ثقافات الباليوليت (العصر الحجري القديم) في السهب السورية؛ نموذج الكوم

عرض الإقليم:
بقي الغنى الأثري لمنطقة الكوم مجهولاً حتى عام 1965، حيث قام م.فان لون بإجراء سبر في التل الكبير (Dornemann 1969) ، مع ذلك بقي الباليوليت مجهولاً خلال السنوات اللاحقة، إلى أن قامت عدة بعثات بالكشف عن مواقعه، التي تركز أكثرها حول السفوح الرئيسية (Buccellati, 1967; Susuki et Kobori, 1970; Boder et Tchoumakov, 1977).

ويعود الفضل في ذلك إلى فريق تولى قيادته ج. كوفان منذ عام 1978، وهو من شكّل بعثة دائمة للعمل في المنطقة مفتوحة للباحثين من كل الجنسيات، سمحت خلال خمسة عشر عاماً من العمل بإظهار الأهمية الخاصة لهذه المنطقة خلال فترات ما قبل التاريخ.

بفضل هذه الهيئة تشكل فريق عمل، قاده المأسوف عليه فرانسيس أور منذ عام 1982، مختص فقط بدراسة العصر الحجري القديم (Besançon et al. 1981-1982; Hours et al., 1983; Copland et Hours, 1983; Le Tensorer et Hours, 1989).

ومنذ عام 1989 وضمن إطار مشروع ذي تمويل وطني سويسري للبحث العلمي، وبفضل الدعم والتسهيلات الكريمة المقدمة من المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق، وبمساعدة القائمين على متحف تدمر أقيم مشروع لتنقيب المواقع الباليوليتية في هذه السهب السورية، وبمشاركة جزئية من جامعتي دمشق ويال.
حوضة الكوم، هي عبارة عن منخفض صحراوي يقطع السلسلة الجبلية التي تشكل حدوداً طبيعية ما بين حوض الفرات والصحراء التي تحيط بواحة تدمر، تقدر مساحتها بمساحة الرقة وتدمر ودير الزور تقريباً، وهي تحتل موقعاً مركزياً من سورية.

إن مورفولوجية هذا الحوض الصغير، تعود بشكل أساسي للتشكيلات الحتية الرباعية (Besançon et al., 1982, Besançon et Sanlaville, 1991) التي باعدته إلى قريتي الكوم وقدير، عند مركزه، فتشكل بروز ضعيف وأعطى سطحاً ممتداً من الجنوب والجنوب الشرقي إلى الشمال والشمال الغربي، حيث بلغ ارتفاعه الوسطي حوالي 500م.

تتوضع المواقع الباليوليتية بشكل خاص حول هذه القاعدة، أو في المنخفضات المحيطة وهي غالباً مجاورة للينابيع. إذ أن نظام تصريف المياه، هو نظام انحباس مائي تقليدي، حيث تصرف المياه حول المرتفع بنظام الوادي المزدوج: شمال غرب، قدير وشرق وغرب، فيفتح بحيث يتشكل مزراب قوسي يصرف المياه باتجاهين متعاكسين. خط التقسيم المائي يقع في منطقة أم التلال ومن الصعب أن يعود للظهور بقوة دفع ذاتية. وحتى في وسط الكهف حول الكوم. منطقة الفصل ما بين الوديان الغربية ومجموعة الكهوف الغربية، مقيبرة المر في الجنوب، والركبان والفياضية في الغرب. في هذه المنطقة تحديداً تركزت الينابيع النشطة سواء حالياً أم قديماً عند مدخل المصرف المائي: الكوم، أم التلال.

تتمثل واحدة من خصوصيات هذه المنطقة في وجود العديد من الينابيع الهادئة ذات التكسرات التي تتأثر بماهية التراب الأصفر عند قاعدة المنخفض، وبذلك تكون هذه الينابيع قد احتلت أسفل المنخفض، وساهمت في إحداث تغيرات في سطح التل.

غالباً ما يحفر السكان الحاليون آباراً في مواقع هذه التلال مما سمح باكتشاف عدة توضعات ذات طبقات كثيرة منها (الهمل، أم قبيبة، حوال A، أم التلال، الندوية، عين عسكر). هذه التلال تشكلت ببطء متزامنة مع تشكل النبع (رسوبيات، جيريات، أحجار جيرية). كانت محمولة ومتحركة ثبتتها النباتات التي نمت حول نبع الماء. ومن الممكن أن نجد مخلفات طمية ناتجة عن تدفق المياه، خاصة في أسفل الطبقات. وتحيط بالحوض طبقة كلسية سجيلية من العصر الفجري والضُوحي، وتقدم عروقاً من الصوان ذا نوعية خاصة لصنع الأدوات، وبذلك يكون الناس في عصور ما قبل التاريخ قد وجدوا مادة أولية رائعة. بهذا المستوى من الصوان تركت ورشات تصنيعية أكبر عدد من الشواهد على العصر الحجري القديم الأوسط (الباليوليت الأوسط)، وهو الذي سادت خلاله تقنية التصنيع اللافلوازي، التي تتطلب نوعية ممتازة من المواد الأولية.

