الشيخ صالح العلي

المحتويات

على بطاح الجبال التي عرفته شبراً شبراً يتردد اسمه منذ ما يقارب القرن، فالشيخ صالح العلي قائد أول ثورة سورية ضد الاحتلال الفرنسي، كان ملتحماً بشخصه وروحه مع صخور هذه الجبال وقممها وتلالها وأشجارها، والتي غالباً ما حمته ورجاله من بطش رصاص الفرنسيين وحمّى مدافعهم وطائراتهم. أذاق الفرنسيين المتفوقين عليه عدداً وعدة المر والخذلان، بعبقرية الفطرة الأصيلة، والشجاعة الصافية، فتغلب على تكتيكاتهم وأفلت من حصاراتهم وأفشل خططهم، وبعد أن توقفت مصادر تمويله واستشهد أغلب مقاتليه، أعجزهم عن القبض عليه مختبئاً في ثنايا أبناء الشعب الذي آمن به، فكان الطيف العصي المنال رغم حملات التنكيل والتخريب التي شنها الفرنسيون في قرى الساحل وجباله بحثاً عنه، وحيث لم تجد سلطات الاحتلال الفرنسي شخصاً واحداً على طول الساحل وعرضه يمكن أن يدلها على احتمال طريق يؤدي إلى القبض على الشيخ، كان لا بد لها من عقد اتفاق سياسي معه، ينهي به ثورته ويعود إلى بيته، هذا الاتفاق الذي قبله الشيخ حفاظاً على أرواح الناس وأموالهم وأرزاقهم، وكانت النتيجة أن أمد الله في عمره حتى شاهد آخر جندي فرنسي يغادر أرض سورية الحرة إلى الأبد.


الشيخ صالح العلي

كانت طلائع القوات الفرنسية قد أخذت تحتل مواقع حساسة في الشريط الساحلي منذ مطلع تشرين الثاني 1918 ومن ثم بدأت تتوسع باتجاه الشرق والشمال وتقضي على الحكومات المحلية التي قامت في تلك المناطق باسم الحكومة العربية في دمشق. وجاء التحدي للاحتلال الفرنسي من المناطق الريفية في الساحل السوري الشمالي والمناطق الشمالية الغربية من سورية على شكل موجة من الثورات. ولم تتوقف تلك الثورات باستيلاء الفرنسيين في تموز عام 1920 على جميع المدن الداخلية وعلى قسم كبير من البلاد بل ظلت مشتعلة خلال السنة الأولى من الاحتلال الفرنسي، ولم تتم السيطرة الفرنسية عل المناطق الثائرة في صيف 1921 إلا باستخدام القوة المفرطة.

وتبرز في هذا المجال ثورتان: الأولى بقيادة الشيخ صالح العلي شملت كل أنحاء المنطقة الساحلية الكائنة بين القرداحة شمالاً وصافيتا جنوباً والعاصي شرقاً والبحر غرباً. أي أنها شملت أقضية طرطوس وجبلة ومصياف وبانياس. وكان مركز الثورة قرية الشيخ بدر التي جعل صالح العلي منها حصناً له. وشملت الثورة الثانية بقيادة إبراهيم هنانو المنطقة الشمالية الغربية بين حارم وكفر تخاريم وإدلب وجبل الزاوية وجسر الشغور جنوباً وقضاء صهيون في منطقة اللاذقية غرباً ثم معرة النعمان وأطراف حماة شرقاً. وكان مركز الثورة كفر تخاريم.



انطلاقة الثورة


الشيخ صالح يعلن الثورة في كانون الأول 1918


دعيت الثورة الأولى بثورة الشيخ صالح العلي لأنه كان موقدها وبطلها، وهو ابن الشيخ علي سلمان، ولقد عرف هو ووالده بالتقوى والصلاح. ولد في عام 1883 في قرية المريقب ناحية الشيخ بدر في منطقة طرطوس. وكان لوالده مكانة دينية كبيرة ومدنية، وقد خلف الشيخ صالح والده في زعامة المنطقة وكان مثلاً يحتذى في الإيمان والوطنية.

