السيف الدمشقي: الصنّاع لم يفشوا سره، ولا نصله خان حامله

مهنة السرّ الأعظم، السيوفي، صانع السيف الأسطورة الذي حيّر الحضارات، سيف طالما جعل الأعداء يرتعدون خوفاً، وكلّ مَن حمل السيف الدمشقي قيل عنه إنّه فارسٌ لايُقهر ولايُغلب، لأنّه يحمل سيف الإله «حُدُد» إله الحرب السوريّ.

السيف الدمشقي ظلَّ دمشقياً على مرّ العصور، فلم يَبُح صُنّاعه بالسر، وما استطاعت الحضارات أن تكشف سرّه المكنون، ولكن، بعد مرور آلاف السنين، عُرف سبب تسمية «سيف الآلهة».

الأسطورة السورية تقول إنّ الإله «حُدُد» كان يرسل إلى الدمشقيين برقاً يضرب قاسيون، فيترك في ترابه آثاراً هي عبارة عن نترات حديدية كان يخرج السيوفيون ليستخرجوها من ترابه، وليبدؤوا أولى خطوات صناعة هذا السيف الخالد بطعناته النافذة وسرّه الأزليّ، حيث إنّ نترات الحديد، التي يتركها البرق في تراب الجبل، كانت تشكّل العنصر الأول في صناعة السيف هذا، فتُجبل بمزيج لا يعرفه إلا شيخ الكار، والمؤتمنون على السرّ، فيجبلون تلك العناصر بعضها مع بعض حتى تخرج العجينة التي يُشكّل منها السيف، فتوضع في الأتون حتى تنال منها النار، فتصبح مطواعة ليدي الصانع، وبعدها كان يدقّ ذلك الحديد حتى يرقّ ويتّخذ الشكل المطلوب، ومن ثمّ يُجلخ حتى يصبح قادراً على شقّ الهواء، بحسب ما تقوله الأسطورة، ومن ثمَّ يُلمّع وتُنقش عليه كلمات مناجاة للإله «حُدُد»، كالصلاة التي تقول: «حُدُد، لم يخسر حربه كلّ مَن حمل سيفك»، وأخرى تقول: «إله الحرب أعِنّا ليفتك سيفُك بالأعداء»، وبعد دخول الإسلام إلى دمشق، صارت الآيات القرآنية هي التي تُنقش على السيف.


كان السيف الدمشقي مختلفاً كلّ الاختلاف عن باقي السيوف، ففي حين كانت السيوف معروفة بعرضها الذي يتجاوز عرض كفّ يد الرجل، ووزنها الذي يعجز عن حمل ثقله إلا الرجال الأشاوس الأشداء، كان السيف الدمشقي يتميّز برشاقته وخفّة وزنه التي كثيراً ما خدعت الأعداء، وجعلتهم غير متيقظين لمضيّه، فتهاون الكثير منهم في تفادي ضربات سيف «حدد» ظناً منهم أنّها لن تكون ذات أثر على دروعهم الحديدية الثقيلة، ولايدركون فداحة خطأهم إلا حينما كان يشقّ السيف دروعهم، ليشقّ صدورهم أو رؤوسهم، فيدركون، متأخرين، أنّهم استخفوا بأعجب سلاح في التاريخ.

لقد حيّر سرّ صناعة هذا السيف كلّ صانعي السيوف في أوروبا، حيث حاولوا، جاهدين على مر العصور، اكتشاف كيف يصنع، والمواد الداخلة في صناعته، إلا أنّ كلّ تلك المحاولات باءت بالفشل، وظلّ السر مقتصراً على سيوفيي دمشق، وفي الحملة الصليبية على بلاد الشام، اعتكفت مجموعة مؤلفة من أمهر صُنّاع السيف الدمشقي لعدّة أسابيع ليخرجوا بعد انقطاع عن العالم دام قرابة الشهر بمجموعة تضمّ آلاف السيوف الدمشقية المعدّة ليستخدمها أهل المدينة من مسلمين ومسيحيين، جنباً إلى جنب، في دفاعهم عن دمشق ضدّ الحملة الصليبية على المشرق، وكان لتلك السيوف أثر السحر، حيث إنّها جعلت الصليبيين يرتعدون خوفاً من هذا السلاح الضئيل الحجم ذي المفعول القاتل، وأكثر ما حيّرهم أنّه ليس كباقي السيوف التي كانت ترتطم بالدروع الغليظة، فتنكسر إن لم تنجح بشقّها، وإنما كان يلتوي كجسد الأفعى، ويعود إلى حالته السابقة دون أن ينكسر، وقام الصليبيون بعدها بإرسال مئات من الجواسيس بهيئة مستشرقين، وراغبين في تعلم المهنة، لعلّهم يصلون إلى مبتغاهم في معرفة سرّ السيف، إلا أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل أيضاً.


