التشكيلي غسان جديد في معرضه الأحدث في غاليري قزح للفنون الجميلة

لوحاته نافذة مفتوحة على كلّ احتمالات المُشاهَدة المثيرة للمتعة والدهشة في آن

لوحات غسان جديد نوافذ مشرّعة على فضاءات من الحلم ، تستند في بعض من أجزائها على ما يشبه الواقع المُتخيّـل لأشياء، أشكال ورموز ما زالت مطبوعة في الذاكرة منذ أكثر ثلاثة عقود، هي بقيت حميمة رغم الصدأ الذي يغلّفها من رطوبة البحر ودفء المكان، من هنا تتوالد تلك المفردات برغبة على المساحة البيضاء تباعاً من غير تكلـّف والمدهشة من بساطتها تتكرّر، تتناسخ ، وتطير مثل فراشات ملـّونة في فضاء اللوحة البهيّ، والمفتوح دائماً على كلّ الاحتمالات من أجل فسحة أو مساحات أكثر رحابة من المتعة والدهشة البصرية التي تدوم.


التشكيلي غسان جديد

كم يشبه سطح اللوحة عند التشكيلي، ذلك الشاطئ الذي يتلقـّف كلّ صباح عدد لا يحصى من المخلـّفات والأشياء التي تتشابه وتختلف كثيراً بألوانها وأحجامها وفي بنيتها، ولكنها جميعاً مع بعضها ومع الحصى الملوّنة والأصداف الراكنة على الرمال هناك، كم تبدو لطيفة ومدهشة في أن..؟!.

مثلّثات، دوائر وأحياناً مربّعات وأشكال غريبة في بنيتها تتداخل مع بعضها وتتراكب بصياغات تشبه العمارة المتخيّلة لمدائن ألف ليلة وليلة، أو ليلى والذئب، وكأنّ الفنان لحظة يقرّر الرسم ينسى معالم الأشياء أو ربما يتناسى، ليستعيض عنها بما تستحضره الذاكرة من أطلال المكان وبقايا تلك الأشياء الحميمة، التي تحضر بلطف وتهذيب شديدين.

إن مجرّد التأمّل في مشاهد أو لوحات التشكيلي غسّان جديد، ينقلنا ببساطة شديدة إلى ما يشبه مقاطع من حلم، أو تخيّل فردوس مفقود من خلال تلك المربعات المدهشة بانسجام ألوانها وتناغم تلك المفردات والعناصر المختلفة مع بعضها على نفس السطح، ومن صياغاتها المبتكرة التي يجمع فيها الفنان أقصى حالات الجديّة في المعالجة مع الاحتفاظ لنفسه بأكبر هامش من الحرية والعفوية التي تغمر المشهد، وتغمرنا بمشاعر نبيلة، وإحساس حقيقي بالفرح والسلام الداخلي، الذي يعوّض لنا بعضاً ممّا افتقدناه من أمل بانحسار مساحات التلوّث البصري الذي يشوّه المدينة، وهذا ربّما شكـّل محرّضاً أو دافعاّ قويّاً للفنان أن يتكئ على أطلال الأمكنة الأكثر حميمية، يستضيفها من الذاكرة البعيدة إلى سطح لوحاته بحبّ، من ملاعب الطفولة إلى أزقّة المدينة القديمة المجاورة للبحر، حيث تلامس النوارس صفحة الماء برفق، والتي تعكس بشفافية زرقة السماء التي تتلاشى هناك عند الأفق قبل المغيب.


من أعمال التشكيلي غسان جديد

يقطف غسان مفردات لوحاته من جـِنان تلك الفضاءات الرحبة، المزدحمة بالبساطة والجماليات الغارقة بالحلم والمنتشية عزوبة ولطف، في محاولة مجتهدة لاشكّ من الفنان لمقاربة الأشياء، أو ملامسة الأشكال بعد تهذيبها وتغييبها ومن ثمّ إعادة تأليفها من جديد، لتستقرّ مع بعضها معلـّقة هكذا في فراغ اللوحة الذي يوائم فيما بينها من غير انحياز، لتبدو بالنهاية كمشهد أشبه بالكرنفال، تتنافس فيه الألوان على التعريف بماهية الأشكال والعناصر بأهمية الحضور، يساعد في إنجاح هذه الإحتفائية البصرية، غزارة الضوء المنهمر من كلّ الاتجاهات على مختلف أجزاء العمل، الذي يفاجئ المتلقـّي بسحر حضوره.. ودهشة وحرج استقرار ما يضمّ من بقايا الواقع وكثير من التخيّل والحلم بامتياز.