نعرف حالياً حوالي مئة وخمسين موقعاً باليوليتياً، تمتد على مساحة أربعمئة كيلومتر مربع من حوضة الكوم. ساهم في نشوئها وجود العديد من الينابيع في وسط السهب، بالإضافة إلى النوعية المتميزة للصوان، كل ذلك شد الإنسان منذ وقت مبكر. فمنذ أكثر من 500 ألف سنة، أتت أقوام من الصيادين لتقيم قرب ينابيع المياه، أو على أطراف الأنهار التي كانت نشطة في ذلك الوقت في تلك المنطقة، وبذلك نجد دلائل واسعة ترجع للعصر الآشولي الأوسط، ولم يتوقف الإنسان من ذلك التاريخ عملياً عن استيطان هذه المناطق مشكلاً سلسلة حضارية كاملة، تتضمن أربع طبقات باليوليتية.

المرحلة القديمة:
تتمثل بالآشولي، فالمرحلة الانتقالية وتتميز باليبرودية والهملية وقد بدأت على الأقل منذ حوالي 160 ألف سنة. على ما يبدو فإن الآشولية قد استمرت موازية لها حتى بداية الباليوليت الأوسط، حوالي 100 ألف عام. الباليوليت الأعلى هو أقل المراحل وضوحاً ويتميز بسمات خاصة تدعى القلعية، والأورينياسية القديمة المشرقية.

الباليوليت الأدنى I (الآشولية):
الآشولية: ثقافة تميزت باستعمال الفؤوس، يمثلها حوالي خمسة عشر موقعاً تمتد على طول الوديان قرب الينابيع، كالندوية I عين عسكر، حوال B عين الزرقا أو قدير 23. في الندوية I عبر خمس عشرة طبقة كثيفة، حيث نتتبع التطور الكامل للآشولية في هذه المنطقة، كما يبدو فيها واضحاً تماماً، وجود آشولي أخير يسبق مباشرة الثقافة ذات التقاليد اليبرودية والهملية (Le Tensorer et al., 1993).
التسلسل في الندوية I عين عسكر:
اكتشف موقع الندوية I أثناء المرحلة الأولى من التنقيب التي قادها ج وم.ك كوفان في حوضة الكوم عام 1987 (Cauvin et al., 1979)، كما كانت دراسة أولية قد أجريت من قبل ب.سانلافيل (Besançon et al., 1981 et 1982) في عام 1983 أجريت أسبار أكثر أهمية سمحت بالتعرف على تتابع آشولي أجمل (Hours et al., 1983).

وهكذا وبالمقارنة مع موقع بئر الهمل فقد سمحت هذه الدراسات بإرجاع الباليوليت في الكوم لعصر أقدم بكثير. وهكذا فإنه انطلاقاً من النتائج التي قدمتها هذه الأعمال الأولية، قمنا بإعداد مشروع لحفريات منتظمة لهذا الموقع الآشولي الهام عام 1989.

1-عرض للموقع ولتتابع الطبقات فيه:
يقع بئر الندوية I، المسمى حالياً عين عسكر من قبل سكان القرى المجاورة، على السفح الشمالي لحوضة الكوم، وهو واحد من مجموعة تضم خمسة عشر موقعاً تنبسط باتجاه الشمال على سطح يرتفع وسطياً بين 15ـ20 متراً عن السرير الحالي لوادي قدير، وإنه لمن الملاحظ بأن ستراتغرافية هذا الموقع معقدة لحد كبير. حدث الاستقرار في هذا الموقع في منخفض طبيعي يجري في عمقه ينبوع ماء بشكل دوري، اختلفت غزارته بين الحين والآخر، مما أدى إلى عدة انهيارات كانت سبباً في حدوث فيضانات عنيفة.

حسب نشاط الينبوع، فإن سطوحاً مائية، تكثر أو تقل أهميتها، تشكلت في الملجأ. بسبب هذه التغيرات الدائمة، فإن المخلفات الموجودة ذات طبيعة كثيرة التنوع، فهي إما مائية أو هوائية محمولة، وقد تغيرت أيضاً في عدة مناسبات وحدثت عليها فيضانات وانزلاقات، واختلاطات سريعة.

