معرض الأربعة في بهو صالة دار الأسد للثقافة

تأتي أهميته من تنوع التجارب وغنى الصياغات الفنية

برعاية وزارة الثقافة وبالتعاون بين إدارة دار الأسد للثقافة ومديرية الفنون الجميلة، انتهى مؤخـّراً المعرض الجماعي لكل من التشكيليين ماريو موصلي، محمد غنوم، محمد الوهيبي، ونبيل السمان، وذلك بصالة المعارض في بهو الدار.

إن أهمية هذا المعرض برأيي تأتي من تنوع التجارب والصياغات الفنية لكل من الفنانين المشاركين، ومن توقيت المعرض الذي يأتي في فترة تشهد فيه العاصمة دمشق وباقي المدن السورية ركوداً بيّناً في النشاط الثقافي والتشكيلي بخاصة من حيث حركة المعارض والتسويق. وهذه جولة بالكلمة والصورة في فضاء الصالة لإلقاء بعض الإضاءة على ما قدمه كل من الفنانين المشاركين في هذا المعرض


التشكيلي محمد غنوم


محمد غنوم الذي وصّف لوحته بأنه من خلالها يتحدّث عن موسيقى الحروف، وهي تلك الحركية التي تجعل من الحرف عنصراً متحركاً علماً أنه ساكن، والفنان غنّوم الذي قدم في هذا المعرض بعضاً من تلك الموسيقى اللونية بدت مترفة بالجماليات البصرية لمفردات تصيغ حروفاً رشيقة متتالية تتنافس في غنجها وهي تنساب في فضاء اللوحة كغيمة من العطر، وفي مربعات مجاورة نلاحظ ما يشبه تلك المفردات التي تبدو أكثر التزاماً وتحديدا في تراتبها لصياغة جملة، وغالباً ما تكتفي بكلمة تفيض بالمغنى وتختصر كثيراً من المعنى مثل (وطن، دمشق، سورية)، تستقر فيها تلك الكلمات بتواتر تراكبها خلف بعضها وكأنها ظلال متتابعة لأول مفردة ظهرت في مقدمة التكوين أو التأليف الذي جمع كل تلك الحروف برغبة المحب لتجسيد غنائية تشكيلية فيها موزاييك من الألوان يشبه ذلك التنوع الذي يغتني فيه الوطن سورية.


من أجواء المعرض في دار الأسد


شكّلت لوحات غنوم كما في أي معرض جماعي اختلافاً وتلوّناً فريداً في الأنواع الفنية المتداولة في الساحة التشكيلية السورية وشكلاً مختلفاً من الحروفية المتعارف عليها في التشكيل العربي المعاصر، وهي تجمع في مقوماتها أكثر من نوع من الفنون بحرفية ومهارة وأناقة. قدم محمد غنوم في هذا المعرض نماذج تمثـّل بعضاً من الصياغات التي باتت تميّز هذه التجربة الغنية بخصائصها التقنية والتي تمخّضت عن مئات اللوحات التي أنتجها الفنان خلال مسيرة طويلة أمضاها الفنان بين الحرف واللون لإظهار مزيد من القيم الفنية الراقية في إمكانات الخط العربي لاستحضار المتعة والجماليات البصرية.


التشكيلي نبيل السمان


نبيل السمّان الفنان الذي ما زال يبحث بجدية عن مساحات أكثر توهجاً في زوبعة الحياة من خلال تقديمه الأحداث بشكل معاصر والتي يستقي معظمها من الأسطورة المنتشرة في مناطق سورية، محاولاً تبسيط مشاهده التي يسعى فيها لإيقاف الزمن من حقب مختلفة وتقديمه بصياغات تواكب المرحلة موظفاً رموزه وأشكاله الحيوانية المؤنسنة في مقاربة منه لإيحائنا بأن الحزن حالة ممكن تجاوزها إلى فسحات من الألوان تحيل الألم إلى أمل.

في الأعمال الأحدث للفنان نبيل السمان تكتسب الألوان أهمية بالغة من حيث توليفها وحضورها وتجاورها، وهي لا تخضع -كما باقي العناصر في اللوحة- للمحاكمة الأكاديمية الصارمة كقاعدة متـّبعة في تقنيات التصوير، إن بالمعالجة والتحضير، أو بطريقة توضـّعها على السطح ودرجة سيولاتها، وهذه النواظم جميعها تحكمها رؤية الفنان الخاصة والخبرة التي اكتسبها من هامش الحرية والتجريب الواسع الذي يشتغل عليه وهو المتخرج من قسم التصميم الداخلي في كلية الفنون الجميلة بدمشق العام 1981، هذا الاختصاص الذي يترك أثره واضحاً في أعمال الفنان بدءاً من تأليف المشهد والرسم واعتماد الموضوع والحدث الذي يواكب الفنون السورية القديمة وصولاً إلى ما هو معاصر منها خدمة للتنوع في مربعاته التي تفيض باللطف الإنساني.


