- مقدمة
- سيرة حياته
- والده
- والدته وإخوته
- نسبه
- طفولته
- نشأته وثقافته
- لقبه
- البدايات الوطنية الأولى
- سجنه الأول
- المرحلة الوطنية الأولى
- المرحلة الوطنية الثانية
- سجنه الثاني
- العودة إلى النضال الوطني
- فترة المنفى
- محاولة اغتياله
- تداعيات محاولة الاغتيال
- وفاته
- أبناؤه
- أعماله
- أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب
- الكيان الشعري عند بدوي الجبل
- أولاً- البعد السياسي
- ثانياً- البعد الصوفي
- على هامش الدراسة: نظرة حول ثنائية العقل والقلب في التجربة الصوفية
- ثالثاً- معنى الصحراء
- الأطلال
- الموت
- الازدواجية
- السراب
- الرحلة الروحية
- الغربة
- بدوي الجبل والمرأة
- بدوي الجبل والحداثة الشعرية
- ما قيل فيه
- مختارات من شعر بدوي الجبل
- المراجع
- مراجع هامة للدراسة الأدبية
مقدمة
قد يكون غريباً أن أبدأ في مقدمة عن الشاعر بدوي الجبل بالحديث عن ديانة الشنتو اليابانية، ذلك أنني أعثر لديهم على شيئين أساسيين، أولاً: الحس بالامتنان والالتزام، وثانياً: الحج الذي يقومون به لأسلافهم، ضارعين خاشعين، وكذلك الأمر لإمبراطورهم، وماضي أمتهم. كما أن الشنتوية ارتبطت بالروح الوطنية، فباتت الوطنية اليابانية، والشنتوية وجهين لعملة واحدة.
لاشك أن كل ديانة وكل حضارة وكل علم، لها رسالتها في العالم والكون، والإنسان المنفتح يحترم الآخر، والكل، ويصبح الكل معلّماً له في معراجه نحو الحقيقة.
إن روحاً مثل روح بدوي الجبل ترف في وجدان الوطن، بعد أن صدحت بأجمل الألحان والكلمات والقوافي السحرية، هذه الروح سكنت عميقاً في قلب الأمة، وكذلك روح سعد الله ونوس، وروح نزار قباني، وروح محمد الماغوط، وسواهم كثيرون من علماء وحكماء وقادة..!!
إن الشنتو تعلمني الحس بالامتنان والالتزام ليس لهؤلاء فحسب، بل للكون من خلال الوطن الذي أنا فيه، ومن خلال هذه الأرواح النبيلة.
وكما أن أتباع الشنتو يقومون بالحج للأسلاف ضارعين خاشعين، فإنني أتعلم القيام بحج روحي لهذه الأرواح التي أضاءت ليل الوطن كالنجوم المترامية على صفحة السماء، كل نجمة لها وميض، ونغمة سرية، وقبلة محبة وشوق تهديها للناس على هذا الأديم. وربما نحن الآن في حاجة أكثر من أي وقت مضى أن نتواصل مع روح مثل روح بدوي الجبل أو روح يوسف العظمة، وغيرهم الكثير، ممن عاصرونا، ممن سمعنا بهم، وممن لم نسمع بهم، علّهم يلهموننا كيف نتجاوز مرحلة قد تكون من أصعب المراحل التي تمر بها الأمة العربية، من تفتت وخصام ومآسٍ.!!
وكما أن الشنتو ترتبط بالروح الوطنية، أدرك جيداً أن العبادة تقوم على أديم هذا الوطن، فوطنيتي هي سجادة الصلاة التي أركع عليها خاشعاً ساجداً للإله الحي. وطنيتي هي التفاعل مع الحدث الذي يعصف بنا كل يوم وكل لحظة من خلال الصدق والحب والألم.
ربما، هذا ما بوسعي أن أتعلمه من رحلة بدوي الجبل في هذا الوطن الغالي.
إن بدوي الجبل قصة شعب، وقصة وطن على مذبح التاريخ..!!
سيرة حياته
اسمه محمد سليمان الأحمد، وُلِدَ في قرية «ديفة» في جبل اللكام، من جبال محافظة اللاذقية السورية. وترعرع في قرية «السلاّطة» قريباً من «القرداحة».
ويرجح الدارسون اعتبار سنة 1904 تاريخاً لولادته. والحال أن قيد نفوسه يشير إلى أنه من مواليد العام 1898. لكن البدوي يقول أن هذا التاريخ هو تاريخ ولادة أخ له توفي قبله ولم يرقّن قيده من السجل المدني، فلما وُلِدَ هو سُمِّيَ باسم المتوفي وحمل تاريخ ولادته.
والده
والده العلاّمة الشيخ سليمان الأحمد، وهو من مواليد 1868، وهو بالإضافة لكونه فقيهاً دينياً، وعالماً لغوياً، وعضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق، كان واحداً من كبار المصلحين التنويريين في جبال الساحل السوري. حيث عمل على نشر الوعي بضرورة العلم، ومحاربة الجهل والخرافات، وكان من أول الداعين إلى تعليم المرأة. وحين تولى منصب «قاضي القضاة» في تلك المنطقة، عمل على تنظيم المرجعية الفقهية لمنصبه ومحاربة النزعات الطائفية البغيضة. والشيخ سليمان الأحمد أيضاً شاعر، وشارح لشعر جدّه المتصوف الشهير «الحسن المكزون السنجاري»، وفيلسوف له مناقشاته وحواراته مع عدد من مفكري عصره العرب والأجانب، ومنهم المستشرق الشهير العلامة لويس ماسينيون الذي زاره في بيته في السلاّطة، وقد احتفت الأمة العربية بيوبيله الذهبي في مدينة اللاذقية عام 1938.
يذكر د. شاهر امرير عنه أنه حين بدا له أن الفرنسيين يخططون لتمزيق أواصر المسلمين بإصدارهم لفكرة "الظهير البربري" في المغرب عام 1925، وأنهم يخططون لتمزيق الوطن بنفس الطريقة، انتفض مغضباً في وجه الجنرال الفرنسي «بيوت»، وقال له: «سيادة الجنرال سواء عبدنا الحجر، أو عبدنا المدر، فليقيننا أن هذا هو ما جاء به "محمد بن عبد الله"، فلِشاكٍ أن يشك في صحة فهمنا، لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن لا مجال لأي شك في انتسابنا، واتباعنا له».
وقد تضمن حفل تأبينه بعد وفاته في العام 1942، كلمات وبرقيات من العديد من الشخصيات السياسية والأدبية والفكرية والدينية في سورية والوطن العربي، ومما قاله الرئيس الأسبق لسورية (هاشم الأتاسي) في رسالة تعزية للبدوي بوالده: «لقد أنجب الفقيد علماً من أعلام الأدب والوطنية في العالم العربي، أنشأه، وتعهّده بالروح السامية، والمبادئ القويمة، فأهدى به لأمته عبقرية فذة هي أجلّ الهدايا، وأثمنها، والولد سر أبيه».
والدته وإخوته
والدة البدوي «رائجة عجيب» تزوجها الشيخ سليمان وعمره خمسة وعشرون عاماً، أنجبت له عدة أولاد بقي منهم حياً بعد وفاتها، «سكينة» والصبي «محمد» الذي أصبح بدوي الجبل، وقد كان عمره عند وفاة أمه سنتين فعاش في كنف زوجة أبيه التي أنجبت كلاً من:
- فاطمة: وهي من الشاعرات الرائدات في سورية، نشرت قصائدها في الصحف السورية والعربية في العشرينات من القرن العشرين، واشتهرت في الحياة الأدبية باسم «فتاة غسان».
- د. علي: الذي درس الطب في فرنسا وزاوله منذ العام 1937، وحتى وفاته.
- آمنة: خريجة دار المعلمين.
- د. جمانة: وهي أول امرأة طبيبة في جبال الساحل السوري، وقد شغلت مناصب عديدة في وزارة الصحة.
- د. أحمد: أستاذ جامعي، وشاعر.
- سلمى: خريجة معهد التربية العالي بمصر، ومربية فاضلة.
- محمود: مجاز من كلية التجارة، وعمل مفتشاً بوزارة المالية حتى تقاعده.
نسبه
ينتهي نسب بدوي الجبل إلى «الحسن المكزون السنجاري» الشاعر، الأمير، المتصوّف، الذي يتصل نسبه بملوك اليمن القدماء.
ويذكر أ. طارق عريفي بدوره أن المتصوف الكبير «الحسن المكزون السنجاري» ينتمي في أصله إلى الغساسنة، فهو غساني من رجال القرن السابع الهجري، واشتهر بتصوفه وشعره في الغزل الإلهي. وقد كان قوم الأمير يسكنون جبل «سنجار» قبل أن ينتقلوا (في هجرتين متتاليتين تحت قيادة الأمير) إلى جبال الساحل السوري. ويذكر د. شاهر امرير أن الأمير جاء بحملة تقدر بخمسة وعشرين ألف مقاتل لإنقاذ مشايعيه من الاضطهاد، وذلك في حوالي العام 617 هـ (القرن الحادي عشر الميلادي) لكنه دُحِرَ، وهُزِمَ. ثمّ جاء بحملة أخرى مؤلفة من خمسين ألف مقاتل، تغلّب بهم على أخصامه، وسكن مدة في قرية «سيانو» ثم في قرية «متور» ومكن لأشياعه وأنصاره من المنطقة.
طفولته
يذكر الباحث ديب علي حسن عن الشاعر قوله: «عشت في قريتي حتى بلغت الحادية عشرة، ما كان أجمل قرى تلك الأيام! ما كان أروع منازلها المشرّعَة الأبواب، دون استئذان يقبل عليها الناس، ومنها يخرجون. كانت رمز الألفة والحرية، طفولتي سعيدة في كل الوجوه، أما جو منزلنا العلمي والأدبي، فإليه يرجع الفضل الأكبر في توجيهي نحو المناخات الشعرية. لكن، الله وحده يصنع الشعراء».
نشأته وثقافته
يذكر أ.طارق عريفي أن بيت الشاعر كان مدرسته الأولى التي تعلم فيها أصول الدين والأدب. «درج الصبي مع إخوته محاطين برعاية (والده) الشيخ (سليمان الأحمد) مبتدئين بحفظ القرآن الكريم، يتلقون عليه علوم اللغة، والدين. وأظهر الصبي ذكاءً خارقاً في الحفظ، ومقدرة فائقة على استيعاب ما يقرؤه فحفظ دواوين فحول الشعراء، وقرأ ما وقع في يديه من كتب التاريخ والأدب ورسائل البلغاء».