لقد استطعنا أن نضع احتمال وجود ستة مستويات، يفصل فيما بينها طبقات ذات مظاهر انجرافية، شكلت إضافات لشروط ترسبات الحلقات التالية:
1ـ ترسبات ناعمة، يغلب عليها الصفة البحيرية، المجموعة VI الآشولية.
وهي تتعلق بمخزون ناعم ترابي طميي قواقعي، يشكل طبقة كلسية من الترافرتين ذات قياسات وامتدادات مختلفة لحد كبير، ضمن هذا التركيب الرسوبي استطعنا، على الأقل، تجميع خمس عشرة طبقة من الأرضيات الآشولية، بعضها قد تغير مكانها بسبب انزلاقها في النبع.
2ـ رمال هملية: المجموعة V.
وهي تتعلق بمخزون رملي واضح، ومسيطر في التركيبة الطبقية، تتشكل الرمال من حبيبات من الكوارتز منتخبة بشكل ممتاز مستديرة ومصقولة. ولاحظنا أيضاً طبقات عضوية تصل سماكتها لحوالي عشرة سنتمترات، تحوي على العديد من قطع فحم الخشب والعظام، وقد تشكلت على الأرجح من المواقد التي تناثرت بفعل الحت ثم ترسبت من جديد على محيط الينبوع، هذه الطبقة تحوي على كم كبير من النصال والأدوات التي ترجع للهملية.

3ـ تشكيلات حتية: المجموعة IV.
إنها تقدم سمتين شديدتي الاختلاف:
ـ التشكيل IVa في المقطع شمال ـ جنوب تبدل بشكل كامل.
ـ التشكيل IVb في المقطع شرق ـ غرب حيث بقيت الترسبات في مكانها، وهي عبارة عن توضعات حتية تحيط بالينبوع بعد الانهيارات التي غيرت مكان الرمال الهملية. وهي تمثل رمالاً متوسطة الحجم ذات أشكال غير منتظمة، والآثار هنا قليلة العدد، وتمتاز بشرائح لافلوازية معروفة.
4ـ غضار وطمي من ترسبات منتظمة: المجموعة III.
تمثل تتالياً لأشرطة رقيقة لترسبات رمادية وبيضاء هذه الطبقات التي تزيد سماكتها عن 1.2 متر، تشهد على ترسبات بطيئة في وسط مائي (بحيري) حيث يمكننا أن نتصور بأن هذا الحوض المائي كان ذا منسوب يزيد عن عشرة أمتار.
5ـ رسوبيات طميية طيارة من مركبات هوائية: المجموعة I.
كل الجزء العلوي من المجموع الطبقي تشكل من ترسبات رقيقة جداً ومتجانسة ليس لها تركيب محدد وهشة جداً، هذا الطمي ذو مظهر غريني، إنه يمثل مخزوناً من الدقائق، وبشكل خاص من الكربون والكالسيوم مع نسبة من الجص.
هذا الحت الناشىء عن رياح قد توضع بشكل جزئي واضح في الينبوع. إلى الشرق من البئر الحالي، هذا المركب أعاد تشكيل أرضية سكن واسعة في الآشولي الأعلى والأخير نقبناها على امتداد أكثر من خمسة عشر متراً مربعاً.
6ـ رسوبيات حديثة: المجموعة II.
توضعت هذه الترسبات في عصر حديث (حوالي نهاية الألف الأول)، في فراغ الحت تحت الطبقة الطميية الكلسية المتصلبة على حافة البئر الحالي.

2ـ المعطيات الأثرية:
شكل نبع الماء دوماً مصدراً لشد الناس الذين شغلوا المكان بطرق مختلفة، سواء في عمق المنخفض بمحاذاة الماء مباشرة، أو على سفح الملجأ، أو على السطحية المحيطة بالمنخفض؛ وبذلك يمكن أن نجد لنفس الفترة الزمنية من السكن طبقتين أثريتين مختلفتي الارتفاع. بالإضافة إلى ذلك، فإن الناس قد استخدموا مياه الينبوع في الفترات القديمة والتاريخية، عن طريق حفر الآبار، مما ساهم في حدوث الحت والتغيرات المختلفة.
لم تنته الحفريات بعد، وكل النتائج قد أعطيت على سبيل الإيضاح، ولازالت بحاجة للتوضيح بالدراسة الأكثر تعمقاً. وقد غطت المكتشفات الأثرية للندوية I (عين عسكر)، كما رأينا كل مراحل ما قبل التاريخ المعروفة في حوضة الكوم.

