المدافن الكهفية في تدمر

نموذج جديد في العمارة الجنائزية التدمرية

هناك العديد من الدراسات التي تناولت موضوع العمارة الجنائزية في تدمر والتي ألقي الضوء عليها منذ عام 1917 وحتى الوقت الحاضر[1]، وجميع هذه الدراسات أشارت ضمن تصنيفاتها إلى وجود أربعة نماذج للعمارة الجنائزية في تدمر[2] متمثلة بالأبراج الجنائزية، والمدافن الأرضية، والمنزلية (المعابد)، وأخيراً القبور الفردية[3]. إلا أن هنالك نوعاً آخر سقط من هذا التصنيف، ربما بسبب قلة أمثلته أو نظراً لحالة الحفظ غير الجيدة وتواضع عمارته مقارنة مع الأنواع الأخرى، لا سيما المدافن الأرضية منها التي استهوت الباحثين والمهتمين لغناها باللقى والقرابين الجنائزية.

وما تجدر الإشارة إليه أن بعض الباحثين المستشرقين تطرقوا لهذه المدافن بشكل مختزل خلال دراساتهم و أبحاثهم عن أنواع المدافن الأخرى وصنفوها ضمن المدافن الأرضية[4]، رغم الاختلاف الواضح بين كلٍ منهما. وهذا النوع الجديد من المدافن التدمرية أطلقنا عليه اسم «المدافن الكهفية»، مع الإشارة إلى أن أمثلة هذه المدافن غير مكتشفة حديثاً، بل هي معروفة وظاهرة منذ مطلع القرن العشرين، وبحثنا هذا يسلط الضوء على أحد أنواع الأبنية الجنائزية التي لم يتم التطرق إليها في الدراسات الأثرية والتاريخية لمدينة تدمر. ومن جهة أخرى تقدم هذه المدافن العديد من الإيضاحات والدلائل على احتمالية وجود طبقة معينة في المجتمع التدمري انفردت ببناء هذا النوع من الأبنية الجنائزية الذي ساد خلال فترة معينة وتوقف بناؤها فيما بعد لسبب ما نجهله. وسنلقي الضوء ضمن هذا البحث على هذا النوع من الأبنية الجنائزية من خلال دراسة الأمثلة التي لا تزال محفوظة والفترة التي ظهرت فيها، وكذلك مقارنتها مع الأنواع الأخرى والأسباب التي دعتنا إلى تسميتها بالمدافن الكهفية.

موقع المدافن:
تتوزع المدافن في تدمر على أربع مناطق خارج أسوار المدينة (الشكل1) وهي: المقبرة الشمالية شمال المدينة القديمة، المقبرة الغربية (المعروفة باسم وادي القبور) في الغرب تقريباً، المقبرة الجنوبية الغربية نحو الجنوب الغربي، وأخيراً المقبرة الجنوبية الشرقية في الجنوب الشرقي.


الشكل1: توضع المقابر بالنسبة للمدينة الأثرية

ضمن هذه المقابر تتوزع المدافن بأشكالها المعروفة السالفة الذكر، إلا أن المدافن التي نحن بصدد الحديث عنها نجدها ضمن منطقة المقابر الغربية فقط والمعروفة باسم وادي القبور[5]، في هذه المقبرة يقل عدد المدافن الأرضية مقارنة مع عدد المدافن من النماذج الأخرى، غير أنّ ما تجدر الإشارة إليه هو وجود المدافن الأكثر قدماً في تدمر ضمن هذه المقبرة[6]، باستثناء مدفن يعود لفترة أقدم بكثير من مدافن وادي القبور وهو المدفن الذي يقع بالقرب من معبد بعلشمين[7].

