معلولا الجبل.. أضواء وظلال

14 تشرين الأول 2010

لم تقدر لمواطن كثيرة في سورية، الشهرة العريضة التي تتمتع بها معلولا البلدة الحية المختبئة في ركن من القلمون، في سلسلة لبنان الشرقية، ولا تبعد عن دمشق سوى قرابة ستين كيلو متراً.. ولكن من ينفذ إليها عبر ممرها الجبلي، يحسب أنه يمضي إلى دنيا السحر والأسرار. فكل ما تراه عينه هناك يبدو بعيداً عن مألوف البيئة.

جدار جبلي شاهق يطوق القرية، وبيوتها تتثبت بصخور متدرجة على شكل طوابق، يعلو واحداً الآخر بارتفاع بيت واحد، ومغاورها فاغرة أفواهها فوق البيوت وما بينها. ولعل أول ما يظنه الزائر أنه يقصد موقعاً حصن لأغراض الدفاع، تكفي قلة من المقاتلين لرد مئات المحاربين عنه.

لكن من الواضح أنه لم ترسم أية خطة في بناء القرية، فجاءت منازلها كما شاءت لها نزوات المنحدرات الجبلية، وهي ما تزال تحتفظ بغرف نقرت في الصخر، وجعلت لها أبواب وسلالم.


جانب من منازل معلولا

أما أزقتها التي تبدو للغريب ضيقة فيتابع ابن البلدة سيره فها برشاقة، مخترقاً فناء أول بيت يصادفه، أو مرتقيا سلماً أو سطحاً، ليصير إلى زقاقٍ آخر، تعلوه قناطر، وقد يخيل للسائر أنه يمشي صعداً، فإذا بالطريق تنحدر فجأة انحداراً شديداً، فإذ تقدم وجد نفسه فوق سطح أحد المنازل، وقد يتابع سيره في درب متعرج، فإذا به في ساحة إحدى الدور.

في معلولا مضيقان جبليان هما المنفذان الوحيدان نحو الأراضي العالية، ويدعوهما الأهلون «الفج الغربي» و«الفج الشرقي».

ولعل طابع البلدة اليوم هو نفسه منذ العهد البيزنطي بل من أقدم العهود من حيث شكلها المدرجي ومتاهة طرقها، وهذا ما يفسر إمكاناتها الدفاعية تجاه الأحداث الكثيرة التي مرت بها، كما أن عزلتها عن العالم الخارجي تفسر وجود ديرين شهيرين هما دير مار تقلا، ودير مار سركيس، يقبع أولهما عند مدخل الفج الغربي كحارس أمين، ويعتبره البعض أقدم دير في العالم، ولكن ليس ببنائه الحالي المحدث في عصور متأخرة.

فالقديسة تقلا أولى شهيدات النصرانية، وتلميذة القديس بولس، كانت قد اتخذت من مغاور ذلك الموقع موئلاً لها ومنسكاً طيلة أيام حياتها، ودفنت في إحدى حجرات الدير القديمة. ولا تزال جموع الحجاج تؤم الدير من كل حدب وصوب للزيارة، والتبرك بمقام الدفينة التقية، وبما ينسب إليها من خواص عجائبية، وبالماء الذي يقطر نقطة نقطة من سقف حجري، تقول التقاليد أن القديسة تقلا كان تمسح به جباه المتقدمين للعماد على يديها.

أما دير مار سركيس فيطل من علو 1622 متراً عن سطح البحر، على منظر عام جميل للقرية، وكرومها، وبعض سهولها. وفيه كنيسة بنيت على أنقاض هيكل وثني، وترجع قبة الدير إلى العهد البيزنطي، وقد تناثرت خلفه قبور صخرية ما يزال بعضها يحمل صور نسر، ونقوشاً يونانية ترجع للقرن الأول المسيحي.

معلولا

ومن مشوقات زيارة معلولا الأساطير والتقاليد التي تدور حول مبانيها وصخورها ومغاورها، بل وحول مسالك المياه فيها.

فالج الغربي كما تردد المرويات الشعبية ظاهرة طبيعية كان جداراً جبلياً أملس، منتصباً كراحة الكف، قبل أن تصل إليه فتاة مسيحية، هي القديسة تقلا هاربة من ظلم أبيها الوثني، وجنود الوالي الروماني، الذين يلاحقونها.. لكن الصخور اضطربت وانشقت دفعة واحدة، حينما سجدت الصبية تبتهل إلى العذراء كي تجد لها مخرجاً. وهكذا وجد الفج، هذا الممر الصخري الغريب، الذي يسير متعرجاً بين جدارين عموديين، ينطبقان حيناً، حتى ليخيل للسائرين أن الدرب مسدودة، ويتسعان حيناً إلى فرجة أو عدة أذرع، ليعودا فيضيقان حتى يصل السالك إلى الفسحة والنور.

وفي الفج، في محلة «شارونايا» ما يدعى بالمشنقة. عند أحد جانبيها صخرة المحكمة. حيث أن رجال القضاء يقفون لإعلان حكم الإعدام، ويقف الملك أعلى الصخر المقابل للتصديق على الحكم، كما تقول الأسطورة.

والأهلون يعرفون بوجود سرداب حفر داخل الهضبة، يبدأ من رأس الفج الغربي بمدخل عسير، وينتهي عند الفج الشرقي. وقد نقشت فوق مدخله الغربي حية ضخمة تعويذة للوقاية من الهلاك. وقد كان أهالي معلولا يلجأون إلى هذا السرداب عندما يداهمهم الخطر، وجعلوا له مسيل ماء ينفذ إليه، ليمدهم بماء الشرب عند الحاجة.

