تطرح الفنانة شلبية إبراهيم من خلال معروضاتها في دار الفن بـدمشق، تجربتها المعهودة في التعامل مع الخط واللون، إنما هذه المرة أكثر سحراً وتنويعاً وربما نضجاً أيضاً.. تلك التجربة التي وصفها زكريا تامر بأنها دائمة القدرة على الإدهاش، فهي تعطي تلك البهجة الفريدة التي لا يمنحها إلا الفن الحقيقي.
تعيد شلبية هنا إنتاج ذاتها ثانية، إنما هذه المرة أكثر إبهاراُ ونصاعةً وتجريباً، فالمراهنة على سكب دلاء الألوان جميعها يبدو فطرياً في سياقه الطبيعي وهو ما يرتبط بعدم إتباعها لأي من الدراسات الأكاديمية في هذا المجال، فرغم أن شلبية لم تدرس الفن في جامعات ومعاهد القاهرة، استناداً إلى النصيحة التي قدمها أحد الفنانين لزوجها نذير نبعة، إلا أنها ظلت دائماً قادرة على الاختلاف والتطور والتجديد، الأمر الذي يعيده النقاد إلى تلك التلقائية النادرة التي لم تخربها المدارس الغربية والنظريات الحديثة في الفنون.
تستطيع شلبية أن ترسو بألوانها الزاهية فوق جميع الشطوط التي تريد، فالمخيلة الطفلية لديها تجعلها قادرة على ملامسة أبعد حدود التعبير، وهي ملاحظة تدفع بنفسها مباشرة في ذهن الرائي الذي سيكتشف فوراً تلك العذرية النادرة التي ترافق ريشتها وهي تمضي بثقة فوق الحرير أو الورق، حتى جاز القول إن يدها النادرة قد أفلتت من جميع أفخاخ المدارس الفنية والتجمعات التي تقول بأسلوب محدد لترجمة تداعيات الخيال.
تقدم شلبية في لوحاتها ثلاثة تقنيات هي الزيتي والحرير والأكريليك، وهي في جميع هذه الحالات تبقى ذات الفنانة الطفلة إذا صح التعبير، فالألوان الزاهية تكاد تكون سمةً ترافقها أينما ذهبت، حتى إن الأسود القاتم وتدرجاته الرمادية لا يرد إلا تبعاً للضرورة في معظم الأحيان، لدرجة أن المشاهد يعتقد أنها سوف تطلي بالأزرق البحري كل الأشكال والتفاصيل حتى تلك التي نعتقدها على علاقة شديدة بالسواد.. فإدمان شلبية على فرد التدرجات الفاتحة هو من أهم ميزات تجربتها الطويلة حتى الآن، وذلك تبعاً لملكة الخيال الطفلية التي تمكنت من النجاة من جميع التجارب والتأثيرات.
تؤكد شلبية من خلال لوحاتها علاقتها الوطيدة مع الثقافة الشعبية، فالفوانيس والكائنات الأسطورية والناي والإنس والجن.. مفردات تكرر غالباً في مواضيعها، وكأن في لوحاتها الكثيرة نزوع شديد نحو البساطة التي كان لها الدور الأساس في تكوين شخصيتها الفنية بشكل عام.
تعيد هذه التجربة التي تقدمها شلبية إبراهيم في معرضها الجديد الآن، الاعتبار لقيمة الموهبة الشخصية في تحديد الملامح وتكوين الخصوصية عند الفنان، فرغم عدم قيامها بالدراسة الأكاديمية كما أسلفنا، إلا أنها لامست العالمية في لوحاتها واستطاعت الحصول على انبهار عيون المشاهد أينما انتقلت في المكان، فالرهان كما يؤكد النقاد يكون غالباً على المحلية كمعبر وحيد للعالمية أو للتواصل مع باقي الثقافات، وهو ما استطاعت تحقيقه ربما عن غير قصد أو تفكير، إنما كان محصلةً طبيعيةً لماهية تلك البنية المميزة التي حافظت عليها شلبية نقية من أي تشويه.. في هذا الإطار يؤكد الفنان نذير نبعة أن بُعد شلبية عن المعارف الأكاديمية، كان حماية ضرورية لانجازاتها الشخصية وهو الذي يقربها من ينابيعها الأصلية الفرعونية القبطية الإسلامية المنبثقة من اللاشعور الجمعي الذي يصلها بالتصور والصور.
إنها تجربة يمكن أن نعدّها بمثابة محطة تأمل بغية إعادة النظر في أفكارنا المسبقة عن مفهوم الحداثة والتجذير، كما يقول الفنان أسعد عرابي.. أو إنها أبقت الشعور بدفء الجسم الحي مثل عجينة مرنة، كما تصفها ناديا خوست.. تطرح شلبية أعمالها الجديدة كل عدة سنوات، وهي تستغرب غزارة الإنتاج بشكل كبير عند الفنانين، فاللوحة يلزمها الكثير من العمل والرويّة سواء كان الأمر يتعلق بالخيال أم بتقنية فرزها مكتملة بألوانها المائية على الورق.. وهي تعترف بأنها لن تستطيع الحديث عن تجربتها الغنية تلك بحيث تحيط بكل التفاصيل، لأن هذا الأمر يتعلق بكل بساطة في أنها لا تقوم بالرسم الآن، وبالتالي فإن الحالة الانفعالية التي ترافق الرسم لا يمكن الإحاطة بها في أية لحظة، وربما لو أنها تتقن الحديث كثيراً لما رسمت على الإطلاق..!
تشتغل شلبية على الحدوتة المصرية بشكل كبير، حتى طريقة التعبير والألوان التي تستخدمها تعطي انطباعاً بأن جذور هذه اللوحات يعود إلى مناطق النيل بجغرافيته البشرية والطبيعية التي حفظتها شلبية عن ظهر قلب، وعندما ترسم الجسد العاري فإنها تستند إلى رصيدها الكبير في الحرية كما تقول، فهي طفلية في كل شيء حتى على صعيد الجسد الذي يظهر في لوحاتها بطهرانية عجيبة وخالياً من أية آثام.
تقول شلبية إنها من الممكن أن تجلس بغير عمل لعدة أشهر، لكنها عندما تعمل فإنها تنسى كل شيء تماماً ولا تفكر في أي موضوع أبداً.. ربما لأنها تريد أن تحمي الخيال لديها من أي تأثير دخيل، أو ربما لأن لعبة الألوان تكفي لإغرائها بشكل كبير بحيث تنصرف كلياً كي ترسم العالم الذي خيالها وهي تختصره هنا بأنه خال من الشر على الإطلاق.!
في تجربة شلبية إبراهيم الكثير من المحطات التي تستوجب الوقوف طويلاً، وربما اختزلها زكريا تامر عندما قال: إن الجدران تشعر بالغيرة من بعضها عند تعليق هذه اللوحات.
شلبية إبراهيم تواجه العالم المعقّد بمنتهى البساطة، لذلك تبدو أنها أقوى من الجميع..!
.
زيد قطريب
اكتشف سورية