جبرائيل سعادة

المحتويات

.

مقدمة


تذكر الأسطورة أن الأميرة السورية «أوروبة» عندما كانت تستحم على شواطئ المتوسط، شاهدها أثناء طيَرانه الإله «زيوس» فانقضَّ عليها وحمَلَها أسيرة معه لجمالها الآسِر، إلا أنه فيما بعد عجز عن الحصول على موافقتها ورضاها في تبادل مشاعر الحب، فأطلق اسمها على قارة أوروبة إكراماً لعينيها.

وتلوح لي في هذه الدراسة أميرتنا السورية التي تستحم على شواطئ المتوسط، عروسة الشاطئ مدينة اللاذقية التي أنجبت لنا شخصاً عظيماً قلّما سمعنا عنه، هو العلاّمَة جبرائيل سعادة، حتى أن الأديب السوري حنا مينة قال عنه: «في اللاذقية بحران، بحر الماء، وبحر الآثار... فإلى بحر الآثار قبطان مركبهم العظيم الصديق العزيز جبرائيل سعادة».


سيرته


وُلِدَ جبرائيل وديع سعادة يوم الأربعاء في 29 تشرين الثاني 1922، والدته مرتا نصري، أخواته: نائلة، إيدما، أسماء، وأوديت. أراد أهله أن يكون تاجراً فأصبح كاتباً وأديباً وموسيقياً، فخسر المال وكسب محبة الناس والشهرة، وعمّق محبته للمدينة التي أحب. تلقى دراسته الابتدائية والمتوسطة في اللاذقية، وتابع الثانوية في بيروت، حيث حاز على الجائزة الأولى عن قصيدة كتبها بالفرنسية. وأخيراً بعد سلسلة من تجارب الحياة، ودراسته في المعهد الفرنسي ببيروت حيث نال إجازة في الحقوق عام 1944، انتهى جبرائيل سعادة إلى أن يصير أديباً وباحثاً وموسيقياً ومؤرخاً ومغرماً بالآثار.

وفي عام 1960 حاز على الجائزة الأولى في المسابقة التي نظمتها وزارة الثقافة والفنون في الجمهورية العربية المتحدة عن مسرحيته «العاص لن ينسى».

عشق الآثار وكان ملماً بأسرارها متابعاً لكل جديد من أخبارها، وعندما سئل عن اهتمامه الكبير بآثار بلاده أجاب: «كيف يمكن للإنسان أن يحب شيئاً لا يعرفه؟ الوطن ليس أرضاً فحسب. هل أقول أن حبي للوطن ازداد منذ تلك الأيام ولا يزال كلما عرفته أكثر؟».

زار أقطاراً عربية وأوروبية عدة، ونشر مقالات في مجلات «التبغ»، «النعمة»، «الحوليات الأثرية العربية السورية»، «المعرفة»، «العمران»، «الديار»، «تشرين»، «الوحدة»، وكذلك في المجلات الفرنسية، الإيطالية والألمانية.

يذكر الأستاذ سامر جورج عوض «أنه ألقى 19 محاضرة في معظم المدن السورية، وألقى بتكليف من الرئيس حافظ الأسد محاضرات في فرنسا، وإيطاليا، وسويسرا، وبلجيكا، ويوغسلافيا في نيسان وأيار 1970، وقدّم 90 حديثاً عن السياحة في الإذاعة العربية السورية بين عامي 1969 - 1971، ومنذ مطلع عام 1971 كان يقدم حديثين أسبوعيين مرة بالعربية وأخرى بالفرنسية.


قصته مع أحد أمراء اليونان


في صيف 1966 هتف السفير اليوناني بدمشق إلى قنصله الفخري باللاذقية جبرائيل سعادة طالباً منه أن يكون في شرف استقبال أحد الأمراء اليونان الذي يزور اللاذقية في ذلك الحين، وهو ميشيل ابن عم الملك، فذهب إلى فندق السياحة والاصطياف للترحيب بسمو الأمير فوجده برفقة زوجته وشخصين آخرين، فحيّاه، وقال له: أنا قنصل اليونان باللاذقية وقد كلفوني أن أضع بتصرفك كل ما تحتاج إليه من خدَمَات، فنظر إليه الأمير وكان لايزال ممدداً على كرسيه وقال له: شكراً أنا لا أريد شيئاً، ولما استدار القنصل وهم بالذهاب حانقاً من الاستقبال الفاتر الذي لقِيَه من الأمير، ناداه الأمير قائلاً له: عفواً سعادة القنصل، أريد أن ألتقي بالمدعو جبرائيل سعادة حيث قرأت له وسمعت عنه الكثير وأريد أن أتعرف عليه، فأجاب القنصل وقال: أنا هو جبرائيل سعادة، الذي تريد أن تتعرف عليه، هنا وقف الأمير الذي لم يقف لقنصل بلاده بل هبّ واقفاً لمجرد ذكر اسم هذا الإنسان بكل احترام وتقدير.


منزل جبرائيل سعادة


كان منزل جبرائيل سعادة في وسط مدينة اللاذقية مقابل مقهى البستان (والذي كان فيما مضى ملتقى أدباء ومثقفي اللاذقية) مفتوحاً أمام الجميع خاصة للطلاب والباحثين والدارسين الذين يأتون إليه ليستفيدوا من علمه ومن مكتبته الضخمة التي كان يعتني بها كثيراً، ويأتي إليها بالكتب من بيروت ودمشق والقاهرة وباريس وغيرها، وخصص صالوناً في منزله به طاولة وكراسٍ لجلوس الأشخاص الذين يودون البحث في كتبه، وكانت مكتبته تضم ستة عشر ألفاً من المجلدات في جميع فنون الثقافة والأدب والعلوم، وضمت مكتبته العديد من المجلات الأدبية والتاريخية والجغرافية والآثارية والجيولوجية والفيزيائية واللغوية والعلمية، وقد كان يشتري الكتاب ولو كان سعره مرتفعاً ومن أي بلد كان، وآلت المكتبة إلى جامعة تشرين حسب وصيته بعد مماته، كما أن كتبه الدينية آلت إلى مطرانية الروم الأرثوذكس في اللاذقية.


زيارته لمتحف اللوفر


عندما زار جبرائيل سعادة متحف اللوفر في باريس سنة 1970 تجول في أقسامه ولفت نظره تسمية قاعة باسم فلسطين وليس باسم إسرائيل، فشكر مدير المتاحف في فرنسا العالِم الأثري أندريه بارو، فتنهّدَ الأخير وقال له أنه يومياً يتلقى سيلاً من الشتائم من اليهود وهذه المرة الأولى التي يُشكَر فيها من قبل العرب.


شعوره الوطني


كان لديه شعور وطني بسيط لإنسان كبير جداً في تفكيره وكان يؤرقه هاجس أنه: «أما حان لنا أن نكتب تاريخنا بأنفسنا»، ففي عام 1979 أرسل مذكرة إلى رئيس الجمهورية من أجل إنشاء متحف في اللاذقية، وتم هذا الأمر بالفعل بعد سنوات قليلة.

«وحين رافق السفير الهولندي ترومبي الفيلسوف في زيارته لقلعة صلاح الدين، حدثه السفير في الطريق عن فلسطين، وكانت آراؤه خاطئة غير محقة نتيجة تأثره بالأفكار الصهيونية، فبدأ جبرائيل سعادة يشرح له الحق العربي المغتصَب، وأبعاد القضية فتغيّرت مواقف السفير وأصبح أكثر إيجابية من قضية فلسطين».


قصته مع الآثار


«عثر جبرائيل سعادة بالصدفة في مكتبة متخصصة بكتب الاستشراق في باريس على كتاب عنوانه: «رأس شمرا»، وهو الاسم الحديث لأوغاريت فإذا هي المنطقة الأثرية التي تبعد عن اللاذقية عشرة كيلومترات إلى الشمال، فاشتراه رغم سعره المرتفع، وهكذا بدأ يهتم بهذه المنطقة الأثرية، وتوسّع بعد ذلك اهتمامه بالتاريخ والآثار، حتى أنه نقل اللاذقية إلى أصقاع المعمورة فنشر عنها وعن مواقعها الأثرية والتاريخية مقالات عدة في مجلات عربية وأجنبية».


إنجازاته


- أسس نادي الشباب عام 1941 الذي أصبح لاحقاً نادي تشرين.
- أسس نادي اللاذقية الرياضي واُنتُخِبَ رئيساً له (الذي أصبح فيما بعد نادي تشرين الرياضي).
- أسس رابطة أصدقاء أوغاريت عام 1950.
- أسس عام 1963 فرقة اللاذقية للغناء الشعبي.


إسهاماته


- أسهم في تأسيس جمعية أصدقاء الفقير الأورثوذكسية عام 1939.
- أسهم في تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسية واُنتُخِبَ رئيساً لفرعها في اللاذقية.
- أسهم في تأسيس الثانوية الوطنية الخاصة في اللاذقية عام 1947.
- أسهم في إنشاء فرع لعاديات حلب في اللاذقية واُنتُخِبَ رئيساً له.
- أسهم في تأسيس النادي الموسيقي عام 1945.


المناصب التي شغلها


- عضو اتحاد الكتاب العرب بدمشق.
- عضو جمعية البحوث والدراسات.
- عضو في مركز الأبحاث التاريخية والأثرية التابع لمديرية الآثار.
- عضو لجنة الفنون الشعبية في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بدمشق.
- عضو غرفة زراعة اللاذقية عام 1953.
- عضو المجلس الأعلى لرعاية الشباب في اللاذقية عام 1960.
- عضو لجنة تنشيط السياحة عام 1975.
- عضو المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بدمشق 1963.
- عضو في مجلس إدارة محافظة اللاذقية.
- رئيس جمعية خريجي المعاهد العالية عام 1961.
- رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب باللاذقية.
- رئيس عمدة الثانوية الوطنية (1947-1956).
- صاحب المكتب السياحي (المنارة) في اللاذقية.
- قنصل فخري لدولة اليونان في اللاذقية عام 1956.


المؤتمرات والندوات التي شارك فيها


- شارك في مؤتمر الآثار العربية في بغداد.
- شارك في مؤتمر الآثار الكلاسيكية الذي عقد في دمشق 1969.
- شارك في ندوة الدراسات الأوغاريتية في اللاذقية عام 1979.
- شارك في الندوة الدولية لعصر النور عام 1986.
- شارك في الندوة التي أقيمت بدمشق بمناسبة مرور ثمانمئة سنة على معركة حطين عام 1987.
- شارك في معرض الأيقونات الذي أقيم بدمشق عام 1997.