من أعمال التشكيلي غسان جديد

في لحظة ما تتحوّل المساحة البيضاء في لوحة غسان جديد إلى نافذة مفتوحة دائماً على كلّ احتمالات المُشاهَدة المثيرة للمتعة والدهشة في آن، لتشكـّل عامل جذب وإغراء شديدين لمزيد من الشرود في فضاءات مدنه الحالمة، النائمة على زرقة يفضح سرّها ضوء قمر بهيّ يغمر تفاصيل المشهد الذي يضمّها بحب، وهي تحلـّق مثل فراشات ملوّنة في فضائه من غير تكلـّف ولا عناء، وكأنـّه يريد من تلك المربّعات أن تضمّ كلّ ما فاته في الطفولة من ألعاب ومتع وأشياء كان يأمل أن تكون في متناول يديه، فيعلّقها اليوم برغبة هنا في المقدّمة، ويركُن أخرى هناك إلى جوارها، وهكذا حتى تزدحم المساحة بأشكال غريبة لا تشبه نفسها في الواقع، وكأنها تحوّلت هنا إلى ما يشبه الركام الجميل الذي يشكّل مع البيوتات المعشّقة بالخشب والأصداف والأقمار في خلفية المشهد، حالة خاصة من الوجد وطريقة تفكير كوّنت فيما بعد الأساس الذي يبني عليه التشكيلي الأسلوبية التي تخصّه دون غيره، بعد إعجابه واندهاشه بأعمال عديد من الفنانين المعروفين في العالم.. الذين اشتغلوا على هذه العوالم وضمن تلك المفاهيم ووسائل التعبير المشابهة.

وفي هذا السياق لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الفنان لا يعنيه من الإتجاهات والمدارس الفنية منذ نشأتها، أكثر من رسوم الكهوف وحكايا الإنسان البدائي على تلك الجدران التي ما زالت تفيض منذ آلاف السنين بالتعبير عن هواجسه وتخوّفاته، ولا يهتمّ بتلك المصطلحات من «تعبيرية إلى دادائية وتكعيبية وصولاً إلى الواقعية المحدثة.. وما بعد الحداثة.. الخ»، أكثر من اهتمامه واندهاشه بتلك العناصر والمفردات التي يبتكرها من مخيّلته فتستقرّ هكذا طازجة وحيوية، والأهم برأيه مدى تعبيرها عن هواجسه وتصوّراته وأحلامه، في تلك اللحظات من البوح السرّي للأبيض الناصع الذي لا بدّ من مواجهته بمنتهى الشجاعة والصراحة والعفوية ، ليعكس ذلك السطح بصدق وشفافية ما يريد أن يعلنه بصريح ألوانه وبعض الموسيقى التي تشبه أحياناً الهمس أو الوشوشةً.

باختصار شديد... تلك هي بعض المقومات والأسس التي تستند عليها تجربة الفنان المجتهد غسان جديد منذ حوالي الأربعة عقود وإلى اليوم، متجدّدة حيوية وحاضرة بقوة وتميّز إلى جانب مثيلاتها من التجارب الرائدة على الساحة التشكيلية السورية المعاصرة.

يعتمد التشكيلي في التصوير على مستوى واحد، كأنّه يرسم المشهد بلحظة تعبير آنيّة، ليتوحّد زمان العمل مع المكان الذي يشهد توالد العناصر والمفردات تباعاً من غير ترتيب، فتتوضّع بتلقائية وتفاهم نادرين على حضورها بهذا الشكل اللافت من حرج استقرارها في فضاء هو أقرب إلى مسرح الدمى المشغول بحب لطفولة تنام على سعادة مفقودة أو مؤجّلة.


من أعمال التشكيلي غسان جديد

هي هكذا اللوحة دائماً بالنسبة للفنان، في لحظة ما.. هي المكان الأكثر حميمية، والهواء النسيم، والمرأة العاشقة، وكلّ الأشياء المحبّبة والمؤلمة له في آن.. هي الحامل الحقيقي لهواجسه وأحاسيسه، هي دائماً مساحة للبوح ولحرية التعبير والتفكير والتحليق، وتصوّر كلّ ما لا يستطيع تحقيقه... أجل هي كلّ ذلك بامتياز، إضافة إلى كونها بالأساس مشروع الفنان الخاص ورسالته الحضارية والإنسانية التي من خلالها يريد أن يراه الآخرون، بأفراحه القادمة وأحزانه المستديمة، وحجم أحلامه وبعض الواقع بإحباطاته وشغبه، إنه بذلك يقدّم لنا نموذجاً مفصّلاً عن عالم ما زال يواصل بنيانه على تلك المربعات الآسرة من الجمال والخيال والروح.