ومنذ أن وصلت الأخبار إلى جبال اللاذقية بأن الفرنسيين قد احتلوا الشريط الساحلي ويتحركون باتجاه الداخل قام الشيخ صالح العلي في 15/12/1918 بدعوة زعماء ووجهاء قرى المنطقة الساحلية وجبالها من جميع الطوائف للاجتماع به في قرية الشيخ بدر إحدى قرى منطقة طرطوس وقد تداول معهم في أمر الوقوف في وجه مطامع الفرنسيين، ونواياهم بفصل المنطقة الساحلية عن الحكومة العربية، واعتدائهم على ممثليها ونزعهم علمها الذي كان مرفوعاً على المحلات الرسمية وعلى دور الأهلين في المدن الساحلية، وتنكيلهم بالمواطنين الذين أصروا على رفعه. وأكد الشيخ صالح أن الدلائل تشير إلى أن الفرنسيين سيحاولون جعل سورية مستعمرة. وقد قرَّ رأي المجتمعين بعد ثلاثة أيام متواصلة على إشعال نار الثورة في الجبل لطرد الفرنسيين من الساحل في الجبل السوري كله وتكليف الشيخ صالح قيادة هذه الثورة. وحمّل المجتمعون رسل حكومة دمشق أنباء هذا القرار لتقوم الحكومة بدورها بمد الثورة بما تحتاجه من سلاح وعتاد ومؤن.

ووصل نبأ الاجتماع السلطة الفرنسية فقامت بالقبض على بعض الزعماء الذين حضروا الاجتماع وزجتهم في سجن بانياس. وكان منهم أحمد المحمود ومحمد إسماعيل واسبر زغيبي. ووجه قائد حامية بانياس الفرنسي دعوة للشيخ صالح العلي للاجتماع به، ولكن الشيخ، الذي يعرف عظم المهمة الملقاة على عاتقه ويعلم خبيث نوايا المحتلين الفرنسيين، لم يلب الدعوة. وراح يتخذ الاحتياطات الممكنة للوقوف في وجه عدوان الفرنسيين. وقد أسرعت القيادة الفرنسية في القدموس بتوجيه حملة مؤلفة من كتيبة مشاة مدعومة بالمدفعية لاحتلال الشيخ بدر واعتقال الشيخ صالح والقضاء على الثورة في مهدها قبل أن تتسع وتأخذ شكل ثورة عارمة.

معركة الشيخ بدر الأولى


بلغت الشيخ صالح أنباء هذه الحملة وكانت مفاجأة له ولم يكن قد أعد لها العدة اللازمة، ولم يكن لديه سوى بضعة رجال من أعوانه ومقدار قليل من الذخيرة لبنادق قديمة من الطراز الألماني. ولم يكن لدى الشيخ بدر خيار فهب مع أولئك الرجال القلائل للتصدي للحملة في منطقة أحراج وصخور قرب قرية النيحا الواقعة على بعد 6كم شرق الشيخ بدر، والتي تحيط بها الجبال من الجهات كافةً، ويستطيع المجاهد الذي يقف من جهة الشيخ بدر استطلاع تحرك أي شخص أو آلية تقوم بأي عمل. وكان المجاهدون يتمركزون في هذه النقاط الحساسة وفكرة الثبات حتى النصر أو الموت جعلتهم يصممون على خوض المعركة مهما كانت النتائج. وأصلى المجاهدون القوات الفرنسية ناراً حامية من مواقعهم المحصنة بينما كان الفرنسيون في أرض سهلة. ولم تدم المعركة طويلاً رغم عدم التكافؤ بين قوات الطرفين، فتراجعت القوات الفرنسية مخلفة 35 قتيلاً أي ثلث تعداد السرية تقريباً عدا عشرات البنادق وصناديق الذخيرة والمعدات. وكانت هذه المعركة المظفرة فاتحة المعارك. ودوى خبر هذه المعركة في أنحاء الجبل وتقاطر المتطوعون للانضواء تحت راية الثورة والجهاد. وأخذ الشيخ صالح بتنظيم صفوف المتطوعين وكان قد وصل إلى المنطقة إثر تلك المعركة بعض ضباط الجيش العربي الذين أرسلتهم حكومة دمشق كمستشارين عسكريين للثورة.

وفي مطلع شباط، ولمواجهة الوضع الذي أفسد مخططات القيادة العليا الفرنسية أجرت هذه تغييرات في تنظيم القيادة وإعداد القوات وأرسلت الوحدات إلى الأماكن التي كان إرسالها إليها ضرورياً. وأصبحت المنطقة الساحلية تحت مسؤولية اللواء المختلط الساحلي بدلاً من قيادة الفرقة السورية بأمرة الجنرال دولاموت.