وفي حوار لمنير العكش مع البدوي يقول: «بدأت القراءة بالقرآن الكريم، ثم قرأت على أبي، برغبة منه الحديث الشريف، ونهج البلاغة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو غاية الغايات في البيان، والإيمان والفناء في الله. ثم قرأت على أبي بعد ذلك اللزوميات لأبي العلاء المعري. ثم قرأت عليه المتنبي وأبا تمام والبحتري والشريف الرضي ومهيار الديلمي والحماسة لأبي تمام».
كما يذكر أ.نبيل سليمان أن بدوي الجبل في حواره يضيف أنه قرأ على أبيه ديوان المكزون السنجاري عشرات المرات وأنه فضّله على ابن الفارض، وأنه لم يتأثر بالمنتجب العاني.
درس الابتدائية في الجبل، والإعدادية في اللاذقية، وعندما احتل الفرنسيون اللاذقية كان متصرّفها آنذاك الرجل العربي الكبير رشيد طليع فتوثقت بينه وبين الشيخ سليمان آصرة صداقة، فحث أباه على تعليمه. وكذلك كان موقف زوجة أبيه فبعث الشيخ ابنه إلى دمشق حيث أكمل دراسته في مدرسة عنبر، ويُقَال أنه هناك بدأ ينظم الشعر.
كما يذكر د.شاهر امرير عن قصة نظم الشعر لدى البدوي يقول: «لقد بدأ البدوي ينظم الشعر مبكراً، فكان يقدم كل يوم لوالده قصيدة، فينظر فيها الوالد، ويصلّحها، ويقوِّم من اعوجاجها، فالشعر كما يحتاج إلى الفطرة السليمة، يحتاج إلى الدربة حتى تستقيم الملكة، فلم تمض فترة طويلة حتى استقام الوزن، وأسلست اللغة، واستجابت الألفاظ، والقوافي، فإذا البدوي، وهو الشاب الصغير، شاعر، يكاد يُعَدّ من الفحول، عند هذا، ابتسم الوالد ابتسامة الرضى، والاعتزاز، وأمسك بالقصيدة الأخيرة للشاب، فربّت على كتفه، وقال له، والدموع تخنقه من الفرح: الآن أصبحت يا محمد شاعراً، فاذهب، وتغنّ بهذا الشعر، فسوف تكون شاعر البلاد العربية في مستقبل الأيام بإذن الله».
لقبه
كان البدوي في بداياته الشعرية، يرسل نتاجاته إلى صحيفة «ألف باء» ولم يكن مشهوراً، وحدث أن هزّ العالم آنذاك موت المناضل الإيرلندي ماك سويني محافظ مدينة كورك الذي قضى نحبه مضرباً عن الطعام لمدة أربعة وسبعين يوماً احتجاجاً على وجود الإنكليز في بلاده، وقد تأثر الشاعر بهذا الموقف، فكتب قصيدة «ماك سويني» وأرسلها للصحيفة المذكورة.
وقد تملكت الغرابة الشاعر عندما شاهد القصيدة منشورة ومذيّلَة بتوقيع «بدوي الجبل» فذهب إلى صاحبها معاتباً، إلا أن الأستاذ يوسف العيسى صاحب الجريدة الذي أطلق اللقب عليه قال له: «إن الناس يقرؤون للشعراء المعروفين، ولست منهم، وهذا التوقيع المستعار يحملهم على أن يقرؤوا الشعر للشعر، وأن يتساءلوا من ذا يكون هذا الشاعر المجيد؟ وأنت في ديباجتك بداوة، وأنت تلبس العباءة، وتعتمر العقال المقصب، وأنت ابن جبل، إذاً فأنت بدوي الجبل». هذا ما يرويه صديقه الأستاذ أكرم زعيتر، عن هذا اللقب الذي شاع فيما بعد في عالم الأدب والشعر.
البدايات الوطنية الأولى
يذكر الباحث ديب علي حسن عن البدوي قوله: «بانتقالي من القرية إلى المدينة، قفزت إلى الرجولة دفعة واحدة، بدأت حياتي السياسية، وأنا بعد في سن الحداثة، ولقد عبرت بي السنون مسرعة لم تترك في حياتي سوى ذكريات ضاعت ملامحها، وصرت أتجشّم الصعاب كلما حاولت استعادة شيء منها. غريبة هذه الحياة، تدهمنا كالعاصفة تسبقنا أحياناً، ونلهث، ونحن نركض وراءها».
كان نزول الفرنسيين على الساحل السوري في 15/11/1918 أي قبل احتلال دمشق بزهاء السنتين، وفي هذه الأثناء كان أن الملك فيصل عيّن رشيد طليع آنذاك وزيراً للداخلية، في حين أن ثورة الشيخ صالح العلي كانت في بدايتها، وصدرت إرادة ملكية بإرسال وفد حكومي إلى الشيخ صالح العلي للحديث حول أمور الثورة، فتألف الوفد من وزير الدفاع آنذاك يوسف العظمة، الذي استشهد في معركة ميسلون، وكان يرافقه نسيب حمزة أحد أقطاب الكتلة الوطنية بدمشق.
وقد نصح طليع الملك فيصل بأن يرسل فتى عنده مع الوفد، حيث أن لأبيه منزلة كبيرة لدى الشيخ صالح العلي، وأنه إذا ما رآه في رفقتهم سيسر به، ويأنس إليه. فوافق الملك فيصل وانضم البدوي إلى الوفد، فركبوا القطار إلى حماه، ثم نقلتهم عربة خيل إلى بيت الشيخ صالح.
ويروي بدوي الجبل ذكرياته عن تلك الرحلة قائلاً أن الأمن كان ضعيفاً، والمسافر يتعرض لمخاطر، ومنها عصابة فهد الشاكر، وبينما كانوا في الطريق تصدّت لهم العصابة، وأخذت بالسطو على ما في العربة، غير أن وجود فتى في مثل سنه بين أعضاء الوفد قد أثار دهشة اللصوص، وسألوه: أأنت حقاً ابن الشيخ سليمان الأحمد؟ فقال: نعم، فصرخ أحدهم مردداً اسمه، وقال: لن يحرسكم في الطريق إلى بيت الشيخ صالح العلي إلا وجود هذا الفتى بينكم، وأخلت العصابة لهم الطريق.
سجنه الأول
لازم بدوي الجبل الشيخ صالح العلي شهوراً، حتى كان استشهاد يوسف العظمة في معركة ميسلون الشهيرة 24/10/1920، واحتلال الفرنسيين لدمشق، فصدر أمر بتوقيف بدوي الجبل الذي تخفى حينذاك في دمشق في بيت البطريرك الشامخ الوطنية غريغوريوس حداد، الذي ظل متمسكاً ببيعة الملك فيصل، ثم يمّم شطر حماه هارباً من بطش الفرنسيين، وكان ذلك سيراً على الأقدام، وبقي فترة متخفياً عن الأنظار، إلى أن دل عليه أحد المتعاملين مع جيش الاحتلال، عندما كان يتزوّد من الهواء الطلق وأشعة الشمس، أمام المنزل الذي كان يتوارى فيه، وما هي إلا نصف ساعة حتى كان البيت مطوَّقاً، وسيق الشاعر مصفّداً حيث اعتقلوه في أحد خانات المدينة الرطبة، وقد عُذِّبَ، وضُرِبَ بالسياط، حتى أُدْمِيَتْ قدماه، وعوقِبَ بالحفر وتكسير الأحجار قبل أن يُنْقَل إلى سجن حمص، فسجن الديوان الحربي في بيروت حيث قضى ستة عشر شهراً، اقتيد بعدها إلى سجن قلعة أرواد فكان وربيع المنقاري أول من عرف هذا المعتقَل من الساسة الوطنيين السوريين. وقد وَشَمَ البدوي على ذراعه ذكرى ذلك بهذه العبارة «تذكار السجن الفرنسي».
ويذكر أ.طارق عريفي عن البدوي قوله: «وذات يوم زار قلعة أرواد حيث سُجِنتُ الحاكم العسكري لمدينة اللاذقية، وكان يُدْعَى الكولونيل نيجر فلما شاهدني – ولم أكن قد تجاوزت السادسة عشرة من عمري – قال: هذا خطأ، بل فضيحة كيف يُحْكَم على فتى في هذه السن بالسجن ثلاثين عاماً»، وهكذا أُطْلِقَ سراحُه وكان ذلك عام 1922.
المرحلة الوطنية الأولى
يبدو أن تجربة السجن كانت قاسية على البدوي، وهو غضّ الإهاب، وأن الاضطهاد قد أوهن جلده فجنح إلى مهادنة المحتل حيناً، ويذكر أ.نبيل سليمان أن الاستعمار الفرنسي أعلن تقسيمه لسورية، فأنشأ دويلات خاصة في الساحل السوري وشمال سورية وجنوبها، وقد انتُخِب بدوي الجبل في 25/4/1930 عضواً في المجلس التمثيلي (البرلمان) عن منطقته، وكذلك في انتخابات عام 9/3/1935. إلا أن نداء الوحدة كان صاخباً، وكانت هناك أقلية تطالب بتكريس الانفصال، إلا أن في رأس خصوم هذه الأقلية وقف زكي الأرسوزي الذي كان يتصدّر عصبة العمل القومي في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو أحد مؤسسي حزب البعث العربي بعد أقل من عقد، والذي أصبح منذ مطلع الخمسينيات حزب البعث العربي الاشتراكي. ولعل قصيدة البدوي «حياة أسير القيد بلا معنى» في العشرينيات إشارة إلى تقطيع الاستعمار لأوصال الوطن، وإلى النزوع الوحدوي في جبال الساحل السوري.
المرحلة الوطنية الثانية
يشير أ.نبيل سليمان إلى أن عودة الأجزاء المقسّمة إلى الوطن الأم (15/12/1936) قد أرّخت بداية المرحلة الوطنية الثانية عند بدوي الجبل.
ففي عام 1938 احتُفِلَ باليوبيل الذهبي لوالد الشاعر الشيخ سليمان الأحمد، الذي حضرته شخصيات من كامل أنحاء الوطن، من اللاذقية وحلب ودمشق وطرطوس، وأرسلت إليه القصائد من المغتربين العرب في كل مكان، ومنهم الشاعر الكبير زكي قنصل. وفي العام نفسه حضر البدوي في القاهرة المؤتمر البرلماني العربي من أجل فلسطين، بصفته نائباً في مجلس النواب السوري.
كما يذكر د.شاهر امرير إلى أنه حين نقض الفرنسيون بالعهد عام 1939، وخاسوا بالوعد فقوّضوا الحكم الوطني، وراحوا يغرون أبناء الوطن الواحد بالانفصال عن بعضهم، وتكوين دويلات لا قيمة لها، ظل البدوي يدافع عن الوحدة مع المدافعين، وأسقطَت الحرب الحصانة عن النوّاب فأيقن الشاعر أنه مستهدَف، ومطلوب، فقطع البادية هارباً إلى العراق حيث التحقت به أسرته.