حالياً: الطبقات التي تعود للمرحلة الآشولية هي وحدها موضع بحث منظم، والهملي قد جمع في الموقع خلال أحد الاسبار، أما اليبرودية فقد تميزت بشكل واضح من خلال سلسلة من المقاحف النموذجية ذات التشذيب الخاص، عثر عليها في الترسبات الحتية IVa في موضع جانبي. وكذلك نجد طبقات كثيرة التشويش. الباليوليت الأوسط (اللافلوازي ـ الموستيري) التقليدي وفير، أما الباليوليت الأعلى، والباليوليت الأخير والنيوليت، فهي فترات لم تظهر بعد إلا من خلال عدد قليل من الأدوات.

من جهة أخرى، فإن كسراً من الفخار الأوروكي قد ظهرت لتكون شاهداً على وجود الإنسان في فترات فجر الحضارات، أما الحضارات فيشهد عليها عدد كبير من الفخار القديم والإسلامي في مخلفات حفر الآبار في المجموعة IVa، وكذلك بقايا الأبنية من العصر الروماني في غرب الطبقات الحالية.

الآشولي:
عرف الآشولي من خلال خمس عشرة سوية، تمثل ثلاث مجموعات من الآشولي الأوسط والأعلى والأخير. إجمالاً شرائح التصنيع متوفرة في كل مكان، ولا تمثل الأدوات المصنعة إلا جزءاً من النسبة المئوية لمجموع المخلفات. أكثر من ثلاثة أرباع الأدوات المشذبة هي عبارة عن فؤوس أو ذات وجهين. فما تنحصر الأدوات على شرائح في قطع ذات تشذيب جانبي، تتراوح بين منتظمة وقليلة الانتظام. ونادراً ما تكون مسننة أو تتجاوز في تسنينها الحد العامل. ندرة الأدوات على شرائح ووفرة الفؤوس سمة تميز العصر الآشولي في منطقة الكوم.
أحد الأمور الهامة في المتتالية الاشولية، وجود آشولي أخير (سوية I) في وضع ستراتغرافي مركزي، أي تال للثقافة اليبرودية والهملية، منزلقاً ما بين السويات ذات التقنية الانتقالية، بالرغم من كونه من السويات ذات التقنية الفأسية وهو وضع شاهدناه سابقاً في يبرود مثلاً (Rust, 1950).

إن كل هذا يتعلق بما يشغل باطن المحمول الطميي. وقد استطعنا أيضاً معرفة وتنقيب أرضية سكن على امتداد 16 متراً مربعاً، حيث فؤوس الآشولي الأخير شديدة التنوع والقطع الفأسية الغير منتظمة وفيرة. يسود بين الفؤوس النموذج القلبي واللوزي، أما في طبقات الآشولي الأعلى فتتراوح أبعاد الفؤوس بين (6.5 و12 سم)، وهي كثيرة الاختزال وأكثر انسجاماً، ولم نعد نجد مطلقاً سكاكين مجوفة. من جهة أخرى، الطبقة I أغنى بالأدوات على شرائح، وهي تتعلق على الأكثر بشرائح ذات تشذيب جزئي، ونادراً ما يكون مسنناً، يضاف إليها القليل من المقاحف.

ولمن الغريب، أنه بالرغم من معاصرة هذا العصر للثقافة المسيطرة آنذاك ذات التقنية اللافلوازية، فإننا لا نلاحظ في هذه الطبقات أي تقطيع أو إنتاج منظم لنوى تصنيع أدوات على شرائح. على الأرجح فإن هذا الآشولي يعاصر أول المراحل المرستيرية المسماة بالهملية (قبل 110.000 عام) ولهذا السبب فإننا نقترح تسمية هذه الثقافة بالمصطلح (Epi-Acheuléen) الآشولي النهائي (Le Tensorer, Muhesen et Jagher, 1993).
الباليوليت القديم II: الثقافة الانتقالية، اليبرودية والهملية:
هي المجموعة الحاضرية الثانية في منطقة الكوم (اليبرودية) وتتمثل في حوالي عشرة مواقع أيضاً على ضفاف الينبوع (Copeland et Hours 1983). تتميز هذه الثقافة بوجود مقاحف بسيطة مستعرضة وأحياناً منحرفة تميزها تشذيبات بشكل حراشف السمك السميكة كما أننا نعثر أيضاً بشكل عام على فؤوس مظهرة غير متماثلة. ضمن المعطيات الهملية تعود اليبرودية إلى ما يزيد عن 160 ألف عام.