معركة الشيخ بدر الثانية


وكان الشيخ صالح العلي، بعد هزيمة الفرنسيين في الحملة الأولى قد فطن إلى أن السلطة الفرنسية سوف تسيّر حملات أكبر. وفعلاً فقد سارع الفرنسيون إلى مواجهة الثوار قبل أن يكملوا استعدادهم للقتال فأعادوا الهجوم في 2 شباط 1919 على قرية الشيخ بدر بقوة أكبر ودعم أكثر.

ولكن الشيخ صالح كان مهيأً لملاقاة الفرنسيين هذه المرة بما توفر له من سلاح وعتاد كان قد غنمه في المعركة السابقة وما انضم إليه من مجاهدين جدد. ودارت المعركة واستمرت منذ ساعات الصباح حتى المساء وانجلت عن هزيمة الحملة الفرنسية تاركة في أرض المعركة عشرين قتيلاً وثلاثة أسرى وكمية كبيرة من المعدات والذخائر.

كان لمعركة الشيخ بدر الثانية أثر كبير في زيادة القوة المعنوية والمادية لدى المجاهدين بما كسبوه من نصر على عدوهم وما وقع في أيديهم من أسلحة وعتاد. وبرهن الشيخ صالح على قيادة حكيمة وخبرة عسكرية لم يتلقنها في المدارس العسكرية، ولكنه كان يتمتع بعقل سليم وحس مرهف وثقة بنفسه وبعدالة قضية بلاده. وبرهن المجاهدون على مستوى عال من البسالة والإقدام وروح الفداء وقوة العزيمة. وقد كان للمعركة أثر كبير لدى الفرنسيين الذين بدؤوا يشعرون بأنهم يواجهون ثورة قوية عنيفة قد تقضي على سيطرتهم على البلاد.

امتدت الثورة إلى جبال صهيون، حيث تنادى سكان قضاء بانياس ومنطقة الحفة للانضمام إلى ثورة الشيخ صالح العلي ودارت بينهم وبين الجيش الفرنسي معارك ضارية، منها معركة بابنا عام 1919، ومعركة النهر الكبير قرب اللاذقية التي جرت في شهر شباط من عام 1919 رداً على سلب الفرنسيين لقافلة تجارية، حيث كبدوا الفرنسيين خسائر كبيرة.

واستمرت الثورة بزخمها العنيف ولم يتمكن الفرنسيون من القضاء عليها رغم ما حشدوه من قوات ضخمة مزودة بأحدث الأسلحة في ذلك الزمن، فاستقر رأيهم على مهادنة الشيخ صالح العلي وتوسطوا حليفتهم بريطانيا لتتفاوض معه، ولم يتوان البريطانيون عن مد يد العون لحلفائهم الفرنسيين، فوجه الجنرال اللنبي قائد الحلفاء في الشرق رسالة إلى الشيخ صالح العلي بتاريخ 25 أيار 1919، حملها ضابطان بريطانيان، وقد طلب الضابطان عدم التعرض للقوة الفرنسية التي ستمر بالشيخ بدر متجهة من القدموس إلى طرطوس، وألحا في ذلك، ورغم استشفاف الشيخ صالح العلي لنية الغدر، إلا أنه وافق على المطالب البريطانية، لأنه وجد أنه من الحكمة ألا يثير بريطانيا في تلك المرحلة الحرجة.

وهكذا تم الاتفاق مع الشيخ على السماح للقوة الفرنسية بالمرور في الشيخ بدر والتزود بالماء، على ألا تقف أكثر من ساعة وألا تنصب حمولة أو خيمة. ومن أجل تجنب الاحتكاك بالقوة الفرنسية أمر الشيخ صالح بإخلاء قرية الشيخ بدر وحصّن رجاله في التلال المحيطة بها.