وفي ملجئه البغدادي عمل الشاعر مدرساً في معهد المعلمين في بغداد. وبلغ نشاطه من أجل سورية حداً، جعل فرنسا تطالب بإخراجه من بغداد.
سجنه الثاني
حين اندلعت ثورة رشيد عالي الكيلاني في بغداد عام 1941، كانت لبدوي الجبل مشاركة فيها من الناحية الإعلامية، وبعد فشل هذه الثورة، عاد إلى اللاذقية، فاعتقله الفرنسيون، وزجوا به في قلعة كسب شمالي اللاذقية على الحدود السورية التركية، وأثناء اعتقاله هذا تُوُفِّيَ والده عام 1942، مما أثّر في نفسه أيّما تأثير. وحين وصلت القوات الإنكليزية والقوات الديغولية الفرنسية، نُقِلَ من معتقله إلى الإقامة الجبرية في منزله باللاذقية إلى أن أُطْلِقَ سراحه، وقد دامت فترة اعتقاله مدة ثمانية أشهر. وقد كانت قصيدته الأولى بعد إطلاق سراحه في ذكرى الزعيم التاريخي ابراهيم هنانو، وهي قصيدة «آلام».
العودة إلى النضال الوطني
يذكر أ.نبيل سليمان أن بدوي الجبل عاد إلى الحياة السياسية نائباً عن اللاذقية، في البرلمان الأول بعد إعلان الاستقلال عام 1943. وعندما صب الفرنسيون حممهم على دمشق عام 1945، تطوع بدوي الجبل مع نواب آخرين – منهم أكرم الحوراني – في الدرَك للدفاع عن البرلمان، كما ساهم في مقاومة العدوان الفرنسي على اللاذقية، وقرر الفرنسيون - فيما يروي رياض رويحه – اغتياله. لكن الأمواج هدأت به إلى أن أُعْلِنَ الاستقلال 17/4/1947، وعن هذا الحدث كتب قصيدته «جلونا الفاتحين»، ويذكر فيها بطلين من أبطال الاستقلال، وهما شكري القوتلي وسعد الله الجابري.
إلا أن سورية بدأت تشهد فترة من الانقلابات، وكان بدوي الجبل ضد هذه الانقلابات التي كان أولها انقلاب حسني الزعيم عام 1949 ثم انقلاب سامي الحناوي ثم أديب الشيشكلي. وكان البدوي مع الشرعية الدستورية والحياة البرلمانية.
وقد روى السيد أحمد الأحمد ابن الشاعر للأستاذ نبيل سليمان أنه إثر الانقلاب الذي قاده أديب الشيشكلي، شارك الشاعر في مؤتمر في حمص ضم ممثلين عن مختلف الأحزاب في تلك الفترة، وقد طالب المؤتمر بالانتخابات الحرة، فبدأت الاعتقالات، وقد طُلِبَ من محافظ اللاذقية آنذاك الأستاذ سعيد السيد اعتقال البدوي، لكن هذا الرجل بدلاً من اعتقاله، حمله بسيارته الحكومية إلى الحدود اللبنانية، فهرب البدوي إلى لبنان، وقد نقل عن الأستاذ سعيد قوله: «لا أريد أن يسجل علي التاريخ لعنة من لعناته باعتقالي مناضلاً كبيراًً».
أقام البدوي في لبنان حتى الإطاحة بالشيشكلي، وأثناء ذلك شارك في حفل تتويج الملك فيصل الثاني بقصيدة «يا وحشة الثأر». وكانت الحكومة العراقية تسعى لاستقطاب الزعماء السوريين، فمنحت بدوي الجبل وسام الاستحقاق، لكنه رفض الوسام، وعاد إلى سورية نهاية عهد الشيشكلي عام 1954.
يذكر د.شاهر امرير: «عُيِّنَ البدوي وزيراً بعد الشيشكلي في الوزارة التي لم تدم طويلاً، وتعرّض للاضطهاد من المكتب الثاني ذائع الصيت، بدعوى الاشتراك بمؤامرة عراقية ضد سورية، فهرب إلى لبنان مرة أخرى، وأفاد الأستاذ أحمد البدوي أن أخاه منيراً قد اعتُقِلَ من قبل المكتب الثاني (عبد الحميد السراج)، وعُذِّبَ بدعوى المؤامرة التي كان أحد عناصرها المقدم محمد معروف، وهو أحد أقربائهم، ولا علاقة للبدوي بها، وقد تشرّد البدوي بسببها ستة أعوام منذ 1956 حتى 1964.
فترة المنفى
أقام بدوي الجبل بادئ الأمر في بيروت خمس سنوات تقريباً، كان يشارك أثناءها في ندوة الخميس التي تنظمها مجلة «شعر»، ويروي د. شاهر امرير أن البدوي عاد إلى سورية أواخر عهد الانفصال (28/ايلول/1961)، وخرج بعد ثورة آذار (8/3/1963)، متنقلاً بين العديد من المدن الأوروبية، حتى استقر في جنيف، عاد بعدها إلى سورية بعد عفو صدر عام 1964.
ويذكر أ.نبيل سليمان أنه خلال إقامة البدوي في فيينا كتب قصيدته «البلبل الغريب» التي أثارت شفيق جبري الملقب بشاعر الشام، فكتب قصيدة «بلابل الدوح» فحياها البدوي بقصيدة «حنين الغريب». وكانت جنيف قد صارت مقامه، وسمى نفسه فيها بالأشعث الجوّاب واتخذه عنواناً لقصيدة من قصائده الصوفية.
محاولة اغتياله
يذكر أ.نبيل سليمان أنه عقب هزيمة 1967 كتب بدوي الجبل قصيدته «من وحي الهزيمة» فذاعت ذيوع قصيدة «إني لأشمت بالجبار»، وقد أساءت القصيدة التي وُصِفَت بـ«العاصفة» لمن أساءت من النظام الحاكم آنذاك، فتعرّض في 27/4/1968، وهو يمارس رياضته الصباحية إلى اعتداء جسدي، واختُطِفَ حتى 30/4/1968 حيث رُمِيَ في إحدى مشافي دمشق، فاقد الوعي، بعد أن أنقذه من الموت إنذارٌ صارمٌ للمختطفين، وجّهه وزير الدفاع آنئذ اللواء حافظ الأسد، فيما أشارت الأصابع إلى تدبير بعض الجهات للاعتداء.
بعد خمسة أيام من الغيبوبة، نجا الشاعر من الاعتداء الذي تعددت رواياته. ويذكر أ.نبيل سليمان أن السفير المصري في دمشق نقل له رغبة جمال عبد الناصر في استضافته في القاهرة، إلا أن الشاعر رد بأنه لا يقبل أن يقول التاريخ أنه هجاه ثم لجأ إليه. وفيما بعد، قيل أن مدبر الاغتيال قد انتحر.
تداعيات محاولة الاغتيال
يذكر أ.أكرم زعيتر أن الحادث قد أثر في بنية الشاعر، وتوافدت عليه الأمراض يبلّ منها حيناً، ويعاوده السقم حيناً، يعتمر بيروت يوماً، ويصطاف في بلودان أياماً، ثم بدا مرضه عياءً فلزم بيته بدمشق ولم ينقطع إخوانه عن عيادته.
وفاته
يقول أ.هاني الخيّر: «ظهر الثلاثاء الواقع في 18/8/1981 توقف قلب الشاعر الكبير بدوي الجبل إلى الأبد عن عمر يناهز الـ78 سنة».
«ها هو اليوم يعود إلى قريته الوديعة ليُدْفَن بجوار مقام والده، وعلى الطريق الطويل الموصل إلى قرية السلاطة خرج الرجال، والشيوخ، والنساء، والأطفال، لاستقبال جثمان بدوي الجبل، القادم من دمشق التي أحبته حتى الموت، ولم ينس الأهالي أن يرشوا على التابوت الزهور البرية، والرياحين».
أبناؤه
كان البدوي قد تزوج من زلفا، وأنجبت له ثلاثة أبناء وبنتاً أسماها جهينة، وتوفاها الله وهي عذراء في مقتبل العمر، وذلك في نهاية العقد الخامس من القرن الماضي ،1950 حين كانت في الجامعة السورية.
أما أبناؤه الشباب فهم الأستاذ أحمد والأستاذ عدنان والأستاذ منير. إلا أن نكد الدهر تواصل على بدوي الجبل، ففُجِعَ بابنه عدنان الذي تُوُفِّيَ عام 1967 عن اثنتين وثلاثين سنة. أما نجله منير فقد تُوُفِّيَ فيما بعد.
أعماله
صدر ديوانه الأول سنة 1925 وأطلق عليه اسم «البواكير» وأهدى الديوان إلى «الشهيد الراقد في ميسلون، إلى تلك الروح الكبيرة التي تمردت على العبودية وعلى الحياة». وكان هذا الإهداء كما يقول أ.هاني الخيّر سبباً كافياً لمصادرة الديوان، ولم يسلم منه إلا نسخ قليلة.
ويذكر أ.طارق عريفي: «كانت مقدمة الديوان مسطرة بأقلام أعضاء المجمع العلمي بدمشق، وعلى رأسهم الأستاذ محمد كرد علي، والأستاذ عبد القادر المغربي، والأستاذ خليل مردم بك الذي صاغ مقدمته للديوان شعراً».
وبعد ذلك صدرت الأعمال الكاملة، في بيروت عام 1979.
أما قصة صدور الأعمال الكاملة فيرويها الناقد جهاد فاضل، يقول: «قرأ بدوي الجبل مقالي عن دراسة الجندي لشعره، فلفت نظره ما ورد فيه خطأ: "صدر ديوان بدوي الجبل عن دار العودة في بيروت" فثارت ثائرته، إذ كيف يصدر ديوانه في بيروت دون علمه، ودون موافقته، وهو الذي كان يؤجل باستمرار صدوره لسبب أو لآخر؟ اتصلت أسرته بالمسؤولين في دمشق، فاتصل هؤلاء بقائد قوات الردع العربية في لبنان اللواء سامي الخطيب، بعدها اقتيد سعيد محمدية صاحب دار العودة إلى دمشق مخفوراً أو كالمخفور. وفي منزل بدوي الجبل شرح للشاعر ما التُبِسَ في مقال جهاد فاضل، وهو أن ما يعتزم نشره هو مجرد دراسة عنه وعن شعره كتبها علي الجندي مرفقة بعدد من قصائده لا أكثر، وأن غلاف الكتاب يشير إلى أنها دراسة وليست ديواناً. كانت دراسة علي الجندي ما تزال في المطبعة قيد الإعداد والتجليد، ولم تصدر بعد، فجرى الاتفاق بين الشاعر والناشر على عدم نشرها، ثم إصدار ديوان بدوي الجبل برعاية أكرم زعيتر صديق الشاعر، وهو مقيم إقامة دائمة في بيروت، وبإمكانه أن يتعهد عملية تصحيح النص وإجازته للنشر. وقد كتب أكرم زعيتر خلال ذلك مقدمته للديوان إلى أن صدر بعد ذلك، ونفدت طبعته الأولى خلال أسابيع قليلة».
أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب
إن خير ما يعبر عن أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب ما يقوله أدونيس فيه: «هل كتب وزناً؟ هل كتب نثراً، ما أشكاله؟ أسئلة تتراجع لتحل محلها أسئلة أخرى: ما الرسالة التي أعطاها؟ ما المعنى الذي أسسه؟ ما الأفق الذي افتتحه؟ ويكون الشاعر شاعراً بقدر ما يتيح لنا شعره الدخول إلى هذه اللجة، في هذا ما يؤسس عظمة بدوي الجبل. فأنت سواء أكنت شعرياً معه، أو ضده، لا تقدر إلا أن تشهد لدوره الكبير ومفارقته الإبداعية. لقد ختم تاريخاً شعرياً بكامله، وهو في الوقت نفسه، وبالقوة نفسها، يفتح للشعر العربي أن ينعطف، فيبدأ بنبض آخر، تاريخاً آخر».
وليس غريباً أن نسمع الدارسين لشعره يصرحون «الكلاسيكية الحية قد وقفت عند شاعرنا البدوي لا تجد بعده من يحملها وإليه انتهت».
أما ديوان بدوي الجبل، فهو قسمان: البواكير، وفيه واحد وثلاثون نصاً، أُنشِدَت ما بين عامي 1920، و1924، وما بعد البواكير، وفيه أربعة وستون نصاً.
الكيان الشعري عند بدوي الجبل
أولاً – البعد السياسي
لم يكن بدوي الجبل قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره حين شارك بالمرحلة الوطنية حيث كان يلقي قصائده الوطنية في النادي العربي، وكذلك هيأت له الأقدار أن يرافق الشهيدين يوسف العظمة، ورشيد طليع وغيرهما في رحلاتهم إلى جنوب سورية وشمالها وغربها، وفي تهيئة الفكر العام وتوجيهه وتقويته وتنظيمه في تلك المناطق وذلك في أدق المراحل التي كان يمر بها الوطن.
هكذا إذن، كانت الحياة السياسية التي دخلها البدوي باكراً هي بمثابة الرحم التي وُلِدَ منها الكيان الشعري لبدوي الجبل.
إن الكيان الشعري لبدوي الجبل لم يلقَ دراسة وافية حتى الآن، ففيه الموقف وهي الحياة السياسية وفيه المعاناة وهي التجربة الشعرية.
إن الهندسة المعمارية للقصيدة البدوية – نسبة لبدوي الجبل – تقوم على قاعدة، تشكل البناء «الأفقي» (المادي) للقصيدة، وهذه القاعدة، أي البناء الأفقي، يشكله موقف الشاعر، فالحياة السياسية التي عاشها كانت عبارة عن سلسلة من المواقف التي اتخذها إزاء الأحداث الجسام التي شهدها وطنه الأم.
أما البناء العمودي للقصيدة المعمارية البدوية، فقد تجلى في المعاناة، وهو البناء العمودي أو «الصوفي» أو «الملحمي» للقصيدة البدوية.
ونستطيع أن نلمح البعدين الأفقي والعمودي في البناء المعماري للقصيدة البدوية، من خلال استثارة الحس الوطني والسعي للأهداف القومية العليا وهذا هو «الموقف» وهذا كله أتى في صورة فنية لخواطره وهواجسه ونبضات فؤاده وهذه هي «المعاناة».
يقول خليل الحاوي: «وما كان البدوي في تلك الحقبة ميالاً إلى التغيير الوجودي والماورائي، ووطنه مكبل، والأحداث تتوالى عليه بالرق والكبت والتسيير وفعل الإرادات الأخرى الخارجية التي تمتطيه بكل عبودية، وتوشك أن تمحقه محقاً. ولقد كان فعل الوجود ذاته في تلك الحقبة فعلاً قومياً وطنياً، لأن وطنه كان رازحاً تحت وطأة الآخرين يمنعون عنه فعل الخلق والحرية».
فلنرَ «الموقف والمعاناة» في صلب القصيدة البدوية في هذه الأبيات التي نسمعه يقولها عندما احتل الفرنسيون الشام:
لئن خان عهد الغوطتين عصابةٌ ففي الجبل النائي لعصبة جِلَّقٍ أمينٌ على عهد الشآم كأنه رقدتُم وما نمنا غراراً على الأذى | رأوا بيعهم ربحاً، وألفيتُه غبنا من القوم خِدنٌ لم يَخُنْ في الهوى خِدنا يرى، وهو قيسُ الحبِّ في جِلَّقٍ لُبْنَى ودنتُم لأعداء الشآمِ، وما دِنّا |
لا تكذبُ الأممُ القوية، إنها ولتهنأ الأممُ القوية، إنها قالت، لقد بلغتكم أوطاركم | باسمِ الحضارة، ثقَّفَت خطّارَها قد أدركت، ممن تخادع ثارها وهي التي بلغت بنا أوطارها |
مُدُنُ القدسِ كالعذارى سَبَوْها كالسبايا لطَمْنَ خدّاً، ومزّقنَ ضجّ سوق الرقيقِ في ندوة القومِ يعرضون الشعوب عرضَ الجواري غيْرَةُ الله! أين قومي؟ وعهدي | وأرادوا لكل عذراء وغْدَا شفوف الحرير بُرْداً، فبُرْدا ونخّاسُه طغى، واستبدا عُرِّيَت للعيون نحراً، ونهدا بهم ينهدون للشرِّ نهْدا |
بيت العروبة حين أسجد قبلتي | لا طوره قصدي ولا عرفاته |
يا سامر الحي هل تعنيك شكوانا خلِّ العتاب دموعاً لا غناء بها آمنت بالحقد يذكي من عزائمنا ويل الشعوب التي لم تسق من دمها ترنح السوط في يمنى معذبها تغضي على الذل غفراناً لظالمها | رقّ الحديد وما رقوا لبلوانا وعاتب القوم أشلاء ونيرانا وأبعد الله إشفاقاً وتحنانا ثاراتها الحمر أحقاداً وأضغانا ريان من دمها المسفوح سكرانا تأنق الذل حتى صار غفرانا |
سمعت (باريس) تشكو زهو فاتحها والخيل في (المسجد المحزون جائلة) والآمنين أفاقوا، والقصور لظى | هلاّ تذكرتِ يا (باريس) شكوانا على المصلّين: أشياخاً وفتيانا تهوي بها النار بنياناً فبنيانا |
أفدي المخدَّرة الحسناء روَّعها تطوف بالقصر عدواً وهي باكية تجيل، والنوم ظلٌّ في محاجره فلا ترى غير أنقاضٍ مبعثرة | من الكرى قَدَرٌ يشتد عجلانا وتسحب الطيب أذيالاً وأردانا طرفاً تعهد هذه الأحلام وشنانا هَوَين فناً، وتاريخاً، وأزمانا |
إني لأشمت بالجبار يصرعه لعله تبعث الأقدار رحمته | باغٍ، ويوسعه ظلماً وعدوانا فيصبح الوحش في بُرْدَيْه إنسانا |
لقد ذكرنا قبل قليل أن البعد السياسي عند بدوي الجبل قد اتخذ أيضاً طابعاً ملحمياً، أشار إليه د.خليل الموسى، وذلك من خلال النزوع إلى القصائد المطوّلات مثل قصيدة «أين أين الرعيل من أهل بدر» في مئة وأربعة عشر بيتاً، وفي قصيدته «من وحي الهزيمة» وهي في مئة وخمسة وخمسين بيتاً.
يقول د.خليل الموسى: «إن الغضبة الملحمية لسبب داخلي تتجلى في قصيدة "من وحي الهزيمة" وهي تشكل غضبة عارمة لافتقاد البطل الملحمي الذي يقود الشعب من نصر إلى نصر، ولكن الحكام القائمين على الأمر والنهي هم الذين انهزموا في المواجهة في حزيران، وتركوا الشعب في السجون والأصفاد:
هُزِمَ الحاكمون، والشعبُ في الأصْــــــــــفادِ، فالحكمُ وحده المكسورُ هُزِمَ الحاكمون، لم يحزنِ الشعـْـــــــــــبُ عليهم، ولا انتخى الجمهورُ يستجيرون، والكريمُ لدى الغمْـــــــــــــــــــرةِ يلقى الردى ولا يستجيرُ |
كلُّ طاغٍ – مهما استبدّ – ضعيفٌ وهب الله بعضَ أسمائه للشَّــــــ | كلُّ شعبٍ – مهما استكان – قديرُ ـــــــــعبِ، فهو القديرُ، وهو الغفورُ |
ثانياً – البعد الصوفي
لاشك أن أبعاد التجربة الصوفية غير محدودة، وهي تتصل على نحو وثيق بكل تجارب الحياة، فمن الصعوبة بمكان أن نحدد أين تبدأ وأين تنتهي، فهي يمكن أن تتألق في لحظة كشف على خط النار في مواجهة حية مع الموت، ويمكن أن تتألق في نضال الإنسان العادي في معتركه اليومي من أجل لقمة العيش، حين تنبع من أعماقه صلاة تهتز لها الأكوان، أوَ لم يكن مولانا جلال الدين الرومي في السوق حين سمع ضربات المطارق النحاسية، فأخذ يرقص ويدور في نشوة واتحاد صوفي مع الأكوان في رحلتها في الأبدي؟!. وآخر، نعرفه جيداً هو الحلاج، أوَ لم يصرخ ذات يوم قائلاً: «ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا في الدم!!».
كنا ذكرنا أن الكيان الشعري عند بدوي الجبل يقوم على قاعدة أفقية هي «الموقف» وبناء عمودي هو «المعاناة» أي «تجربته الشعرية»، «تجربته الحياتية»، «تجربته الوجدانية».. فماذا نرى من الأثر الصوفي في كيانه الشعري ببعديه؟
نرى ذلك في موقفه الذي يشير إليه كثير من دارسيه تجاه العقل واختياره «القلب» مكان التجلي عند الصوفية، فالحكماء والروحانيون والصوفيون، لا بل حتى بعض الملهَمين في الثيوزوفية كالمؤسِّسة مدام بلافاتسكي (هذه الأخيرة تعتبر العقل هو الهادم الكبير، وعلى المريد أن يهدم الهادم.. في حين أن الآخرين يصرون على بلوغ حالة اللاعقل، وهي تعني الوعي والحضور..!!).