وتتركز المدافن الكهفية ضمن الأجزاء السفلية (السفحين الجنوبي والشمالي) لجبل الحسينية بجانب الأبراج الجنائزية، وهي محفورة في الجبل وتطل مداخلها على الوادي. والتساؤل المطروح في هذا السياق: ما هو سبب وجود هذا النوع من المدافن في ذلك الجزء من المقبرة؟ علماً أنه في الجهة المقابلة لتلة الحسينية تتوضع تلة أخرى تدعى تلة أم بلقيس لم يتم العثور فيها على أي مثال عن هذه المدافن، فضلاً عن وجود مجموعة من التلال الأخرى المحيطة بالمقابر التدمرية الأخرى إلا أنها خالية أيضاً من تلك المدافن؟ إنّ تفسير وجود هذه المدافن في السفح الجنوبي والشمالي لجبل الحسينية قد يتلخص في رغبة منشئيها أن تكون مرئية بشكل جيد، فما هو متعارف عليه لدى الوسط العلمي أن سكان تدمر كانوا يهتمون بأن تكون مدافنهم ظاهرة للعيان كنوع من التباهي والتفاخر، وباعتبار أن طريق القوافل التجارية بين تدمر والبحر المتوسط كان يمرُ في تلك الفترة من المقبرة الغربية (وادي القبور)، فقد حرص التدمريون على أن تكون واجهات مدافنهم - لا سيما البرجية منها - ومداخلها تطل على ذلك الطريق كي يلحظها المارة وتجار القوافل أثناء عبورهم[8]. ولهذا السبب نجد أفضل نماذج الأبراج الجنائزية في هذه المقبرة التي تدل على غنى وترف مالكيها ومستواهم الاجتماعي.

وصف المدافن:
تتوضع بعض أمثلة المدافن الكهفية ضمن السفح الجنوبي لجبل الحسينية، وهي مخربة في قسم كبير منها لا سيما من الداخل، وتتشابه مع الأبراج الجنائزية بأنها ظاهرة للعيان، وهذا الأمر أدى لتعرضها للنهب والتخريب منذ عهد مبكر. عموماً، فإنّ الأمثلة المتبقية من هذه المدافن حُفرت ضمن الجبل، مداخلها مبنية بقطع حجرية، تعلوها سواكف خالية من النقوش الكتابية والزخارف (إنّ أغلب النقوش الكتابية التي تتعلق بتاريخ تأسيس المدفن والتنازلات كانت تتوضع على ساكف بوابة المدفن كما هو الحال في مدفن إيلابل وعتنتان وبورفا...وغيرهم)، أما داخلها فمقسم إلى عدة حجرات جنائزية حيث تستقر رفات المتوفين. هناك عدة مراحل لبناء المدفن، حيث تتمثل المرحلة الأولى باختيار الموقع ضمن طبقة صخرية قاسية، ثم يبدأ العمل بنحت المدفن داخل الجبل وتفريغه، وتبدأ المرحلة الثانية ببناء المدفن من الداخل وتقسيمه حسب الحاجة، بينما تتمثل المرحلة الثالثة بتجهيز أماكن الدفن، ثم تزيين المدفن وتجميله بما يتناسب والإمكانات المادية للمالك.

الشكل2: موقع المدافن الكهفية

أحد هذه الأمثلة المدفن الذي يحمل الرقم 80 نجده عند أقدام سفح جبل الحسينية (الشكل2) بجانب البرج الجنائزي رقم 46، يطل مدخله باتجاه الجنوب الشرقي (أي باتجاه الطريق المار عبر وادي القبور)، وهو مبني بقطع حجرية كبيرة يعلوها ساكف خالٍ من النقوش الكتابية والزخارف (الشكل3)، ويتم الدخول إلى المدفن من خلال باب حجري (مفقود حالياً) مؤلف من قطعتين (نأخذ بعين الاعتبار وجود مكان تثبيت لقطعة البوابة – زعرور - في كل من جانبي المدخل)، وربما كان الباب يحمل كتابة تأسيسية للمدفن (الشكل4).