معركة الشيخ بدر الثالثة


تقدمت القوات الفرنسية إلى قلب منطقة الشيخ بدر وشرعت فوراً بإنشاء المرابض لمدافعها وحفر الاستحكامات ثم باشرت بإطلاق نار المدافع والرشاشات على قريتي الشيخ بدر والرسته مسقط رأس الشيخ صالح العلي وبيوته، وحينئذ أمر الشيخ صالح الثوار بالانقضاض على القوة الفرنسية بهجوم صاعق، وقامت معركة دامية استمات فيها المجاهدون وانتهت بهزيمة الفرنسيين بعد أن خسروا 35 قتيلاً والكثير من العتاد والذخائر. ودامت هذه المعركة من الظهيرة حتى حلول الظلام. وكان لهذه المعركة أثر كبير في جميع أنحاء المناطق الساحلية والجبال حيث تدفق الرجال من كل النواحي للتطوع في صفوف الثورة، وتوافدت على إثر المعركة وفود حكومة دمشق تحمل المساعدات والإمدادات، وانضم بعض الضباط من الجيش العربي إلى هيئة أركان حرب الثورة.

احتدام الصراع


شعر الفرنسيون بعد تلك الهزيمة بقوة الثورة واتساع نطاقها وازدياد عدد الثوار، فحاولوا السيطرة عليها بجميع الوسائل بدءاً من سياسية الخداع والإغراء والمهادنة، وصولاً إلى استخدام القوة العسكرية واتباع سياسة الأرض المحروقة، وتوالت المواجهات بين الثوار والفرنسيين تباعاً، ومن أهم هذه المعارك:

معركة وادي ورور


في 15 حزيران 1919، حيث نصب الشيخ صالح العلي ومجاهدوه كميناً للقوات الفرنسية التي كانت تتقدم باتجاه الشيخ بدر في المناطق المحصنة المحيطة بطريق القوة، وأوقعوها في كمين محكم، حيث تمكنوا من تدميرها تماماً، وهرب من بقي من الفرنسيين تاركين أسلحتهم وعتادهم.

معركة قلعة المرقب


في 21 تموز 1919 قامت مفرزة من الثوار بالهجوم على قلعة المرقب الحصينة في أعالي الجبال الساحلية شرق بانياس، وفيها حامية فرنسية قوية مؤلفة من سريتين مع مدفع. ونتيجة الهجوم انسحب الفرنسيون من القلعة بعد أن سقط منهم ستة قتلى وجرح عشرون. واستولى الثوار على القلعة التي كانت تعتبر مركزاً منيعاً للمراقبة بمكّن حاميتها من اكتشاف حركات الفرنسيين في بانياس والطرق الساحلية الممتدة لعشرات الكيلومترات.

معركة طرطوس


شهدت الثورة في 20 شباط 1920 معركة فاصلة، وذلك حين قررت قيادة الثورة مهاجمة طرطوس باعتبارها المركز الرئيسي للقوات الفرنسية في الساحل السوري، بهدف كسر شوكة تلك القوات. بدأت معركة طرطوس بهجوم ثلاث كتائب من الثوار على طرطوس من جهاتها الثلاث حسب خطة وتوجيه دقيقين. وفوجئ الفرنسيون بالهجوم وتقدم المجاهدون وضغطوا على ثكنات المدينة ودارت معركة عنيفة استعمل فيها السلاح الأبيض. وكاد الثوار أن يستولوا على طرطوس لولا تدخل قطع البحرية الفرنسية التي تدخلت بقصف عنيف وبإنزال قوات البحرية، مما دفع الثوار إلى الانسحاب خوفاً على طرطوس وسكانها الآمنين من دمار رهيب، بعد أن أنزلوا خسائر فادحة بالفرنسيين وحملوا معهم كميات من الأسلحة والذخائر استولوا عليها من مستودع عسكري.

معركة القدموس


في أعقاب هجوم طرطوس زحف الشيخ صالح العلي مع 400 مقاتل من رجاله في يوم 3 آذار 1920 على القدموس، التي تعتبر بحكم موقعها الجغرافي قلعة محصنة، حيث حاصرها وطلب من حاميتها الاستسلام، وقد رفضت بادئ الأمر إلى أنها اضطرت مع استمرار المناوشات والحصار الشديد، إلى الاستسلام، وهكذا سقطت القدموس في يد الثوار.

استمر القتال سجالاً بين قوات الشيخ صالح العلي وقوات الاحتلال الفرنسي، وكانت القوات الفرنسية قد استقدمت مع إحساسها بمدى قوة وجدية ثورة الشيخ صالح العلي، وبأنها أصبحت خطراً جدياً يهدد سيطرة فرنسا على الساحل السوري وبالتالي على كافة الأراضي السورية، عدداً كبيراً من الفرق العسكرية المدربة على حرب الجبال والغابات، من الهند الصينية وإفريقية، كما دعمت هذه القوات بالطائرات والمدفعية والأسلحة الرشاشة الحديثة.

