قادش (تل النبي مند)

الموقع:
يقع التل على بعد 30 كم جنوب غرب مدينة حمص، فوق تل اصطناعي بارتفاع 32 م، وطول 1كم تقريباً [1] على الضفة اليمنى من نهر العاصي ورافد آخر يجري من الغرب ويصب في النهر نفسه شمال غرب المدينة (الشكل1).

وللموقع أهمية استراتيجة وسياسية لكونه متاخماً لإقليم البقاع، وبذلك يشكل المعبر بين الشمال والجنوب، منذ بدء الاستيطان فيه (الشكل2)، والذي يرقى إلى الألف الرابع قبل الميلاد، وقد تردد اسم قادش كثيراً وورد في الكثير من المصادر، لا سيما بعد أن ارتبط الاسم بالمعركة التي دارت رحاها بين القوات المصرية والحثية في الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد، وقد انتهت المعركة بعقد صلح بين الحثيين والفراعنة، وتعد معاهدة قادش أقدم اتفاقية سلام مكتوبة عرفها التاريخ وتضمنت بنوداً قانونية ودبلوماسية وعسكرية نظمت العلاقات بين الإمبراطوريتين[2].


الشكل1: منظر عام للتل

وتأتي أهمية قادش لكونه يشكل الموقع العام للطريق الممتدة بين ساحل المتوسط ومنطقة حمص التي تتوسط سورية بالنسبة لمجموع الطرق التي كانت تنطلق من البحر المتوسط حتى الرافدين.

ونجد أن ثلاث ممالك لعبت دوراً أساسياً في الصراعات السياسية والاقتصادية في المنطقة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وهي قطْنا وقادش وأمورو على الساحل اللبناني الشمالي، هذه الممالك الثلاثة كانت على المحور الذي تنطلق فيه القوافل التجارية وطرق الاتصال بين البحر المتوسط والمناطق الداخلية، وذكر المقدسي[3] أن انطلاق العمل في هذا الطريق المحوري يعد لعام 2500 ق.م، بهدف نقل البضاعة من مرفأ جبيل عبر مناطق شمال لبنان إلى مدينة قطنا التي كانت المركز الرئيسي للانطلاق نحو المناطق الشرقية والرافدين.

الشكل2: موقع التل على خريطة سورية

الاكتشاف وبداية الأعمال التنقيبية:
لفت الموقع انتباه الرحالة، أمثال تومسون «S.Thomson» وغوتيه «J.E.Gautier» وغيرهم[4] من الذين زاروا التل وأشاروا إلى أهميته، ومن ثم قام الفريق الألماني الذي كان ينقب في موقع زنجرلي (مدينة شمأل) بالوصول إلى الموقع، وقام برسم أول مخطط للموقع[5] بالتعاون مع موريس بيزارد «M.Pezard» الذي بدأ أول أعمال التنقيب في التل عام 1921 و1922م (الشكل3). من ثم تابعت المديرية العامة للآثار والمتاحف الأعمال في الخمسينيات من القرن العشرين، وبدءاً من عام 1975م تجددت أعمال التنقيب من قبل بعثة إنكليزية برئاسة بيتر بار «P.Parr» إلى جانب قيامها بمسوحات أثرية للمنطقة المحيطة بالتل بهدف معرفة طبيعة وفترات الاستيطان وإعادة قراءتها في ظل نتائج الحفريات الأثرية وذلك بالتعاون مع البعثات الأثرية العاملة في المنطقة، لا سيما البعثة الأثرية الوطنية في موقع قطنا[6].

أعمال التنقيب الأولى ونتائجها:
قام بيزارد بعمل عدة أسبار في أماكن مختلفة من التل بهدف الكشف عن السويات الأثرية وطبيعية التركيبات المعمارية وهويتها.

السبر A: وكان الهدف منه الكشف عن سور المدينة وتوضع السبر في الجهة الشرقية من التل بطول 70 متراً و عرض 14 متراً، وعلى عمق 1م تم الكشف عن السوية اليونانية الرومانية وذلك من خلال بعض القطع النقدية والكسر الفخارية، وقد لوحظ ضمن هذا السبر غياب البقايا الإسلامية في الطبقات السطحية، وتم الكشف مباشرة عن السويات الكلاسيكية.

الشكل3: مخطط يظهر أعمال التنقيب الأولى

ومع استمرار العمل إلى ما يزيد عن عمق 9 أمتار، تم العثور على بقايا منشآت معمارية تتألف من أساسات حجرية، يعلوها مداميك من اللبن، تبين أنها تخص السور الذي يعود لفترات تاريخية مختلفة وكان من الصعب تمييز الفترة التاريخية للأساسات كما وضح ذلك بيزارد. كما أشار إلى وجود سور ثانٍ داخلي مبني من اللبن فقط في الجزء الشرقي وقد تم تأريخه على الفترة السورية-الفينيقية وذلك بالاعتماد على اللقى التي عثر عليها في هذا المستوى، والمؤلفة من أوانٍ فخارية دون قبضات من النوع الشائع في فلسطين، وبعض الأواني المطلية باللون الأحمر الشائعة في قبرص، إلى جانب عدة حلي معروفة مميزة لمنطقة الشرق القديم، وأخيراً بعض القطع الحجرية المشغولة التي تحمل تمثيلاً لبعض الطيور ذات تأثيرات مصرية (الشكل4).