الشكل3: مدخل المدفن رقم 80

يلي المدخل ممر طويل يبلغ طوله حوالي 13 متراً وينتهي بحجرة على شكل نصف قوس. ونجد في الجانب الأيمن من الممر ثلاث حجرات يقابلها في الجانب الآخر ثلاث حجرات أيضاً. هذه الحجرات مخربة في أجزاء كثيرة منها، خصوصاً الحجرة الأولى على يسار الممر فهي منهارة بالكامل (الشكل5). أما بخصوص الاستخدام الجنائزي فنجد الحجرة الأخيرة من الجانب الأيمن والتي تقابلها في الجانب الآخر حجرة تحتوي على بقايا صفوف المعازب على الجدار التي كانت مجهزة من مادة الجص. كذلك الأمر بالنسبة للحجرات الأخرى، فهي تحتوي على بقايا صفوف المعازب، لكن فيما يخص الحجرة المنفردة في نهاية الممر فهي على الأغلب مخصصة لصاحب المدفن وربما كانت تحتوي على أسرة جنائزية.

الشكل4: بوابة المدفن رقم 80

فيما يتعلق بتقنية البناء، فنجد أنهم عمدوا بعد نحت المدفن إلى بنائه من الداخل بالقطع الحجرية الصغيرة الحجم، كذلك الأمر بالنسبة للحجرات الجنائزية، فهي مبنية بقطع حجرية صغيرة وبشكل غير جيد، والسبب هو أن جدران الحجرات لم تكن ظاهرة، باعتبار أن صفوف المعازب كانت تغطيها، بينما نجد الاعتناء بنحت القطع الحجرية وصقلها بشكل جيد في الأماكن الظاهرة لا سيما سقف المدفن الذي يأخذ شكل قبوة نصف دائرية، حيث لا تزال بقاياه ظاهرة حتى الوقت الحاضر في القسم الداخلي من المدفن فقط، أما الأقسام الأخرى فمنهارة بالكامل، ويمكننا أن نميز مكان القطع الحجرية المنهارة ضمن السقف لا سيما في القسم الذي يلي المدخل (الشكل6).

الشكل5: المدفن رقم 80 من الداخل

أما بخصوص باقي التركيبات الداخلية للمدفن فهي غير واضحة بسبب التخريب والانهيارات، إلا أنه يمكن أن نميز صفوف المعازب ضمن الحجرات الجانبية والبالغ عددها أربعة صفوف في كل حجرة، ويحتوي كل صف على خمسة معازب (الشكل7)، وبالتالي فإن المدفن كان يتسع لدفن ما لا يقل عن 100 جثة[9].

المدفن الكهفي الثاني يقع إلى الشرق من المدفن رقم 80 ويتوضع خلف معسكر ديوقليسيان ضمن السفح الجنوبي الشرقي لجبل الحسينية داخل السور ويحمل الرمز «k» في القائمة التي وضعها الألمان (انظر الشكل2)، وهذا المدفن تعرض للتخريب، واستخدم كملجأ لقطعان البدو، وفي عام 1969 بدأت أعمال التنقيب ضمنه من قبل البعثة البولونية العاملة في معسكر ديوقليسيان[10]. حُفر المدفن ضمن طبقة صخرية قاسية، ويتألف من مدخل يقع بمستوى الأرض الحالية مركب من قطعة واحدة تحمل زخارف هندسية، وفوق الساكف نقشت كتابة تشير إلى مؤسس المدفن وهو عاليني بن حيران بن عاليني وذلك عام في عام 138م (الشكل8). يلي المدخل في الجهة اليمنى خمسة صفوف من المعزب تطل على الممر الطويل الذي ينتهي على بعد 17 متراً بحجرة جنائزية تبلغ أبعادها 5×9 متر طول تقريباً وضمن أرضية هذه الحجرة حفرت صفوف المعازب التي بلغت 26 وكل صف يتسع لدفن ثلاث جثث، كما تم العثور على أربعة توابيت ضمن الممر بجانب الحجرة الجنائزية وتمثال بالطول الكامل (ناقص الرأس)، وهي منقولة من مكانها الأصلي الذي يفترض أن يكون فوق المعازب، إلا أن المدفن كما ذكرنا كان قد تعرض للتخريب والسرقة منذ زمن بعيد، كذلك الأمر بالنسبة للزخارف الداخلية وجل ما عثر عليه منها يتمثل بأجزاء من تماثيل جنائزية وبعض السرج الفخارية.

