارة سر عسكر الجردة التي تحمل للحجيج ما يلزم من طعام وما قد يلزمهم من ماء، وحاجات أخرى وبخاصة ما كان منها للسوائم التي تحملهم في طريق عودتهم.. وقد أهل ذلك إسماعيل باشا لولاية دمشق ومحمل الحج التي ينطلق من دمشق لكن السلطة العثمانية ما لبثت أن عزلته ثم سجن بالقلعة وقتل بعد أن صودرت أمواله وممتلكاته ولعل السبب في ذلك تخوف السلطة العثمانية من ازدياد سلطانه. وهكذا فإن الدولة العثمانية اعتمدت سليمان باشا شقيق إسماعيل باشا لولاية دمشق وإمارة الحج فيها.. لكن مصير سليمان كان مماثلاً لمصير أخيه إسماعيل من عزل ومصادرة.

وما لبثت الدولة العثمانية أن عينت أسعد بن إسماعيل على ولاية دمشق وإمارة الحج فيها، وقد درس أسعد باشا اللغات العربية والتركية والفارسية والعلوم. وكان مولعاً بركوب الخيل والعمران، وقد شهد عصره الكثير من بناء القصور والخانات والحمامات، وكان على درجة كبيرة من الحنكة والفطنة، الأمر الذي أهله على مواجهة ما يعتريه للوصول إلى مبتغاه.

وأول ما بدأ به أسعد باشا حياته الإدارية أن عينته الدولة بوظيفة المتسلم (النائب) لوالده في حال غياب والده عن الولاية، فأبدى في ذلك مقدرة كبيرة الأمر الذي جعل الدولة العثمانية تنعم عليه بولاية حماة حيث أبدى نشاطاً عمرانياً متميزاً، فكان له منصب أمانة جردة الحج الشامي، ثم ولاية صيدا ثم ولاية حماة ثانية إلى أن تولى ولاية دمشق وإمارة الحج فيها.

وقد تميز أسعد باشا خلال ولايته دمشق بكثير من أعمال البناء أكان ذلك في دمشق وريفها أم على طريق قافلة الحج الشامي.

فضلاً عن هذا فقد عمل أسعد باشا على استرضاء قبائل البدو المقيمة على طريق قافلة الحج الشامي، أكان ذلك مباشرة، أم من خلال قيامه بالدورة التي تسبق خروج قافلة الحج، وكان في هذه الدورة يجمع ضرائب الميري من المناطق التي يمر بها وما حولها، وهو في الواقع يهدف إلى إثبات وجود السلطة وقدرتها على اخضاع من تسول نفسه التمادي على قافلة الحج في طريقها إلى الديار المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.. فهو في هذه الدورة يوفر جانباً من متطلبات قافلة الحج تضم بين رجالها أعداداً كبيرة من العكامة الذين يعملون على خدمة الحجيج خلال الطريق على الرواحل التي يمتطونها وكما تتطلب وجود المهاقرة الذين يقومون على نصب الخيام للحجيج في كل منزل تتوقف فيه لراحة الحجيج ومن ثم فك تلك الخيام لمتابعة المسير وكذلك اعداد من السقائين لتوفير المياه وأيضاً المشاعلجية للإنارة أكان ذلك في المنازل التي تتوقف فيها القافلة أم في طريق هذه القافلة إلى الحرمين الشريفين ذلك أن تحرك أو مسير القافلة يكون من منتصف ليل كل يوم إلى الظهيرة، فيرتاح الحجاج ويقومون بتأدية الصلاة وتناول بعض الطعام، لتعاود القافلة الانطلاق ثانية إلى ما بعد العصر فتتوقف لتعاود الانطلاق في منتصف الليلة التالية فقد عمد أسعد باشا إلى حفر الآبار اللازمة في المنازل التي تتوقف فيها القافلة، لتوفير ما تتطلبه القافلة من المياه، أكان ذلك من المنازل التي أنشأها أسعد باشا، أم في منازل القافلة الأخرى التي لا تتوافر فيها المياه اللازمة بصورة كافية.. أما المنازل التي أنشئت زمن أسعد باشا فهي المعظم والأخضر والنخلتين والمداين.

وكان يقوم بإرشاد القافلة دليلان احدهما بدوي حتى لا تخرج القافلة عن طريقها المعتاد وفي هذا كله كان أسعد باشا يتقدم هذه القافلة ويسهر على أمور وراحة الحجيج.. حتى إن قافلة الحج الشامي لم تتعرض لأي مكروه خلال الأربعة عشر عاماً من ولاية أسعد باشا لدمشق.