من أجواء المعرض في دار الأسد


محمد الوهيبي الذي يجتهد في لوحته على إحياء الموروث من خلال جملة تشكيلية سهلة وممتنعة تجمع بين المتعة البصرية والحكاية الشعبية البسيطة والعفوية والمفردات التي تعكس ثقافة الشارع والأحياء الفقيرة بحياتها والغنية بروحانيتها الأقرب إلى حالة التصوّف البصري الذي لا يعتمد على اللون بإدهاشنا، ومكتفياً بجماليات خطوطه التي ترسم الفرح على مساحة من الحزن الذي يملأ المكان.


التشكيلي محمد الوهيبي


إن أهم ما يميـّز لوحات الوهيبي -برأيي- حساسية تلك الخطوط ورهافتها في رسم حدود الأشكال الموزّعة بعناية وترقّب على مختلف مناطق اللوحة، تلك الخطوط والتي أحياناً ما يحدّدها بأقلام (الفلوماستر) الملونة من ثقته بصحة الرسم وتمكنه من تحديد معالم بعض الأشكال والرسومات التجريدية غالباً، والتي لا معنى مباشر لها سوى بعض الدلالات الروحية أو الدينية عند بعض الشعوب القديمة، وهي هنا لإغناء السطح بتلك القيم الغرافيكية وما تضيف تلك المفردات من حيوية بحركتها إلى الصمت الذي تتسم به وجوه نساءه وحورياته التي تملأ المشهد بأجسادهن الرشيقة يرتدين الأثواب الطويلة الفلسطينية بألوانها المميزة وأكسسوارتها المشبّعة بالرموز، حيث يسود هناك صمت آخر في خلفية اللوحة الرمادية التي تستـقـّر بالنهاية مدهشة من غرابتها بما تضمّ من أسرار وتعويذات وسحر، وهذه جميعها لابدّ كانت وراء فرادة تلك التجربة تقنياً وتشكيلياً، مُشكّلة دعائم تلك الخصوصية التي تحقّقت بالتجريب في المواد والأدوات بالتراكم والاجتهاد على ذاته الفنية وثقافته المتنوعة منذ تخرّجه من قسم الحفر في كلية الفنون الجميلة بدمشق العام 1984.


من أجواء المعرض في دار الأسد


ماريو موصلي الذي يقدم جانباً من رؤيته لجدران دمشق القديمة، المدينة التي احتفظت بعبق الزمن الجميل عبر حضارات عديدة عَبَرت أزقتها وتركت كل منها أثراً مختلفاً على أحد جدرانها، حيث يعيد الفنان موصلي من خلال مربعاته صياغة تلك الآثار برؤاه البصرية لكل رمز وخط أو بقايا لون بأمانة تشكيلية يواصل فيها تجريبه في المواد والأدوات التي خبرها من خلال مسيرة طويلة أمضاها عاشقاً للطبيعة و حارات دمشق.


التشكيلي ماريو موصلّي


وفي الطبيعة للفنان ماريو موصلّي رأي أخر عن الذي عرفناه عند معظم الفنانين الذين اشتغلوا على هذا الموضوع، حيث قدم نماذج من رؤاه التشكيلية الغنية بالمؤثـرات البصرية الجمالية والتي غالباً ما تظهر مكثـّفة في مربعاته من خلال ملمس السطح الذي يبدو خشناً وسميكاً من تأثير الأداة الحادة التي يرسم فيها أو يمدّ فيها ألوانه الكثيفة في بعض الشكل الذي يبدأ بالظهور تدريجياً مع تطور نضوج العمل الذي لا يعلن عن تفاصيله إلاّ بعد مسافة من الرؤية لرومانسية المشهد الذي يدعونا للمزيد من التأمّل في سحرية الطبيعة.

تلك الواقعية الرومانسية التي لطالما ميّزت لوحات الفنان موصلّي تتحول إلى تعبيرية انطباعية خاصة بأعمال الطبيعة الصامتة والتي يختزل فيها كل من الشكل واللون ومعوّضاً عنهما بالضوء الذي يغسل المشهد ليبدو أكثر حيوية ونضارة بما يضمّ من فاكهة وأشياء متمّمة لأركان اللوحات الثلاث التي استقرت فوق بعضها ضمن كادر واحد تناغمت عناصرها بالصياغة التقنية لمزيد من القيم التشكيلية والبصرية والجمالية.

يكتسب هذا المعرض أهميته من جملة عوامل أهمها برأيي، تنوع صياغاته وخصوصية المكان، وتوقيته في هذه الفترة التي تشكو من ندرة في النشاط الثقافي، ومن جهة ثانية لاشكّ حقّق كغيره من الأنشطة التي تقام هنا وهناك بعضاً من اللقاءات بين الفنانين لإعادة الحوار والعلاقة فيما بينهم وبين أصدقائهم والمتلقين من كافة الشرائح التي يمكن أن ترتاد هذا الصرح الثقافي الهام .

==
* غازي عانا: فنان تشكيلي وناقد فني.

غازي عانا
تصوير: عبد الله رضا

اكتشف سورية