الشكل6: سقف المدفن رقم 80


الشكل7: مخطط المدفن رقم 80

وما نود أن نشير إليه فيما يخص هذا المدفن يتمثل بداية بنظام تركيب المعازب، حيث أنها حفرت ضمن أرضية المدفن ومن ثم بنيت بقطع حجرية مشذبة بعناية، وهذا ما لا نجده ضمن المدافن الأرضية (الشكل9)، ومن جهة أخرى يبدو مخطط المدفن مختلفاً جداً عن المخططات المعروفة (الشكل10) إلا أنه يشبه بما يخص نظام المعازب بعض الأمثلة البدائية في المدافن المنزلية التي بدأت بالظهور عام 143م وما بعد[11]. كذلك هناك أمر آخر ورد في نتائج البعثة المنقبة يتمثل باستخدامهم لكلمة كهف أثناء وصفهم للمدفن وذكرهم أنه مختلف عن نماذج المدافن الأخرى المعروفة[12].

مثال ثالث عن المدافن الكهفية هو المدفن رقم 167 الذي يقع في السفح الشمالي لجبل الحسينية (انظر الشكل2)، وهذا المدفن لم يتم التنقيب فيه، ذكر للمرة الأولى من قبل البعثة الألمانية[13] أثناء عمل قائمة للمدافن التدمرية بأنه مخرب ومنهوب منذ زمن بعيد، ومن ثم ذكره م.غافليكوفسكي في بحثه[14]، وأشار إليه على أنه مدفن أرضي ووصفه بأنه على شكل كهف[15]. ويتألف المدفن من مدخل مبني ضمن الجبل (الشكل11)، يليه ممر طويل حُفر على جانبيه صفان من المعازب فوق بعضهما البعض، وهي مخصصة للدفن وقد بلغ عددها في هذا الممر 18 معزباً طليت بطبقة من الجص (الشكل12)، وفي نهاية الممر توضعت حجرة جنائزية وحيدة بشكل غير منتظم ضمت 14 معزباً وهي مخربة في قسم كبير منها، ومخطط المدفن فريد بشكله أيضاً كما هو الحال بالنسبة لمدفن عاليني ولا يوجد أي مثال مشابه له في تدمر (الشكل13).

الشكل8: بوابة مدفن عاليني مع الكتابة التأسيسية


الشكل9: نظام المعازب داخل مدفن عاليني

دراسة مقارنة مع الأنواع الأخرى:
مما سبق ذكره يمكن أن نوجز بعض الصفات العامة لهذا النوع من المدافن والمتمثلة بداية بموقعها حيث نجدها تتوضع ضمن سفوح الجبال المحيطة بتدمر، محفورة داخل هذه السفوح على شكل كهوف (الشكل14). الصفة الثانية التي تنفرد بها هذه المدافن عدم وجود أية أدراج هابطة أو صاعدة، إنما يتم الولوج إلى داخلها من مستوى الأرض الحالية، كذلك تختلف مخططاتها مع المدافن الأخرى لا سيما المدافن الأرضية التي صنفت ضمنها. أما فيما يخص تقنية البناء والتركيبات الداخلية فتتصف باستخدام القطع الحجرية الصغيرة الحجم وطلائها بطبقة من الجص بطريقة غير منتظمة لا سيما عند صفوف المعازب، والتي نجدها تأخذ شكلاً أفقياً بدلاً من العمودي المنتشر ضمن الأنواع الأخرى، وهذا يذكرنا بالأبراج الجنائزية البدائية التي كانت تحتوي على معازب في قاعدتها من الخارج، وبعد عدة مراحل من التطور أخذت المعازب مكانها في داخل البرج على شكل صفوف عمودية يفصل فيما بينها بواسطة ألواح من الآجر[16]. وهناك صفة أخرى تتعلق بنظام المعازب تتمثل بحفر المعازب ضمن أرضية المدفن بدلاً من بنائها على الجدران الداخلية للمدفن كما هو الحال في المدفن الكهفي الذي يقع خلف معسكر ديوقليسيان الذي يعرف بالمدفن k ومخططه مختلف تماماً عن مخططات المدافن الأخرى خصوصاً الأرضية منها (الشكل15)، وبالتالي فإن هذه الصفات السالفة الذكر تنفرد بها المدافن الكهفية، فالمدافن الأرضية نجدها ضمن الأماكن السهلية تقريباً، ومداخلها غير ظاهرة حيث يتوجب علينا الهبوط أسفل مستوى الأرض عبر درج طويل للوصول إلى مدخل المدفن الذي يكون عادة معتنى به وغالباً ما ينقش على ساكفه كتابة تأسيسية للمدفن، وفي الداخل أغلب المدافن تتميز بمخطط منتظم على شكل حرف T مقلوبة مؤلف من جناحين فرعيين وممر طويل ينتهي بمصطبة رئيسية تحتوي على التريكلينيوم «Triclinium» (الشكل16)[17]. هذه الصفات لا تشابه المدافن الكهفية إلا في بعض التراكيب الداخلية ولا نعلم ما هي الأسباب التي دعت غافليكوفسكي إلى تصنيفها ضمن المدافن الأرضية رغم الوضوح التام باختلاف الاثنتين. أما فيما يخص الأبراج الجنائزية والمدافن المنزلية فمن الظاهر للعيان عدم وجود أي تشابه بينها وبين المدافن الكهفية موضوع البحث، سواء من حيث الموقع والشكل والبناء والمخطط، باستثناء بعض التفاصيل في التراكيب الداخلية مثل صفوف المعازب التي مر ذكرها سابقاً (الشكل17).