تكريمه والأوسمة التي نالها


- كرمته مطرانية الروم الأرثوذكس في اللاذقية عندما أنهى خدمته للثانوية الوطنية كنائب لصاحب المدرسة بأن أعطته مفتاحاً من ذهب عربوناً عن خدماته.
- مُنِحَ وسام الصليب الذهبي من حكومة اليونان عام 1970.
- مُنِحَ وسام الاستحقاق من رتبة فارس من الحكومة الفرنسية عام 1989، وذلك تقديراً للجهود التي بذلها في خدمة العلم وعمله في الآثار والتاريخ عرفاناً من الحكومة الفرنسية بالنشاط الثقافي الواسع، ونقتبس هنا من كلمة جبرائيل سعادة في مناسبة منحه الوسام «آمل ألا يكون الوسام بسبب استلامي فقط لثقافتكم الرائعة التي تهدهدني، ولكن أيضاً لأنني عرفت بفضل ثقافتكم أن أكتب صفحات عن سورية».


تكريمه من جهات محلية


- كرمته مديرية الثقافة باللاذقية وأطلقت اسمه على قاعة المطالعة في المكتبة العامة بالمركز الثقافي.
- كرمه مجلس مدينة اللاذقية وأطلق اسمه على الشارع الذي كان يقطنه.


وفاته


عند الثالثة من ظهيرة يوم الجمعة الواقع في 16 أيار 1997 دقت أجراس كاتدرائية القديس جاورجيوس في اللاذقية حزناً على الفقيد الكبير العلامة المرحوم جبرائيل سعادة.


مؤلفاته وترجماته


1) «وراء القضبان»: مجموعة قصصية تحتوي على 11 قصة تركز على الجانب النفسي للبشر، وتمت ترجمتها عن الفرنسية إلى العربية، صدرت عن دار المنارة باللاذقية في فترة الخمسينات.
2) «محافظة اللاذقية»: وهو كتاب يعرض اللاذقية تاريخياً وأثرياً وجغرافياً.
"القديس إليان الحمصي"
3) «أبحاث تاريخية وأثرية»: وهي عبارة عن مجموعة مقالات نُشِرَت باللغة الفرنسية في مجلات فرنسية وعربية وإيطالية.
4) «المختصَر في تاريخ اللاذقية».
5) «رأس شمرا وآثار أوغاريت»: قدم له عالم الآثار الشهير كلود شيفر، يعرض الكتاب تفصيلات دقيقة عن رأس شمرا منذ اكتشافها سنة 1928 حتى عام 1954.
6) «عندما تغني اللاذقية»، الجزء الأول: يتضمن مجموعة من الأغاني رشحت عن التراث اللاذقي، وكتب له جبرائيل سعادة مقدمة يفسر فيها بعض الظواهر التراثية، والكتاب يضم أهم أغاني تراث اللاذقية وبعض المناطق من أريافها.
7) «دليل المتحف الوطني بدمشق»: ترجمه من العربية إلى الفرنسية، إصدار مديرية الآثار والمتاحف عام 1969.
8) «الأبتر»: رواية لممدوح عدوان ترجمها جبرائيل سعادة من العربية إلى الفرنسية عام 1971.
9) «معلومات موجزة عن رأس الشمرا وأوغاريت».


من مقالاته في الحوليات الأثرية العربية السورية (1979-1980)


- «حول مدن وقرى المملكة الأوغاريتية»: يتحث المقال عن أوغاريت في نشأتها وامتداد رقعتها والمدن التي تتألف منها وأهمية دراسة النصوص الأوغاريتية كمعبر لفهم حياة المجتمع الأوغاريتي ومدى تأثير الألفاظ الأوغاريتية على أسماء القرى بصورتها الحالية وأعمال الحفريات، وأهمية التنقيب في الموقع كتعبير عن الحضارة الأوغاريتية وكيفية القيام بالتنقيب وبرامج بعثات التنقيب الأجنبية ونشر نتائج البعثة كدراسة لتكون مرجعاً هاماً للبعثات إلى سورية.


مؤلفاته باللغة الفرنسية


1)HISTOIRE DE LATTAQUIE: RAMITHA PROBLEMES DES ORIGINES.
2) OUGARIT METROPOLECANANEENNE.
3) HISTOIRE DU CHATEAU DE SALADIN.


قراءة في مجموعته القصصية «راء القضبان» (عن مترجم المجموعة)


الكتاب من القطع الصغير ويقع في (198) صفحة، ويضم إحدى عشرة قصة قصيرة مرتبة حسب العناوين التالية:
1) ما أجاب به البقال.
2) المربكة والمشكال.
3) الملامسة الوحيدة.
4) دروب لا تلتقي.
5) الكونشرتو المسحور.
6) الوحش ذو العيون الخضر.
7) أسباب تخفيفية.
8) ملتقى البؤس.
9) جريمة عند المفترق.
10) جريمة عين الجرن.
11) نجوم تموز.

فما هي مادة هذه القصص؟ يقول الكاتب في مقدمة مجموعته بأسلوب أقرب ما يكون إلى الاعتذار، إن قصصه «لا تطرح إلا حالات لأفراد من رجال ونساء، مركزة على الجانب النفسي منهم دون سواه، وتحاول إضاءة عالمهم الداخلي وكشف القناع عن نوازعهم التي تتحكم بسلوكهم»، ويتابع بلهجة الاعتذار نفسها موضحاً «إن معظم الأحداث تجري في مجتمع بورجوازي»، وتأتي الجملة الختامية التي تقفل هذا المقطع من المقدمة وكأنها دفاع مسبق لدفع «تهمة» بورجوازية أبطال القصص، إذ يتابع الكاتب قائلاً: «ولكنني أعتقد أن الأنماط البشرية التي أروي أخبارها ليست مرتبطة أصلاً بهذا المجتمع بل لها أشباه في كل الأوساط».

وهذه الأنماط هي نماذج إنسانية جرى عرضها لا من خلال بورجوازيتها أو مسيحيتها، وإنما تحديداً وبكل دقة من خلال تفاعلها مع ذلك الموضوع الوحيد، شغل الإنسانية الشاغل بأبعاده الوجودية، والفردية، والدينية، ألا وهو الحب.

تبدأ المجموعة بقصة «ما أجاب به البقال». وهي تروي حكاية رجل أرمل، أسير كرسي متحرك بسبب شلل أصابه. ويعاني المشلول عادل من هلوسات بصرية ترسم له حلماً جميلاً يتراءى له من خلاله وجود فتاة لطيفة، آسرة، في المنزل المقابل لمنزله. ويقع في غرامها، ويروح يتابع – واهماً – جميع حركاتها جيئة وذهاباً في المنزل، وينسج حولها ما يشاء من عواطف وأفكار، ثم تنقشع الغشاوة–الهلوسة ذات يوم، فتختفي الفتاة، وهذا أمر يوقعه في حيرة كبيرة، فأين تبخرت تلك الفتاة الساحرة؟ يرسل خادمه ليستعلم من البقال، وينفذ الخادم المهمة، بل ويصعد إلى البناية المقابلة أيضاً زيادة في الاستيضاح ليعود بالخبر المذهل: «سيدي لقد حسبوني من المجانين!»، فعائلة المحبوبة التي تسكن فوق مخزن البقال مؤلفة من عجوزين لم ينجبا أبداً في يوم من الأيام، والمحبوبة الساحرة لم تكن سوى طيف وهم عابر، مخادع.

القصة الثانية، «المربكة والمشكال»، بطلتها مراهقة حرمتها الطبيعة من جمال الأنوثة، ومع المراهقة يكون وعي الذات والاهتمام بالجنس الآخر، ومع بداية هذه الحقبة من حياتها أدركت البطلة «هدى» أن دمامتها لا تغتفر وأنها لن تحظى أبداً باهتمام الشباب. لكن صديقاتها يتلقين الرسائل الغرامية، والأمر أنهن جعلن منها نجيّة أسرارهن العاطفية. ما العمل إذن تجاه هذا الشعور المرير بالحرمان والغيرة؟ هداها يأسها في ساعة من ساعات الحصار الكامل إلى حيلة مؤلمة: إذ بدأت تكتب رسائل غرامية وتوجهها إلى نفسها عبر بريد المدينة، وأصبح لها بالتالي رسائلها العاطفية – المزوّرة – المتواترة دون انقطاع. ويشاء القدر أن تصلها في أحد الأيام رسالة عاطفية حقيقية من فادي، وفادي هذا تجهل كل شيء عنه. لنا أن نتصوّر حالتها آنذاك، والانقلاب الهائل الذي حول مجرى حياتها النفسية، وبالطبع فقد انقطعت عن «مكاتبة نفسها»، وراحت تنتظر الرسائل الموعودة تمهيداً للقاء قريب. لكن الانتظار يطول، وتذهب الآمال أدراج الرياح، فتعود إلى «لعبتها» الأليمة يائسة، محطمة. وفي أحد الأيام تصلها رسالة تظن أنها من رسائلها «المزورة»، فتسارع إلى تمزيقها لتكتشف بعد ذلك أن الرسالة هي من فادي. وتبدأ بتجميع نتف من الرسالة الممزقة – لعبة البزل – مثلما يتم تجميع أجزاء الصورة المقطعة. وعندما تكتمل الرسالة تكتشف أن فادي يعتذر عن تسرعه في البوح بحبه، وأنه لا يحب اللهو ولا اللاهين، وأنه بالمقابل لا يمكنه الزواج لظروف عائلية خاصة وهو يعتذر! ويصارحها أنه قاسى الأمرّين حتى تمكن أخيراً من نسيان عاطفته والتحكم بها!! تنهار جميع الأحلام السعيدة التي دغدغت آمال «هدى» للحظة خادعة من لحظات الأمل والسعادة الكاذبة، لكنها في غمرة اليأس يخيل إليها أنها ربما أخطأت في تجميع أجزاء الرسالة، وأنها قد توفق إذا غيرت ترتيب القصاصات إلى قراءة نص مختلف معاكس (الكاليدوسكوب). ويتركها الكاتب وهي تحاول عبثاً إنطاق الرسالة ما لا يمكن أن تقوله.

