أرسلان طاش

«حداتو»

الموقع:
يقع موقع أرسلان طاش شمالي الجزيرة السورية بالقرب من عين العرب على الحدود السورية التركية وسط سهل سروج، ويبعد عن نهر الفرات مسافة 30 كيلومتراً إلى الشرق منه، فيما يبعد 61 كيلومتراً عن الحدود التركية. و«حداتو» أو «خداتو» هو الاسم القديم الذي عرف به الموقع في النصوص الآشورية (الشكل1).


الشكل1: موقع أرسلان طاش

يأخذ الموقع شكلاً بيضوياً ويحيط به سور دائري يشابه أسوار المدن السورية والرافدية المعاصرة، كتل أحمر وتل بيدر وتل الشعيرات وغيرهم[1]، و يبلغ طول السور 750 متراً وعرضه 550 متراً، وبنيت أساساته من الحجر ومداميكه من اللبن بسماكة 4 أمتار تقريباً، ويضم ثلاث بوابات في الشمال والشرق والغرب، وداخل هذا السور توزعت منشآت المدينة[2] كالمعابد والمنازل والقصر الملكي وغيرها (الشكل2).

الشكل2: المخطط الهندسي للموقع

لمحة تاريخية:
«حداتو» الاسم القديم للموقع، وقد تم العثور فيه على نص كتابي آشوري في موقع حران يشير إلى هذا الاسم، وحسب المعلومات المتوفرة فإنه كان حاضرة آرامية، وخلال فترة الاستيطان الآشوري للمنطقة تم ضمه إلى الإمبراطورية الآشورية واستخدم كحامية عسكرية[3]، ولم يتمتع بأهمية كبيرة إلا بعد أن أضحى مقراً للحاكم الآشوري وخصوصاً خلال فترة حكم تيغلات بلاصر الثالث (745- 727 ق.م)، وكانت بداية أعماله إعادة ترميم القصر الملكي الذي كان مقراً لأسلافه منذ شلمنصر الرابع (782- 773 ق.م)، وأنشأ عدة مقرات ملكية له في الأقاليم المحيطة كتل برسيب وتل أحمر وحران ...وغيرها.

وتشير النصوص أن حداتو بدأت تقل أهميتها بعد أن تعرضت نينوى للسقوط وبدأت قوتها بالاضمحلال، إلا أنه خلال العصر الهلنستي تم شغل الموقع، ومن البقايا التي عثر عليها مؤرخة على هذا العصر، المعبد الذي بني فوق بقايا القصر. وعموماً لا يزال هناك الكثير من الغموض عن تاريخ المدينة، لا سيما وأنه لم يتم الكشف عن كامل أجزاء الموقع حتى الوقت الحاضر[4].

الاكتشاف وبداية الأعمال:
خلال عصر الاحتلال العثماني، كثيراً ما كان السكان يعثرون على بقايا أثرية متنوعة، وخصوصاً من الحجارة البازلتية التي تحمل نقوشاً نافرة لأسود، وقد تم نقل العديد منها إلى استانبول. من ناحية أخرى، فإن تسمية «أرسلان طاش» الحالية تعني «حجارة الأسد» أو «الأسود الحجرية» وهي عبارة تركية. يُذكر أن التسمية أطلقت على الموقع من خلال أسدين من البازلت كانا يتقدمان البوابة الشرقية، إلى جانب عدد آخر منها كانت تتقدم مداخل المدينة، وقد نقشت فوقها نصوص كتابية بالآرامية والآشورية احتوت معلومات هامة عن بناء المدينة، وأن الملك أمر بوضع الأسود على مداخل المدينة لحراستها وحمايتها (الشكل3). ويعود أول ذكر للموقع إلى عام 1850م، وذلك من قبل الرحالة تشسني «F.R.CHESNEY» الذي قام بنشر نتائج رحلته إلى سورية ومصر[5]، وتحدث عن المواقع التي زارها في منطقة نهر الفرات ودجلة وكان من بينها موقع أرسلان طاش[6].

