أوغاريت

الموقع:
أوغاريت (رأس شمرا) تقع في الطرف الشمالي الشرقي لمدينة اللاذقية على بعد 11 كم (وحالياً 3 كم بعد التعديلات الأخيرة) على الطريق المؤدي إلى الموقع (الشكل1). ينتصب التل الأثري بين المزارع التي تتألف منها قرية برج القصب على شكل مربع منحرف قليلاً، تبلغ مساحة سطحه اثنين وعشرين هكتاراً، ومتوسط ارتفاعه عن مستوى الأراضي المجاورة يبلغ ثمانية عشر متراً (الشكل2) [1].


الشكل1: موقع أوغاريت على خريطة سورية

بداية الاكتشاف:
بدأت قصة الاكتشاف بالصدفة على يد أحد فلاحي التل المجاور (يدعى محمد ملا) حينما كان يحرث حقله بالقرب من خليج مينة البيضا، فاصطدم محراثه بحجر كبير تبين أنه يسد مدفناً في داخله كمية من الأواني الفخارية، ومع تجمع سكان القرية وبعد انتشار الخبر وصل للموقع الفرنسي ميشيل برونو «M.BRUNO» الذي كان يقطن في المنطقة نفسها منذ نهاية القرن الثامن عشر، وكانت سورية آنذاك واقعة تحت الإنتداب الفرنسي، حيث أعلم برونو أرنست شوفلير «E.SCHOEFFLER» حاكم منطقة اللاذقية الذي سارع بدوره لإعلام مدير مصلحة الآثار في بيروت شارل فيرلود «CH.VIROLLEAUD»، وعمد هذا الأخير للاتصال بأحد مساعديه في ليون ويدعى ألبانيس «L.ALBANESS». وصل ألبانيس للموقع في شهر آذار من العام 1928م وعاين الموقع وأجرى سبراً في المنطقة المجاورة، وكانت نتائج معاينته الكشف عن فخار قبرصي من القرن الثامن قبل الميلاد. على أثر هذه الأعمال والنتائج تم إرسال عينات من الفخار إلى متحف اللوفر، وكان الآثاري رينيه دوسو «R.DUSSAUD» وقتها أميناً لمتحف القسم الشرقي، حيث وقع اختياره على كلود شيفر «C.SHAEFFER» لتشكيل بعثة والبدء بأعمال التنقيب في الموقع[2].

الشكل2: أوغاريت والمنطقة المحيطة بها على خريطة غوغل إيرث للمنطقة

الأعمال الأثرية:
بدأت بعثة شيفر أعمالها في الموقع عام 1929م، وأنجزت 11 موسماً تنقيبياً قبل بدء الحرب العالمية الثانية وكانت نتائج هذه الأعمال الكشف عن الأكروبول والحي السكني ومعبد بعل ومعبد دجن وبعض المباني المدنية والرسمية وقسم من القصر الملكي. وكانت أهم هذه الاكتشافات خلال الموسم الثالث العثور على اسم المدينة من خلال النصوص الكتابية، علما أن فرضية الاسم قدمت من قبل إميل فوري «E.FORRER» منذ عام 1930م، وما تجدر الإشارة له أن المكتشفات التي ظهرت خلال مواسم العمل تم اقتسامها بين الحكومة السورية - وحفظت في متحف حلب - وبلد الانتداب وتم نقلها إلى متحف اللوفر.

بين عامي 1939 و1945م توقفت الأعمال بسبب الحرب العالمية الثانية، ولاحقاً حصلت سورية على استقلالها، وحينها وافقت الحكومة السورية على استمرار الأعمال بشكل محدود في الموقع خلال عامي 1948 و1949.

في عام 1950م منحت الحكومة السورية موافقة رسمية للبعثة الفرنسية بالعمل ضمن الموقع لمدة خمس سنوات مع التجديد، وكانت الشروط التي فرضتها الاحتفاظ بنسخة عن كامل أعمال التوثيق لجميع القطع والرسومات والصور، والأهم من ذلك أن جميع المكتشفات هي ملك الحكومة السورية ولا يحق للبعثة نقل أي قطعة خارج سورية. وفي عام 1960 جرت الأعمال الأولى لفريق سوري بقيادة قبل عدنان البني ونسيب صليبي، ومن ثم استمرت الأعمال في مواسم الأعوام 1971 و72 و73 من قبل الجانبين الفرنسي والسوري، وكان ينوب عن الجانب الفرنسي هنري دو كونتانسون «H. DE CONTENSON» وبمشاركة جاك لاغارس «J.LAGARCE»، ومن ثم أدار الفريق الفرنسي لموسم 1975 و1976 جان مارغرون «J.C.MARGUERON»، وتتابعت الأعمال والاكتشافات بعد ذلك، ثم تجددت الأعمال مع نهاية السبعينيات من القرن العشرين بإدارة مارغريت يون «M.YON» حتى التسعينيات بالتعاون مع الجانب السوري ولا تزال الأعمال مستمرة في الموقع حتى الوقت الحاضر[3].

