تل برسيب

(تل أحمر)

الموقع:
يقع التل على الضفة اليسرى لنهر الفرات عند التقاء الساجور بالفرات، ويبعد 20 كم جنوب كركميش على الحدود السورية التركية (الشكل1). والقرية الحالية التي تعرف باسم تل أحمر تتوضع في الجزء الجنوبي منه، بينما يرتفع التل الأثري عند حافة السهل الفيضي لنهر الفرات، وهو السهل الذي غمر بمياه بحيرة سد تشرين. يأخذ التل شكلاً نصف دائري بقطر يصل طوله إلى حوالي 1200م، ويشتمل على ثلاثة أقسام: التل الرئيسي، المدينة الوسطى ومن ثم المدينة السفلى التي تشغل القسم الشمالي الأكبر (الشكل2).


الشكل1: موقع تل برسيب على خريطة سورية

الاكتشاف وبداية الأعمال:
كانت الزيارة الأولى للموقع عام 1908 من قبل هوغارث «D.G.Hogarth»، الذي اكتشف حينها عدة كتابات مسمارية ونقوش حثية فوق بعض التماثيل، وهو أول من افترض وجود موقع تل برسيب[1]. تلاه في عام 1909 بيل «G.L.Bell» الذي قام بنسخ بعض الكتابات المسمارية وجمع العديد من الملاحظات حول الموقع إلى جانب قيامه بأخذ العديد من الصور (الشكل3)، وكان قد نشر كتاباً بعنوان «Amurath to Amurath»تحدث فيه عن حلب وموقع تل أحمر[2].

في العام 1925 زار الموقع هنري سيريغ «H.Syrigh» وبيردريزت «P.Perdrizet» برفقة الكابتن بيلورس «P.Pellorce» قائد سرية المعلومات في منطقة حلب وتم توجيه رسالة بخصوص الموقع إلى العالم دوسو «Dussaud». وقد سجل بيردريزت وصفاً للموقع جاء فيه: «موقع كبير، تل صناعي، وكان الأتراك قد وصلوا للتل وخربوا العديد من أجزائه خلال الحرب ما بين عامي 1914-1918 من خلال قيامهم بأعمال تحصين لضمان وجود ممر لهم عبر النهر. ويتألف الموقع من مدينة منخفضة، ولا تزال بقايا الخندق و السور ظاهرة في المكان، وللسور شكل نصف دائري تتوسطه بوابتان إحداهما في الشمال وهي بوابة كركميش والثانية في الجنوب وهي بوابة بابل ....الخ»[3].

الشكل2: مخطط موقع تل برسيب

في عام 1927 وصل للموقع ف. ثوروا-داندين «F.Thureau-Dandin» برفقة م.دارو «M.Darous» وتمكن الاثنان من عمل سبر في الموقع لفترة قصيرة، ومن ثم تمكنا من العودة عام 1929 بعد الحصول على موافقة متحف اللوفر القيام بأعمال تنقيب. تشكلت البعثة بمشاركة دارو، دوسان «M.Dossin»، و باروا «P.Barrois» واستمرت أعمال البعثة ثلاثة مواسم حتى عام 1931 ،وكان من نتائجها الكشف عن العديد من المنشآت الهامة منها القصر الآشوري.

الشكل3-أ: من البقايا الأثرية التي تم الكشف عنها في تل برسيب عام 1909

توقفت الأعمال في الموقع بعد ذلك حتى عام 1980 حيث تم إعادة إحياء أعمال التنقيب في الموقع من قبل بعثة أسترالية برئاسة بونين «G.Bunnen» بالتعاون مع جامعة ملبورن حتى عام 2000، ثم تابعت البعثة أعمالها بعد ذلك (حتى عام 2010) بالتعاون مع جامعة لييج «Liège» وشارك بالعمل مجموعة من الباحثين والمختصين؛ وإلى جانب أعمال التنقيب قام فريق متخصص بالمسوحات الجيوفيزيائية بمسح عدة قطاعات من المدينة، وقد أظهرت المسوحات نتائج جيدة وواضحة للمنشآت المعمارية في المناطق غير المنقبة (الشكل4).

الشكل3-ب: من البقايا الأثرية التي تم الكشف عنها في تل برسيب عام 1909

لمحة تاريخية:
أول ذكر لموقع تل برسيب يعود لفترة شلمناصّر الثالث ( 858- 823 ق.م)، وورد الاسم على هذا النحو «til-bar-sa-ib»، وكان الموقع خلال هذه الفترة عاصمة مملكة بيت عديني الآرامية التي بسطت نفوذها على ضفتي الفرات، وبالتالي كانت بالنسبة للآشوريين المدخل الرئيسي لسورية في الشمال.