الشيخ المجاهد
صالح العلي

وفي صيف العام 1920 قام وزير الحربية في حكومة دمشق يوسف العظمة بزيارة مناطق القتال على الجبهة الغربية واجتمع بالشيخ صالح في قرية السودة من أعمال مصياف، وبعد أن شرح له الشيخ صالح ظروف الثورة وعد الوزير بإمدادها بما تحتاجه من سلاح ومعدات. وتعاهد الرجلان على النضال وكان هذا اللقاء الأول والأخير بينهما، وقد كان الوزير يوسف العظمة يدرك تماماً أن الجنرال غورو عازم على إسكات الجبهتين الغربية والشمالية قبل التحرك باتجاه دمشق.

معركة وادي العيون


وفي منتصف حزيران 1920 قررت الفرنسيون إرسال قواتهم بقيادة الجنرال نييجر للقضاء على ثورة الشيخ صالح العلي واضعة تحت تصرفه قوات ضخمة. وبدأ نييجر هجومه بين قريتي خربة الريخ ونهر الصوارني بالقرب من الشيخ بدر، واتسع الهجوم ليشمل جبهة واسعة على امتداد 30 كم، مما اضطر الثوار للانسحاب.

تقدمت الحملة الفرنسية وهي تحرق في طريقها القرى والمزارع، فأحرقت مراكز القيادة في الشيخ بدر وبيوت الشيخ صالح نفسه في قرية الرسته. وأثناء سير الحملة شرقاً كانت تعبر الوديان السحيقة ومجاري الأنهار البعيدة عن القرى المأهولة، ولما اقتربت من منطقة وادي العيون، استطاب جنودها المنطقة وأنزلوا عتادهم وأمتعتهم ونصبوا خيامهم بقصد الاستراحة. فانهالت نيران الثوار المرابطين فوق التلال المرتفعة المحيطة بوادي العيون عليهم، مما شكل مفاجأة صاعقة، فتكت بهم وبخيولهم فحاولوا الانسحاب باتجاه قرية النيحا، فوجدوا الثوار قد سبقوهم وقطعوا عليهم الطريق، وأخذوا يغيرون مساراتهم ليفاجؤوا بكمائن الثوار أينما ذهبوا، والثوار يطاردون ويسدون عليهم السبل. وقد انكفأت القوات الفرنسية إلى قواعدها في الساحل تاركة على أرض المعركة عدداً كبيراً من القتلى وكميات من المعدات والذخائر، كما وقع عشرات الأسرى من الفرنسيين بيد الثوار.

معركة بانياس


في مطلع تموز عام 1920 علمت قيادة الثورة من حاميتها في قلعة المرقب أن الفرنسيين يحشدون قواتهم حول بانياس بقصد الهجوم على القلعة واحتلالها، فأصبح لزاماً على قيادة الثورة مهاجمة التجمعات الفرنسية في بانياس للحيلولة دون خسارة هذا المرصد الهام. وقد زحفت وحدات من الثوار ليلة 3-4 تموز على المدينة بقيادة الشيخ صالح نفسه وحاصرت بانياس من ثلاث جهات ودارات معركة استمرت حتى الظهر وتم الاستيلاء على المدينة وإحراق دار الحكومة، وأخلى الفرنسيون ثكناتهم وانسحبوا إلى الشاطئ تحت حماية قنابل الأسطول، وقد اضطر الثوار للانسحاب حتى يجنبوا المدينة الهدم تحت نيران الأسطول الفرنسي.

بعد ذلك جاءت فاجعة ميسلون في 24 تموز 1920 ووقوع دمشق وسائر سورية تحت الاحتلال الفرنسي لتنعكس سلباً على كافة الثورات السورية في الشمال والساحل، حيث أخذ الفرنسيون يهددون تلك المناطق تهديداً مباشراً. ولكن صلابة الشيخ صالح وقوة إرادته وتصميمه على مواصلة القتال حتى النصر أو الشهادة شددت عزائم الثوار.