قصة «جريمة عين الجرن»، وهي حكاية حب من نوع مختلف كلياً، إنها حب الرجوع إلى أيام الطفولة السعيدة، فالعاشق معلم أربعيني يحج إلى بكفيا في لبنان حيث أمضى مع أهله صيفين متتابعين. وفي حجه ذاك يجلس في مقهى ويرصد البيت الذي ضم ذكريات ذلك الزمن البعيد الجميل. لكن رصده المستمر للبيت الحبيب حرّك شبهات طالب جامعي من بكفيا مولع فيما يبدو بتقمص شخصية شرلوك هولمز، وها هو برفقة صديق آخر له من رواد المقهى نفسه يلاحق ذلك المعلم بعد أن حسب أنه مجرم يعد العدة لارتكاب جريمة. أما الحقيقة فالمعلم لم يحضر إلى بكفيا إلا لمراجعة ذكريات الطفولة، وإلا – وهذا الأهم – لكتابة قصيدة رائعة تكون في مستوى ذلك الحنين. وتنتهي القصة بانكشاف كل الأمور ما يسبب خيبة للتحري اللامع الذي لم يوفق في كشف جريمة خطيرة ومنع وقوعها، بالإضافة إلى خيبة المعلم الذي نجح في كتابة قصيدته العصماء، لكن أياً من التحريين الشابين لم يبد أدنى فضول لسماعها.

أما قصة «نجوم تموز» وختامها مسك، فهي قصة حب غض ندي على شاطئ رملي ساحر، هنالك كان اللقاء الأول بين المحب والمحبوبة، والعجيب الغريب أنه لقاء تم في حلم مشترك متواقت عاشه في الوقت نفسه المحب والمحبوبة، ويمهد هذا الحلم الغريب المحيّر للقاء واجتماع الحبيبين العاشقين تحقيقاً لما حصل في الحلم. وتُترك نهاية الحب معلقة وإن كانت كل الظواهر في سياق القصة تشير إلى أن تحقق الحلم على أرض الواقع انتهى إلى خيبة مريرة.

بعد هذه الجولة الخاطفة على جميع قصص مجموعة «وراء القضبان»، يتبين بوضوح أن القاسم المشترك والموضوع الأوحد فيها هو: الحب، بل نستطيع القول بعد إمعان النظر إن موضوعها هو نوع خاص من الحب، سوف نطلق عليه من جانبنا اسم: الحب المستحيل. فالحب جسر يمتد من «الأنا» نحو «الآخر» تحقيقاً للتواصل، الجوهر الأمثل للوجود الإنساني. على أن الجسر مهدم والتواصل غير ممكن وفق تجربة أبطال جبرائيل سعادة الذين يعانون جميعاً من استحالة الوصول إلى الآخر. وأما أسباب استحالة التواصل فمتنوعة، يعرض الكاتب في مجموعته ثلاثة فروع لها مصنفة في ثلاثة أنماط من الحب المستحيل:
1- أولها «الحب – الوهم»: «ما أجاب به البقال»، «المربكة والمشكال»، «نجوم تموز».
2- وثانيها «الحب – العنكبوتي»: «الوحش ذو العيون الخضر»، «أسباب تخفيفية»، «جريمة عند المفترق».
3- وثالثها «الحب – الآثم»: «الملامسة الوحيدة»، «الكونشرتو المسحور»، «ملتقى البؤس».

1- «الحب – الوهم»: نعم، المحبة لا تقوم إلا باثنين: محب ومحبوب. فإن كان المحبوب وهماً انتفت المحبة، وإن كان المحب ذاتاً طاغية يهيمن عليها تملك المحبوب حتى الموت قتلاً، فلا يعود للمحبة من وجود، وأما الشعور بالذنب والخطيئة أخيراً فهو نبتة سامة تلتف على المحبة وتخنقها، وتجعل من المستحيل الوصول إلى المحبوب المرغوب فيه.

2- «الحب – العنكبوتي»: وأطلقنا على هذا الحب الطاغي صفة العنكبوتية لأن العنكبوت الأنثى تلتهم الذكر أثناء التلقيح، فإذا أسقطنا هذه الحالة على عالمنا الإنساني وجدنا أن الحب العنكبوتي يتحقق من خلال طغيان شهوة التملك فلا وجود إلا لذات المحب الذي يريد «مصادرة» الآخر جسداً وروحاً بالامتلاك الكامل، حتى القتل إذا استوجب الأمر ذلك. ولدينا بهذا الصدد حالة نزيه، الرجل المستقيم، الوجيه، ورب الأسرة الهادئة الوادعة، الذي يقع فجأة ضحية رغبة مدمرة في الحصول على الخادمة التي تعمل لديهم في المنزل، وعندما تعذرعليه ذلك نتيجة لمقاومة تلك الصبية التي جاءها حب «معلمها» على حين غرة، لم يجد وسيلة للحصول عليها إلا القتل، معبراً بالقتل عن أسمى آيات الحب، لأن «المحب – العنكبوت» يعتبر المحبوب ملكاً خاصاً وجزءاً لا يتجزأ منه، ملغياً بذلك حرية الآخر إلغاء لا رجعة فيه، ومتى كانت الحياة العائق في طريق امتلاك المحبوب، كان لابد «للمحب – العنكبوت» من القضاء على ذلك العائق وتحطيمه للوصول إلى بغيته، فيكون القتل آنذاك الامتلاك الأمثل. وتتكرر رغبة الامتلاك الكامل في قصة «جريمة عند المفترق»، لكنها ههنا مدغمة بحب الآخرين. فالضحية كانت نقطة التقاء عواطف الزوج والعشيق والعاشق، وكل منهم أراد الاستئثار بها لنفسه لا غير، فكان لابد من القتل وهو ما أقدموا عليه مجتمعين إذ وضع كل منهم السم خلسة في فنجان القهوة دون دراية من أحد فكانت تلك الجريمة المثلثة الأركان على مفترق عواطف أولئك الغرماء الثلاثة، في ذلك البيت الريفي الضائع من مزرعة، رأى الكاتب أن يسميها «تمركية». وهنا أيضاً ينتفي الحب لوجود غرماء يتنافسون بامتلاك المحبوب، ويعطل كل واحد على الآخر سعادته، وإنجاز مشروعه العاطفي الإنساني. أخيراً، تعطل الغيرة الحب تعطيلاً كاملاً في «الوحش ذو العيون الخضر»، والغيرة رغبة قاتلة في التملك والاستئثار. والغيور غرماؤه جميع أبناء جنسه ذكراً كان أم أنثى، دون أي تمييز. ولسنا بعيدين في هذه القصة عن عطيل وديدمونه، سوى أن مها نجحت في الإفلات هاربة من القتل في آخر لحظة.

3- «الحب – الآثم»: والمساس بالمواضعات الاجتماعية والأخلاقية والدينية هو الآخر عائق منيع، وسوء تفاهم مستفحل، يستعصي معه الحب فتتحطم إمكانية وصول المحب إلى محبوبه. ولدينا بهذا الصدد قصتان متوازيتان تقريباً مضموناً، وإن اختلفتا بناء: «الكونشرتو المسحور»، و«الملامسة الوحيدة»، إذ أن سمير بطل الأولى، وسامية بطلة الثانية، كلاهما محبان معذبان بالشعور بالذنب، الأول لأنه يحب خطيبة شقيقه، والثانية لأنها تحب زوج شقيقتها، وإذ يتعذر اللقاء لا محالة تتحطم المحبة في القصة الأولى في نهاية سريالية محيرة، مع تحطم الأسطوانة التي ولدت الحب الآثم، وتتلاشى المحبة في القصة الثانية مع غياب طيف سامية الهاربة من بيت شقيقتها على غير هدى. أما أبونا يوسف فتجربته في «ملتقى البؤس» محض دينية، إذ دخل في امتحان المعصية، وكاد أن يعلق في شباك زينة، الجميلة الغريرة التي تحاول الإفلات من ملاحقة شقيق زوجها بالحضور كل سبت إلى مقصورة الاعتراف احتماء منها برجل الدين المعذب، الذي لم يجد مناصاً آخر الأمر من الفرار إلى الله، في قرية نائية، وهنا ينفتح درب فسيح للخلاص فيما يشبه التبشير بالمحبة الإلهية بديلاً عن الحب الدنيوي المستحيل.

وبقيت في المجموعة قصة «جريمة عين الجرن» وقد تركها المترجم عامداً على حدة لأنها نوع آخر من الحب المتشرنق داخل ذات محاصرة. فالمعلم الأربعيني العائد إلى بكفيا لاستذكار طفولته الضائعة وكتابة قصيدة في مستوى تلك الذكريات الجميلة، ليس غير شخص محاصر استحال عليه الوصول إلى الآخر، فيمّم شطر الطفولة، وقرر إحياء الزمن الضائع من خلال الإبداع الشعري. هي حالة نكوصية دون شك، لكنها غير مستهجنة في سياق المنطق العاطفي. فالطفولة فردوس المحبة المثلى، حيث ذات الطفل تستقطب العالم بأكمله، فهي منه في مركز قطب الرحى. والناكص إلى أعتاب الطفولة حالم يتعلق بنرجسية الطفولة التي تحقق أوج السعادة بما هي موضع محبة واهتمام كل ما يحيط بها، في تناغم ما بعده من تناغم. ونجد في هذه القصة الباب الثاني المفتوح أمام الباحث عبثاً عن الآخر، ألا وهو باب الإبداع الأدبي الذي يعيد إحياء عالم الطفولة بمشاعره الكثيفة الغنية، وارتباطه الحميم بالناس والأشياء، دون أي تنافر أو تناقض.

وهكذا يمكننا تلخيص ما تقوله مجموعة «وراء القضبان»، في كلمات قليلة: لا حب على الأرض، فأنت ضحية وهم، أو أنك أسير رغبات افتراسية لست في دوامتها إلا أحد قطبين، فإما مفترِس أو مفترَس، أو أنك أخيراً محاصر بالمواضعات والاعتبارات الدينية والاجتماعية، فما الحل إذن؟ أمامك درب فسيح ممدود حتى اللانهاية نحو السماء باتجاه الخالق موئل الحب الأسمى، أو أنك تلج من جديد إلى عالم الطفولة السعيدة، ويمكنك بهذا الصدد معالجة الشعر وغيره من ضروب الأدب لإعادة ترتيب ذلك العالم السعيد الضائع. وهاهنا نفهم عنوان المجموعة «وراء القضبان» فأبطال القصص محاصرون داخل جدران عالية خانقة من خلف قضبان لا فكاك منها: جدران وقضبان الذات المحاصرة داخل عالمها المغلق. كما نفهم سر لوحة الغلاف المأخوذة عن فان غوخ وعنوانها «استراحة السجناء»، ويا لها من استراحة، أو بلغة السجن، ساعة تنفس، داخل تلك الباحة الضيقة الكالحة والجدران الشاهقة تكتم أنفاس المتفرج فما بالك بالسجناء أنفسهم وهم يدورون داخلها في حلقة خانقة. مثلما نفهم أخيراً البيت الذي صدّر به الكاتب مجموعته بعد الغلاف، وهو للحلاج:

فها أنا في حبس الحياة ممنّع من الأنس، فاقبضني إليك من الحبس

وقد نميل مع وجود هذا البيت في صدر الكتاب، إلى الظن بأن جبرائيل سعادة يحبذ الهروب الديني إلى الله على أي ملجأ آخر، أدبي أو غير أدبي، من وحشة الحبس داخل جدران الذات الفردية. وعلى أي حال، هو مجرد تكهّن لا أكثر ولا أقل، ولا سند له إلا ترتيب وإخراج مجموعة القصص تلك وفق رغبة الكاتب وعاطفته.