الشكل4-أ: نتائج أعمال المسح الجيوفيزيائي
في موقع تل برسيب

وكان هذا الملك قد فشل في المرة الأولى ببسط سيطرته على تل برسيب، إلا أنه تمكن من ذلك في المحاولة الثانية عام 856 ق.م وسقطت العاصمة بيد الآشوريين وعمدوا إلى بناء القصور وتغيير الاسم من تل برسيب (تل أحمر) إلى «كار شلمناصر» والتي تعني «بوابة شلمناصر»، حيث يذكر الملك الآشوري شلمناصر الثالث في أحد نقوشه أنه «في اليوم الثالث عشر من شهر أيار من سنة حكم آشور بيلا كائين غادرت نينوى، عبرت نهر دجلة، سرت محاذياً جبل خاسمو ودخنونو، توجهت إلى مدينة تل برسيب المدينة المحصنة لأخوني رجل بيت عديني، حاصرتها فعجز عن مواجهة سلاحي البراق العاصف عبر الفرات حين كان فائضاً، ولكي ينقذ حياته عبر إلى أرض أجنبية ولكن بجيش الإله آشور السيد العظيم حاصرت مدن تل برسيب وألليجو ونابيجو وروجولوتي صارت لي، أسكنت فيها آشوريين وأسست فيها قصوراً كمقر لإقامتي أعدت تسمية تل برسيب فصارت كارشولمانو – أشاريد ثم كار شلمناصر»[4].‏

خلال فترة حكم سنحاريب (705-681 ق.م) كثر وجود الحثيين في العاصمة حيث سمح الملك بتوطينهم في مدينة نينوى وقسم آخر في تل برسيب، وقد عثر على الكثير من البقايا التي تخص الحثيين لا سيما النقوش الكتابية التي تتشابه مع الهيروغليفية[5].

الشكل4-ب: نتائج أعمال المسح الجيوفيزيائي
في موقع تل برسيب

لم تتبين معلومات كافية عن تل برسيب خلال الفترات اللاحقة، إلا أنه تم العثور على بقايا تعود للعصر الهلنستي ومن بعده العصر الروماني، ويبدو أن اسم برسيب بقي مستمراً بالتداول إلا أنه خلال هذا العصر ظهر على النحو «bersiba»، وقد أشار فرانز كيمون «F.Cumont» إلى أن هذا الاسم ظهر خلال فترة الامبراطور جوليان (331 – 363م) خلال عبور جيشه من أنطاكية إلى نهر الفرات[6]، وهناك العديد من البقايا المؤرخة على العصر الروماني وما تزال أعمال التنقيب مستمرة ومن شأنها أن تلقي الضوء عن الجوانب الغامضة والمجهولة المتعلقة بتل برسيب حتى الوقت الحاضر.


الاكتشافات ضمن الموقع:
نتج عن أعمال البعثة الفرنسية في الموقع العديد من المكتشفات، وكان من أهمها القصر الآشوري الذي بدأت بقاياه تظهر خلال عام 1929 في الجزء الجنوبي الغربي من التل. وقبل الحديث عن القصر لا بد من التطرق للبقايا الأقدم في الموقع التي تم الكشف عنها والتي تخص العصر الآرامي، وقد توضعت في مركز التل وفي قسم منها أسفل أساسات القصر الآشوري، ومن هذه المكتشفات ما يعرف باسم البناء الشرقي والبناء الغربي ويتألف كل منهم من عدة ساحات داخلية صغيرة ومجموعة من الحجرات (الشكل5)، وقد بنيت أساساتها من الحجارة ومداميك اللبن وتعرضت للتخريب في كثير من الأجزاء، لا سيما بعد بناء القصر الآشوري وهذا ما صعّب على الباحثين الكشف عن هوية استخدامهم.

