بدوي الجبل في ذكراه

جمال الصورة وروعة البيان

«البدوي آخر سيف يماني معلق على جدار الأدب العربي» هذا ماقاله الشاعر نزار قباني في الشاعر بدوي الجبل الذي تمر اليوم الذكرى السابعة والعشرون لرحيله. فيما قال عنه الأديب شاكر مصطفى: «هذا سيد شعراء العرب دون منازع، إنه الحجة الوحيدة الباقية في يد الكلاسيكية».
في 19 -8-1981 غادر بدوي الجبل واسمه الحقيقي «محمد سليمان الأحمد» الحياة في مدينة دمشق، ومات موتاً هادئاً بعد أن صارع المرض مدة طويلة، غير أنه وقبل أن يصل إلى تلك اللحظة كان قد قال:

الخالدان، ولا أعد الشمس شعري والزمان

ولد بدوي الجبل سنة 1900 في قرية ديفه في منطقة الحفة باللاذقية، وتلقى تعليمه على يد والده الشيخ سليمان الأحمد الذي دفن في قرية السلاطة قرب القرداحة، ونشأ على حب اللغة والشعر والأدب، وكان أبوه عالماً جليلاً متبحراً في اللغة العربية والشعر والتاريخ وعضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وقد اختير لهذه العضوية عام 1922 .
في سن العاشرة انتقل البدوي إلى قرية عين التينة وقرأ هناك على يد الشيخ عبد اللطيف شريف، ولم ينتظم في مدرسة إلا سنوات قليلة هي ثلاث قضاها بين قرية عين التينة ومعهد إعدادي مكتبي في اللاذقية 1917-1918، ومكتب عنبر في دمشق الذي أمضى فيه خمسة أشهر تقريباً، لكن موهبته الشعرية رفعته فوق كل الشهادات.
أما قصة لقبه الغريب بدوي الجبل فقد رواها البدوي مراراً وأوضح أن صاحب جريدة ألف باء الصحافي يوسف العيسى، هو الذي أطلق هذا اللقب عليه عندما ذيل أحد القصائد المنشورة للبدوي في جريدته بهذا اللقب وهو في سن اليفاعة (14 عاماً) وعندما سأل العيسى عن ذلك قال له: أعطيتك اسماً مجهولاً ليقرأ الناس القصيدة، فاسمك لا أحد يعرفه والناس لايقرؤون إلا للأسماء المعروفة.
وكانت ردود الفعل عند الناس على تلك القصيدة مفعمة بالإعجاب والاحترام، ومنهم من توقع أنها لواحد من ثلاثة من شعراء الشام الكبار وهم: خليل مردم بيك، وخير الدين الزركلي، وشفيق جبري، قبل أن يعرف الجميع أن القصيدة لهذا الشاعر الشاب الذي طغى لقب بدوي الجبل على اسمه فيما بعد.
دخل البدوي معترك السياسة في سن الرابعة عشرة ومارس دوراً وطنياً ونضالياً لافتاً بالرغم من صغر سنه، فكان حامل الرسائل بين القائدين الوطنيين الشيخ صالح العلي قائد الثورة ضد الفرنسيين في الساحل، والشهيد يوسف العظمة الذي كان وزيراً للحربية في العهد الفيصلي، إضافة إلى مهام أخرى كان يقوم بها.
ويقول البدوي عن هذه المرحلة: «مع انني لم أتجاوز الرابعة عشرة من عمري فقد شاركت بالمرحلة الوطنية بالقدر الذي أستطيعه، وحين دخل الفرنسيون دمشق كان البدوي أحد الذين أصدر ديوان الحرب الفرنسي أمراً بتوقيفهم بسبب دوره الوطني وعلاقته بالشيخ صالح العلي.
لم تكن حياة الشاعر بدوي الجبل حياة رغد وهناء بل على العكس، كانت حياة قلق ومطاردة وكفاح، وقد جرت عليه قصائده الوطنية الكثير من المصاعب وتعرض لاضطهاد الفرنسيين.
بالشعر اقتحم البدوي العالم واستوطن القلوب لسنوات، وإذا كانت السياسة قد خذلته وجلبت له المرارة والويل والخيبة، فهو في الشعر كان صوتاً عذباً رقراقاً ممتلكاً ناصية اللغة متفرداً في السبك الشعري السلس وحسن الديباجة وجمال الصورة وروعة البيان، وتعددت أغراض الشعر عنده فله شعر في الحب والمرأة والجمال وشعر في الوطنية والكفاح والمراثي والحنين.
وبالرغم من كونه شاعراً كلاسيكياً فان البدوي وأثناء إقامته في بيروت حضر عدة جلسات في خميس مجلة شعر التي كان يرأس تحريرها الشاعر يوسف الخال وتضم فرسان الحداثة الشعرية: أدونيس، أنسي الحاج، فؤاد رفقة، شوقي أبو شقرا، ومحمد الماغوط وغيرهم، وهكذا كان صديقاً لشعراء الحداثة وكان بيته مقصداً للأدب والشعراء في ذاك البلد.
نشر بدوي الجبل ديوانه الأول البواكير عام 1925 وأهداه إلى مثال البطولة العربية الشهيد الراقد في ميسلون يوسف العظمة، ومن قصائده الأولى قصيدة «طمع الأقوياء» التي كتبها عام 1924 ويقول فيها:
لا تلمه إذا أحب الشآما          طابت الشام مربعا ومقاما
ما رأينا الشآم إلا رأينا                 منزلا طيباً وأهلا كراما
لا تظنوا السلام في الأرض حياً طمع الأقوياء غال السلاما

وتعد قصيدة خالقة من أبدع ما كتبه البدوي في شعر الحب والغزل وقد غنت المطربة الكبيرة فيروز أبياتا منها وفيها يقول:
من نعيماتك لي ألف منوعة             وكل واحدة دنيا من النور
أخادع النوم إشفاقاً على حلمٍ حان على الشفة اللمياء مخمور

والبدوي إلى جانب كونه شاعراً مطلقاً له أيضاً نثر قليل لكنه لافت في روعته وإشراق عباراته ونثره مجموعة من الخطب والرسائل والمراثي لم يجمعها البدوي في كتاب إلا أن الباحث هاشم عثمان جمعها في كتابه «بدوي الجبل آثار وقصائد مجهولة».

سانا