السيوفي المتقاعد، عز الدين السيوفي، الذي كان يملك ورشةً خلف قلعة دمشق، روى قصة أخبره إيّاها جدّه عن اثنين من أعمام الجدّ، اللذين أرادا أن يسوّقا لصناعتهما خارج دمشق، فارتحلا إلى اسطنبول، وافتتحا فيها ورشة لصناعة وبيع السيوف الدمشقية، إلى أنّهما لم يجدا زبائن لهما من الأتراك، وإنما محاولات جاهدة لمعرفة سرّ صناعة السيف. وذكر أحد المراجع التاريخية أنّ الأتراك كانوا يقصدون ورشة الأخوين السيوفي بهدف تعليم أبنائهم تلك الصنعة، وبعد عدّة مرات، رفض فيها الأخوان تعليم أبناء الأتراك، وصل الأمر إلى السلطان العثماني، فأمر بسجنهما إلى أن يبوحا بالسرّ بالإكراه أو الطواعية، ووصل خبر الاعتقال، الذي أمر به السلطان، إلى رجل حلبيّ كان يعمل مترجماً في القصر السلطانيّ، فأرسل على عجل من يخبر الأخوين، وأرسلهما إلى بيت أحد أصدقائه ليختفيا عن الأنظار، إلى أن نجح في تهريبهما خارج الدولة العثمانية، فعادا سالمين إلى دمشق، بعد أن قاما، بمعاونة الرجل الحلبي، بإتلاف جميع المواد الموجودة في ورشتهما خوفاً من أن يكتشف أحد سرّ المعادن المستخدمة.

مجدي السيوفي، الذي لايزال يمارس مهنة أجداده في صناعة السيوف الدمشقية، سليل أسرة السيوفي، التي تفاخر بأنّ قلة من أبنائها تخلّت عن مهنة الأجداد، بينما ظلّ القسم الأعظم منهم يمارسها كيلا تموت، فمن لم يعمل بصناعتها، قام بافتتاح متجراً لبيعها. يقول مجدي عن مهنته: «منذ نعومة أظفاري، اعتاد أبي اصطحابي إلى ورشته لأقف هناك أراقبه لساعات كيف يصنع السيوف، إلى جانب جدي الذي كان يشرف على وضع الحديد في بيت النار، وعمّي الذي كان يقوم بدقّها بمطرقته حتى يستوى متن السيف، وبالرغم من أنّ بعض الأطفال ما كانوا ليحبذوا فكرة وقوفهم لساعات دون أن توكل إليهم أيّة مهمة، إلا أنني كنت أجد متعة كبيرة في مشاهدة كيف تصنع تلك المعجزة، وتتزاحم في رأسي كلّ القصص التي كان يقصّها جدي عليّ عن تاريخ هذا السيف الرائع الذي لا يُكسر ولا يلتوي، دون أن يعود كالمطاط إلى حالته السابقة»، وأضاف: «إنّ الشيء العجيب في هذا السيف، الذي حيّر الشعوب لقرون طويلة، هو أنّ تفاعل المعادن والمواد في نصل السيف الدمشقي تجعل خطوطاً متموّجة تظهر على سطح النصل، فتبدو وكأنّ شرائط معدنية قد رُصّت جنباً إلى جنب، وكلّ شريط يحمل تموجاً مختلفاً عن الآخر، إلا أنّ ذلك لم يكن سوى نتيجة للتفاعل الغريب لتلك المعادن والمواد».


وقال ختاماً: «ربما كان بعضهم قد استمرّ في مهنة صناعة السيوف رغبة في استمرار مهنة العائلة، إلا أنّني أزاولها حبّاً بها قبل أيّ سبب آخر، ولا يمكنني وصف سعادتي كلّما أتممت صناعة إحدى القطع من هذه التحفة الدمشقية».

عبد الرحمن السيوفي قال إنّ صناعة السيف الدمشقي كانت سابقاً تتضمّن ترصيعه بالجواهر، والجوهر كناية عن كلّ أنواع الأحجار الكريمة الثمينة، لتتميّز سيوف القادة عن سيوف باقي المحاربين والفرسان، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السيوف التي كانت تقدّم هدية للملوك والأمراء، الذين طالما أبهرهم تفنّن صانعيها بترصيعها بالجوهر، إضافة إلى انبهارهم بمضيّ هذا السيف، وقدرته على الطعن النافذ، بالرغم من نحوله وخفّة وزنه، وقد بيّن عبد الرحمن السيوفي أنّ عادة ترصيع السيف لم تعد رائجة، فبات الصناع يكتفون بزخرفته بآيات قرآنية، أو رسوم جميلة، كما أشار إلى أنّ سوقه لم يعد مزدهراً، وذلك بحكم بطلان استعماله، وقلّة إقبال السياح على شرائه.

وهكذا انتهت رحلة السيف الأسطوري، ووجد أخيراً السلام والراحة بعد قرون طويلة من حروب لم يُهزم فيها أيٌّ ممّن حملوه وقاتلوا به، وبات اليوم، كما الملوك الذين تقلّدوه، مكللاً بالمجد، يرتاح في غمده المزخرف، الذي يحكي آلاف القصص عن الحروب التي خاضها وانتصر بها حاملوه على جميع أعدائهم، منذ أن كان هدية الإله «حُدُد» لأبناء البشر، حتى صارت الآيات القرآنية تزيّن نصله وتباركه، وظل سرّه محفوظاً بأمان، فلا الصنّاع أفشوا هذا السر، ولا نصله خان حامله.

كمالا جلال خير بك

baladnaonline