هذا الموقف يتردد أيضاً لدى المتصوف و العالِم الرياضي الشهير باسكال إذ يقول: «الله ومعنى الحياة يجب أن يشعر بهما القلب لا العقل، إن للقلب مبرراته التي لا يعرفها العقل، وخيراً نفعل إن أصغينا إلى قلوبنا، وإن وضعنا إيماننا في الوجدان». والتجربة الصوفية أعمق من شهادة الحواس أو حجج العقل.
في دراسة جميلة للأستاذ طارق عريفي عن التصوف في شعر بدوي الجبل يذكر هذه الأبيات:
ويا ربُّ قلبي ما علمتَ محبةٌ وآمنت حتى لا أروم لبانةً فررت إلى قلبي من العقل خائفاً تألّه عقل أنت يا رب صُغتَه وضاقت به الدنيا ففي كل مهجة تحداك حتى كاد يزعم أنه وحاول غزو النيربين فردّه وكفّ عنان العقل قسراً فربما | وعطرٌ ووهجٌ من سناك صميم تخـالف ما تختاره ويروم كما فر من عدوى المريض سليم وكاد يردُّ الميت وهو رميم هواجسُ من كفرانه وغمومُ شريك لجبار السماء قسيمُ عن الذروة العصماء وهو رجيم أُثير بإلحاحٍ السفيه حليمُ |
لم يضع في الظلام نورُك عن مَعدِنُ الخير والجمال المصفّى | قلبي فقلبي إلى سناك الدليلُ وجهُك الخيِّرُ الكريم الجميلُ |
ربِّ! نعماك أن تنضّر قلبي جوهرُ القلب وهو إبداع كفيك وبقلبي رضوانُ يهفو لمرآك | بمحياك فهو صادٍ محيلُ على ما به كريم أصيلُ وندى سريرتي جبريلُ |
أما باب القلب فلا يُفْتَح إلا بعد توبة صادقة تقوم على الخوف والذل والدموع، وهذا ما نراه عند شيخ العاشقين «ابن الفارض» في هيامه في الصحراء، وعند ابن قيم الجوزية في روضة المحبين عن المحبة أنها: «شجرة في القلب عروقها الذل للمحبوب، وساقها معرفته، وأغصانها خشيته، وورقها الحياء منه، وثمرتها طاعته». وكذلك نرى هذه الوقفة عند باب القلب عند مولانا جلال الدين الرومي حيث يرى باب الله باباً للغفران. وفي هذا يقول أ.عريفي: «ومادام باب الله هو باب الغفران فقد وقف مولانا أمامه عبداً وضيعاً، خاشعاً، باكياً، وليس له أمام مولاه شاهد على عشقه إلا ما به من ذل ودموع».
أما الشاعر بدوي الجبل فهو يظهر هذه الوقفة من خلال «الدموع»، ويُقال أن «الدموع» هي صلة الوصل بين الروح والجسد، والولادة من الروح تعبر عنها الدموع، ويُقال أن دموع التائب تمحو الخطايا وتفتح باب السماء.
يقول البدوي:
يــــا رب بـــابُك لا يردُّ الــــلائذيـــن به ارتيــــــابُ وإذا سُئلتُ عن الذنوب فـإن أدمعيَ الجـــــــوابُ هي في يميني حين أبسطها لرحمتك الكتابُ |
هواك عندي مقيمٌ في مواطنه أحبك الحب تأليهاً خلعت به | فإن تحوّل عن نعمائه اغتربا على تدلهي الإجلال والرهبا |
وحملت أسمالي إليك وشافعي فاسخر بإدلالي عليك وقل لها | لهوى فتاتك غربتي وعذابي ما شأن هذا الأشعث الجوابِ |
هل عند أنجمك الضواحك ما بي طَهَّرتُ آثامي البريئة في لظى فأدر علي سلاف ريقك واسقني وإذا كتبتُ على لماك فربما وَسّدْتك اليمنى لعلي في غدٍ ونعمتُ ألمح في جفونك رغبةً لا تغفُ تحلم بالنجوم فيرتمي | يا ليل إشراكي وصبح متابي قُبَلٍ كأحلام النعيم عذاب واسق النديم سلافة الأعناب سمح الحبيب برشفة الأعتاب أرِدُ الحسابَ ووجنتاك كتابي خجلى صريعة نشوةٍ ودعاب منها لرشف لماك ألف شهابِ |
يا نديمي لا تأس بالله واشرب وتمتّع بالنور إذ رُبَّ قومٍ | لذةُ العيش هذه الصهباء مُنع الكأس عنهم والضياء |
لا تسلها، فلن تجيب الطلولُ ألمغاويرُ مثخنٌ أو قتيلُ موحشاتٌ يطوف في صمتها الدهرُ، فللدهر وحشةٌ وذهولُ غاب عند الثرى أحباءُ قلبي فالثرى وحدَه الحبيب الخليلُ |
ذرتِ السنون الفاتحين كأنهم | رملٌ، تناوله مهبُّ رياحِ |
شبح الموت ما يخيف البرايا وجد الناس في كؤوسك سُمَّاً فاسقنيها قد طال صحوي ومكثي | من حتوف تعانق الأرواحا غير أني وجدت فيهن راحا وتمنيـتُ سكراً ورواحا |
عبدتُ فيها إلهَ الشمس منتقماً الليلُ يخلقُ فيها الحُورَ مُترَفَةً | ومعــذِّباً، وإله الليل رَحمانا وتخلق الشمسُ جِنَّاناً وغيلانا |
حنا السرابُ على قلبي يخادعه فكيف رُحتُ ولي علمٌ بباطله | بالوهم من نشوةِ السقيا، ويغريه أهوى السرابَ وأرجوه وأغليهِ؟ |
أدعو السرابَ إلى روحي، فقد حليتْ لهفي عليه أسيراً في يدَيْ قدرٍ | بها اللبانات ترضيه، وتغويه يميته كل يومٍ، ثم يحييه |
أنتِ السراب، ولكني على ظمأي محوتُ من قلبيَ الدنيا، فما سَلِمَت | بأنهرِ الخمرِ في الفردوس أفديهِ إلا طيوفُ هوانا وحدها فيه |
بنورٍ على أم القرى وبطيــبِ لثمتُ الثرى سبعاً وكحلت مقلتي وأمسكتُ قلبي لا يطير إلى منىً فيا مهجتي: وادي الأمين محمد هنا الكعبة الزهراء والوحي والشذا ويا مهجتي: بين الحطيم وزمزم وفي الكعبة الزهراء زينت لوعتي | غسلتُ فؤادي من أسى بلهيبِ بحسنٍ كأسرار السماء مهيبِ بأعبـائـــه من لهفةٍ ووجيب خصيبُ الهدى والزرعُ غير خصيبِ هنا النور فافني في هواه وذوبي تركتُ دموعي شافعاً لذنوبي وعطّرَ أبوابَ السماء نحيبي |
مواكبُ كالأمواج عجّ دعاؤها وردّدتِ الصحراء شرقاً ومغرباً تلاقوا عليها من غني ومعدم نظائرٌ فيها: بُردُهم بردُ محرمِ | ونار الضحى حمراء ذاتُ شبوبِ صدى نغمٍ من لوعةٍ ورتوبِ ومن صبيةٍ زُغب الجناحِ وشيبِ يضوعُ شذا: والقلبُ قلب منيب |
وبدّلتُ حسناً ضاحك الدلّ ناعماً ومن صحب الصحراء هام بعالمٍ وللفلك الأسمى فضول لسرها | بحسنٍ عنيفٍ في الرمال كثيبِ من السحر جني الطيوفِ رهيبِ ففي كل نجمٍ منه عينُ رقيبِ |
أشمُّ الرمال السمرَ في كل حفنةٍ على كل نجدٍ منه نفح ملائكٍ توحدتُ بالصحراء حتى مغيبها ومن هذه الصحراء صيغت سجيتي | من الرملِ: دنيا من هوىً وطُيوبِ وفي كل وادٍ منه سرُّ غيوبِ ومشهدها من مشهدي ومغيبي فكلُّ عجيب الدهر غير عجيبِ |
أرى بخيال السحب خطوَ محمد وسمرَ خيامٍ مزّق الصمت عندها وناراً على نجدٍ من الرمل أوقدت | على مُخصب من بيدها وجديبِ حماحم خيلٍ بُشِّرَت بركوبِ لنجدة محروم وغوثِ حريبِ |
وفاءٌ كمزن الغوطتين كريم وشعرٌ كآفاق السماء تبرجت تطوحني الأسفار شرقاً ومغرباً وأسمع نجواها على غير رؤيةٍ | وحبٌّ كنعماء الشآم قديم شموسٌ على أنغامه نجوم ولكن قلبي بالشآم مقيم كأني على طور الجلال كليمُ |
هتكت حجاب الصمت بيني وبينها حبست بها جنية معبديَّــةً | بشبابةٍ سكرى الحنين خلوبِ وفرّجت عن غمّائها بثقوبِ |
أحببتها ساحرة كالرؤى | مبهمة غامضة كالظنون |
شَقْراءُ يا لَوْنَ حُسْنٍ وَيَا جَمَالاً غَرِيباً لاَ وَسْمُ لَيْلايَ فِيهِ | مُحَبَّبٍ مُسْتَبِدِّ عَلى ظِبَاءِ مَعَدِّ وَلاَ مَلامِحُ هِنْدِي |
لاتبالي والخير في أن تبالي | الهجرُ لصدٍ أم لــدلال |
ضحكت وساءلني زملائي ماذا تريد الرئاسة مني فتهربت من الجواب. كنت أعرف ماذا حرك شيطان الشعر في صدر صديقي، أو من حركه. فتناولت قلمي ورحت أجيبه، وكتبت تحت البيت الأول هذه الأبيات:
لو تراها وأومضت مقلتاها أين لا أين عاشقٌ "بــدوي" قلت أودى بلبه ياســـــليمى كلنا في هــواك صبٌّ عميــدٌ | تسكب الشوق في ثنايا السؤال ملهم الروح عبقري الخصال خافـــق هام في فنـون الجمال مثل بدو السهول بــدو الجبال |
ما لسلمى بعد المشيب ومالي إن حب الجمال أصبح عندي كلما لاح بارق من سنــاه وأنا الظامىء القنوع كفاني أعشق الحسن نظرة وحناناً وأحب الجمال يلهمني السحـْـ | بدعة الحب صبوتي واكتهالي بعد شيبــي عبــادة للجمال جن قلبي وضلّ أي ضلال عن ورود الغدير ومضة آل ورؤى حالمٍ وطيف خيــال ــرُ وأهواه مشرّباً بالـدلال |
من نعمياتكِ لي ألفٌ منوّعةٌ | وكلّ واحدةٍ دنيا من النورِ |
وهذه القصيدة التي يمكننا الاستماع إليها بالصوت الساحر، لسفيرة العالم العربي واللغة العربية إلى النجوم، المطربة الكبيرة فيروز، تأخذ السامع أو القارئ إلى عوالم غريبة وصور من الخيال الذي يتجاوز الخيال، إنها اللغة الساحرة التي تتدفق كماء ينبوع ثر المياه دافئ المنهل، فينهل منها متعبو الأرواح والطامحون إلى تجاوز قيود هذا العالم، والغوص في أغواره الروحية، من حب وصداقة ونعيم العيش، كل ذلك من خلال العشق الصادق والحب العميق.