الشكل10: مخطط مدفن عاليني

خلاصة:
إنّ بداية فكرة وجود نموذج ونوع جديد غير معروف من الأبنية الجنائزية التدمرية جاءت نتيجة للدراسة الميدانية لمدافن تدمر[18]، حيث لاحظنا وجود مدافن محفورة ضمن جبل الحسينية الذي يطل على وادي القبور تختلف بشكلها عن المدافن الأخرى. ولدى رجوعنا للدراسات والأبحاث الأثرية التي تناولت موضوع الأبنية الجنائزية تبين عدم وجود ذكر كافٍ لهذه المدافن باستثناء ما ذكر لدى الباحث غافليكوفسكي الذي اعتبرها مدافن أرضية وكان قد أشار إليها تحت اسم «مدافن يمكن الوصول إليها من مستوى الأرض» (أي لا نحتاج للهبوط دون مستوى الأرض حتى نلج إلى داخل المدفن)، علاوة على ذلك استخدم أيضاً في وصفه للمدفن رقم 167 المتوضع ضمن السفح الشمالي من الجبل نفسه كلمة «كهف» فكتب: «مدفن فريد بشكله، كهف محفوظ بشكل جيد»، كذلك نجد استخدام نفس الوصف بالنسبة لمدفن عاليني السابق الذكر، وهذه العبارة تدل على أن هذا النوع من المدافن مختلف عن أشكال المدافن المعروفة في المقابر التدمرية وأنها فريدة بشكلها. بناء على ما سبق افترضنا وجود نوع آخر من المدافن لم يسلط عليه الضوء، وهذا النوع في رأينا يشكل حلقة في سلسة تطور العمارة الجنائزية في تدمر.

الشكل11: مدخل المدفن رقم 167


الشكل12: المعازب داخل المدفن رقم 176

وقد توصلنا في نهاية الأمر لأن نطلق عليها اسم «المدافن الكهفية» كونها حُفرت ضمن الجبل على شكل كهف، ومداخلها متوضعة بمستوى الأرض، ويمكننا الولوج إليها بشكل مباشر دون الحاجة لهبوط أو صعود أدراج، لا سيما وأن أغلب الباحثين الذين ذكروها وصفوها بعبارة كهف، حيث أن أصحاب هذه المدافن استغلوا الجبل لحفر مدافنهم بدلاً من الحفر تحت الأرض.