الهملية: هي عبارة عن تقنية متميزة تقتصر تقريباً على شرائح طولانية، اكتشفت من قبل د. كوبلاند، ف.اور، س. محيسن وب. سانلافيل، في القسم الأدنى من بئر الهمل (Hours, 1982) والتي يمتد تأثير ستراتغرافيتها لأكثر من 20 متراً، وتعتبر إحدى السويات المرجعية في منطقة الكوم. هذه الصناعة عرفت ضمن معطيات السويات الهامة للينبوع. الهمل الموقع الرمز، عريضة، جوال A، أم التلال، وتلال الندوية I عين عسكر (Jagher, 1993). هذه الثقافة تتميز بارتفاع نسبة شرائح النصال فيها وغياب التشذيب الفأسي أو الكيني. الأداة النموذجية هي نصلة مدببة ذات تشذيب دقيق (الحربة الهملية)، يضاف إليها المقاشط، السكاكين المظهرة والنصال وبعض المقاحف والنذر من الأزاميل.

بالنسبة إلى تقطيعها الشرائحي، فإنها ثقافة تأخذ حيزاً ضمن الإطار العام للصناعة الشرائحية في الباليوليت الأدنى في الشرق الأوسط، كما قبل الأورينياسية والعامودية.

إلى الوقت الراهن، فهناك موقعان فقط قد قدما صناعة هملية ضمن ستراتغرافية نظامية: الهمل والندوية I عين عسكر. إذاً من هذه المعطيات سنصف ثقافات وتقاليد الباليوليت الأدنى والأوسط في منطقة الكوم.

معطيات بئر الهمل:
1ـ الستراتوغرافيا (الطبقات):
أشير إليها منذ التنقيبات الأولى، التي أجراها ج. وم. بوشيلاتي (1967). إن بئر الهمل يقدم سلسلة طبقات تزيد عن 20 متراً عام 1980 وخلال أول موسم خصص إلى الجيومورفولوجيا وإلى الباليوليت في حوضة الكوم، عرفت الهملية، وحددت ضمن سوية في القسم الأسفل من البئر (Besançon et al., 1981; Copeland, 1981; Hours, 1982).

بناء على طلب ف. أور فقد أجرينا دراسة للستراتوغرافية وللترسبات في هضبة الهمل في 1983 و1985، لكن خلال شتاء 1987 حدث انجراف ضخم لركام الحفريات التي تحيط بالبئر، أدى لردم كل القسم الأسفل من الطبقات مما جعل الولوج إليها غير ممكن حالياً. لهذا السبب فقد عملنا من خلال دراسات ستراتيغرافية على إعادة توضع طبقات الهمل المعقدة والحساسة للغاية، حيث أن جزءاً كبيراً منها ذو طبيعة بيتونية، أو يغطيها جدار مدعوم بالحجارة القاسية. وبدءاً من القاعدة حتى القمة نلاحظ التركيب الرسوبي التالي:

1ـ الترافرتين اليبرودي: التركيب الأثري (IB): وهي عبارة عن قطع مندمجة من الترافرتين تحوي الصوان العائد لليبرودية. ثلاث قطع صوانية تعود لهذه الطبقة أرّخت مؤخراً بواسطة التألق الحراري، وأعطت تأريخاً وسطياً 160±22 Ka (OXTL. 232. Ib)، وهو ما يؤكد تماماً التاريخ Ka 156 المعطى سابقاً، على الترافرتين بواسطة طرائق أخرى (Henning et Hours 1982).

2ـ رمال تعود للهملية وللباليوليت الأوسط (رمال سفلى = المجموعة الأثرية Ia، وجزئياً القسم II في القاعدة والوسط). هذه الرمال تمثل عدة طبقات أثرية تشكل الهملي. وفي القمة تقدم سوية موستيرية ذات سمات تقطيع لافلوازي، لكنها طبقات بشكل رقائق سيلية وجزء منها رمال مقساة.

3ـ التركيب الناشىء عن الحت الخشن (اندماجية صخور وركام عظمي يحوي أدوات موستيرية III/II؟). الصخور المندمجة ذات المنشأ السيلي عمقت رمال السوية II، وهي تحوي على الصوان بكثافة وعلى قطع عظمية محفوظة جيداً، موزعة بشكل فوضوي كبير. هذا التركيب الحتي يبدو بجلاء أحياناً. ويعرض كل سمات الطبقة الأثرية القديمة التي دمرت بالحت، وانزلقت بطبقات في مياه الينبوع، وترسبت على الرمال الهملية بالسيول. إلى الأعلى لا يمكننا تتبع الستراتغرافية بسبب حزام بيتوني بارتفاع 3 م تقريباً. ومن شبه المؤكد بأن الجدران البيتونية تحوي على طبقات غنية على الأرجح بالرمال والحصى الغير متماسكة فيما بينها. هذا التركيب الحتي المتشعب كان ناتجاً إذاً عن تركيب حتي آخر أكثر دقة وغنى.