وفي هذه القصيدة تبدو قدرة البدوي اللغوية. ولطالما تساءل النقاد عن قدرته في إيراد الألفاظ الصعبة، فتبدو في سياق القصيدة سلسلة عذبة ومن ذلك قوله: «يا للطيوف الغريرات المعاطير»، إذ أن كلمة «المعاطير» الصعبة اللفظ والمبنى بحد ذاتها، ترد هنا دون أي صعوبة تذكر، رغم توالي الحروف العصية اللفظ فيها كالعين والطاء والراء.
كما تبدو قدرته التصويرية الهائلة في نقل القارئ إلى سياق مشهدي تتوالى فيه الصور، التي تحفز مخيلة القارئ، فهي صور ليست من هذا العالم، وعليه أن يرتقي إلى الحالة الشعورية التي تخلقها القصيدة، كي يعيش فيها ولها أجمل لحظات الإحساس والإبداع. وأظن أن هذه القصيدة أو مثيلاتها هي ما يتحدث عنه المخرج السينمائي السوري أسامة محمد، حين ينقل عنه الناقد السينمائي محمد الأحمد، في أنه تعلم عشق السينما من أبيات بدوي الجبل، ويرى أن قصائده تحتفي بمشهدية سينمائية عالية.
وربما دفعت هذه القصيدة بالذات بعض النقاد إلى إبداء وجهة نظر تقول، أن قارئ شعر البدوي، يحس بأن للكلمات ظلاً في قصائده، يسير معها، ويستثير القارئ في التعمق في أغوارها ومحاولة اكتناه معانيها العميقة.
بدوي الجبل والحداثة الشعرية
لا يمكن اعتبار بدوي الجبل شاعراً حداثوياً وفقاً لمعايير الحداثة المتعارف عليها اليوم، فهو شاعر كلاسيكي بامتياز، من حيث التزامه بعناصر الشعر العربي العمودي لغة ومحسناتٍ وبديعاً وأوزاناً وقوافيَ وروياً.
إلا أن شعر البدوي يتحدى مفاهيمنا الحداثوية من حيث جدّته الفكرية، وقدرته المذهلة على الوصول إلى جوهر المعنى ولب الفكرة، رغم القيود اللغوية التي يفرضنا الوزن، فإذا بالصورة أو الفكرة جلية واضحة دون زيادة أو نقصان، ودون تكلّف أو إضافة ليس لها معنى.
إن معالجة البدوي لموضوعات معاصرة، سواء في الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية أو العاطفية، يجعله ابن زمانه، يعبر عن أحاسيس عصره وطموحاته وأشجانه ومشاكله وأحلامه، ويستشرف رؤاه المستقبلية، مما يجعله شاعر حداثة وليس شاعر ماضوياً، فنظرته دائماً إلى المستقبل، حيث الابتكار والإبداع سيدا موقفه الفكري وأدواته الشعرية.
إلا أن البدوي لا يرى التحديث في شكل الشعر العربي، بل التجديد في الأفكار والصور والخيالات، والابتكار في استخدام الألفاظ ومطاوعة اللغة العربية والوزن الشعري، لتعالج موضوعات الحاضر والمستقبل، وتبدع في اقتراح الحلول وطرح المشكلات.
وليس أدل على ذلك من علاقة البدوي برواد الحداثة الشعرية في الشعر العربي، من أدونيس إلى محمد الماغوط وشوقي أبي شقرا ويوسف الخال وغيرهم، فقد احترمهم واحترموه، ونشر قصائده في مجلة «شعر» التي كانت الناطقة باسم هذه المجموعة من الأدباء، ورأى فيهم شعراء ابتعدوا عن جادة الشعر، وتمنى لو أنهم رجعوا إليها، ومن ذلك ما يقال أنه كان يرى في أدونيس شاعراً عبقرياً ضلّ الطريق، في إشارة إلى رغبته في أن يكتب أدونيس الشعر الموزون المقفى.
بدوي الجبل مع أركان مجلة «شعر» |
ُأُطلُّ على الدنيا عزيزاً أضمّني وما حاجتي للنور والنور كامنٌ وما حاجتي للأفق ضحيانَ مشرقاً وما حاجتي للكائنات بأسرها وأشقى إذا أعرضتُ عمّن أُحبُّهُ ونفسي لو أنّ الجمرَ مسَّ إباءَها | إليه ظلام السجن أم ضمّني القصرُ بنفسيَ، لا ظلٌ عليه ولا سترُ ونفسي الضحى والأفق والشمس والبدرُ وفي نفسيَ الدنيا وفي نفسيَ الدهرُ ولكن دواء الكبرِ عندي هو الكِبْرُ على بشرها الريّان لاحترق الجمْرُ |
ابتهالات
مهداة إلى قبور حبيبه في /بغداد وحلب وحمص واللاذقية/
لا الغُوطَتانِ ولا الشبابُ أَدْعُو هَوايَ فَلا أُجَابُ أَيْنَ الشَّآمُ مِنَ البُحَيْرَةِ والمَآذِنُ والقِبَابُ وَقُبورُ إخْواني وَمَا أَبْقى مِنَ السَّيْفِ الضِرابُ الصامِتاتُ وللطُيورِ على مَشارِفِها اصْطِخَابُ الغافِياتُ فَلَم تَرُعْ مِنْها الزَماجِرُ والوِثَابُ أَشْتاقُ أَحْضُنُهَا وأَلْثِمُهَا وللدَمْعِ انْسِكابُ تَحنو الدموعُ على القُبُورِ فَتُورِقُ الصُمُّ الصِلابُ ولها إلينا لَهْفَةٌ ولطُولِ غُرْبَتِنَا انْتِحَابُ يا شامُ: يا لِدَةَ الخُلودِ وَضَمَّ مَجْدَكُما انْتِسَابُ مَنْ لي بِنَزْرٍ مِنْ ثَراكِ وقد أَلَحَّ بِيَ اغْتِرَابُ فَأَشُمُّهُ وكأنَّهُ لَعَسُ النَواهِدِ والمَلابُ وَأَضُمُّهُ فَتَرى الجَواهِرُ كَيْفَ يُكْتَنَزُ التُرَابُ هَذا الأديمُ شَمائِلٌ غُرٌّ وأَحْلامٌ عِذابُ وَأُمُومَةٌ وطُفولةٌ وَرُؤى كما عَبَرَ الشِهَابُ وتحِيَّةٌ مِسْكِيِّةٌ مِنْ سَالِفينَ هَوَوْا وَغابُوا وَمِنَ الأُبُوَّةِ والجُدودِ لأهْلِ وُدِّهِمُ خِطَابُ هَذا الأدِيمُ أبِي وأُمِّي والبِدايَةُ والمَآبُ وَوَسائِدي وَقَلائِدي وَدُمَى الطُفولَةِ والسِخَابُ وَدَدٌ يُبَاعُ لَهُ الوَقارُ وَلا نَدامَةَ والصَوابُ أَغْلى عَلَيَّ مِنَ النُجومِ ولا أُلاَمُ ولا أُعَابُ الرُوحُ مِنْ غَيْبِ السَمَاءِ وَمِنْكِ قَدْ نُسِجَ الإهَابُ أشْتَاقُ شَمْسَكِ والضُحَى أنَا والبُحَيْرَةُ والضَبَابُ وَمُضَفَّراتٌ بالثُلوجِ كأنَّما نَصَلَ الخِضَابُ تَعْوِي الرِياحُ فما القَساوِرُ في الفَلاةِ وما الذِئابُ والثَلْجُ جُنَّ فَلَمْ تَبِنْ سُبُلٌ وَلَمْ تُعْرَفْ شِعَابُ أَخْفَى المَعَالِمَ لا السُفوحُ هِيَ السُفُوحُ ولا الهِضَابُ يا شَمْسُ غِبْتِ فَكَيْفَ تَمَّ – ولا طُلُوعَ لَكِ – الغِيَابُ إِنْ كُنْتِ مُسْلِمَةَ الهَوى فَتألَّقِي رُفِعَ الحِجَابُ مَلَّ السَحابُ مِنَ السَماءِ وَقَرَّ في الأرْضِ السَحابُ وكأنَّ مِلْءَ الأرْضِ مِلْءَ الأُفْقِ آلِهَةٌ غِضَابُ حُسْنٌ يُهَابُ وما سَمَا حُسْنٌ يُحَبُّ ولا يُهَابُ * دَوْحَ البُحَيْرَةِ أيْنَ سامِرُكَ المُعَطَّرُ والشَرَابُ والرَاقِصُونَ وَنوْا فَحِينَ دَعاهُمُ النَغَمُ، اسْتَجَابُوا والقَاطِفُونَ شِفاهُهُمْ كَوُرودِهِمْ حُمْرُ رِطَابُ ثَغْرٌ على ثَغْرٍ، تَسَرَّبَ فِيه، فاخْتَلَطَ الرُضَابُ قُبَلٌ، أغاريدُ الشِفاهِ فَتُسْتَعادُ وَتُسْتَطابُ وَتَكادُ تُقْطَفُ كالريَاحينِ المَجَانَةُ والدُعَابُ أهِيَ العُقُودُ على الرِقابِ بل المَعاصِمُ والرِقابُ بَيْنِي وبَيْنَ الدَوْحِ في أَحْزَانِهِ النَسَبُ القُرابُ مِنْ كُلِّ مُوحِشَةٍ فَأيْنَ الطِيْبُ والوَهَجُ المُذَابُ وَغَداً يَعُودُ لَكَ الشَبابُ وَلَنْ يَعُودَ ليَ الشَبابُ أَلدَّهْرُ مِلْكُ يَمِينِهِ والشَمْسُ مِنْ يُسْراهُ قَابُ طَابَتْ سُلافَتُهُ تُدارُ على سُكَارَاها وطَابُوا لَهْفِي عَلَيْهِ فَطَالَما أَشْقَاهُ لَوْمٌ واغْتِيابُ نَعِمَ المَلائِكُ بالشَبابِ فَما لِنِعْمَتِهِ اسْتِلابُ وَيَزُورُنا لَمعُ البُروقِ فما لِلامِعِهِ اصْطِحَابُ والعُمْرُ أيَّامٌ قَدِ اخْتُصِرَتْ وآمَالٌ رِحَابُ لَيْتَ المَلائِكَ يُشْفِقُونَ على الأُلى عَبَثُوا وخَابُوا قَدَرٌ تَعجَّلَ أَن نُعاقَبَ مُؤمِنينَ وأَنْ يُثابُوا عُدْ يا شَبابُ ولن أُطامِنَ مِنْ جِماحِكَ يا شَبابُ * فِي غُرْبَةٍ أَنَا والإبَاءُ المُرُّ والأدَبُ الُلبَابُ كالسَيْفِ حَلَّتْهُ الفُتُوحُ وَرُبَّما بَلِيَ القِرَابُ طَوْدٌ أَشَمُّ فَكَيْفَ تَرْشُقُني