أدبه القصصي


«لكل قصة مدخلها المختلف!»، ففي «ما أجاب به البقال» يجرب قصة التحليل النفسي، ويمزج السرد الروائي الطويل مع التكثيف الدرامي السريع في القصة القصيرة. أما في «دروب لا تلتقي» فيجرب أسلوب القصة بالرسائل؛ إذ أن القصة تتكون من ثلاث رسائل، رسالة الأب لابنه، ورسالة الابن الجوابية لأبيه، ثم رسالة المعشوقة العابثة إلى صديقتها السوّاحة في أوروبا، ويعود في «أسباب تخفيفية» إلى أسلوب القصة بالرسالة، مع مزج الرسالة بسرد روائي تمهيدي. وها هو من ثم في «الكونشرتو المسحور» يجرب حظه في القصة السريالية، وأسلوبها المجنح بالصور والتداعيات، إنه إذن «بيان استعراضي» يتم خلاله استخدام جميع صنوف الأسلحة (بر – بحر – جو)، وجميع الفرضيات القتالية في الهجوم والهجوم المعاكس. نعم، مجموعة «وراء القضبان» بيان استعراضي وليست حرباً حقيقية بالحديد والنار، والدم واللحم، وفق خطة محكمة موحدة.


حركة القصة القصيرة السورية


يتساءل مترجم عمله القصصي هذا فيما إذا كان بإمكاننا أن نعتبر مجموعة «وراء القضبان» ضمن حركة القصة القصيرة السورية؟ وهو يجيب بلا ونعم، لا، لأنها إنما كتبت باللغة الفرنسية ضمن فترة الخمسينات، ناهيك أن أربعاً منها لم تنشَر على الإطلاق حتى بالفرنسية، ولم تصدر باللغة العربية إلا في عام 1991، بعد انقضاء زمانها بأمد بعيد. ونعم، لأن المؤلف جزء لا يتجزأ من الحياة الفكرية والأدبية السورية، وهي بالتالي استكمال لرسم لوحته إنساناً وكاتباً؛ ودون هذه المجموعة بل ودون ترجمة جميع كتاباته الأخرى بالفرنسية، تبقى لوحة جبرائيل سعادة غير مكتملة، وفي هذا ما فيه من الظلم والإجحاف.


مما قيل عنه


قدمه أحد علماء الآثار في محاضرة له في الجامعة الأميركية ببيروت إذ قال: «إن لغتك يا أستاذ لا تنسجم مع لغة عالم الآثار بل فيها شطحات الأدب، فإنك هجرت الأدب كما قلت، ولكنه يحاول أن ينتقم منك دائماً فيمد رأسه من خلال كلامك وجملك من حين إلى آخر».

كما قال عنه أندريه بارو مدير الأبنية الأثرية في فرنسا حين قدمه في إحدى محاضراته بمتحف اللوفر: «إن الرجل الذي أمامكم هو عالِم آثار وهو شاعر لأنه يحب بلاده».


إنجازات جبرائيل سعادة في مجالي التاريخ والآثار


رغم أن جبرائيل سعادة لم يدرس علم الآثار لكنه كان مهتماً بالآثار اهتماماً كبيراً، فقام بالبحث الأثري التاريخي والتوثيقي والميداني، ومن إنجازاته في هذا المجال:
1- اكتشاف آثار تدل على موقع مدينة راميتا القديمة وهي أقدم مدينة تم إنشاؤها في مكان مدينة اللاذقية الحالية.
2- اكتشاف موقع ابن هانئ الأثري الهام.
3- الاهتمام بالتعريف بموقع أوغاريت، ويشمل ذلك المساهمة في تأسيس جمعية أصدقاء أوغاريت وتنظيم الزيارات ونشر الدراسات والقيام بمحاضرات، وتحريض الاهتمام الرسمي بها لدرجة أن العالِم الأثري كلود شيفر لقبه «سفير أوغاريت لدى الحكومة السورية».
4- المساهمة في تأسيس جمعية فرع جمعية العاديات الأثرية في اللاذقية، حيث بقي منزله الخاص مقراً لمحاضرات الجمعية لفترة طويلة، وكان مرشد الرحلات التي تقوم بها الجمعية للمواقع الأثرية في أماكن مختلفة حيث كان يسترجع تاريخ الموقع الأثري بالتفصيل من الذاكرة.
5- المشاركة في المهرجان الدولي للأيقونة السورية.
6- تقديم محاضرة عن الآثار المسيحية في الكرسي الأنطاكي بدعوة من حركة الشبيبة الأرثوذكسية في مركز حلب.
7- كتاب «القديس إليان الحمصي»، ويعد الكتاب من أهم المراجع عن القديس إليان لما يحمله من أهمية في الاستناد إلى مصادر ومخطوطات هامة مما يجعل البحث ذا قيمة تاريخية ودينية كبيرة.


من كتاباته في علم الآثار


حول التعليم في أوغاريت

إن المكتشفات والدراسات الأثرية تجود علينا بين حين وآخر بمعلومات تبين دور سورية في إحدى نواحي تطوير الحضارة. وها إن قطرنا يبرز في مجالي التعليم والتدريس، وذلك بفضل ثلاثة مواقع أثرية أسفرت عن عدد كبير من الرقم الفخارية المكتوبة، ألا وهي موقع تل مرديخ في سورية الوسطى الذي يضم أنقاض مدينة إيبلا، وموقع تل الحريري على الفرات في الطرف الشرقي من باديتنا وقد أظهر فيه التنقيب بقايا مدينة ماري، وموقع رأس الشمرا على الساحل حيث ترقد مدينة أوغاريت.‏

عثر في إيبلا على ما يقارب ستة عشر ألف رقيم مكتوب [1] تعود إلى الفترة الواقعة بين 2350 و2250 قبل الميلاد، ومن بين هذه المجموعة الضخمة هناك عدد من الوثائق هي عبارة عن تمارين ووظائف مدرسية يحمل كل منها توقيع الطالب الذي كتبها وتوقيع أستاذه، وهذه الوثائق هي أقدم نصوص عن التعليم والتدريس ظهرت في العالم، وإلى الفترة نفسها أيضاً وثائق معجمية ولغوية تدل على الاهتمام ذاته، منها قواميس تتقابل فيها مفردات من اللغة السومرية القديمة ومفردات من اللغة الإيبلائية المحلية وهي أقدم قواميس ظهرت في العالم حتى الآن.‏

وفي ماري تم اكتشاف حوالي عشرين ألف رقيم فخاري مكتوب [2]، وفي القصر العائد إلى الفترة الأخيرة من تاريخ المدينة، أي إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وجد المنقبون قاعتين كانتا مخصصتين للتدريس تحوي كل منهما صفوفاً من المقاعد المصنوعة من القرميد المشوي ويتسع كل مقعد لطالب واحد أو لطالبين أو لأربعة طلاب، وعثر بالقرب من المقاعد على بعض أدوات الكتابة وعلى أوعية فيها عدد كبير من الصدف كان الطلاب يتعلمون بواسطتها الحساب.‏

أما موقع رأس الشمرا [3]، حيث تجري حفريات منذ عام 1929، فهو عبارة عن تل يتألف بكامله من أنقاض المدن التي تعاقبت في المكان. إن أعمال السبر التي نمت في أعماق التل دلت على أن أقدم تجمع سكني تواجد هنا يعود إلى الألف السابع. أما الحفريات المنظمة فهي تجري في الطبقة العليا، حيث كشفت عن مدينة تعود إلى عصر البرونز الحديث، أي إلى الفترة التي تمتد من 1600 حتى خراب المدينة النهائي حوالي سنة 1185 ق.م [4]. لا ندري بالضبط إلى أي عهد حملت المدينة اسم أوغاريت، إنما نستطيع أن نؤكد بسبب وثيقة اكتشفت في كل من موقع أبو صلابيخ في العراق وموقع إيبلا أنها كانت تحمل حتماً هذا الاسم في القرن السادس والعشرين قبل الميلاد. وقد عثر في الطبقة العليا من رأس الشمرة على حوالي أربعة آلاف رقيم فخاري مكتوب [5] تعود إلى القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، وفَّرت لنا العديد من المعلومات في مختلف المجالات، فهناك نصوص ميثولوجية ودينية وأدبية ودبلوماسية واقتصادية وحقوقية وإدارية، وهناك نصوص لغوية ومدرسية تساعدنا على التعرف إلى التعليم في أوغاريت، موضوع بحثنا هذا [6].‏

كانت أوغاريت، في زمن الرقم المكتوبة أي في القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، عاصمة مملكة تمتد من جبل الأقرع شمالاً حتى نهر السن جنوباً وتحدها شُرقاً سلسلة الجبال الساحلية، محتلة بذلك البقعة التي تشكل اليوم محافظة اللاذقية. كان الكنعانيون يؤلفون معظم سكانها؛ والشعب الكنعاني من أهم الشعوب التي قطنت سورية في الماضي، وبنوع خاص المنطقة الساحلية، وقد أطلق عليه الإغريق في عهد لاحق اسم الشعب الفينيقي، غير أننا لا نرى أي سبب لأن يلقب هذا الشعب بغير الاسم الذي كان يطلقه هو على نفسه. وسنرى أنه كان في أوغاريت إلى جانب الأغلبية الكنعانية أُناس ينتمون إلى شعوب أخرى.‏