معركة مصياف


كان على قيادة الثورة وضع الخطط الكفيلة بحماية ظهرها فقررت مهاجمة مصياف، وقد أصبحت المركز الرئيسي لتجمعات العدو في تلك الناحية، وفي منتصف كانون أول 1920 صب الثوار نيرانهم على مصياف وحاصروها إلا أن مناعة أسوارها أنقذت الحامية الموجودة فيها، وحاول بعض الثوار إحراق أحد أبواب السور والدخول منه إلى المدينة غير أن الفرنسيين صدوهم بنيران حامية. ودام الحصار تسعة أيام قبل أن تأتي حملة فرنسية كبيرة من حماة، دفعت الثوار إلى الانسحاب.

اغتنم الفرنسيون فرصة انتقال زعيم الثورة على رأس الشطر الأكبر من قواته إلى الشرق وانشغاله بحصار مصياف، فوجهوا حملة كبيرة على قرية الشيخ بدر قاعدة الثورة الرئيسية. وباغتت الحملة الفرنسية من بقي من الثوار واحتلت قرية الشيخ بدر والمرتفعات المحيطة بها، وأحرقت عدداً من القرى والمزارع القريبة، واعتقلت بعضاً من وجوه المنطقة بتهمة تأييد الثورة وشكلت مجلساً عرفياً لمحاكمتهم محاكمة صورية، وأصدر المجلس أمراً بإعدامهم ونُفذ الحكم فوراً.

وصلت أنباء احتلال الشيخ بدر إلى الشيخ صالح العلي وهو لا يزال في المنطقة الشرقية، لكنه صمم على الاستمرار في قتال الفرنسيين حتى النهاية، وسار مع رفاقه الثوار إلى قرية بشراغي من أعمال جبلة، حيث أعلن سكان تلك المناطق ولاءهم للثورة واستعدادهم للدفاع عن قائدها.

معركة وادي فتوح


حاول الفرنسيون مبادهة الشيخ صالح العلي في قرية بشراغي بحملة كبيرة، واتخذت الحملة طريقها في وادي فتوح الواقع بين هضاب مرتفعة، وقد استنفر سكان القرى المجاورة للوادي للتصدي للحملة وهب الأنصار من كل النواحي بما توفر لديهم من سلاح، وتولى الشيخ صالح قيادة المعركة وإلى جانبه ثلاثة من قدامى قادة الثورة، وتركز الشيخ ورفاقه على الهضاب المحيطة بجنبات الوادي، وما إن توسط الفرنسيون الوادي حتى أمطرهم الثورا بنيرانهم، ولم تمضِ ساعات حتى هرب من بقي حياً من الفرنسيين تاركين جثث قتلاهم وعتادهم وذخيرتهم.

معركة وادي أبو قبيس


حاول الفرنسيون القضاء على الثورة انطلاقاً من حماة عن طريق محردة. إلا أن الشيخ صالح العلي وثواره تمكنوا من استدراج الحملة الفرنسية إلى وادي أبو قبيس، الذي كان الثوار قد تحصنوا على صخوره الشاهقة، وعندما أعطاهم الشيخ صالح العلي إشارة الانطلاق انصبت نيران الثوار على جنود الحملة ودارات معركة رهيبة، فر على إثرها من بقي حياً من جنودها، وغنم الثوار جميع أنواع الأسلحة والعتاد والخيم والمؤن والألبسة والمواد الطبية.

لقد ظلت الجبهة الشمالية من منطقة الجبال الساحلية متماسكة منيعة الجانب، وعجز الجيش الفرنسي رغم وسائله الكبيرة عن احتلال الجبال أو النفاذ إليها، واستمر القتال والمناوشات سجالاً بين القوات الفرنسية وقوات الثوار الذين يسيطرون على الجبال والطرق والممرات الرئيسية المؤدية إليها.

أدرك الفرنسيون أنه لن تستقر لهم الأمور قبل القضاء على الثورة نهائياً والقبض على زعيمها الشيخ صالح العلي، فوضعوا لذلك خطة محكمة، ووظفوا في طريقها الكثير من الموارد والقوى البشرية والمادية.