السِهامُ ولا أُصَابُ يَخْفَى البُغَاثُ فَلا تُلِمُّ بِهِ ولا يَخْفى العُقَابُ الكِبْرُ عِنْدي للعَظيمِ إذا تَكَبَّرَ لا العِتَابُ عِنْدي لَهُ زُهْدٌ يُدِلُّ على الكَواكِبِ واجْتِنابُ يَزْهُو الكَرِيمُ وَقَلْبُهُ قِطَعٌ تمزِّقُهَا الحِرَابُ أغْلَى المروءَةِ شِيمَةٌ طُبِعَتْ وأرْخَصها اكْتِسابُ * أنَا ما عَتَبْتُ على الصِحابِ فليس في الدُنيا صِحَابُ خُرْسٌ ولكنْ قَدْ تَفَاصَحَتِ الخَواتِمُ والثِيابُ عَقِمَتْ مُروءتُهُم وَتَطْمَعُ أَنْ يُدَغْدِغَها احْتِلابُ وَأَعِفُّ عَنْ سَبِّ اللئيمِ وَرُبَّما نَبُلَ السِبَابُ حَيَّا فَبِشْرُ سَلامِهِ نَزْرٌ وَبَسْمَتُهُ اغْتِصَابُ يا مَنْ يَمُنُّ بِوُدِّهِ والشَهْدُ، حِينَ يمُنُّ – صَابُ أَنَا كالمُسافِرِ لاحَ لي أَيْكٌ وأَغْرَتْنِي قِبَابُ وَتَفَتَّحَتْ حَوْلِي الرِياضُ الخُضْرُ واصْطَفَقَ العُبَابُ وَوَثقْتُ أنَّ النَهْرَ مِلْكُ يَدِي فَفَاجَأنِي السَرَابُ * أَنَا لا أُرَجِّي غَيْرَ جَبَّارِ السَماءِ وَلا أَهَابُ بَيْنِي وَبَيْنَ اللهِ مِنْ ثِقَتِي بِلُطْفِ اللهِ بَابُ أبَداً أَلُوذُ بِهِ وَتَعْرِفُنِي الأَرائِكُ والرِحَابُ لِي عِنْدَهُ مِنْ أَدْمُعي كَنْزٌ تَضِيقُ بِهِ العِيَابُ * يا رَبُّ: بَابُكَ لا يَرُدُّ اللائِذينَ بِهِ حِجَابُ مِفْتَاحُهُ بِيدي يَقِينٌ لا يُلِمُّ بِهِ ارْتِيَابُ وَمَحَبَّةٌ لَكَ لا تُكَدَّرُ بالرِيَاءِ ولا تُشَابُ وَعِبادَةٌ لا الحَشْرُ أَمْلاهَا عَليَّ ولا الحِسَابُ وإذا سَأَلْتَ عنِ الذُنُوبِ فَإنَّ أَدْمُعِي الجَوَابُ هِيَ في يَميني حِينَ أَبْسُطُهَا لِرَحْمتِكَ الكِتَابُ إنّي لأَغبِطُ عاكِفِينَ على الذُنوبِ وما أَنَابُوا لوْ لَمْ يَكُونوا واثِقينَ بِعَفْوِكَ الهَانِي لَتابُوا مِنْهُمْ غَداً لِكُنوزِ رَحْمتِكَ اخْتِطَافٌ وانْتِهَابُ وَلَهُمْ غَداً بِيَقِينِهمْ مِنْ فَيءِ سِدْرَتِكَ اقْتِرابُ وَسَقَيْتُ جَنَّتَكَ الدموعَ فَروَّتِ النُطَفُ العِذَابُ وسَكَبْتُ في نِيرانِكَ العَبَراتِ فابْتَرَدَ العَذَابُ تَنْهَلُّ في عَدْنٍ فَنَوَّرَ كَوْكَبٌ وَنَمَتْ كَعَابُ قَرَّبْتُها زُلْفَى هَواكَ فلا الثَوابُ ولا العِقَابُ أَنْتَ المُرَجَّى لا تُنَاخُ بِغَيْرِ سَاحَتِكَ الرِكَابُ الأُفْقُ كَأْسُكَ والنُجومُ الطافِيَاتُ بِهِ حَبَابُ أنا مِنْ بِحارِكَ قَطْرَةٌ مِمَّا تَحَمَّلَهُ الرَبَابُ أَلْقَى بِها بَعْدَ السِفَارِ فَضَمَّها قَفْرٌ يَبَابُ ألْبَحْرُ غَايَتُها فَلا وادٍ يَصُدُّ ولا عُقَابُ يا دَمْعَةَ المُزْنِ اغتَربْتِ وَشَطَّ أهْلُكِ والجَنَابُ حُثِّي خُطاكِ فلِلْفُروعِ إلى أَرُومَتِها انْجِذابُ حُثِّي خُطاكِ فَشاهِقٌ يُرْقَى وَمُوحِشَةٌ تُجَابُ ألْبَحْرُ مَعْدِنُكِ الأصيلُ وَشَوْق رَوْحِكِ والحُبَابُ وَغداً لِلُجَّتِهِ وإنْ بَعُدَتْ يَتِمُّ لَكِ انْسِيَابُ * أَنَا لا أُطِيلُ إذَا ابْتَهَلْتُ وقد تَحَدَّتْنِي الصِعَابُ لا أشْتَكِي وَبِمُهْجَتِي ظُفُرٌ يُمَزِّقُها وَنَابُ مَسَحَ الحَيَاءُ على الدُموعِ وأَكْرَمَ الشَكْوى اقْتِضَابُ تَكْفِي بِبَابِكَ وَقْفَةٌ وأَسىً تَجَمَّلَ واكْتِئَابُ * يا شَامُ عِطْرُ سَرِيرتي حُبٌّ لِجَمْرَتِهِ التِهَابُ أَنْتِ اللُبَانَةُ في الجَوانِحِ لا النَوارُ ولا الرَبابُ لَكِ مُهْجَتِي وَقَبُولُها مِنْكِ الهَدِيَّةُ والثَوَابُ والنُورُ في عَيْنِي وَلا مَنٌّ عَلَيْكِ وَلا كِذَابُ أنَا مَنْ عَرَفْتِ: تَجَلُّدٌ زَخَمَ النَوائِبَ واحْتِسَابُ وَلَئِنْ عَثَرْتُ فَرُبَّما عَثَرَتْ مُجَلِّيَةٌ عِرَابُ يَعْيَا بِحَقِّك مَنْ يُسَوِّفُهُ ولا يَعْيَا الطِلاَبُ غَالَبْتُ أَشْواقِي إِلَيْكِ وَيُضْرِمُ الشَوْقَ الغِلاَبُ وَوَدِدْتُ لوْ عَمَرَتْ رُباكِ وألْفُ عامِرَةٍ خَرَابُ أنا طَيْرُكِ الشادِي وللأنْغَامِ مِنْ كَبِدِي انْسِرَابُ سُكِبَتْ أَغارِيدي وللأمْواجِ زَأْرٌ واحترابُ فَصَغَتْ لِتَسْمَعَها الرِياحُ وَقَرَّ في المَوْجِ اضْطِرابُ أَنَا والرَبِيعُ مُشَرَّدَانِ وللشَذَا مَعَنَا ذَهَابُ لا الأيْكُ بَعْدَ غِيَابِنَا غَرِدُ الطُيوبِ ولا الرَبَابُ والنُورُ يَسْأَلُ والخَمائِلُ والجَمَالُ مَتَى الإيَابُ؟ |
الدمية المحطمة
أيَا دُمْيَةً أَنْشَأْتُها وَعَبَدْتُهَا سَكَبْتُ بِها رُوحي وأَهْواءَ صَبْوَتي جَمَعْتُ بها الدُنْيَا فكانَت سُلافَتِي وَنامَت على الحُلْمِ المُريحِ بِمُقْلَتِي *** وَيا دُمْيةً أَنْشأتُها ثُمَّ حَطَّمَت جَمَالكِ مِنْ سِحْري وعِطرُكِ مِنْ دَمِي وثَغْرُكِ مِنْ حَاني فَيَا لِمُنَمْنَمٍ أَلَمَّ بِهِ إثْمي فَنَدَّاهُ بالمُنى خَلَقْتُكِ مِنْ أهْواءِ نَفْسِي وَنَوَّعَتْ فَمَا يُشْتَهى خَدَّاكِ إلا لأنَّني وما أَسْكَرَتْ عَيْنَاكِ إلا لأنَّنِي *** أَيُنْكِرُني حُسْنٌ خَلَقْتُ فُتونَهُ وتُنْكِرُني: يا غَضْبَةَ الشِعْرِ والهَوَى *** رَدَدْتُكِ للطينِ الوَضيعِ وما حَنا وفارَقْتُ إذ فارَقْتُكِ الطينَ وَحْدَهُ | كما عَبَدَ الغَاوُونَ مَنْحُوتَ أحْجارِ وأَلْوانَ أحْلامِي وبِدْعَةَ أطْوارِي وكأسِي ونُدماني وأهْلي وسُمَّارِي وَهَدْهَدَها عِطْري وحُبّي وإيثارِي يَدايَ الذي أنشَأْتُ تَحْطِيمَ جَبَّارِ وفِتْنَتُكِ الكبرى خَيالي وأشْعارِي نَدِيٍّ بأنفاسِ الرياحينِ مِعْطارِ وَمَرَّ بِهِ وَهْناً فَطَيَّبَهُ عَارِي بِكِ الحُسْنَ أهْوائِي وحُبّي وأوْطارِي تَرَكْتُ على خَدَّيْكِ إثْمِي وأوْزاري سَكَبْتُ بِجَفْنَيْكِ الغَوِيَّيْنِ أسْرارِي فَيَخْنُقُني عِطْري وتَحْرِقُني ناري ويا غَضْبَةَ الدُنْيَا ويا غَضْبَةَ البَارِي على رَوْضِكِ الهاني هُبوبي وإعْصاري وعادَتْ إلى نَفْسِي عُطوري وأنْواري |
شقراء
هَدْهِدْ هُمومَكَ عِنْدِي | عَلى حَيَائِي وَصَدِّي نُعْمَى هَوايَ وَوَجْدِي وَهَلْ لَدَيْهِنَّ شَهْدِي مِنْ شِعْرِ رَبِّك خَدِّي ومِنْ قَوَافِيهِ وَرْدِي يُعِيدُ فِيَّ وَيُبْدِي يَا حَسْرَةَ الشِعْرِ بَعْدِي! ثَغْرِي وَنَمْنَم عِقْدِي وَجَفْنُهُ كَانَ مَهْدِي دُمَىً لِلَهْوِي وَعَدِّي وَكُلُّ زَهْوٍ وَمَجْدِ عَلَيَّ عَاصِفُ حِقْدِ لِشَقْوَتي بَلْ لِسَعْدِي وَرَاحَ يَبْكِي لِبُعْدِي مِنْ أَلْفِ جَنَّةِ خُلْدِ قَارُورةُ العِطْرِ نَهْدِي وَيَجْتَلِي وَيُفَدِّي وَحَنَّ جِيدِي لِزَنْدِي يَوَدُّ لَوْ لَفَّ قَدِّي أنْ أَسْفَحَ العِطْرَ وَحْدِي ضُحَى بِخَدِّي وَبُرْدِي بأشْقَرِ النُورِ جَعْدِ مَخْمُورِ وَهْجٍ وَوَقْدِ أحْلَى مِنَ الوَصْلِ وَعْدِي طُيُوبُ خَمْرٍ وَنَدِّ أريدُ حُلْماً لِسُهْدِي وَأَنْتَ وَحْدَكَ نِدِّي تُرِيدُ مِنْكَ التَحَدِّي مُحَبَّبٍ مُسْتَبِدِّ عَلى ظِبَاءِ مَعَدِّ وَلاَ مَلامِحُ هِنْدِي بالعَقِيقِ وَنَجْدِ وَعِنْدَ عَيْنَيْكِ وِرْدِي وَفِتْنَةً بَعْدَ رُشْدِي بَعْدَ يَأْسٍ وَزُهْدِ وَهَوْلُ أَخْذٍ وَرَدِّ عُنْفُ العَدُوِّ الأَلَدِّ فَتْحٌ يُبِيدُ وَيُرْدِي وَطَيُّ بَنْدٍ بِبَنْدِ لَكِنَّهُ حُكْمُ فَرْدِ كُلَّهَا واسْتعِدِّي |
المراجع
1) التصوف في شعر بدوي الجبل، تأليف: طارق عريفي – رسالة ماجستير.