إن الحفريات التي جرت ولا تزال تجري في أوغاريت لم تسفر حتى الآن عن اكتشاف مدارس أو أي بناء أو قاعة خاصة للتعليم كما كان الحال في ماري. غير أن هناك شواهد عديدة تدل على نشاط مدرسي مكثف، ولدينا أكثر من قرينة على أن هذا النشاط كان يتم في القاعات المعدة لحفظ الأضابير وفي المكتبات. إن معظم الرقم المكتوبة قد اكتشفت على شكل مجموعات وكل مجموعة تؤلف إما مكتبة أو ديواناً للأرشيف (أي الأضابير). والمكتبة إما أن تكون تابعة لمؤسسة دينية أو لأحد الأفراد، وقد تم حتى الآن اكتشاف عدة مجموعات هي: مكتبة الكاهن الأكبر حيث وجدت الملاحم والأساطير، مكتبتان لكاهن آخر في الحي الممتد جنوب الأكروبول، مكتبة النصوص الأدبية في الخندق الجنوبي، ستة دواوين للأضابير في القصر الملكي، ديوان للأضابير في القصر الجنوبي. وفي الحي الفخم الممتد شرقي القصر الملكي عثر على مكتبتين خاصتين وعلى ديوان أضابير خاص. إن كل الوثائق ذات الطابع المدرسي ظهرت في القاعات المخصصة لهذه المجموعات وكذلك بعض الأدوات الكتابية كالمخرز أو المنقاش وهو القلم الذي كان يستخدم لحفر الإشارات المسمارية في الرقم الفخارية. إن أهمية التعليم غير مرتبطة بالبناء الذي يجري فيه، ونحن نعلم مثلاً أن سقراط كان يلقي تعاليمه على تلاميذه في الطرقات والحوانيت، كما أن أفلاطون كثيراً ما كان يحاور تلاميذه وهو يتنزه معهم في الحدائق. ففي قاعات المحفوظات كان الكاتب (SCRIBE) الأوغاريتي يقضي معظم وقته ويقوم بكتابة الرقم الفخارية ثم يصنفها ويرتبها على رفوف وفيها أيضاً كان يزاول دوره كمدرس[7].‏

إن الكاتب هو العنصر الأساسي في موضوعنا وحوله يدور كل ما يتعلق بالتعليم في أوغاريت. كثيراً ما تعتبر بعض الحضارات الأخرى أن الكاتب هو مجرد ناسخ، يحفر على الرقيم نصوصاً تعطى له أو تملى عليه. أما في أوغاريت فدوره يبدو أكثر أهمية ونراه يحتل مركزاً مرموقاً في المدينة وأحياناً في البلاط الملكي، وقد عرفتنا النصوص أسماء بعض الكتبة ويمكننا أن نستنتج من المكتشفات الكتابية في رأس الشمرة الأمور التالية:‏

-إن الكاتب الأوغاريتي يقوم فعلاً بدور المعلم ويهتم بتعليم الكتابة.‏

-إن الكاتب الأوغاريتي ذو ثقافة عالية، ينظم وثائق موسوعية ومعجمية تتضمن معلومات هامة في ميادين مختلفة، ونذكر بالمناسبة أننا نراه في بعض الرقم يضيف إلى جانب توقيعه عبارة «خادم نابو ونيسابا» وكانا في ميثولوجيا بلاد الرافدين إلهي البحث والمعرفة.‏

-إن الكاتب الأوغاريتي يبذل جهداً ليتعلم اللغات الأجنبية ولكي يعلمها إلى طلابه فنرى كيف أن الضرورة كانت تفرض عليه وعلى طلابه أن يكونوا ضالعين في بعض هذه اللغات.‏

-إن الكاتب الأوغاريتي كان متضلعاً فيما نسميه في عصرنا «علم الكتابات EPIGRAPHIE» ويعود لأحد الكتبة أو لمجموعة منهم الفضل في ابتكار طريقة جديدة في الكتابة حوالي سنة 1380 قبل الميلاد وهي الطريقة الأبجدية.‏

لا شك في أن الكاتب الأوغاريتي قد اهتم قبل كل شيء بلغته أي باللغة المحلية التي كانت تتكلمها الأغلبية الكنعانية القاطنة في المدينة وهي من اللغات الثلاثية [8]. وفي رأينا يمكن أن نطلق عليها اسم «اللغة الكنعانية» ما دامت هي التي كان يتكلمها الكنعانيون، غير أن الأوساط العلمية تطلق عليها بصورة عامة اسم «اللغة الأوغاريتية».‏

هي قريبة كل القرب من اللغة العربية من حيث التراكيب وقواعد الصرف وخاصة من حيث المفردات، إذ يوجد فيها حوالي ألف كلمة هي نفسها في اللغة العربية، فإذا علمنا أن الأسماء المعروفة حتى الآن في الأوغاريتية، باستثناء الأعلام، يبلغ عددها 1276 كلمة [10]، فتكون المفردات المطابقة للعربية تشكل أكثر من ثلثي مفردات الأوغاريتية.‏

كما أنه تبين أن بعض الكلمات الأوغاريتية توجد لا في اللغة العربية الفصحى، بل في اللهجة العامية الدارجة في الساحل السوري عامة وفي مدينة اللاذقية خاصة [11].‏

غير أن اللغة الأوغاريتية لم تدون قبل المرحلة التي نحن بصددها، أي قبل مطلع القرن الرابع عشر قبل الميلاد. في مطلع هذا القرن كان الملك نقماد الثاني قد أمر بتدوين القصائد الدينية التي كان بعضها ينشد في المعابد باللغة المحلية وتتوارث شفوياً من جيل إلى جيل، ومن ثم أخذت أهمية أوغاريت السياسية تزداد، فكثر تبادل الرسائل الدبلوماسية والتجارية بينها وبين البلاد المحيطة بها. فأخذت الدواوين الرسمية تنظم وبات من الضروري إيجاد طريقة لتدوين اللغة المحلية وتدريب الطلاب على كتابتها وترجمتها إلى الآكادية التي كانت اللغة المستعملة في العلاقات الدولية وكذلك في ترجمة النصوص الآكادية إلى اللغة المحلية.‏

إن الكاتب أو الكتبة الذين أرادوا عندئذٍ إيجاد طريقة لتدوين الأوغاريتية وجدوا أنفسهم في حيرة. فإلى أية طريقة يا ترى يلجؤون؟ كان العالم المتمدن يستعمل آنذاك طريقتين في الكتابة: الطريقة الصورية أي الهيروغليفية السائدة في مصر حيث كانت الإشارة تمثل كلمة كاملة، والطريقة المسمارية الصوتية السائدة في بلاد الرافدين حيث تمثل كل إشارة مقطعاً صوتياً. إنما تحتاج الطريقتان إلى مئات الإشارات مما يجعل استخدامها أمراً عسيراً وشاقاً، فإذا وجب اختراع طريقة جديدة فلتكن سهلة ومبسطة.‏

ومن جهة أخرى رأى المخترع أو المخترعون أن الإشارات المسمارية أكثر صلاحية من الإشارات الهيروغليفية لأن حفرها على الرقم الفخارية سهل. أما المصريون فكانوا يرسمون الإشارات الهيروغليفية على ورق البردي الذي يمكن حفظه في أرض جافة كأرض وادي النيل ولا يمكن حفظه في أرض رطبة كأرض سورية. فوقع الاختيار على الإشارات المسمارية على أن تجرد من قيمها الصوتية.‏

هنا يجب أن نتوقف عند تلك اللحظة التاريخية من مطلع القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والتي تفتقت فيها عبقرية كاتب أو مجموعة كتبة من أوغاريت. لقد بدأ استعمال الطريقة المسمارية الصوتية في بلاد ما بين النهرين في الألف الثالث قبل الميلاد وخلال أكثر من ألف سنة لم يدُر في خلد أحد أنه بالإمكان إيجاد كتابة تمثل كل إشارة فيها لا مقطعاً صوتياً بل حرفاً واحداً كما هو الحال في أبجدياتنا الحديثة. حتى هذه اللحظة، كان المقطع الصوتي يؤلف بنظر الكتبة عنصراً ثابتاً غير قابل للتجزئة شأنه شأن الذرة. ونعلم مقدار ما بذل من جهود وعلم ووقت وأموال قبل التوصل إلى تفتيت الذرة، وعلى المنوال نفسه أمضت البشرية زمناً مديداً جداً قبل أن تكتشف إمكانية تفكيك المقطع الصوتي.‏

كانت في أعماق لا شعورها تتطلع إلى كتابة جديدة تخلُصها من القيم المقطعية المعقدة.‏

وهذه الرغبة الكامنة كمون الجمر تحت الرماد خرجت إلى حيّز الواقع وأصبحت حقيقة ملموسة عن طريق كاتب أو كتبة عباقرة قدر لهم أن يعيشوا على الشاطئ السوري في مطلع القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وقد أتاح هذا الإبداع ولادة أبجدية في غاية التبسيط لا تشتمل إلا على ثلاثين حرفاً.‏

رقم الألفباء:‏
أدت حفريات رأس الشمرة إلى اكتشاف وثائق تبين بوضوح محاولات الكاتب الأوغاريتي لتعليم حروف الأبجدية إلى طلابه. لقد عثر على عدد من رقم الألفباء ونحن نطلق هذه التسمية على رقم فخارية صغيرة نقشت عليها أحرف الأبجدية الأوغاريتية الثلاثين وهي مرتبة بحسب التسلسل الذي كان معتمداً آنذاك. وقد تبين أنه، باستثناء فروق طفيفة، هو ترتيب الأبجدية العربية وترتيب الأبجدية اليونانية التي هي مصدر معظم أبجديات العالم. ولما كان هذا التسلسل يظهر في كل رقم الألفباء المكتشفة في الموقع فهذا يدل على أن هذه الوثائق وضعت حتماً لغاية التعليم، فباستطاعة الطالب أن يحفظ عن ظهر قلب وبسهولة أكبر الأحرف الثلاثين إذ تعرض أمامه حسب تسلسل لا يتغير. ومما يبعث حقاً على التأثر أن نرى بأن الأطفال اليوم في عدد كبير من بلدان المعمورة يتعلمون استظهار الأبجدية بالترتيب الذي كان طلاب أوغاريت يتعلمونه منذ أربعة وثلاثين قرناً.‏

إن دراسة رقم الألفباء بدقة هامة جداً وممتعة. لأنها تدخلنا إلى صميم العلاقة بين الكتبة والطلاب آخذين بعين الاعتبار أن علماء اللغات القديمة اليوم يعرفون بسهولة ما إذا كانت الأحرف المسمارية من نقش يد ماهرة مدربة أو أنها من صنع يد قليلة الخبرة، ويمكننا بالتالي أن نتتبع بطريقة حية انتقال الكتابة من كاتب متمرس إلى آخر ما يزال مستجداً ومن جهة أخرى تبين هذه الوثائق ما كان يبدي الأستاذ تجاه طلابه من صبر وعناية. إن عدد رقم الألفباء المكتشفة في رأس الشمرة يبلغ اثني عشر رقيماً، وحسب معلوماتنا لم تكن حتى الآن موضع دراسة إجمالية [12].‏

