ما بين حميمية الحجر وحنان الخشب تركن تجربة النحات أكسم السلوم الذي تعامل بحساسية مختلفة تناسب تقنية كل خامة وما تستحق من الاشتغال مراعياً خصوصية كل خامة على حداً، ومستفيداً من الطاقة التعبيرية الكامنة في نسيج كل منهما، ومن غير إقحام في التفاصيل اختزل الشكل الذي لم يكن يعرف هو عنه شيئاً قبل بدء العمل، أو مقرراً حدود نهاياته التي تفرضها مشاعره في تلك اللحظة، ومدى قناعاته بانتهاء الحوار بينه وبين المنحوتة التي تشكـّلت للتو، بدون الشكل أو تكشـّفت عن بعضه، مكتفية بدلالاته أو الإيحاء به.
لقد شكـّل المعرض الأول للنحات أكسم السلّوم نهاية 2010 في صالة السيد بدمشق، مفاجأة على مستوى الأداء التقني بالنسبة لي على الأقل كعارف ومتابع لأعماله، فهو هنا أدهش المتلقي بأناقة معروضاته، كما أقنع المهتم والمشتغلين بالنحت بأهمية ما قدّمه فنياً وتقنياً في نفس الوقت، من المهارات التي أظهرها من غير تكلّف ولا استعراض متضمَّنة في الصياغة المتكاملة للمنحوتة التي حضرت برشاقة نهوضها وغنج وحيوية استقرارها.
لقد عكس المعرض فيما تضمّنه من أعمال نصبية أو جدارية، الحالة الوجدانية والفلسفية للإنسان الذي اختار الفنان أن يمثـّله في المرأة وقد اختزل التفاصيل، حتى لا تأخذه جماليات الجسد الأنثوي إلى حالة لا يريدها هنا ربما، حتى يكون أكثر حرية في استنباط أشكال جديدة وتكوينات أكثر دهشة من التي تعوّد المتلقي أن يشاهدها في مثل تلك الموضوعات، فاعتمد التبسيط الشديد في الكتلة والتعبير البليغ في المضمون تاركاً لخيال المشاهد هامشاً رحباً ليشاركه تأملاته في تلك اللحظة من الإبداع.
بالإضافة إلى المرأة، العنصر أساسي الذي استند عليه في أعمال المعرض، نلاحظ وجود السمكة وهي مفردة مدلـّلة أيضاً في تكوينه النصبي، والتي أجاد توظيفها في العمل مستفيداً من انسيابية شكلها وجمالياته في التشكيل، كما استفاد أيضاً من دلالاتها كرمز وإيحاء، وهذا ما عزّز من علاقة النحات بالطبيعة هناك بما تحتوي من بحر وطيور، ومن شجر وحجر وغيرها من المفردات اللطيفة التي أثـْرَتْ طفولته كما أثـّرت فيها، بالإضافة إلى علاقته الخاصة بالمرأة التي يعتبرها ملهمته في الحياة والفن، ومن هنا تبدو تلك العلاقة جدلية أكثر بين هذه العناصر مجتمعة في أكثر من عمل متفاهمة فيما بينها على أهمية الحضور مستفيدة كل واحدة من مقومات وميزات غيرها لتستقر بالنهاية بطريقة مقنعة بعفويتها، متناغمة فيما بينها ومدهشة من بساطتها .
ضمّ معرض أكسم السلوم في صالة السيد بدمشق نهاية 2010 بحدود الثلاثين منحوتة من الخشب بمقاسات مختلفة معظمها تشكيلات نصبية في الفراغ، هي أقرب في صياغاتها إلى التجريد من الواقع الذي افترضه النحات جسداً أنثوياً أو سمكة وطير وغيرها من المفردات التي هي بالنتيجة ليست غاية، أكثر منها سبباً ليبرّر من خلالها رغبته في الانعتاق من أسر الشكل الواقعي ومباشرته التي تضعف العمل عندما ينحاز إلى الأدب وبخاصة في موضوع التشخيص، فكان موفقاً من حيث اختياره لهذا الشكل من الصياغة التي خدمت الغاية والهدف الذي هو النحت بالنتيجة، كتلة رشيقة وفراغ أنيق ونهوض لافت من توازنه وحيوية حضوره وتأثيره في المحيط .
وإن أهمية ما قدمه النحات أكسم السلوم في هذا المعرض برأيي يبقى في انسجام الصياغة مع خصائص الخامة الخشب واحترام نبلها وحميميتها، مستفيداً من أقصى حالات إدهاشها بأقل ما يمكن من تزيين وزخرفة، مظهراً حلاوة وطلاوة انثناءها لدرجة التفافها على بعضها بدعّة ولطف، وكأن الأدوات التي استخدمها النحات كانت لطيفة إلى درجة لم تبدو تأثيراتها على معظم السطح الذي بقي يشفّ بعضاً من نسيج أليافه التي بانت من تحت طبقة الصباغ مثل خيوط ذهبية متوهجة جعلت ذلك السطح الملتوي بغنج يبدو أنيقاً ملفتاً ومؤثـّراً .
ونهايةً لابد من الاعتراف بعد هذه الجولة على ما قدّمه النحات أكسم السلـّوم في هذا المعرض من أعمال، أنه عرض تجربته بشكل واضح وجليّ، وأسلوب جمع فيه بين التجريد كصياغة والواقع كاستناد والتعبيرية الرمزية كإيحاء، مستفيداً من جمالية وحميمية الخامة دون إقحام في التزيين مبرزاً أهم خصائصها، ومتنقلاً بحرية وحيوية بين تلك الفضاءات المختلفة من التعبير، لصياغة منحوتة أجاد صنعها، فأدهشته هو قبل الآخرين، من الحب الذي يفيض من عينيه عند الحديث عنها، وهذا برأيي كان الأهم في عمله الذي عكس ومن غير ادّعاء ما بداخله من مشاعر صادقة وأحاسيس يكنها للمرأة، التي يشبّهها بالمنحوتة التي تبقى تحتفظ بأسرارها رغم كل البوح الذي تعلنه عادة .
غازي عانا - دمشق
اكتشف سورية