2) الموقف والمعاناة في شعر بدوي الجبل، تأليف: شاهر شريف امرير.
3) بدوي الجبل وإخاء أربعين سنة، تأليف: أكرم زعيتر.
4) بدوي الجبل بين السياسة والأدب، تأليف: ديب علي حسن.
5) وقائع الندوة العربية عن الشاعر العربي الكبير بدوي الجبل، إعداد وجمع: أ.نزيه الخوري.
6) بدوي الجبل عملاق الكلاسيكية المعاصرة، إعداد ودراسة: هاني الخير.
7) القديس سلوان الآثوسي، تأليف: سخاروف، ترجمة: الأم مريم (زكا).
8) قوة الرغبة وحكمتها، تأليف: د.بول شوشار، ترجمة: محمد أحمد ابراهيم.
9) أدونيس: حوار مع مجلة عيون.
10) لقاء مع شوقي أبي شقرا أجراه يقظان التقي لمجلة المستقبل.
11) ديب علي حسن: مئة عام على ولادته. بدوي الجبل شاعرالعروبة والنزعة الإنسانية. الثورة 17/8/2005.
12) نبيل سليمان: وأخيراً.. بدوي الجبل. جريدة الحياة.
13) لقاء مع الناقد السينمائي محمد الأحمد، الموقع الإلكتروني لمطبوعة المدى.
14) لقاء مع عبد السلام العجيلي، أجراه فيصل عمران.
15) أبيّ حسن: أيها الأدباء، جريدة النور، العدد 249.
16) حوار مع ممدوح عدوان: أجراه أنور بدر، جريدة القدس العربي 13/5/2004.
17) أوراق خاصة.
18) مواقع إلكترونية.
مراجع هامة للدراسة الأدبية:
1) لغة الشعر عند بدوي الجبل.
تأليف: عصام شرتح – رسالة ماجيستير.
وهي دراسة مميزة يتوِّجها بمصطلح نقدي جديد للغة الشعر وهو ما يُسَمَّى «التناص» وأشكاله في شعر البدوي. وإن دراسة التناص في شعر البدوي له دور بارز في الكشف عن بنية لغته الشعرية، ومدى تمثلها للتراث، وملامحه وأشكاله تبدو في التاريخ أولاً مثل قصيدة «كافور» أو «فرعون»، والموروث الديني ثانياً من خلال تأثره بالقرآن الكريم، والتصوف ثالثاً، والموروث الأدبي رابعاً، كالتناص مع الشعر الجاهلي، والتناص مع الشعر العباسي والأندلسي، والتناص مع بعض أشعار المعاصرين. والخلوص أخيراً إلى أن القراءة التحليلية في نصوص البدوي أظهرت وجود خيوط داخلة عليه من نصوص أخرى إلا أنه استطاع أن يوظفها بما ينسجم ويتلاءم وتجربته الشعرية. وقد بيّنت الدراسة أن التناص عند شاعرنا لم يقتصر على عصر دون آخر، وإنما كان متمثلاً لمعظم العصور وللأطوار الشعرية. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على انفساح في الرؤية، وإحاطة واعية بمعطيات التاريخ وتمثّل التراث.
2) الصورة الفنية في شعر بدوي الجبل.
تأليف: تيسير جريكوس – رسالة ماجيستير.
وهي دراسة جميلة يتناول فيها تطور مفهوم الصورة الفنية، وتعريفها، ودور المؤثرات العامة في الصورة الفنية في شعر بدوي الجبل كالبيئة المكانية، والبيئة الاجتماعية. وكذلك يتناول مواد الصورة، من واقع وفكر وعاطفة ولاشعور وخيال ليبين كيف تتداخل هذه العناصر فيما بينها ضمن تركيبة الصورة الفنية في شعر بدوي الجبل. وكذلك يتحدث عن أدوات الصورة عند بدوي الجبل كالوسائل البلاغية (تشبيه، استعارة، كناية) والثنائيات اللغوية، والرمز والأسطورة، والتشكيل الصوتي. أما الدراسة التطبيقية للصورة الفنية في شعر البدوي فتستند إلى تقسيمات: كالصورة الحسية حيث تتطور الصورة الحسية عند بدوي الجبل إلى أن تصل إلى نماذج نقرأ فيها صلات بين معطيات الحواس المختلفة، وتوجد تشابهات وعلاقات بين الكيفيات التي تختص بكل ضرب واحدة منها، وتكون النتيجة وحدة في الحواس فسيحة عميقة تتشابك على رحابها المشاهد والألوان والأصوات، ويمتزج بعضها ببعضها الآخر.
والصورة النفسية حيث يدرس المؤلف الصور السوداوية ثم يدرس كيف تحولت دموع البدوي إلى شيء خلاّق نقرأ وراءه التحدي. ثم ينتقل في دراسة بعض غزله الباكر حيث لعبت الصورة النفسية في وصف الحبيبة وصفاً تخييلياً بعيداً عن الواقع، والسبب في ذلك البيئة المحافظة التي عاش الشاعر في كنفها، والتي كانت تحول بينه وبين اللقاء بحبيبته. والصورة الرمزية ويظهر فيها الأثر الصوفي الذي يُرَمِّز الذات الإلهية بمسميات مثل «عزة» أو «ليلى».
3) وقائع الندوة العربية عن الشاعر العربي الكبير بدوي الجبل.
إعداد وجمع: أ.نزيه الخوري.
مقالة: القيمة الفنية الدلالية في شعر بدوي الجبل.
تأليف: د.مها خير بك ناصر.
وفيها تدرس العلاقة بين التأصيل والتحديث في شعر البدوي، وتنتهي إلى أنه إذا كانت الحداثة تعني التماثل في الغرب، فإن بدوي الجبل لا ينتمي إلى التيار الحداثي المزعوم. وتدرس جدلية العلاقة بين أصالة اللفظ ورمزية الدلالة. وجدلية العلاقة بين النظم الخليلي والخلق الفني الموسيقي. وجدلية التنوع الموضوعي ووحدة الموضوع.
ولعل أهم ما في الدراسة هو الإيقاع حيث تقول أن الإبداع الموسيقي قد تجلى في قدرة البدوي على التوفيق ما بين استخدام اللفظ وأحاسيسه وانفعالاته. فقصيدته «عاد الغريب» أوحت موسيقاها الخارجية بإيقاعات بحر البسيط، وأضمرت نغماتها الداخلية مشاعر الحب والحنين إلى الشام في زمن الإبعاد والاغتراب، فلم تهزج موسيقى مطلع القصيدة بفرح العودة، بل نطقت بعمق المعاناة. وكذلك تقول أن رويّ السين في قصيدته «وانجلت نفسي للنور» أوحى بصدى الدهشة عندما يكتشف المرء سراً.
مقالة: البنية الشعرية في قصيدة بدوي الجبل (اللهب القدسي) نموذجاً.
تأليف: أ.فاروق شوشة.
ولعل أكثر ما يلفت الانتباه في الدراسة، تلك الالتفاتة إلى جماليات الأسلوب الشعري عند بدوي الجبل فهو يذكر أن الأمر اللافت في قصيدة «اللهب القدسي» براعة استخدام صيغة المثنى: اسمياً وفعلياً منذ البيت الأول في القصيدة. واستخدام صيغة المثنى تقليد قديم ومألوف في الشعر العربي منذ امرئ القيس الذي يقول: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»، ولأن صيغة المثنى واحدة من جماليات العربية، في أدق خلجاتها وقدرتها على دقة التصوير. من هنا سر هذه الصور المختلفة من تجليات المثنى عند البدوي في قصيدة اللهب القدسي: قلبانا، جناحاه، انسجما، إذا اختلفا، الخافقان، مقلتيك، إلى عينيك. وارتباطها بالأصل الذي نبعت منه الثنائية في الحياة العربية فكراً وشعوراً، وتغلغلت هذه الثنائية في العديد من صور حياتنا العربية عبر العصور: بين الدنيا والآخرة، والعلم والدين، والعقل والقلب، والشرق والغرب، والخطيئة والمغفرة. إلا أن اللعب على وتر المثنى في صيغه الاسمية والفعلية قد ضمن لموسيقى القصيدة أقصى ما يتيحه المد الصوتي إنشاداً وترجيعاً.
4) ديوان بدوي الجبل.
نبيل سلامة
محمد رفيق خضور
اكتشف سورية