يوجد بينها خمسة رقم نقشت عليها، دون وجود أي نص آخر، الأبجدية بكاملها ولمرة واحدة. فتلك التي نراها بخط جميل كانت دون شك بمثابة نموذج أعده الكاتب للتداول بين الطلاب، أما تلك التي تبدو كتابتها غير جيدة فهي تشير إلى أنها من صنع طلاب يبذلون جهدهم في نسخ الإشارات. وهناك أيضاً رقيم سادس لا يحمل إلا الأحرف الستة الأولى من الأبجدية فهو على ما يبدو عبارة عن وظيفة طالب لم تكتمل لسبب أو لآخر.‏

لدينا من جهة أخرى رقيم يشهد بوضوح تام أنه لطالب منهمك في التدريب على الكتابة، فنراه في بادئ الأمر يعيد، على الوجه الأول من الرقيم، خمس مرات نسخ الأحرف العشرة الأولى من الأبجدية، ثم ينتقل إلى الوجه الثاني فيكتب على مرتين هذه الأحرف العشرة، وعندما ازدادت ثقته بنفسه أخذ ينسخ الثلاثين حرفاً دفعة واحدة. وهناك رقيم يجعلنا ندخل تماماً إلى صف يجري فيه تعلم الكتابة. إننا نرى في قسمه العلوي أحرف الأبجدية الثلاثين، مكتوبة بيد المعلم وموزعة على سطرين، اثنان وعشرون في السطر الأول وثمانية في السطر الثاني، بينما نجد في القسم السفلي الأحرف الثلاثي مكتوبة بيد مبتدئ، والطريف أن التلميذ، بسبب شروده قد راح ينسخ النموذج المعطى له مبتدئاً بالأحرف الثمانية من السطر الثاني ثم الاثنين والعشرين من السطر الأول.‏

نشير بعد ذلك إلى رقيم هو إما عبارة عن مسودة، أو نموذج وضع من أجل الطلاب الذين لا يزالون يتدربون على كتابة الأحرف وهم يحاولون أن يتعلموا أسلوب المراسلة.‏

فنجد في الرقيم، على مرتين، الأحد عشر حرفاً الأولى من الأبجدية، كما نجد بعض عبارات التمني أو المجاملة التي كثيراً ما نقرؤُها في الرسائل المكتشفة في رأس الشمرة: «فلتحفظك الآلهة وتنقذك!، فلتتحقق أغلى أماني أخي وصديقي»، ونجد أيضاً في الرقيم ذاته فعل «أعطى» مكرراً ست مرات بصيغ مختلفة. وهناك رقيمان نجد في كل منهما نصاً باللغة الآكادية وعلى هامشه عدة محاولات لكتابة أحرف الأبجدية الأوغاريتية.‏

ونذكر أخيراً رقيماً رتبت فيه أحرف أبجدية أوغاريت في أعمدة، ويوجد مقابل كل حرف المقطع الصوتي الآكادي المطابق له باللفظ. إنه ولا شك جدول وضع لخدمة الكتبة المكلفين بالترجمة من الأوغاريتي إلى الآكادي وبالعكس، ولخدمة الطلاب الذين يتعلمون أصول الترجمة.‏

إن الكاتب الأوغاريتي بعد أن يكون قد علم تلاميذه أحرف الأبجدية يبدأ بتعليمهم استخدامها في كتابة الكلمات، وبالتالي يعلمهم كتابة الجمل المختلفة، فقد عثر في رأس الشمرة على عدد من التمارين المدرسية، نذكر منها رقيماً يتضمن أربعة حروف أوغاريتية تفصل بينها خطوط صغيرة عمودية، ثم نرى كلمة مركبة من تلك الحروف فيبدو أن المعلم كان قد أملى على طلابه تلك الأحرف وكلفهم بأن يؤلفوا منها كلمة أو كلمات.‏

اللغات الأجنبية:‏
صحيح أن الكتبة انصب اهتمامهم على اللغة الأوغاريتية وتأمين طريقة سهلة لتدوينها وتدريب طلابهم على كتابتها. إنما هناك ناحية أخرى شغلتهم أيضاً وهي موضوع اللغات الأجنبية. إن أعمال التنقيب في رأس الشمرة قد أسفرت عن وثائق موضوعة بعدة لغات، فعلاوة على اللغة الأوغاريتية المحلية، ظهرت بين أنقاض المدينة وثائق بالآكادية، السومرية والحورية والقبرصية والمصرية والحثية، وسنتناول على التوالي هذه اللغات وذلك من زاوية موضوع هذا البحث، أي أننا سنحاول معرفة وضع كتبة أوغاريت تجاه كل لغة، وبتعبير آخر أن ندرك مدى اطلاعهم عليها وكفاءتهم في ميدان الترجمة. ومن الدلائل على أنهم كانوا يعيرون الموضوع اهتماماً كبيراً أنهم وفروا لأنفسهم ولطلابهم الوثائق التي يحتاجونها في أعمال الترجمة، نذكر منها القواميس التي كانت في متناول الذين يشمل نشاطهم أربع لغات. في تلك القواميس ذات اللغتين أو اللغات الثلاث أو الأربع نرى المفردات السومرية أو الآكادية أو كلتيهما وإلى جانبيهما الترجمة المقابلة بالحورية وبالأوغاريتية أو إحدى هاتين اللغتين، كما أننا نذكر الجدول المقارن الذي تحدثنا عنه.‏

اللغة الآكادية:‏
نبدأ باللغة الآكادية ويطلق عليها أحياناً اسم اللغة البابلية مع العلم أن النصوص الآكادية تشكل مع النصوص الأوغاريتية أوفر اكتشافات رأس الشمرة الكتابية عدداً. إنها مدونة حسب الطريقة المسمارية الصوتية. ولدت في بلاد الرافدين ثم انتشرت، اعتباراً من أواخر الألف الثالث في سائر بلدان الشرق الأوسط واعتمدت في المراسلات السياسية والتجارية بين مختلف الممالك، كما كانت في الوقت نفسه لغة الأدب والمعرفة، فهي أشبه ما تكون بالإنكليزية واللاتينية في آن واحد. يتبين من المعلومات التي أسفرت عنها الحفريات أن أوغاريت لم تكن لها مع بلاد ما بين النهرين علاقات تذكر، كما أنه لم يكن في أوغاريت تواجد لجالية من تلك البلاد ولذلك لم يحتج الكتبة إلى اللغة الآكادية للتحدث مع أي شخص. إنما كانت معرفتها ضرورية لأن مراسلات العاصمة الكنعانية مع بقية الدول، وبنوع خاص مع مصر وقبرص وبلاد الحثيين، كانت بهذه اللغة، كما أن الثقافة البابلية كانت تخيم على الكتبة والمثقفين في أوغاريت، فكانت النصوص الآكادية الدينية والأدبية والعلمية، مشتهرة في سائر بلاد الشرق، فكان لا بد لهم من الوقوف عليها. في يومنا الحاضر تستعمل مقتطفات من الأدب الكلاسيكي في وظائف وامتحانات الترجمة، وهكذا كان شأن كتبة أوغاريت وطلابها، فنراهم يحاولون ترجمة عيون الأدب الكلاسيكي لذلك الزمن، أي الأدب البابلي. ولا شك أن القواميس التي ذكرناها والنصوص اللغوية الآكادية التي ظهرت بكثرة في رأس الشمرة تبرهن على أن دراسة اللغة الآكادية كانت تدخل ضمن تعليم وتدريب الطلاب. ومن جهة أخرى يذكر أن بعض الوثائق الدبلوماسية الهامة من معاهدات واتفاقات دولية وجدت مكتوبة على نسختين إحداها بالآكادية والأخرى بالأوغاريتية، كما أننا نجد في الأضابير الرسمية رسائل موجهة إلى الخارج ولكنها باللغة المحلية، إنها دون شك نسخ أو مسودات بالأوغاريتية لرسائل بعثت باللغة الآكادية جاءت من ممالك أخرى، ورأت الإدارة الملكية أن تحفظ عنها نسخاً باللغة المحلية، ومن مظاهر تمكن كتبة أوغاريت باللغة الآكادية ومهارتهم أنه تم اكتشاف بعض الرقم تحمل نصاً آكادياً ولكنه مكتوب حسب الطريقة الأبجدية.‏

اللغة السومرية:‏
لقد بقيت اللغة السومرية على مدى ألف سنة، أي من 3500 حتى 2500ق.م، اللغة المكتوبة الوحيدة في بلاد الرافدين وبعد ذلك كانت مقصورة على العلماء والكهنة. في أوغاريت كانت السومرية عبارة عن لغة ميتة، على حد تعبير الغرب، أي أنها لم تكن تستعمل للحديث، بل نراها في نصوص ذات طابع علمي ونصوص أدبية ودينية وسحرية. إن وجودها في القواميس والنصوص اللغوية دليل على أنها كانت ضمن برامج التدريس.‏

اللغة الحورية:‏
إلى جانب الكنعانيين كان يعيش في أوغاريت عدد لا بأس به من الحوريين، وهو شعب انحدر من شمالي شرقي سورية وقطن الساحل في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. إنه يكتب ويتكلم اللغة الحورية. وهذه اللغة كما كنا نعرفها قبل اكتشافات رأس الشمرة كانت مكتوبة بالإشارات المسمارية الصوتية كما هو الحال في الآكادية. غير أننا نرى في رأس الشمرة، علاوة على النصوص المكتوبة بهذه الطريقة، نصوصاً حورية مكتوبة بالإشارات المسمارية الأبجدية التي ابتكرتها أوغاريت [13]. السؤال الذي يطرح: هل أراد كتبة كنعانيون أن يطبقوا على اللغة الحورية هذه الطريقة الأكثر سهولة؟ أم أن كتبة من أصل حوري تعلموها من زملائهم الكتبة الكنعانيين؟ نلاحظ أن الرقم الحورية الأبجدية هي بصورة عامة نصوص طقسية كانت تتلى أو تنشد في المعابد، بالإضافة إلى نصوص هي عبارة عن لوائح بأسماء الآلهة الحوريين. كما نرى رقماً تتضمن في آن واحد نصاً حورياً أبجدياً ومقطعاً بالأوغاريتية الأبجدية. لذلك نميل إلى الاعتقاد بأن هذه النصوص وضعت من قبل كتبة حوريين. غير أن القواميس التي ذكرناها تدل على أن دراسة اللغة والكتابة الحورية كانت أيضاً بين الأمور التي يتناولها التعليم في أوغاريت، فكان الكتبة المحليون وطلابهم يتدربون على كتابة اللغة الحورية وكانوا حتماً يتكلمونها بسبب الجالية التي تعيش بينهم.‏