الشكل5: مخطط بقايا أبنية العصر الآرامي في تل برسيب

في القصر الآشوري تمثلت البقايا الأولى التي تم الكشف عنها برسومات جدارية ذات مواضيع هندسية مشابهة لما تم الكشف عنه في قصر أرسلان طاش، ومع استمرار الأعمال تم الكشف عن مجمل مخطط القصر وجدرانه المبنية من اللبن التي كانت محفوظة حتى ارتفاع 5 أمتار. يأخذ القصر شكل مستطيل يبلغ طوله 130 متراً وعرضه 70 متراً، مدخله الرئيسي يقع في الجهة الشمالية في الزاوية الشمالية الغربية، يتم الدخول منه عبر القاعة الأولى (I) إلى ساحة كبيرة مستطيلة الشكل بطول 65 متراً وعرض 25 متراً كانت مبلطة، وحولها تطل مداخل مجموعة من القاعات كانت مخصصة في قسم منها لاسيما الشمالية للحرس. ومن خلال الجدار الجنوبي من الساحة الأولى نمر عبر قاعة إلى الساحة الثانية (b) وهي أصغر حجماً من الأولى وتحيط بها أيضاً مجموعة من القاعات، والفرضية المرجحة لاستخدام هذه القاعات أنها كانت مخصصة لاستقبال الملك لضيوفه. أما مقر الملك وعائلته فتوضع في الجزء الشمالي الشرقي وكان يتم الوصول إليه عبر ممر من الساحة b والذي يفضي بدوره إلى ساحة ثالثة (c) وحولها توزعت حجرات سكن الملك وعائلته (الشكل6)، وضمن هذا الجزء تم الكشف عن أغلب الرسومات الجدارية التي تتشابه مع رسومات موقع أرسلان طاش، وهي ذات مواضيع منها ما يتعلق بالملك وحرسه، ومشاهد صيد، ومنها ما يظهر مواضيع هندسية ورسومات حيوانية (الشكل7).

الشكل6: مخطط القصر الآشوري في تل برسيب

وتظهر هذه الرسومات أيضاً شبهاً كبيراً من حيث الأسلوب والألوان مع رسومات قصر نمرود وخورسىباد[7]، وقد أظهرت النتائج أن رسومات تل برسيب كانت قد أنجزت على عدة مراحل، وإلى جانب الرسومات عثر على العديد من المنحوتات الصغيرة التي كانت تزدان بها قاعات القصر، وتم تأريخ الأسلوب الأخير للرسوم على فترة آشوربانيبال (668-626 ق.م) التي تعتبر فترة الازدهار الأهم في تاريخ آشور[8].

الشكل7-أ: نماذج من الرسومات الجدارية المكتشفة
ضمن القصر الآشوري في تل برسيب

أما بخصوص المكتشفات الأخرى فتمثلت بالعديد من المدافن المؤرخة على العصر الأخميني وعثر في داخلها على لقى مختلفة، ومن العصر الهلنستي تم الكشف عن عدة جدران مبنية بقطع حجرية كبيرة مشذبة بعناية ويرجح أنها تخص معبداً كان قد بني فوق أساسات القصر كما هو الحال في موقع أرسلان طاش، وأن القطع النقدية التي تم العثور عليها تعود لأنطيوخوس السابع وأنطيوخوس الثامن ومنها ما يعود لديمتريوس الثاني، في حين أن البقايا المعمارية المؤرخة على العصر الروماني قليلة. إن استمرار أعمال التنقيب في الموقع ستقدم في المستقبل الكثير من الإجابات عن كافة المراحل التاريخية التي تعاقبت على الموقع.


الشكل7-ب: نماذج من الرسومات الجدارية المكتشفة ضمن القصر الآشوري في تل برسيب




الحواشي:
[1] DUSSAUD R ; 1929, Note de M. Perdrizet sur les fouilles à Tell Ahmar et Arslan Tach, In: Comptes-rendus des séances de l'Académie des Inscriptions et Belles-Lettres, 69e année, N. 4, pp. 267- 271.
[2] BELL G L ; 1911, AMURATH TO AMURATH, London, p. 35.
[3] للمزيد عن الوصف الذي قام به بيردريزت راجع:
GEUTHSER P; 1925, Les travaux de la mission Perdrizete septembre 1925, Syria, Tome 6 fascicule 3, pp. 291-300.
[4] فخرو، محمد: 2008، الوثائق الكتابية المكتشفة في حوض الفرات الأعلى – حوض سد تشرين خلال فترة 1000-600 ق.م، رسالة ماجستير، جامعة حلب.
[5] DANGIN-THUREAU F, DUNAND M; 1936, Til-Barsib, Bibliothèque archéologique et historique (tome 23), Pris, p. 6,7.
[6] CUMONT F ; 1917, Etudes syriennes, N4, Paris.
[7] DANGIN-THUREAU F, DUNAND M; 1936,p. 50-75.
[8] أبو عساف، علي: آشور بانيبال، الموسوعة العربية، م 2، دمشق، ص 590.

إعداد: همّام سعد

اكتشف سورية