السويات الأثرية في أُوغاريت:
أسفرت الأعمال الأثرية عن اكتشاف كامل سويات الاستيطان في الموقع وهي على الشكل التالي:
- عصر النيوليت (7500- 6000 ق.م): وتمثلت بقايا هذه الحقبة بالأدوات الصوانية والكسر العظمية لحيوانات مدجنة وأدوات مصنعة من العظام.
- عصر الكالكوليت (6000-3900 ق.م): أدوات صوانية وعظمية، فخار، عظام إنسانية وحيوانية، حلي، أدوات نحاسية.
- عصر البرونز القديم (2650- 2100 ق.م): مجموعة سكنية مؤلفة من أساسات حجرية ومداميك اللبن، فخار مطلي، جرار كبيرة، أدوات الحياة اليومية، صوامع حبوب تحت المساكن، معصرة زيتون، وغيرها.
- عصر البرونز الوسيط (2100- 1650 ق.م): سور المدينة، معابد، مدافن، جرار نبيذ، تعدين البرونز، وثائق كتابية تتعلق بالحياة الاقتصادية والعلاقات التجارية، وغيرها.
- عصر البرونز الحديث (1650- 1365 ق.م): وجود نفوذ مصري، ذكر المدينة في وثائق تل العمارنة، بناء القصر، وفي عصر البرونز الحديث الثالث عرفت المدينة بشكل أفضل حيث أن أغلب النصوص التي اكتشفت تعود لهذه الفترة ومنها وثائق القصر الملكي، إلى جانب الأبنية السكنية والرسمية والمحلات التجارية والمعابد.
- فترة شعوب البحر (1195- 1185 ق.م): اجتياح شعوب البحر لأوغاريت وتدميرها.
- في العصر الهلنستي والروماني: تم استيطان الموقع بشكل بسيط من جديد وخصوصاً منطقة الأكروبول وأعيد استخدام حجارة الأبنية القديمة في تشييد مبانٍ جديدة[4].

أبجدية أوغاريت:
تحتل أوغاريت موقعاً متقدماً على خارطة الحضارات القديمة في المشرق العربي للأهمية التي تتمتع بها وما قدمته من معطيات وما تم الكشف عنه من آثار لمدينة متقدمة. وكان أهم ما قدمته هذه المملكة للعالم أبجديتها، فخلال موسم أعمال 1933م وما بعده أظهرت الحفريات اثني عشر رقيماً من رقم «الأبجدية»[5]، وهي رقم تحمل أحرف أبجدية أوغاريت الثلاثين بالترتيب الشائع في ذلك العصر، وهي تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد (الشكل3)، وهو الترتيب نفسه في الألفباء اليونانية وحروف الهجاء العربية. وتبين أن اللغة الأوغاريتية قريبة كل القرب من اللغة العربية من حيث التراكيب وقواعد النحو والصرف، ومن حيث المفردات خاصة، ففيها نحو ألف كلمة هي نفسها في اللغة العربية، كما تبين أن بعض الكلمات الأوغاريتية ليست موجودة في اللغة العربية الفصحى بل هي في اللهجة العامية الدارجة في الساحل السوري عامة وفي مدينة اللاذقية خاصة.


الشكل3: أبجدية أوغاريت

وإلى جانب النصوص الأُوغاريتية، عثر على نصوص أخرى مكتوبة باللغة الحورية واللغة السومرية التي كانت في عهد أوغاريت «لغة ميتة». وأغلبها في لوائح المفردات وبعض النصوص السحرية والأدبية. كما عثر على بعض الرقم المكتوبة باللغة القبرصية. أما الكتابة الهيروغليفية المصرية فتشاهد في نصوص منقوشة على بعض الهدايا أو التقدمات المرسلة من بلاط الفراعنة إلى ملوك أوغاريت أو إلى معابدها، وأما اللغة الحثية فمكتوبة بالنمط المسماري في بعض الرقم، وبالطريقة الهيروغليفية في الأختام التي مهرت بها الوثائق الرسمية الصادرة عن بلاد الحثيين.