ويبدأ الاهتمام بالموقع بعد الرسالة التي أرسلها مدير المتحف العثماني حمدي بيه[7] إلى أكاديمية النصوص الكتابية في باريس عام 1899م، والتي أشار فيها إلى أهمية الموقع والمكتشفات التي عثر عليها والمتمثلة بمنحوتات إحداها عربة يجرها حصان وقد تم نقلها إلى استانبول، وعلى أثرها قام الآثاري ليون هوزي«HEUZEY L» بعقد اجتماع في الأكاديمية وعرض ما تم الكشف عنه في موقع أرسلان طاش أمام العديد من الباحثين والمهتمين.

الشكل3: أحد الأسود الحارسة لبوابة المدينة

في بداية القرن العشرين يظهر الاهتمام من جديد بالموقع، ففي عام 1912م زاره البارون فان أوبنهايم «V.OPPENHEIM»، وأخذ العديد من الصور للموقع، لا سيما المنحوتات التي قام بنشرها في عام 1929م. وفي عام 1925م زار الموقع كلٍ من سيريغ «SEYRIG» وشلومبرجيه «SCHLUMBERGER» برفقة الكابتن بيكيه «PIQUET»وتجولوا في الموقع وأكدوا على الأهمية الأثرية والتاريخية له، وتمكنوا من تمييز موقع القصر والأسدين البازلتيين، وهذا ما تمت الإشارة إليه في الرسالة التي تم توجيهها إلى دوسو «R.DUSSAUD» وتم نشرها في مجلة «سيريا»[8].

في العام 1927م زار الموقع تورو دانجان «F.Thureau Dnagin» وهو في طريقه إلى رأس العين وبعد عام يباشر أعمال التنقيب الأولى في الموقع مع مجموعة من المختصين على نفقة متحف اللوفر، واستمرت الأعمال لموسمين حتى عام 1930م. أسفرت الأعمال عن الكشف عن حاضرة مزدهرة تعود للنصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وهي الفترة التي تعاقب فيها الآراميون والآشوريون في السيطرة على شمال سورية[9]. وتوقفت الأعمال في الموقع بعد ذلك حتى عام 2007م حيث تم تشكيل بعثة مشتركة سوريّة-إيطالية بإشراف كلٍ من أنس الخابور عن الجانب السوري وماريا تشيشيني «M.CECCHINI»، وقامت البعثة بعمل مسوحات جيوفيزيائية بهدف الكشف عن مخطط المناطق التي لم تستكشف، وما زالت أعمال البعثة مستمرة في الموقع حتى الوقت الحاضر.

الشكل4: مخطط المعبد الهلنستي

المباني المكتشفة:
خلال أعمال التنقيب التي جرت بين عامي 1928- 1930م، تم الكشف عن العديد من المنشآت الهامة في الموقع، وألقت التنقيبات الضوء على تاريخ الموقع وأهميته خلال العصر الآشوري والفترات اللاحقة. ومن أهم المباني التي تم الكشف عنها القصر الملكي، الذي توضع في أعلى نقطة من الموقع وفي نفس المكان الذي عثر ضمنه سابقاً على تمثال تم نقله إلى أورفا، وفي بداية الأعمال تم الكشف عن سوية مؤرخة على العصر الهلنستي، ولم يكن قد توضح وجود القصر بعد، وحسب ما تبين لفريق العمل فإن جزءاً من القصر قد تم تحويله إلى معبد خلال هذه الفترة، وعُثر ضمن أساساته على تمثال من العصر الآشوري أعيد استخدامه في بناء المعبد الجديد إلى جانب العديد من بقايا القصر، ومخطط المعبد بسيط يتألف من حجرة مستطيلة في منتصفها درج يفضي إلى مدخل قدس الأقداس الذي يأخذ شكلاً مربعاً تقريباً أبعاده 4×4 متر (الشكل4).