ولما شعرت الدولة العثمانية بما وصل إليه أسعد باشا من مقدرة خافت من استفحال أمره، فنقلته والياً على حلب فكان له في حلب ما كان له في دمشق، من تآلف الناس حوله، فعمد إلى نقله والياً على مصر فلما تمسكت به حلب، عملت الدولة إلى نقله إلى سيواس ثم أنقره حيث قتل عام 1171هـ، ومن ثم صادرت الدولة ممتلكاته.

ولعل أهم ما ترك أسعد باشا في دمشق هو قصره الذي كان لسكناه والخان القريب منه في سوق البزورية وقد بني القصر بالقرب من الجامع الأموي على مساحة 5500 متر مربع وقد ضم ست عشرة قاعة كبيرة وتسع عشرة غرفة في الطابق الأرضي وتسع غرف في الطابق العلوي وثلاثة أواوين ورواقاً بخمسة أقواس وثلاث فسقيات رخامية للماء، وحماماً على الطراز الدمشقي يتوافر فيه قسم براني وآخر وسطاني وثالث جواني به أربع مقاصير للاستحمام فضلاً عن الأميم وكذلك تسعة عشر حوضاً مائياً بين بركة (بحرة) وفسقية أرضية وجدران.

ولعل من المفيد الإشارة إلى ما ذهب إليه البديري الحلاق في حوادثه اليومية عن عام 1165 للهجرة. فقد ذكر البديري أن أسعد باشا أخذ لبناء مقره: دار معاوية بن أبي سفيان، وقطع إثني عشر ألف شجرة ما عدا الأشجار التي أرسلها أكابر وأعيان دمشق كما أمر ألا يباع قصرمِل (رماد وقود) الحمامات الذي يُتخذ ملاطاً لأحد، لاستخدامه في بناء القصر، وجلب لبلاط القصر أغلب بلاط بيوت دمشق اينما وجد بلاط أو رخام، وغير ذلك من أعمدة.

فضلاً عن ذلك فقد قطع أسعد باشا مياه نهر بانياس لهدم طاحونة الرهبان وأخذ ما فيها من أعمدة ورخام، وهدم القبة التي بالقرب من نصر الزهراونية التي تنسب عمارتها إلى الملك الظاهر بيبرس ونقل حجارتها إلى القصر. ونقل أعمدة من مدرسة الناصر بالعمارة لنقل حجارتها المعقودة إلى القصر وكذلك أخذ أعمدة من جامع يلبغا إلى القصر.

وقد استخدم الرخام في فرش الباحات بأشكال هندسية بديعة (المشقف) وفي كسوة جدر قاعة الاستقبال، واستخدم الخشب للسقوف، وبخاصة السقوف المكسوة بالطوان، ومن ثم طليها بالدهان العجمي، وكذلك لكسوة جدران القاعات بالحلقة الخشبية المطلية بالدهان العجمي الفاخر لأزاهير وورد وعروق نباتية، وزينت الأقواس التي فوق الرواق والنوافذ، وبواطن أقواس الأوادين بزخارف من الجص الملون بما يُعرف بالتكفيت. فأتى القصر تحفة معمارية تعبر عن هوية العمارة السورية بأبهى حلة لها.

ويمكن أن نميز في هذا القصر جناحاً أطلق عليه اسم السلاملك. وهو الجناح المخصص للباشا، لاستقبال ضيوف ورجالات الدولة وجناحاً آخر أطلق اسم الحرملك وهو لنساء الباشا، وكان جناح السلاملك على درجة من الأبهة والفخامة بما يليق بالباشا وضيوفه، كما كان في جناح الحرملك ما يمكن أن تجد فيه المرأة ما يعوضها عن عدم خروجها من القصر، من رفاه وحدائق وأشجار وأزهار وورد وياسمين وبحرات وخسافي أرضية وجدارية. وقد بقي هذا القصر مسكناً لبعض آل العظم حتى عام 1920 حيث استملك قسم منه ليكون مركزاً لدراسة الفنون ثم مقراً لمعهد الدراسات الشرقية، وفي عام 1945جرى استملاك كامل القصر ليتحول إلى متحف للتقاليد الشعبية.

أما خان أسعد باشا فيقع في سوق البزورية على مقربة من قصره وقد بني عام 1756 وقد كان أفضل وأروع ما بني في دمشق من الخانات كما اعتبر أهم خانات المشرق العربي أكان ذلك في فخامة البناء أم في التصميم أم في روعة المدخل.

وقد وظف أسعد باشا لبناء هذا الخان إمكانات العمارة السورية في تلك الفترة.. حتى إن لامارتين عندما زار دمشق عام 1833 اعتبر هذا الخان أجمل خانات المشرق وأن قبابه التسع تذكره بفن عمارة البندقية في عصر النهضة أكان ذلك في الاتساع (2500 متر مربع) أم في الهندسة والزخارف.

منير كيال

الوطن السورية