اللغة القبرصية:‏
هناك دلائل أثرية عديدة أسفر عنها التنقيب وكذلك عدد من الوثائق المكتوبة تشير إلى وجود جالية قبرصية، لا يعرف حجمها بالضبط، كانت تقطن أوغاريت، وفي الحي الكائن قرب المرفأ المطابق للخليج المعروف اليوم باسم المينة البيضا. كذلك توجد دلائل عديدة عن علاقات وثيقة ومستمرة بين الجزيرة والعاصمة الكنعانية، فقد عثر في رأس الشمرة على رسائل ووثائق مختلفة واردة من قبرص وهي مكتوبة طبعاً باللغة الآكادية المستعملة في المراسلة بين الدول.‏

لم تسفر الحفريات عن وثائق مدرسية أو لغوية تبين أن الكتبة الكنعانيين المحليين أرادوا أن يتعلموا اللغة القبرصية، غير أننا نلاحظ أن بعض الوثائق المكتوبة بالقبرصية [14] قد اكتشفت في دواوين الأضابير أو في مكتبات، أي في الأماكن التي كان الكتبة الأوغاريتيون يتمركزون فيها، ومن جهة أخرى يوجد رقيم موضوع بالقبرصية يدل على يد غير معتادة على إشارات هذه اللغة، مما جعل بعض العلماء يعتقدون أنها من صنع كاتب كنعاني، زد على ذلك أن أحد الرقم القبرصية المكتشفة، هو عبارة عن قائمة أسماء من النوع الدارج في أوغاريت، بعضها أسماء أعلام محلي الطابع على الأغلب. كل هذا يدل على أن كتبة أوغاريت كانوا يلمون بعض الشيء بالكتابة القبرصية، ونذكر هنا أنه في موقع هالة سلطان تيكه، قرب لارنكا في قبرص، عثر مؤخراً على كأس من الفضة تحمل كتابة بالأوغاريتية. فهل يمكن أن نتصور أن كتبة قبرص تأثروا بالطريقة الأبجدية المستعملة في الساحل السوري المقابل. هذا ما يمكن أن توضحه يوماً الحفريات التي تجري في أوغاريت أو في قبرص.‏

اللغة المصرية:‏
ليس لدينا أي برهان على وجود جالية مصرية في أوغاريت [15]. إن الحفريات أسفرت عن عدد كبير من القطع الفنية التي تحمل طابعاً مصرياً، إنما نرى العلماء متفقين على أنها إما قطع مستوردة أو قطع من صنع فنانين محليين تأثروا بالفن المصري. ومن جهة أخرى عثر في رأس الشمرة على عدد كبير من الكتابات الهيروغليفية المصرية. ومعظمها منقوش إما على هدايا مرسلة من قبل البلاط الفرعوني إلى البلاط الأوغاريتي أو على هبات إلى معابد أوغاريت. ولدينا بعض الوثائق والأدلة التي تشهد على تواجد مصري ولو على نطاق محدود، نذكر منها الأمور التالية: نعلم أن ممثلاً للبلاط الفرعوني كان يسكن منزلاً فخماً قريباً من قصر أوغاريت الملكي وأنه كان يتعاطى بعض الأعمال التجارية. النصوص تتحدث عن طبيب مصري استدعاه أحد ملوك أوغاريت، وعن مواطن مصري ابتاع منزلاً من الملك وعن مصريين كانوا يتعاطون تجارة منتوجات أوغاريتية من زيت وخمر، كما أننا نعلم أن إحدى أميرات وادي النيل تزوجت من ملك أوغاريتي.‏

بقي أن نتساءل إذا نتج عن هذه التأثيرات وهذه الاتصالات المحدودة انعكاس على نشاط الكتبة الأوغاريتيين. كان هؤلاء يشاهدون النصوص المصرية المحفورة على الهبات المقدمة إلى المعابد، ولا شك أنهم أخذوا بجمال الإشارات الهيروغليفية التي تمتاز بطابع فني. فهل خطر ببالهم أن يحاولوا تقليدها؟ إن معطيات التنقيب الأثري في هذا المجال قليلة جداً، ولابد أن نأتي على ذكرها. فهناك ثلاث كتابات يعتقد العلماء اليوم أنها من صنع كاتب أوغاريتي، الأولى منقوشة على قاعدة صغيرة اكتشفت في القصر الجنوبي، والثانية منقوشة على نصب وجد في معبد الإله بعل، والثالثة حفرت على سيف ظهر في الحي الممتد شرقي القصر الملكي.‏

اللغة الحثية:‏
في الفترة التي نحن بصددها، أي في القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، كانت أوغاريت تحت سيطرة الإمبراطورية الحثية، ورغم مقاومة بعض ملوكها لهذا النفوذ، كان الحثيون يلعبون دوراً هاماً في حياة العاصمة الكنعانية. الغريب والحالة هذه أن يكون التأثير الحضاري قليلاً جداً. لم تسفر الحفريات عن قطع فنية تدل على تأثير حثي يذكر. والعلاقات التجارية كانت مقصورة على بعض القوافل وأحياناً على نقل بعض المواد الغذائية في مراكب من ساحلنا إلى سواحل الأناضول. في أوغاريت تمَّ اكتشاف منزل شخص حثي اسمه «باتيلوا» يعتقد أنه كان سفير البلاط الحثي أو أحد ممثليه. الوثائق الرسمية المتبادلة بين العالم الحثي وأوغاريت موضوعة كلها باللغة الآكادية الدولية مع العلم أن الرسائل الواردة تحمل خاتم السلطة الحثية وهو موضوع بالكتابة الهيروغليفية الحثية.‏

يجب الإشارة إلى أنه لم يعثر في دواوين الأضابير وفي المكتبات على قواميس أو أية وثائق مدرسية تدل على أن كتبة أوغاريت كانوا يتعلمون اللغة الحثية. نذكر فقط رقيماً يحمل نصاً أدبياً موضوعاً بالكتابة الحثية المسمارية، غير أن العلماء يعتقدون أنه رقيم مستورد. على كل حال فليس من المستحيل أن يكون كتبة أوغاريت قد اهتموا بعض الشيء بلغة دولة كانت سلطتها تهيمن على مقدرات العاصمة الكنعانية [16].‏

الكتابة والثقافة:‏
لا تشكل الكتابة هدفاً بحد ذاتها، إنها في النهاية ليست غير أداة لنقل الأفكار والمعارف. غير أن الوثائق المكتوبة المكتشفة في أطلال رأس الشمرة لا تقدم لنا بصورة مباشرة وجلية المعلومات التي نريدها عن الثقافة العامة في أوغاريت، ونعني بذلك مجمل معارفها في مختلف الميادين وبالتالي لا ندري الدور الفعلي الذي كانت تلعبه الثقافة العامة في مجال التعليم والتدريس. ومن المؤسف أن هذا الموضوع لم يعالج حتى الآن بطريقة منهجية رغم أن هنالك اليوم آلاف المؤلفات عن مكتشفات رأس الشمرة، فمن المرغوب فيه القيام بعمل دؤوب يساعد بين أكداس الرقم المنبوشة حتى الآن، على اكتشاف كل ما يمكن أن يجلو لنا هذا الموضوع، وسنقدم هنا لمحة مختصرة عن أهم النواحي التي تبرزها الرُّقم المكتشفة.‏

سنتكلم أولاً عن القوائم، وقد عثر منها في رأس الشمرة على عدد لا يحصى. يتعلق معظمها بالتنظيم الإداري والحياة الاقتصادية. ولكن هناك قوائم لها أهمية كبرى في موضوعنا هذا فهي تبدو لنا كمفكرات وفيش «FICHES» شبيهة بالتي يستخدمها اليوم علماؤنا لتؤمن لهم بسرعة المعلومات التي يحتاجونها أثناء دراساتهم. نذكر منها رقيماً يتضمن خمسمئة سطر على غاية من الأهمية لأنه نوع من موسوعة، فنجد فيه تعداد الأسماك والطيور والنباتات والمنسوجات والأقمشة والأحجار وما شابه ذلك. هناك أيضاً قوائم تعدد آلهة أوغاريت وقائمة تعدد الآلهة الحورية. ونذكر بنوع خاص رقيماً يتضمن جدولاً بالآلهة السومرية وتجاه كل إله نرى ما يقابله من آلهة عند الأوغاريتيين والحوريين، فتلك لعمري وثيقة عن الديانة المقارنة تعود في القدم إلى ما ينوف على ثلاثة آلاف سنة. ومن القوائم التي كانت تستعمل كمفكرة نذكر عدة رقم سمحت بوضع جدول بمقاييس الأوزان والاستطاعة والمساحة.‏

عثر أيضاً بين الأطلال على بعض النصوص الطبية، علماً أن الطب في ذلك الوقت كان على ارتباط وثيق وتداخل كامل مع السحر، إنما نستطيع أن نتعرف بواسطتها على عدد من الوصفات الطبية، وبواسطة نصوص الابتهالات والأدعية السحرية نتعرف أحياناً على بعض الأمراض والأدوية. من بين الأمراض يرد ذكر الصداع والأنفلونزا والصرع والزكام والدوار ومرض الأسنان والرئة والبطن والعيون وكذلك اعتلال العضلات والجلد. أما العلاجات فأكثرها نباتية ويمكن أن نطلع من أحد الرقم على المعالجة بواسطة حمام بخار. وهناك نص يذكر بوضوح وجود أطباء في أوغاريت كما نذكر نصاً وجد بأربع نسخ نقشت عليها تعليمات العناية الواجب اتباعها تجاه الخيول المريضة.‏

النصوص السحرية المتعلقة بعلم الفلك لا تبين لنا بدقة معلومات الأوغاريتيين الفلكية إنما يوجد نص فسّر كأنه تلميح لكسوف الشمس. أما الموسيقى فلدينا عدة رقم مكتوبة باللغة الحورية تتضمن التنويط (أو التدوين) الموسيقي لبعض التراتيل والأناشيد الدينية [17]. أما علم الحقوق في أوغاريت فيمكن التعرف عليه عن طريق عدد كبير من النصوص القانونية تمَّ اكتشافها في جناح من القصر الملكي [18].‏

والمعروف أنه تم اكتشاف عدد من الأساطير والملاحم [19] في بناية الكاهن الأكبر، قرب معبد الإله بعل، وكانت كما ذكرنا متوارثة شفوياً من جيل إلى جيل فتم تدوينها في مطلع القرن الرابع عشر قبل الميلاد من قبل كاتب يرد اسمه في بعض الرقم، ولا نستطيع بما لدينا من معلومات أن نعرف إذا كان مجرد ناسخ وضع تلك القصائد حرفياً كما تلقاها أو أنه كان ينظم تلك الملاحم والأساطير بأسلوب أدبي، وهي بالفعل قصائد ذات قيمة أدبية أكيدة.‏