الشكل5: إعادة تصور لقناة تصريف للمياه

ومع استمرار العمل وتوسيع الحفريات بدأت تتوضح بقايا القصر وأغلب أجزائه من اللبن إضافة إلى القطع الحجرية. ومخطط القصر يأخذ شكلاً مستطيلاً بطول 150 متراً، مدخله في الجهة الغربية، ويفضي إلى ساحة كبيرة بأبعاد 39×39 متراً كانت تغطي أرضيتها بلاطات بازلتية مجهزة بقنوات لتصريف المياه (الشكل5)، وحول الساحة توزعت 14 حجرة، وفي الجهة الشرقية من الساحة يتوضع مدخل مزدوج يفضي إلى قاعة مستطيلة كبيرة وفي جدارها الشرقي أيضاً مدخل يؤدي إلى ساحة أخرى أبعادها 33×31 متراً، وحولها تتوزع حجرات السكن الخاصة بالملك وزوجاته إلى جانب قاعة الاستقبال وحمام مؤلف من حجرتين ضم في داخله بقايا تشير إلى وجود مرحاض (الشكل6).

الشكل6: إعادة تصور لشكل الحمام

عموماً، تعرض القصر للتخريب في كثير من أجزائه لا سيما وأن أغلب جدرانه من اللبن فوق أساسات حجرية بلغت سماكتها ما يقارب 40 سم. أما فيما يخص سقف الحجرات فلم يتم العثور على أية بقايا له، لكن ما هو مؤكد عدم وجود طابق ثانٍ، مع العلم أنه قد عثر على بقايا درج واحد كان يؤدي إلى السطح، إلا أنه لا توجد معلومات تشير إلى طبيعة النشاطات التي كانت تتم فوق السطح (الشكل7).

الشكل7: مخطط القصر الملكي

أما البناء الثاني الذي تم الكشف عنه فهو ما يعرف باسم منزل العاجيات وتوضع هذا البناء بالقرب من القصر في الجهة الشرقية من التل المركزي، وأطلقت عليه هذه التسمية لكثرة القطع العاجية التي عثر عليها ضمنه، ومخططه مشابه نوعاً ما لمخطط القصر (الشكل8) من حيث وجود ساحة مركزية وتوزع الحجرات حولها وأحجامها وتجهيزها بقنوات تصريف المياه، ومواد البناء، وتنظيم الممرات وغيرها من التقنيات التي كانت متبعة في القصر.

الشكل8: مخطط منزل العاجيات

ويرجح أن هذا المنزل كان يستخدم من قبل الملك وعائلته، بدليل قربه من القصر والبقايا القيمة التي احتواها. وتأتي أهمية القطع الفنية العاجية المؤرخة على القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، كونها ألقت الضوء على الكثير من الأمور التي تتعلق بالفن والحياة الدينية والتأثيرات والمعتقدات، وقد تم العثور عليها ضمن إحدى الحجرات الشمالية والشرقية، وكانت تزين الأثاث الذي احتوته الحجرة كالأسرة أو المقاعد الخشبية، وتحمل تصاوير ورموزاً متنوعة لحيوانات عديدة وأشكال نباتية مثل شجرة النخيل وأشكال إنسانية منها المرأة التي تظهر على شكل الشيطانة كيليلو وصيفة الربة عشتار، والمرأة المجنحة وهي ترتدي على رأسها التاج المصري المزدوج ممسكة بزنبقة في يدها، وتشارك في ولادة إله الشمس (الشكل9).

الشكل9-أ: من المكتشفات العاجية في منزل العاجيات


الشكل9-ب: من المكتشفات العاجية في منزل العاجيات

من المكتشفات الهامة إلى جانب هذه العاجيات بقايا الأثاث الخشبي المتمثل بسرير عليه كتابة تشير إلى أنه كان يعود للملك حزائيل، وكان هذا السرير من جملة الغنائم التي استولى عليها الملك الآشوري حدد نيراري الثالث في حملتين على دمشق، والتي أنهت حكم حزائيل عام 803 ق.م[10].