الشكل4: نماذج من اللقى المكتشفة في تل النبي مند

السبر B: شكل وجود مقبرة حديثة لسكان القرية صعوبة في عمل هذا السبر، ولم يجد الفريق أية معارضة من قبل الأهالي لإجراء السبر بالقرب من المقبرة. وقد تقرر عمل هذا السبر في النهاية الشمالية وبنفس طول السبر A بحيث ينتهي بالقرب من مركز التل. ومع استمرار العمل حتى عمق تراوح بين 3-4 أمتار في القسم الشمالي من السبر تم الكشف عن السوية الرومانية، إلى جانب العثور على بعض القطع النقدية التي تم تأريخها على العصر الإسلامي وكسر فخارية تعود للعصر البيزنطي. وفي القسم الجنوبي من السبر وعلى عمق 7 أمتار، أرخت اللقى التي تم العثور عليها كالأواني الفخارية والكسر العظمية والعاجية، إلى جانب بعض القطع المعدنية وغيرها على العصر الهلنستي.

الشكل5: مخطط المنشآت التي تم
الكشف عنها خلال السبر الثاني

ويبدو أنه حتى عمق 11 متراً تقريباً من مركز التل كانت اللقى لا تزال بأغلبها مميزة للعصر الهلنستي، ما يعني أن الفترات الأقدم تقع على عمق يزيد عن 12 متراً، ومع استمرار الأعمال تم الكشف عن بقايا منشآت معمارية تمثلت ببعض الجدران من اللبن، والعديد من الحجرات السكنية (الشكل5) وعلى هذا المستوى تم العثور على جزء من ختم اسطواني من الحجر الأسود يحمل نقشاً لستي الأول (1315 ق. م) (الشكل6) ويظهر ضمنه ستي الأول ويقابله أربعة آلهة نقشت أسماؤهم ومنهم الإله آمون سيد السماء، و الإله مينتو،أما بقية الأسماء فهي غير ظاهرة لكون الختم يفتقد جزءاً كبيراً منه[7].

الشكل6: جزء من ختم يظهر الملك ستي الأول مع جمع من الآلهة

خلال المواسم التنقيب لعام 1921 و 1922 تمكن بيزارد من تأكيد فرضية أن موقع تل النبي مند هو نفسه موقع قادش الذي جرت ضمنه المعركة الشهيرة، وقد تم تحديد الفترات التاريخية بناء على المعطيات الأثرية المكتشفة سواء في التل نفسه أو بجواره حيث أنهم قاموا بإجراء أسبار أخرى بجانب التل، فضلا عن المعلومات التي توصلوا لها من خلال أعمال المسح للتلال المجاورة، وأتت نتائج أعمال البعثة الوطنية والبعثة الانكليزية لتثبيت المراحل التاريخية التي تعاقبت على قادش من الألف الرابع ق.م حتى العصر البيزنطي. وأن الأعمال المستمرة في الموقع بشكل خاص والمواقع المجاورة عموما ستقدم الكثير من الإيضاحات عن تاريخ هذا الموقع ومنشآته المعمارية وسكانه والأحداث التي عاصرها عبر الفترات التاريخية المختلفة.

الحواشي:
1] بخصوص الصورة والمعلومات المتعلقة بالمنطقة راجع:
AL-MAQDISSI M ; Réflexions sur Qatna et sa région, http://studiaorontica.org.
2] لمزيد من المعلومات عن معركة قادش وتفاصيلها راجع:
SANTOSUOSSO A ; 1996, Reconstructing the Battle Between the Egyptians and the Hittites, The Journal of Military History, Vol. 60, No. 3 (Jul., 1996), pp. 423-444.
3] المقدسي، ميشيل: 2009، محاضرة ألقيت في المركز الثقافي العربي بحمص بعنوان من "أمورو" إلى "قطنا" مروراً بـ"قادش" منذ النهضة العمرانية وحتى معركة قادش.
4] GAUTIER J E ; 1895, Note sur les fouilles entreprises dans la haute vallée de l’Oronte pour retrouver l’emplacement de l’ancienne ville de Kadech, CRAI, Paris, pp. 441-464.
5] PEWQRD M ; 1922, Mission archéologique à tell Nebi Mend 1921, Syria, III, fasc 2, Paris, p . 12.
6] PARR P; 1983, The Tell Nebi Mend Project, AAAS, XXXIII/2, Damas, pp. 99-117.
7] لمزيد من التفصيل عن نتائج أعمال التنقيب لعام 1921 و 1922 م يمكن مراجعة:
PEZARD M ; 1931, Qadesh, mission archéologique à Tell Nebi Mend, 1921-1922, Paris.

إعداد: همّام سعد

اكتشف سورية