واندفع الفرنسيون بقواتهم الضخمة ليواجهوا قوات الثوار التي أصابها الوهن بعد انقطاع مصادر الإمداد بالمال والعتاد والسلاح والذخيرة والذي كان يأتيها من عمقها السوري في الداخل بعد أن احتله الفرنسيون، بالإضافة إلى التفوق الفرنسي في سلاحي الطائرات والمدفعية، مما لم يكن يمتلكه الثوار. ومع ذلك فقد أبدى الثوار على طول جبهات القتال مقاومة عنيفة، وتواصلت الاشتباكات لمدة طويلة، حيث ظل القبض على الشيخ صالح العلي (وهو روح التمرد والقتال والثورة) مطلباً عصياً لفترة طويلة، إذ تشير التقارير الفرنسية إلى استمرار المناوشات والعجز عن القبض على الشيخ صالح العلي في تموز من عام 1921.

الشيخ صالح العلي

نهاية الثورة


ظل الشيخ صالح العلي مع عدد من مغاويره مصراً على مواصلة القتال والتصدي للمحتل. ولكنه اضطر للتواري مع نفر من أتباعه في غار يبعد عدة كيلومترات عن قرية الشيخ بدر، وأخذ الفرنسيون يبحثون عنه في كل مكان ويبثون العيون والأرصاد ويضعون المكافآت لمن يرشد عن مخبأه، ولكنهم أخفقوا. ولما عجزوا عن القبض عليه لمحاكمته موجوداً شكلوا محكمة لمحاكمته غيابياً، وقد أصدرت هذه المحكمة حكماً عليه بالإعدام، ونشر هذا الحكم في بلاغ مطبوع ألقته الطائرات الفرنسية في مختلف أنحاء الجبل. وألقت مع هذا البلاغ بلاغاً آخر تهدد فيه بإعدام كل من يخبئ الشيخ صالح العلي في بيته أو يراه ولا يخبر السلطات الفرنسية عنه، ووعدت المخبر بمكافأة قدرها 1000 فرنك فرنسي.

وذهبت كل التدابير التي اتخذتها السلطات الفرنسية هباءً، حيث كان الشيخ صالح العلي يتنقل في الجبل من مكان لآخر حوالي سنة كاملة، والفرنسيون يجدون في إثره ويتعقبون خطواته، وكثيراً ما التقى به الجنود الفرنسيون، ولكن براعته في التمويه وقوة أعصابه جعلته في مأمن من شرهم.

وبعد أن عجز الفرنسيون عن الوصول إلى الشيخ صالح، ولخشيتهم أن بقاءه مختبئاً سيجعل أنصاره متحفزين لمعاودة القتال في أي وقت، وجدوا أنه من الأفضل أن يسلكوا طريقاً آخر هو وضع حد للثورة من الناحية السياسية. فأصدر الجنرال غورو في مطلع صيف عام 1922 قراراً بالعفو عن الشيخ وأعوانه شرط عدم عودتهم إلى الثورة. وأعلن هذا العفو بشتى وسائل الدعاية والإعلام، وألقت الطائرات الفرنسية آلاف النسخ على مدن وأرياف المنطقة. وبلغ الشيخ قرار العفو عنه، وكانت حوادث عدوان الفرنسيين على الناس والتنكيل بهم وإحراق قرى بكاملها بذريعة مروره بها، تحز في نفسه، ووجد أنه لا سبيل لإنهاء هذه المتاعب إلا باستسلامه فقرر ذلك مكرهاً.

وتم الاستسلام في قرية بشراغي في 2 حزيران 1922. حيث أعطت السلطات الفرنسية للشيخ الأمان مع الإقامة الجبرية في قريته الشيخ بدر. وفي مقابلة جرت ما بين الشيخ صالح والجنرال بيوت قائد حامية اللاذقية، سأله الجنرال عما أخره عن الاستسلام فأجابه الشيخ: «والله لو بقي معي عشرة رجال مجهزين بالسلاح والعتاد الكافيين لمتابعة الثورة لما تركت ساحة القتال».

ولزم الشيخ بيته بعد ذلك فارضاً على نفسه عزلة شديدة، ولكن هذه العزلة لم تكن تمنع الشيخ من المجاهرة برأيه في المواقف الوطنية الحاسمة، حيث كان مستعداً دائماً لتلبية نداء الوطن. وقد أمد الله في عمره ليشاهد جلاء القوات المستعمرة عن ربوع الوطن الذي أحبه وجاهد في سبيل حريته، وذلك في 17 نيسان 1946.

واستمر الشيخ صالح العلي في نشاطه الوطني قدر استطاعته حتى وافاه الأجل في 13 نيسان 1950.

اكتشف سورية