4ـ حصى وترافرتين علوي (التركيب الأثري III): تنتهي السلسلة الحتية بالرمال والحصى، وقد قدمت بشكل مكثف أدوات موستيرية ذات تقطيع لافلوازي، وهي أكثر سماكة من طبقات التركيب II.

5ـ تركيب رملي (رمال عليا A = التركيب الأثري IV)، تحتوي هذه الرمال على أدوات موستيرية تتميز بالاستطالة ذات تقطيع لافلوازي، وبغناها بالنصال. هذه السوية الأثرية تذكر بالتركيب II وتقع مباشرة فوق السوية الهملية. وإن كانت تختلف، هذه الأخيرة (التركيبة IV) باحتوائها على حراب لافلوازية مختلفة.

6ـ التركيب الصلصالي العقيم و(السوية الترابية V)، إنها سوية صلصالية رملية طميية مؤكسدة، يصل ما بينها سويات طينية سوداء عضوية، اعتبرت (كطبقات طينية) في الدراسات الأولية للهمل (Besançon et al., 1981).

7ـ ينقطع المخزون الطيني فجأة، باتجاه الجنوب بحت قاس. ويستبدل (برمال عليا B) متكتلة وناعمة لا تحوي مخلفات أثرية.

8ـ طمي صلصالي تشكل بفعل الريح والبخار (التركيب الأثري VI).

فوق الطمي في السويات العضوية والرمال العلوية B، نصل إلى تركيب طميي صلصالي ذي كثافة كبيرة تقارب المتر. تحوي على سويتين أثريتين، نشير إليها بـ Via وVIb. هذه السويات تحوي صناعة مكونة فقط من نصال قوية ومشذبة، تجعلنا نتذكر الثقافة ذات التقاليد الباليوأوسطية وباليوعليا. من خلال ثلاث شرائح من الصوان المحروق، أرخت الطبقة VI حديثاً بواسطة التألق الحراري بـ 104 = 109 (OXTL. 235-6b) Ka.

9ـ غطاء من الطمي الرملي الغريني (آثار منفردة) إلى الأعلى. يتشكل غطاء الموقع من طبقة سميكة من الطمي الرملي، ذو سمات غرينية بسماكة 8 أمتار تقريباً.

2ـ المعطيات الأثرية:

1ـ اليبرودية: في قاعدة المخزون المدروس عام 1980، تتشكل عدة طبقات يبرودية تؤرخ وسطياً بين 160.000 عام، وقد درس كل من ل. كوبلاند. وف.أور سجلاً أولياً من /703/ أثراً منها /245/ أداة بالمعنى الدقيق (Copeland et Hours, 1983) وهي حتماً ليست لافلوازية ولا شرائحية. وقد تميز هذا المجموع بوجود عدد كبير من المقاحف البسيطة غالباً، ولكن المقاحف المنحنية والمستقيمة متوفرة أيضاً وتتميز بأنها عائدة لثقافة ذات تشذيب من النوع المسمى بالكيني، أو نصف ـ الكيني. ويضاف إلى هذا الإبداع أدوات من نوع الباليوليت الأعلى (مكاشط، أزاميل، مثاقب: 8.16%، سكاكين مظهرة)، كذلك المفرضات والمسننات، أما الفؤوس فهي متوفرة بشكل جيد في هذه الطبقات، كما في كل المواقع اليبرودية في المنطقة. وتتميز هذه القطع بأن الامتداد وعدم التماثل واضح فيها بشكل عام، الجزء القاطع هو الجزء الوحيد المصنع بشكل دقيق وهو المستعمل أيضاً. هذه الأدوات غالبا ما تكونً ذات أشكال وسط ما بين الفؤوس الحقيقية والمكاشط الكبيرة ذات التشذيب الفأسي.