وتروي الحكايات الشعبية أنه كان للملك موطيزوس ولد صغير، يلب عند مخرج النهر من مغارة في ساحة شارونايا الواقعة أول الفج الغربي. فغفل الحراس عن الولد وغرق في النهر، ولم يدركوه إلا ميتاً. وكان الولد وحيد أبيه، أثيراً جداً لديه، فحزن حزناً شديداً وأمر بردم النهر والنبع الذي كان إلى جواره، فنفذ أمره، وانحبس النهر والنبع قروناً عديدة. كان النهر يمر في قناة جهة الشرق، ويميل جهة البيادر، حيث الحمام الإمبراطوري، وتحته مطحنة، فتوقفا عن العمل، وأصابت الأهلين خسائر فادحة.


من فج معلولا

ولكن أشد ما يأسف له أهل القرية حتى الآن، هو عدم عثورهم على الكنز، الذي يقال أنه يتألف من مجموعات ثمينة من الأواني الفضية والذهبية، كان الروم قد خبأوها قبل مغادرتهم الأرض السورية، بعد الفتح العربي الإسلامي. وقد جاء ذكر الكنز في كتاب الكنوز، الذي يتناقل أهالي معلولا أخباره، وهو يتحدث عن وجود تلك الدفائن في موقع ما من هذه القرية ذات الأسرار. ولعل آخر من رأى الكنز فيما يقولون شاب عاش قبل مئة عام اسمه إبراهيم يواكيم.

يروون أن الشاب كان في صغره كسولاً، ويهرب من المدرسة، ليختبئ في مزار مار توما، وقد ظهر له في المقام شيخ جليل فتح أمامه طاقة في الصخر، وأراه كميات من الذهب قائلاً له: خذ ما تريد، فخاف الولد وقال: هذا مال وقف لا آخذ منه. فقال الشيخ: أكافئك على أمانتك، فأهبك عوضاً عن الذهب روح علم وفهم.

وقد كبر إبراهيم يواكيم، وقضى حياته بالطب، ماهراً فيه، فما رأى مريضاً حتى عرف علته، ووصف له الدواء الناجع إن كان داؤه قابلاً للشفاء، وإلا صارحه بعبث التداوي، ويقال أن شهرة هذا الطبيب قد ذاعت في زمنه في كل مكان.

وكان في البلدة مكان يدعى حمام الملكة، تحيط به أسطورة رهيبة، تقول أنه كان معبداً رومانيا، يجتمع فيه الوثنيون، ليمارسوا ألواناً من التهتك والشعائر الخليعة، فأتاهم أحد رجال الله، يدعوهم للتوبة، فما سمعوا نصحه، فأهلكهم الله عن آخرهم، وقد بنى المسيحيون هناك كنيسة.

وهكذا يسمع الزائر حيث سار في معلولا وشوشات الأساطير، والأقاصيص الطريفة، الغارقة في ضباب الزمن. فعلى هذه الصخرة ظهر القديس الفارس جاورجيوس (الخضر)، معتلياً حصانه الأبيض، وهناك ما تزال آثار قدمي القديسة تقلا محفورتين في الجبل، وفي ذلك الحقل توقفت القديسة نفسها لتستريح من جند أبيها، وتحدثت إلى فلاح يحرث الأرض، فرجته ليساعدها على النجاة من مطارديها، بأن يقول لهم أنها مرت به وقت كان يفلح الحقل.. وقد فعل فلما رأى الجند سنابل القمح تغطي الحقل بكامله، ونمت بأعجوبة أيقنوا أنها سبقتهم منذ زمن طويل، ويئسوا من العثور عليها، فبادروا إلى العودة.

ومع أن معلولا تتمتع بموقع جميل خلاب، يجعل منها أجمل قرى القلمون الأعلى، غير أن سحرها الأكبر يكمن دون ريب في كون أهلها ما يزالون يستعملون اللغة نفسها، التي كان يخاطب بها السيد المسيح تلاميذه، ويعظ بها الجموع، وهي السريانية، أي الآرامية الحديثة، ويدعوها العلماء اللهجة الآرامية الغربية.

كانت السريانية مع الإغريقية أكثر اللغات شيوعاً في الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وقد أصبحت في زمن الساسانيين، حسب ما قرره العالم «رايخ»، اللغة الرسمية في البلاد ووصلت إلى الصين، حيث كانت لسان النساطرة واليعاقبة الديني (راجع: دراسة حول القرى الآرامية على جبال لبنان الشرقية) وكانت الآرامية السريانية في فترة طويلة من التاريخ، لغة الأدب والعلوم والفلسفة، تدرس بها مراكز التعليم في أوديسا ونصيبين وحران. وقد اشتهرت مدرسة حران في زمن الخليفة المأمون، لأنها تعهدت في ذلك الزمن بترجمة كتب اليونان العلمية والفلسفية إلى العربية، بعد أن كانت تترجم إلى السريانية أولاً. وبقيت هنا وهناك حية، حتى القرن الرابع عشر، حيث اندثرت في كل مكان من العالم إلا في معلولا، وقريتي بخعا وجبعدين الصغيرتين، وهو امتياز نادر يشكل إحدى الطرائف الأثرية التي تجعل من سورية، ومن معلولا خاصة هدفاً سياحياً، وعلمياً كبيراً.

==
مصدر المقالة: سورية السياحية، العدد 2، المجلد 1، وزارة السياحة في دمشق، 1984


اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

naseef-ha:

احب معلولا واهل معلولا كلهم واحب ان ازور دير مار سركيس والله يحمي الاخت بلاجيا

سورية بشار الاسد

rahaf:

اريد ان اعرف متى بنيت مدينة معلولا

سورية