ومن المباني المهمة التي تم الكشف عنها خلال الأعمال الأولى في الموقع المعبد الآشوري الذي توضع في الزاوية الجنوبية الشرقية للقرية الحالية، وهو مبني من أساسات حجرية وجدران من اللبن تعرضت للتخريب بكاملها، وقد استطاعت البعثة الكشف عن الملامح العامة للمخطط المكون من مدخل كبير وساحة إلى جانب عدة حجرات، إلا أنه لم يتم التوصل للشكل النهائي لمخطط المعبد لا سيما وأن أعمال التنقيب لم تستمر، وما تجدر الإشارة إليه ضمن ما تم العثور عليه وله أهمية كبيرة، تمثالان لثورين كانا يتقدمان مدخل المعبد لحمايته ونقشت عليهما كتابة تشير إلى بناء المعبد من قبل تيغلات بلاصر الثالث، وأنه قام ببنائه على شرف الآلهة عشتار آلهة مدينة حداتو، وأنه وضع الثورين لحماية المعبد من الأشرار .... (الشكل10)، كما تم العثور ضمن المعبد على عدة تماثيل أخرى وقرابين كانت قد قدمت للآلهة[11].

إن جميع المكتشفات التي قدمها الموقع تظهر أهميته، فهو ما زال يحتفظ بالكثير من البقايا الأخرى المهمة غير المكتشفة حتى الآن، والتي من شأنها أن تلقي الضوء عن الجوانب المجهولة من الحقبة الآرامية الآشورية في سورية.

الشكل10: أحد الثيران الحارسة للمعبد

الحواشي:
[1] بخصوص أسوار تل أحمر وتل بيدر يمكن مراجعة:
THUREAU-DANGIN F; 1929, Tell Ahmar, Syria, tome 10, fasc 3, Paris, pp. 185- 205.
BROSSE C L; 1929, Tell Beidar en haute Djezireh, Syria, tome 10, fasc 2, Paris, pp. 36- 39.
2] قابلو، جباغ: حداتو (أرسلان طاش)، الموسوعة العربية، م 8، دمشق، ص 81.
[3] THUREAU-DANGIN F, BARROIS A; 1932, Arslan tash, Syria, tome 13, Paris, pp. 388-390.
[4] THUREAU-DANGIN F; 1931, Arslan tash, Paris, p.7.
5] تشسني F.R.Chesney: قائد عسكري ومستكشف ولد عام 1789م زار العديد من البلدان، وبدأ رحلته إلى مصر وسورية عام 1835-1836م بأمر من الحكومة البريطانية ووصل إلى نهر الفرات ودجلة وقام باستكشاف المواقع وتدوين الملاحظات وقام فيما بعد بنشر نتائج هذه الرحلة ووصف للمواقع التي زارها.
[6] CHESNEY F R; 1850, The expedition for the survey of the rivers Euphrates and Tigris, London.
7] حمدي بيه: ابن أدهم باشا وكان يشغل منصب مدير المتاحف في استانبول، تم انتخابه من قبل أكاديمية النقوش الكتابية في باريس كعضو ارتباط أجنبي وذلك عام 1893م، زار العديد من البلدان العربية التي كانت تحت الاحتلال العثماني في تلك الفترة، وقام بالعديد من الاكتشافات الأثرية ونقلها إلى متاحف استانبول. للمزيد عن حياته وأعماله ووفاته راجع:
POTTIER E; 1910, Eloge funèbre de s e Hamdy bey directeur des musées impériaux de Constantinople et correspondant étranger de l Académie, comptes rendus des séances de l académie des inscriptions et belles lettres, 54 année, N2, Paris, pp.71- 75.
8] للاطلاع على نتائج الزيارة والرسالة يمكن مراجعة:
DUSSAUD R; 1925, Nouvelles archéologiques, Syria, tome 6, fasc 3, Paris, pp. 299-301.
[9] THUREAU DNAGIN F ; 1931, p. 2.
10] بخصوص دمشق خلال العصر الآرامي يمكن العودة إلى كتاب:
زاك، دورتيه: 2005، دمشق، تطور وبنيان مدينة مشرقية إسلامية، منشورات المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، دمشق.
[11] THUREAU DNAGIN F ; 1931, p. 61, 63.

إعداد: همّام سعد

اكتشف سورية