وهنا لا نعلم الأسباب التي دعتهم للتفكير بهذا الأسلوب، هل هي أسباب مادية؟ أم لأنه ببساطة يمكن لأي شخص أن يبني مدفنه كما يريد؟ أو كانت هناك رغبة لإبداع نوع جديد من المدافن مختلف عن المدافن المعاصرة؟ إذا تحدثنا عن الأسباب المادية (أي أن الضائقة المادية دفعتهم للتفكير بمدافن أقل تكلفة)، فإننا نستبعد هذا الاحتمال، كون هذا النموذج من المدافن كان مكلفاً أيضاً، ومن ناحية أخرى هناك مدفن مؤرخ في العام 138م، وبالتالي (ومن وجود هذا التاريخ) يمكن أن نستنتج عدم وجود ضائقة مادية في تلك الفترة، باعتبار أن أغلب النصوص الكتابية التي أشارت إلى بيع أجزاء من المدافن والتنازل عنها تعود إلى مابعد العام 179م، كذلك فإن ما هو متعارف عليه لدى الوسط العلمي أن تدمر تعرضت لأزمة اقتصادية بعد وصول الأسرة الساسانية إلى سدة الحكم في بلاد فارس عام 228 م، وسيطرتها على مصبي دجلة والفرات، وقد نتج عن ذلك فقدان تدمر لسيطرتها على الطرق التجارية وبداية مصاعبها المادية[19].

التساؤل الثاني الذي كنّا قد طرحناه يقول: هل يمكن لأي شخص أن يبني مدفنه كما يريد؟ أيضاً نستبعد هذا الطرح، فلو كان ذلك ممكناً لوجدنا العديد من أشكال المدافن المختلفة حسب أذواق الناس وقدراتهم المادية، وما يجعلنا نستبعد هذا الاحتمال أكثر هو وجود قانون ينظم ويشرف على هذه الشؤون يدعى قانون الألواح الاثني عشر[20]، هذا القانون شمل ضمن بنوده موضوع الموتى و منع دفنهم داخل أسوار المدينة[21]، وبالتالي فعلى الأرجح كان هناك أيضاً قانون يحظر مخالفة التقاليد المتبعة في عمل المدافن والدفن، كما هو الأمر في الوقت الراهن، حيث نجد لدى كل شعب عادات وتقاليد أو قوانين لا يمكن تجاوزها.

الشكل13: مخطط المدفن رقم 167


الشكل14: أماكن توضع المدافن الكهفية


الشكل15: مخطط مدفن تيبول الأرضي

أما جواباً على التساؤل الثالث حول إمكانية وجود نوع آخر مختلف عن أنواع المدافن المعروفة، فيمكن القول أن هذا الاحتمال مرجح أكثر من الاحتمالات السابقة، غير أنّنا نبقى متحفظين بعض الشيء، باعتبار أنّ أمثلة عن هذا النوع من المدافن قليلة، ويتطلب الأمر العثور على أمثلة غير مخربة أو منهوبة، وهذا يعتمد على التنقيبات الأثرية التي لا تزال مستمرة في تدمر. ويمكننا أن نضع هذا النموذج كمرحلة انتقالية نحو المدافن المنزلية، حيث أن الأبراج الجنائزية التي تعتبر أكثر قدماً مؤرخة من عام 9 ق.م و حتى 128م، أما المدافن الأرضية فهي مؤرخة من 87 وحتى 232م، والمدافن المنزلية بدأت بالظهور عام 143 م وآخر مدفن مؤرخ في العام 253م[22]. وفيما يخص الأبراج الجنائزية نعلم بأن بنائها توقف في العام 128م ويتوافق هذا مع زيارة الإمبراطور هادريانوس إلى تدمر[23]، وربما كان لهذه الزيارة دور بذلك. ومن ثم يعم بعد ذلك التاريخ انتشار نموذج المدافن الأرضية الذي يبدأ معه ظهور نموذج المدافن الكهفية لكن بشكل قليل ومن ثم يتوقف بناء هذا النموذج لتظهر بعده المدافن المنزلية، وعلى الأرجح كانت هناك أسباب نجهلها أجبرتهم على هجر هذا النموذج، فربما لم تؤدِ الوظيفة المبتغاة، أو يمكننا أن نفترض وجود طبقة معينة من المجتمع تبنت هذا النموذج وتخلت عنه فيما بعد نتيجة لظهور نموذج المدافن المنزلية الأكثر ثراء وآبهة مقارنة مع النماذج الأخرى.