وأخيراً نذكر الإنتاج الأدبي. لقد عثر في رأس الشمرة على عدد لا بأس به من النصوص الأدبية من قصائد وأدعية ومجموعات حكم ونصائح. إلا أن معظم هذه النصوص يعود إلى الأدب البابلي أو أنها، على أقل تقدير، تستمد إيحاءاتها من بلاد الرافدين، وقد ذكرنا أنها كانت تستخدم في أعمال الترجمة. إنما يوجد نص واحد يمكن حتى إشعار آخر أن نعتبر أنه أوغاريتي إذ لم يكتشف ما يقابله في الأدب البابلي. إنه مجموعة من الحكم والأقوال وجدت مكتوبة بثلاث نسخ، ويبدو أن هذه النسخ تعود لثلاثة طلاب في صف الإنشاء الأدبي طلب إليهم مناقشة الوجود الإنساني بالاستناد إلى أقوال وأمثال دارجة وهذا مقطع من النص المذكور:‏

«لا تدرك اليد ما بعد السماء.‏
لا يدرك أحدٌ عمق غور الأرض.‏
حياة بلا نور، فماذا تزيد على الموت؟
مقابل سعادة يوم، أيام من الدموع.‏
وها هي السنة تجري وفيها ألف علة.‏
الناس لا يعلمون بأنفسهم ما يفعلون.‏
معنى أيامهم ولياليهم كامن عند الآلهة».‏

وفي الختام نذكر نصاً تم اكتشافه في رأس الشمرة يبين تماماً أهمية الكتابة والمعرفة في المجتمع الأوغاريتي. إنه عبارة عن دعاء كتب بصيغة رسالة موجهة من كاهن إلى أحد الآلهة يطلب فيه مساعدة تلميذه ومما جاء في النص المذكور:‏ «لا تظهر في عظمتك عدم الاهتمام بالقضية التي أستعطفك من أجلها. بهذا التلميذ الفتي الجالس أمامك لا تظهر عدم الاهتمام. اكشف له أي سر في فن الكتابة، العد، المحاسبة، أي حل، اكشف له. اكشف له إذن الكتابة السرية. أعط لهذا التلميذ الفتي، القصب المبرى والجلد والفخار. إذن لا تهمل شيئاً من كل ما يتصل بفن الكتابة».‏


الحواشي


[1] حسب آخر جرد تم لرقم إيبلا، قبل أن توضع في متحف إدلب، أنها موزعة على الشكل التالي: 2000 رقيم كامل، 6000 رقيم ناقص، 70000 كسر رقيم.‏

[2] كان يستنتج من المراجع السابقة أن أعمال التنقيب في ماري قد أسفرت على 25000 وثيقة مكتوبة بينما نلاحظ أن مدير الحفريات الجديد يذكر 15000 رقيم . راجع جان مارغرون: ماري، الحوليات الأثرية العربية السورية، المجلد 33آ، 1983: ص 340. إن رقم ماري الموجودة حالياً في المتحب الوطني بحلب ستنقل قريباً إلى متحف دير الزور الجديد.‏

[3] إن المصادر كانت، حتى الآن، تذكر أن هذا الموقع يقع على بعد حوالي عشرة كيلو مترات شمالي اللاذقية. إن هذا الرقم أصبح غير صحيح بعد التعديلات التي طرأت مؤخراً على الحدود الإدارية للمدينة. فقد أدت هذه التعديلات إلى امتداد اللاذقية شمالاً على طول الساحل حتى رأس ابن هاني (راجع كتابنا: «المختصر في تاريخ اللاذقية»، اللاذقية 1984: ص 58-60)، وهكذا صارت أوغاريت تقوم على مسافة ثلاثة كيلو مترات فقط من الطرف الشمالي الشرقي من المدينة، وبالتالي نستطيع أن نقول من الآن وصاعداً أن رأس الشمرة تقع على بعد ثلاثة كيلو مترات شرقي اللاذقية.‏

[4] إذا أردنا معرفة مدى الأهمية التي توليها الأوساط العلمية في العالم لاكتشافات رأس الشمرة، فيجب أن نعلم:‏

-إن المؤلفات والدراسات حولها تعد بالآلاف، انظر:‏

M. DIETRICH, O. LORETZ, P. R. BERGER, J. SANMAPTIN: UgaritBibliographie 1928-1966, 4 vol. Kevelaer 1973.‏

-إن مجلة علنية تصدر في مدينة مونستر بألمانيا منذ عام 1969 اسمها Ugarit-Forschungen وهي مخصصة بأكملها للبحوث الأوغاريتية، وإن نشرة عنوانها Ugaritc Studies تصدر عن جامعة كالغاري في كندا منذ سنة 1973 وتقدم لقرائها بانتظام لمحة موجزة عن آخر المطبوعات الصادرة حول رأس الشمرة.‏

-إن اللغة الأوغاريتية تدرس حالياً في عدد كبير من جامعات العالم، انظر النشرة السابق ذكرها، العدد 11، تشرين الأول 1976.‏

[5] حسب آخر جرد للوثائق المكتوبة المكتشفة في رأس الشمرة يبلغ عددها 2024 وثيقة منها ما هو محفوظ كاملاً ومنها ما هو ناقص ومنها ما هو عبارة عن كسر صغيرة. خلافاً لنصوص إيبلا وماري المنشورة كل منها في مجموعات متسلسلة منظمة، إن نصوص رأس الشمرة قد نشرت مع الأسف بشكل عشوائي في مؤلفات ومجلات مختلفة، إنما نذكر أن قسماً كبيراً منها قد نشر في كتاب:‏

A. HERDNER: Corpus des textes en cunéiformes alphabétiques de Ras Shamra, (1929-1939), Paris 1963.‏

وفي سلسلة «Palais Royal d’Ugarit» وفي مجموعة «Ugeritica» (المجلد الخامس والمجلد السابع).

[6] راجع مقالنا: «الحياة الثقافية والتعليم في أوغاريت» ضمن كتابنا: «أبحاث تاريخية وأثرية»، دمشق، 1987، ص 83-116.‏

[7] بالنسبة لكتبة أوغاريت راجع:‏

Jeen NOUGAYROL: Palais Royal d’Ugarit III, Paris 1955: p. XXXIV-XXXIX, W. J.‏
HORWiTZ: The Ugaritic Scribe, Ugarit-Forschungen 11, 1979: 389-394.‏

[8] نفضل استعمال هذه التسمية التي تشير إلى أهم مميزات هذه اللغات عوضاً عن التسمية الرائجة منذ سنة 1781، أي «اللغات السامية»، والتي سببت ولا تزال تسبب بعض الالتباسات. راجع:‏

H.FLEISCH: Introduction à I’étude des Iangues sémitiques. Paris 1947: 20-22‏.

[9] راجع:‏

F. RENGROE: Methological considerations regarding the use of Arabic in Ugaritic Philologv. Ugarit-Forschungen 18, 1986: 33-74.‏

[10] توصلنا إلى هذا الرقم استناداً إلى الفهارس المختلفة الموجودة في:‏

C. H, GORDON: Ugarit Textboox, Rome 1965: 347-522.‏

[11] Elias G. BITTAR: A Comparative Semitic Study (with special reference to Arabic, Hebrew and Syriac) of the Linguistic Features of the Ugaritic Texts. University of Wales 1982: 124-130, 140-153, 193-200.‏

انظر أيضاً جون هيلي: «الأوغاريتية ودراسات اللغات السامية»، مجلة المعرفة العدد 213، تشرين الثاني، ص 120.‏

[12] إن رقم الألفباء تحمل، حسب الترقيم المتبع في نصوص رأس الشمرة، الأرقام التالية:‏

RS 10.081, 12.63, 23.492, 24.288, 19.31, 15.71, 19.40, 24.281, 16.265, 20.148+21.69 20.164, 19.159.‏

وإن الرقيم الأول معروض في متحف اللوفر في باريس، أما الرقم الأحد عشر الباقية فهي موجودة في المتحف الوطني بدمشق وفي المتحف الوطني بحلب.‏

[13] النصوص الحورية منشورة في:‏

E. LAROCHE: “Les textes hourrites”, Palais Royal d’Ugarit III, Paris 1955. 325-385; “Documents en langue hourrite provenant de Ras Shamra” Ugaritica V, Paris 1968: 447-644.‏

[14] النصوص المكتوبة باللغة القبرصية المكتشفة في رأس الشمرة منشورة في:‏

E.MASSON: Cyprominoica G?teborg 1974: 34 et 38.‏

[15] بالنسبة إلى علاقة أوغاريت بمصر:‏

J. et E. LAGARCE: “Le chantier de la maison aux albàtres” Syria 51, 1974: 5-24; voir également C. SCHAEFFER: Ugaritica 3, Paris 1956: 164-178.‏

[16] بالنسبة للوثائق الحديثة، راجع:‏

E-LAROCHE: “Textes de Ras Shamra en langue hittite”, Ugarititca V, Paris 1968: 769-784; C, SCHAEFFER, Ugaritica III. Paris 1956: 1-96.‏

[17] راجع راوول فيتالي: «اللوحة الأوغاريتية ح/6. تفسير تنويطها الموسيقي»، الحوليات الأثرية العربية السورية، العدد 29-30، 1979-1980، ص73-77.‏

[18] راجع:‏

G. BOYER: La place d’Ugarit dans I’histoire de I’ancien Droit oriendans Palais Royal d’Ugarit III, Paris 1955: 283-306.‏

[19] لقد صدر حتى الآن عدد كبير من الترجمات لملاحم وأساطير رأس الشمرة إلى لغات أجنبية مختلفة، نكتفي هنا بذكر الترجمتين إلى اللغة العربية هما: نسيب وهيبة الخازن: «أوغاريت، أجيال، أديان، ملاحم»، بيروت 1961. وأنيس فريحة: «ملاحم وأساطير من أوغاريت (رأس الشمرة)»، بيروت 1980.


المراجع


1) مواقع إلكترونية.
2) دراسة للأستاذ سامر جورج عوض عن العلاّمة جبرائيل سعادة.
3) مقالة لمترجم مجموعة «وراء القضبان» القصصية بعنوان «جبرائيل سعادة قصاصاً».
4) مجلة التراث العربي، مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب، دمشق العدد 34، السنة التاسعة، كانون الثاني، 1989.

نبيل سلامة

اكتشف سورية