وتتناول النصوص المكتشفة ميادين مختلفة، منها ذات طابع ديني تتناول ملاحم مثل ملحمة بعل وتتألف من بضعة فصول، وملحمة مولد الآلهة، وملحمة عرس القمر، وملحمة الرفائيم، ومنها أسطورتان هما أسطورة دانيال وأقهات وغيرها.

وهناك أيضاً نصوص أدبية تشتمل على قصائد ومجموعات حكم ونصائح. ومن الوثائق القانونية عقود بيع وشراء ووصايا وغيرها أبرمت بين أفراد عاديين، ونصوص رسمية صادرة عن ملوك أوغاريت من هبات وقرارات وأحكام مختلفة. أما النصوص الإدارية فتشتمل على قوائم بأسماء الموظفين والتجار والحرفيين، وقوائم بأسماء المدن والقرى والمزارع التابعة لمملكة أوغاريت. وهناك نصوص اقتصادية تتناول التبادل التجاري بين الأوغاريتيين أنفسهم أو التبادل التجاري بين أوغاريت وبلاد أخرى[6].

أهم المكتشفات:
أسفرت أعمال التنقيب حتى الوقت الحاضر عن كشف العديد من المنشآت والمباني الهامة في المدينة، والتي لا يمكننا الحديث عنها جميعها، فهناك الكثير من المؤلفات التي تناولت مملكة أوغاريت ولا يمكننا أن نختصرها بعدة صفحات، بل سنلقي الضوء هنا على بعض هذه المنشآت ومنها:


الشكل4: مخطط مدينة أوغاريت وتوزع المباني فيها

- القصور الملكية: تم العثور على ثلاثة قصور وهي: القصر الملكي، القصر الشمالي، والقصر الجنوبي (الشكل4)، وأهمها القصر الملكي وتم الكشف عنه خلال مواسم التنقيب بين عامي 1939- 1950، ويقع في القسم الشمالي الغربي من المدينة، وهو أحد القصور الهامة في المشرق العربي القديم وتم بناؤه على عدة مراحل من الحجارة والخشب، وتبلغ مساحته 7500 متراً مربعاً، ويتألف من 95 غرفة ويضم أيضاً باحتين إحداهما تضم بكرة ماء في منتصفها وحديقة ومنطقة دفن ملكية تحت الأرض (الشكل5). وتشتمل حجرات القصر على قاعة استقبال، قاعة العرش، قاعات الانتظار، مكاتب، قاعات المحفوظات، مخازن، مراكز حراسة، والقاعات الخاصة بالعائلة الملكية، وقد عثر ضمنه على أعداد كبيرة من النصوص الكتابية واللقى المهمة التي تبعثرت بعد انهيار البناء، كما تم العثور على حي سكني بالقرب من القصر إلى جانب التحصينات الدفاعية للمدينة والقصر في نفس الوقت (الشكل6)[7].

الشكل5: مخطط القصر الملكي في أوغاريت

- منطقة الأكروبول: وتقع في الجزء الشمالي من المدينة (راجع الشكل4) وضمت معبدين وبيت كبير الكهنة. المعبد الأول هو معبد بعل وعثر فيه على عدة مسلات تمثل هذا الإله، وأهمها محفوظة في متحف اللوفر حيث نجد بعل في وضعية الوقوف يرتدي خوذة مع قرنين، يضع حول خصره سيفه، ويمسك بيده اليمنى أداة تشبه العصا وفي اليد الأخرى نبتة جزؤها الأسفل يأخذ شكل رمح مغروز في الأرض، وأسفل قدميه تمثيل للجبل والبحر (الشكل7). وتبلغ مساحة المعبد حوالي 850 متراً مربعاً، ويتألف من مدخل بعدة درجات يفضي إلى باحة تضم مذبحاً مربعاً من الحجر، ومن ثم في الجهة الغربية درج آخر يفضي إلى داخل الحجرة المقدسة، وقد أشارت الأبحاث إلى أن الحجرة المقدسة كانت على شكل يشبه البرج وكان سطحه يستخدم كنقطة إرشاد للمراكب (الشكل8).

الشكل6: إعادة تصور للقصر الملكي في أوغاريت والمنطقة المحيطة به

أما منزل كبير الكهنة فتبلغ مساحته حوالي 400 متر مربع، ويقع بين معبد بعل ومعبد دجن وتم العثور فيه على الكثير من القطع والأسلحة المصنعة من البرونز ومنها ما حمل ذكر تقدمة إلى رئيس الكهنة، وفي هذا المنزل عثر أيضاً على النصوص الكتابية التي تتعلق بالقصائد والأساطير.