الشكل16: التريكلينيوم في المدفن الأرضي بورفا وبولحا


الشكل17: نظام المعازب
في أحد المدافن المنزلية رقم 135

عموماً لا يزال الأمر يتطلب المزيد من الدراسة والتقصي عن حقيقة هذا النموذج، وما أوردناه ضمن هذا البحث يمثل الخطوة الأولى، ونأمل أن تشكل مستقبلاً انطلاقة جدية لإعادة النظر في بعض المسائل المتعلقة بالعمارة الجنائزية التدمرية، لا سيما وأن الاكتشافات الأثرية مستمرة ومن شأنها أن تقدم إيضاحات أكثر عن ما يعتريه الغموض.

الهوامش:
[1] في العام 1917 م قامت البعثة الألمانية بوضع قائمة للأبنية الجنائزية التدمرية، كما نشرت مقالة تحتوي على وصف موجز لها من قبل ت. ويغاند «Th.Wiegand». وتلا ذلك قائمة أخرى تحتوي على بعض الملاحظات حول تطور البرج الجنائزي في تدمر دونها الباحث س. واتسنغر «C.Watzinger». ثم توسعت القائمة بعد ذلك لتشمل المدافن التدمرية بكافة أنواعها على يد واتسنغر بالاشتراك مع ك. وولسنغر «K.Wulzinger».
2] هذا التصنيف اعتمد من قبل غالبية الباحثين الذين تناولوا موضوع المدافن التدمرية أمثال: م. غافليكوفسكي «M.Gawlikowski»، وج. ستاركي «J.Starcky»، وأ. شميت-كولونيه«A.Schmidt-Colinet» وآخرون.
[3] للمزيد حول أنواع المدافن في تدمر يمكن مراجعة:
SCHMIDT-COLINET A; 1989, L architecture funéraire de Palmyre, Archéologie et histoire de la Syrie, Saarbrucker Druckerei und verlag, Germany. pp. 423- 453.
GAWLIKOWSKI M; 1970, Monuments funéraire de Palmyre, Warszawa.
- البني، عدنان: 1972، ، الفن التدمري، ط 2، دمشق، ص 78 وما بعد.
- سعد، همّام: 2007، المدافن التدمرية، أطروحة ماجستير، جامعة دمشق.
[4] كان م. غافليكوفسكي (M.Gawlikowski; 1970, p. 125) أول من تناول ذكر هذا النوع من المدافن ضمن الدراسة التي أعدها عن الأبنية الجنائزية التدمرية، حيث تحدث عن أمثلة من هذه المدافن مع المدافن الأرضية، وأشار إليها باسم «مدافن أرضية يمكن الوصول إليها من مستوى الأرض».
[5] وادي القبور: سميت المقبرة بهذا الاسم كونها واقعة بين سلستين من التلال على طول الطريق القديم الذي كان يصل حمص بتدمر، وبين هاتين السلستين مجرى سيل تشكل بفعل مياه الأمطار وعلى أطراف هذه التلال تنتصب الأبراج الجنائزية مطلة على الوادي. للمزيد راجع:
- AMY R, SEYRIG H; 1936, , Recherches dans la nécropole de Palmyre, Syria, XVII, Paris, pp.229- 266.
- GAWLIKOWSKI; 1970, p.153.
6] تضم هذه المقبرة المدافن الأكثر قدماً المؤرخة من خلال نقوش كتابية وتتمثل ببرج عتنتان المؤسس بالعام 9 ق.م وهو أقدم تاريخ تم العثور عليه حتى الوقت الحاضر، علماً أن هناك مدافن أقدم إلا أنها لا تحمل نقوشاً كتابية.
[7] هذا المدفن مؤرخ على القرن الثاني وبداية القرن الأول قبل الميلاد. راجع بخصوصه:
FELLMANN R; 1976, Le tombeau près du temple de BA AL SHAMEN, Palmyre, Strasbourg, pp. 213,215.
[8] ASAD, YON; 2001, Inscription de Palmyre, IFPO.p.102,103.