2ـ الهملية: تعلو التشكيلة الهملية السوية اليبرودية، وقد جمعت منها حوالي 700 قطعة (Hours, 1982; Copeland 1985). السمة الرئيسية المميزة لهذه المجموعة هي التقنية الشرائحية العالية جداً (65.85% حسب أور). كل الأدوات المشذبة تقريباً مدببة الرأس ومصنعة على شريحة طويلة جداً. فيما يخص الأدوات المصنعة على شرائح ل.كوبلاند (1985) فيميز سكاكين مظهّرة تفوق أحياناً نصال سان ريمو وحراباً موستيرية طويلة وحراباً هملية، ونصالاً كبيرة ذات قاعدة ملساء رأسها حاد بتشذيب يقتصر على الجزء الطويل من النصلة. هذه الثقافة تأخذ حيزاً ضمن المجموعة الكبرى للصناعة الشرائحية السابقة للباليوليت الأوسط: ما قبل الأورينياسية، أشير إليها في يبرود (Rust, 1950; I Bordes, 1955)، أو العامودية الموصوفة في أبو سيف (Neuville, 1951; Skinner, 1955) وملجأ زموفين (Garrod et Kirkbride, 1961)، وكذلك في الهمل، وباستثناء السكاكين المظهرة (IAu. 9.85) فإن الأدوات الأخرى من نموذج الباليوليت الأعلى نادرة الوجود.

3-الندوية I عين عسكر: لقد وجدنا في الطبقات التي تعود للمجموعة IVa غزارة كبيرة لأدوات الباليوليت الأوسط، فيما بينها بعض المقاحف اليبرودية والحراب الهملية بسبب التغيرات التي تعرضت لها هذه الطبقات، فإن هذه الاكتشافات غير ذات مضمون ستراتغرافي. على العكس من ذلك. ففي عام 1992، وجدنا تحت الطبقة الحتية IV سوية رملية، مصنفة تماماً في موقعها وتقدم غنى كبيراً بالمواد الهملية. حيث وجدت أكثر من 150 حربة وأداة على نصلة، جمعت في متر مربع واحد.

إن التعقيد الستراتيغرافي والإمكانيات التي كانت متاحة للناس في استيطان أكثر من مكان من المنخفض بما في ذلك منطقة الحت في الطبقات الأقدم، كل ذلك يجعل إعادة تصحيح الطبقات الهملية مع الآشولية أمراً حساساً. ويبدو واضحاً بأن الاستيطان الهملي كان سابقاً لآخر مرحلة آشولية. وفي هذه الحالة كما قلنا، فإن الطبقة I من السويات الآشولية تعاصر المراحل الأولى من الباليوليت الأوسط.

إن الدراسة الأولية التي أجريت على المواد الهملية الملتقطة عام 1992 (Jagher, 1993) أظهرت بأن المؤشرات الشرائحية تصل إلى حوالي 80% وهذا ما يزيد عن الهملي. النصال بشكل عام ذات قاعدة مستوية وعريضة ولها انتفاخ واضح وهي أقل تداولاً بشكل واضح. التقطيع اللافلوازي موجود ولكن في هذه الحالة تكون النواة أكثر قصراً. الحراب الهملية، بالرغم من أنها أكثر نموذجية إلا أنها أكثر ندرة من الهمل، والحراب الموستيرية الطويلة هي المسيطرة. إذاً كانت المقولة الأولى مؤكدة، فنحن أمام تنوع هملي كبير، ربما كان سببه ظاهرة تطورية، وإن كانت الصلات بين الندوية I والهمل لم تتوضح بشكل دقيق.

الباليوليت الأوسط (الموستيرية):
يتميز الباليوليت الأوسط بسمتين: الأولى قديمة معروفة على أطراف مصاطب الوديان الرئيسية، وتتميز بتقطيع لافلوازي بسيط (20%) وبمقاشط نادرة. والأخرى حديثة، تظهر تقطيعاً لافلوازياً جلياً، ينتمي للافلوازية الموستيرية المعروفة في المشرق العربي. وتعلو الطبقة الهملية في موقع الهمل سلسلة طبقات موستيرية مع بداية 110.000 عام.

المجموعة الموستيرية ذات التقطيع اللافلوازي (اللافلوازية ـ الموستيرية) في الشرق الأدنى
وكل الأجزاء المركزية من الستراتوغرافية، تتألف من سويات موستيرية (المجموعة IV, III, II) تقليدية ذات تقطيع لافلوازي واضح جداً، دائماً (النواة) كتلة التصنيع، طويلة جداً (I شريحة II: 47.08، III 25.27، IV 48.03)، وحراب موستيرية ولافلوازية، هي غالباً ذات قاعدة عريضة مضلعة، ونجد أن هذه الانحناءة في التقطيع الشرائحي مميزة في السويات الموستيرية خلال السويات الأساسية المتتالية في آبار منطقة الكوم.
المجموعة الأثرية VI قبل الأورينياسية، أو الهملية المتطورة:
تؤرخ هذه السويات بـ 100.000 عام، ولم تظهر إلا خلال مساحات صغيرة، خلال الدراسات الستراتوغرافية والرواسبية. ينخفض السجل هنا إلى حوالي 50 قطعة، ثلاثة أرباعها عبارة عن حراب ضخمة سميكة لحد كبير، ذات قواعد متنوعة (44% مضلعة، 30% مستديرة وصغيرة، 25% ملساء). وتُظهر هذه النصال غالباً تشذيباً متتالياً سميكاً يذكر بالنصال الأورينياسية. ولدى الفحص الأولي لهذه المجموعة تملكنا شعور بأنها تتعلق بتقنية من التقاليد الوسيطة بين الباليوليت الأوسط والباليوليت الأعلى ولكن بسبب تاريخها القديم جداً، فإننا ننسب هذه الطبقات للثقافة ذات الشرائح المعروفة (بما قبل الأورينياسية/الهملية).