ببساطة ولطف شديدين غالباً ما يحمّل التشكيلي غسان جديد لوحاته بعض دهشته وأفكاره وخيالاته حول ما يمكن أن يسرّ ويُمتع المتلقّي، من خلال تصوراته لعوالم تبدو في بنيتها سيريالية من حيث عمارتها وتراكبها الذي يتجاوز فيها حدود الحلمية الرمزية، لتصل في بعض الأحيان إلى مشارف الروح وحدود عالم الأسطورة..

لقد رسم التشكيلي طرطوس وبحرها والمراكب والصيادين، كما صوّر مع لؤي كيّالي أرواد وسورها القديم والشاطئ و(المينا)، رسم أيضاً المدينة القديمة وسوق الخراب والطاحونة وغيرها من المواقع الجميلة في المدينة التي ما زال يعيش فيها برغبة العاشق المولـّع بتلك الأمكنة، بسهولها وجبالها، بوديانها ومغائرها ومزاراتها، كلّ هذه الأشياء الرائعة تشحذ مخيّلته وتجدّد حيويته، بما يساعده ذلك على إعادة ترتيب أفكاره التي يلقيها على أبيض اللوحة في مرسمه الذي أشاده هناك على الشاطئ قبالة السفن، وحيداً يفكّر، يقرأ.. يراقب.. يرسم.. ثمّ يرسم ويصوّر، وهكذا يعيد رسم تلك الموضوعات في كلّ مرّة بشكل مختلف وأكثر حساسية ودهشة.

في كلّ مناسبة أتحدّث فيها عن خصوصية تجربة التشكيلي غسان جديد، أحاول دائماً أن أتجنّب قدر الإمكان الأدب في توصيف أي لوحة، أرى نفسي أغوص أكثر في مطب اللغة والتعبير الأدبي، والسبب برأيي أن لوحته لا تتحمّل كثيراً من الفلسفة والتحليل والنقد الفني الذي قد يفرغها من عفويتها وآنيتها التي تمنحها الحيوية والألق الذي تتمتّع به، إضافة إلى صخبها الجميل والفوضى الأنيقة التي تستند عليها حركة العناصر وحيويتها في فضائها المفتوح والمتجدّد دائماً.


من أجواء معرض التشكيلي غسان جديد في غاليري قزح

يرسم التشكيلي بالأسود خطوطاَ واضحة لحدود الشكل بعد أن يرسم ويلّون أحياناً العناصر، مانحاً بذلك المشهد تأثيراً غرافيكياً يضيف إلى الألوان حيوية وإلى الإضاءة ألقاً، يساعد في ذلك الحضور خامة سطح العمل الذي يختاره الفنان خشناً في بعض الأحيان، ممّا يضيف ذلك من مؤثرات وشحنات تزيد من دهشته وقبوله بالنسبة إلى المتلقّي في كثير من الأحيان.

هذه الخطوط باختلاف درجات وضوح الأسود فيها تصيغ مع بعضها شبكة متناغمة يتداخل فيها العمودي مع الأفقي بتفاهم واتفاق على تقاسم المساحات الأجمل من اللون في اللوحة، وتوزيعها بانسجام يخدم التكوين النهائي للعمل وتوازنه بصرياً، إضافة إلى الاستفادة من تلك التقطيعات في بنائية المشهد واستقراره.

غسان جديد التشكيلي الذي يلهو بالألوان ليمتعنا بلهوه الجميل، فيبدع مربعات من العشق، وعوالم لا تغيب عنها الشمس، يبني موانئ.. ويخترع مراكب لها، يبحر في مخيّلتنا ليمنحنا لحظات من الشرود في فضاءاته المفترضة، وجنانه الدائمة الخضرة والضوء، ودوائره التي تتحوّل في لوحاته إلى أقمار.

غسان جديد:
• مواليد طرطوس – جزيرة أرواد 1946 .
• درس في كلية الفنون الجميلة في دمشق .
• شارك في معظم المعارض الجماعية في سورية وخارجها .
• امتاز بأسلوبه التعبيري الفطري في تصوير ملامح البيئة الساحلية، وله نتاج غزير بتقنيات مختلفة .
• أعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة والمتحف الوطني بدمشق ، ومجموعات خاصة عديدة داخل وخارج سورية.

غازي عانا - دمشق

اكتشف سورية