9] المعلومات المتعلقة بالمدفن رقم 80 المذكورة أعلاه جاءت بناء على وصف ميداني للمدفن.
[10] تم التنقيب في المدفن خلال ثلاثة مواسم بين عامي 1969 و1971. وكانت في البداية برئاسة ميخالوفسكي «K.Michalowski»، ومن ثم تابعت الأعمال بعده آنا سادورسكا «A.Sadurska».
11] تباينت أسماء هذا النوع من المدافن، سميت المعابد الجنائزية، المدافن المنزلية، أو المدافن المعابد وسبب تسميتها بهذه الأسماء، التشابه بين مخططاتها ومخططات المنازل أو المعابد. يعد هذا النوع من المدافن التدمرية من الأنواع الأكثر غنىً وكلفةً في العمارة الجنائزية التدمرية، وحسب النقوش الكتابية التي عثر عليها داخل هذه المدافن، ظهر هذا النوع وانتشر بدءً من العام 143حتى 253م.
[12] SADURSKA A; 1977, Le tombeau de famille de Alaine, Palmyre VII, VARSOVIE, P. 17 et après
13] راجع بهذا الخصوص الهامش رقم 1.
[14] في عام 1970 نشر غافليكوفسكي بحثاً عن الصروح الجنائزية في تدمر تناول ضمنه أنواع المدافن التدمرية المذكورة في بحثنا دون التطرق إلى المدافن الكهفية، وإنما اكتفى بالإشارة إليها على أنها مدافن أرضية و يمكن الوصول إليها من مستوى الأرض أي أنها لا تحتوي على درج هابط.
[15] GAWLIKOWSKI M; 1970, p. 125.
16] للمزيد حول مراحل تطور الأبراج الجنائزية راجع: سعد، همّام: 2006-2007، أصول البرج الجنائزي التدمري ومراحل تطوره، الحوليات الأثرية السورية، م 49+50، المديرية العامة للآثار والمتاحف، دمشق، ص 23- 38.
[17] التريكلينيوم «Triclinium»: كلمة لاتينية تعني غرفة المائدة في المنزل الروماني، وتضم ثلاث أرائك ملتصقة مع بعضها على شكل حدوة الفرس (انظر غيطاس، محمد: د- ت، قاموس المصطلحات الأثرية، المصرية العالمية للنشر، مصر، ص 116).
[18] في عام 2005 وما بعد قمت بالعديد من الجولات الميدانية ضمن المقابر في تدمر أثناء إعدادي لأطروحة الماجستير وتبين وجود مدافن تختلف بشكلها عن ما هو معروف، بناء على ذلك تابعت البحث وكنت قد التقيت بالراحل الدكتور عدنان البني والأستاذ خالد الأسعد الذين أيدوا فكرة اختلاف هذه المدافن عن النماذج المعروفة.
[19] البني، عدنان.الأسعد، خالد: 2003، تدمر(أثرياً- تاريخياً- سياحياً)، ط4، دمشق، ص 109.
[20] قانون الألواح الاثني عشر: مجموعة من القوانين الرومانية الصادرة عام 451 ق.م، سمي بهذا الاسم لأن أحكامه نقشت على ألواح من البرونز أو العاج، وظلت تشكل أسس القانون الروماني لأمد طويل. للمزيد بجاني، أميل: 1984، القانون الروماني (عصوره- مصادره-أصوله)، معهد بيروت للحقوق، ص 45-50.
[21] GIRARD S; 1977, Les lois des Romains, Naples. pp. 22-73.
[22] SCHMIDT-COLINET; 1993, Das Tempelgrab Nr.36 in Palmyra, Archeologia, XLIV, Warszawa. pp 151- 160.
23] تمّ العثور على نص باللغة التدمرية،على حاملة عمود بالقرب من معبد بعلشمين، وهذا النص يذكُر استضافة مالي التدمري لهادريانوس وجيشه أثناء مرورهم بتدمر عام 129 (وود، روبرت: 1993، آثار تدمر، ت. إبراهيم أسعد، دار المعارف، حمص، ص 21).

إعداد: همّام سعد

اكتشف سورية