الباليوليت الأعلى:
مع نهاية الباليوليت الأوسط وبداية الباليوليت الأعلى، ظهرت ثقافة، على ما يبدو، تنتمي إلى ثقافة خاصة سميت (السمات العتيلية) حيث تكون النواة النموذجية بشكل مثلثي، واستخدمت لاستخراج حراب تقارن بتلك التي تمثل أقدم باليوليت أعلى على الساحل، يضاف إليها المقاحف والمكاشط والأزاميل.

السوية الأولى المؤكدة من الباليوليت الأعلى، هي الأورينياسية المشرقية، التي عرفت في منطقة الكوم بشكل جيد قرب الينابيع (أم التلال) وكذلك هضبة القدير.

الخلاصة:
فيما يخص الباليوليت، فإن الأهمية الكبرى في منطقة الكوم، تتمثل بوجود طبقات كثيرة سمحت بتحديد السويات الانتقالية ما بين الباليوليت القديم والأوسط من جهة، والأوسط والأعلى من جهة أخرى.
السويات الأهم في أم التلال، هي تلك التي يقوم بالتنقيب فيها حاليا أ. بويده، فقد سمحت بإنارة المرحلة الأولى من الباليوليت الأعلى. أما سلسلة السويات في الندوية I عين عسكر والهمل فقد سمحت لنا بتحديد شروط الانتقال من الباليوليت الأدنى إلى الباليوليت الأوسط، وهذه واحدة من أسباب الأهمية الكبرى لمنطقة الكوم.
بالنسبة للهمل، على ما يبدو، بدأت فترة العبور من الباليوليت الأدنى إلى الأوسط، في وقت مبكر. على الأرجح قبل 160.000ق.م. في المرحلة اليبرودية: بالرغم من أن الفأس لازال موجوداً، فالتقنية موستيرية بشكل كامل، والتقاليد الفأسية لازالت قائمة ولكنها أصبحت غير متناسقة شيئاً فشيئاً، لأن استعمالها قد اقتصر على الأدوات القاطعة، هذه النظرة الجزئية للفأس كأداة قاطعة، وهو ما يمكن تحقيقه بأداة أقل وزناً كالمقحف وحيد الاتجاه، أو سواه.

مبكراً أيضاً فيما قبل العصر الجليدي الأخير، أو في بدايته ظهرت تقنية جديدة للتقطيع تسمح بإنتاج منتظم لنصال طويلة. كما سنلاحظ فيما بعد فترة طويلة من الباليوليت الأعلى، بدءاً من هذه الفترة ستكون النواة دوماً ذات امتداد كبير الارتفاع، سواء أكان استخراج الشرائح بالتقنية الهملية، أو بالتقطيع اللافلوازي التقليدي، فنلاحظ إذاً تتابعاً للسمات الهملية والموستيرية ذات التقطيع الشرائحي، ثم من جديد ثقافة ذات شرائح أكثر تطوراً، لكنها قديمة جداً (Ka 9 ± 104).
إن اكتشاف سوية هملية في موقعها الأصلي، في الندوية I عين عسكر، هو عمل هام، حيث أنها المرة الأولى، التي نجد فيها هذه الثقافة الهامة في موقعها في حوضة الكوم. بالإضافة إلى ذلك، استطعنا استعادة ترتيب الطبقات مع الثقافات والتقاليد الهملية مع الآشولية الأخيرة. إن وجود سوية (على الأرجح) للآشولي الأخير (سوية I)، ربما معاصرة للفترات الأولى من السويات الموستيرية، هو الحدث الأكثر أهمية في البحوث الأخيرة التي ستساهم في استعادة ومقارنة الآشولية الأخيرة في سورية الداخلية مع ما نعرفه عن ذلك العصر في أوروبا حيث الآشولي الأعلى (الميكونية) تتواجد مع بدايات السويات الموستيرية. وهذا ما يجب أن تحدده التنقيبات المستقبلية.

جان ماري لوتنسورير

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996