الشكل7: مسلة الإله بعل
في اللوفر

وبخصوص معبد دجن، فهو يقع في الجزء الشمالي الغربي من المدينة، وإلى الشرق من منزل كبير الكهنة، وبني على نفس مخطط معبد الإله بعل (الشكل9). ونسب المعبد إلى الإله دجن بعد العثور على مسلات تحمل تمثيلاً له. كما تم العثور في هذه المنطقة على عدة أحياء سكنية كانت مكتظة بالمنازل ويرجح أنها كانت تخص الطبقة الغنية ورجال الدين كونها تقع بالقرب من المعابد[8].

الشكل8: إعادة تخيل لمعبد بعل في أوغاريت

- المدينة السفلى: وضمت مجموعة من الأحياء السكنية، وتتوضع في الجزء الجنوبي من المدينة، وهي تعود لعصري البرونز الوسيط والحديث ومساكنها مؤلفة من طابقين حيث تم العثور على بقايا درج صاعد إلى طابق علوي، كما تم الكشف عن العديد من المدافن أسفل هذه المنازل. وما تجدر الإشارة إليه هو ذلك التنظيم ضمن هذه الأحياء من خلال وجود شارع طويل يجتازها من الشرق إلى الغرب، وشوارع أخرى متقاطعة مع هذه الشارع إلى جانب قنوات التخلص من المياه، كذلك تم العثور على عدة آبار بالقرب من مشاغل التعدين وصناعة الخزف وغيرها من الصناعات الأخرى التي اشتهرت بها أوغاريت.

الشكل9: إعادة تخيل لمعبد داجون في أوغاريت

إنّ الحديث عن مملكة مثل أُوغاريت لا يمكن أن يوجز بعدة صفحات، وهناك الكثير من الأمور التي لم نأتِ عليها، منها ما يتعلق بالحياة الاجتماعية، الحياة الاقتصادية، الحياة الفكرية، الفنون، الطقوس والتقاليد، الدين، والمؤسسات المدنية وغيرها من مناحي الحياة المعروفة في وقتنا الحاضر. وبالتالي فإن الهدف من هذا التقديم الموجز هو التعريف بتراث أوغاريت ومواقعها الأثرية، وأهمية المنجزات الحضارية التي قدمتها للعالم أجمع.

الحواشي:
[1] سعادة، جبرائيل: أُغاريت، الموسوعة العربية، م2، هيئة أعمال الموسوعة، دمشق، ص 810.
[2] SAADE G ; 2011, Ougarit et son royaume, IFPO, Beyrouth, p. 18.
[3] بخصوص الأعمال الأولى لبعثة شيفر يمكن مراجعة
SCHAEFFER C; 1929, Les fouilles de Minet el-beida et de Ras Shamra, Syria, vol, 10, Beyrouth.
1931, Les fouilles de Minet el-beida et de Ras Shamra, Syria, vol, 12, Beyrouth.
1932, Les fouilles de Minet el-beida et de Ras Shamra, Syria, vol, 13, Beyrouth.
1933, Les fouilles de Minet el-beida et de Ras Shamra, Syria, vol, 14, Beyrouth.
بخصوص بعض أعمال صليبي والبني راجع
BOUNI A; 1969, Une installation d eau de l époque romaine a Ras Shamra, Ugaritica, VI, p. 533-539.
SALIBY N; 1979-80 , Une tombe d Ugarit découvert fortuitement en 1970,AAAS, Vol 29-30, Damas, p. 105-139.
[4] SAADE G ; 2011, p. 34, 35, 36.
[5] SCHAEFFER C; 1934, Les fouilles de Minet el-beida et de Ras Shamra, Syria, vol, 15, Beyrouth, p. 105-131.
[6] سعادة، جبرائيل: أُغاريت، ص 811.
[7] للمزيد عن القصر الملكي راجع
SAADE G ; 2011, p. 192.
PARROT A; 1971, Le Palais royal d'Ugarit, Syria, vol, 48, Beyrouth, p. 231.
SCHAEFFER C; 1939, Les fouilles de Minet el-beida et de Ras Shamra, Syria, vol, 20, Beyrouth, p. 277-292.
[8] SAADE G ; 2011, p. 267.

إعداد: همّام سعد

اكتشف سورية