الآلات والعلوم الغربية في الحياة الموسيقية العربية

05 06

كيف يكون الاستعمار الموسيقي حضارياً؟! سؤال قد لا نجد الإجابة الشافية عليه، لكن وبمعزل عن هذه الدعابة –السؤال– لا بد من التأكيد هنا على أن الموسيقى العربية كان عليها في ظل قوة وعمق هذا «الاستعمار» في تفاصيل حياتنا الموسيقية المعاصرة بما ترك من آثار سلبية وخطيرة على مفردات وخصوصية الهوية الإبداعية للموسيقا العربية، من أن تحتضن وتتقبل عن طواعية مفردات الآخر الموسيقية بكل شجاعة ودون أي عقدة نقص، ومن حسن الحظ هنا أن قيض لها مجموعة من الإعلام الرواد الذين تحصلوا على العلم والمعرفة في معاهد وجامعات الغرب حيث نقلوا معهم هذه الذخائر المعرفية المتقدمة إلى قلب الحياة الموسيقية العربية؛ لتبدأ «ورشة» الإعمار الموسيقية ولتتحقق أولى الثمرات العظيمة في إرهاصات المسرح الغنائي، مع سيد درويش وتلامذته الذين تربوا في كنف مدرسته التعبيرية السامقة.

لقد بقي التخت الموسيقي العربي مئات السنين رهين وحبيس التقاليد الموسيقية القديمة تتصارع بين جنباته آهات المغني وفتنة الراقصات في استعادة مستمرة لأجواء وسحر «شهرزاد» - الطيبة الذكر- دون أن يقدر أحد أو حتى يفكر في الوقوف في وجه هذا المد الطربي بحسيته وفتنته الطاغية. لكن تشاء الظروف أن تقول كلمتها بدايات ومنتصف القرن الماضي، فكانت البدايات مثمرة على أكثر من صعيد في منجز إبداعي أسس لنهضة موسيقية عربية قاد لواءها كما أسلفنا الشيخ سيد درويش الذي قدم وعبر عمره الفني الخاطف ارتقاءات سامقة وتحديداً في مجال إرساء دعائم اللغة التعبيرية في الموسيقى العربية المعاصرة، وهو الذي تأثر كما نعلم بإبداعات الموسيقى الغربية الكلاسيكية وخاصة فن الأوبرا بكل ثرائه ومناخاته التعبيرية والجمالية؛ ومن هذه المناخات أدخل سيد درويش ولأول مرة آلتي الكمان الجهير «الفيولنسيل» والبيانو وكان ذلك في محاوراته الغنائية التي ضمنها مسرحياته العظيمة، كمحاورة «البحر بيضحك والله» من مسرحية «قولوا له»، ومحاورة «ادي ست الكل زي الفل» من مسرحية «راحت عليك»، أو غيرها من أعمال موسيقية زاخرة بالصور الموحية والانتقالات الموسيقية المبهرة. وهنا علينا التذكير بالدور العظيم الذي قام به الفنان القدير «جميل عويس» والفنان المبدع «سامي الشوا» في تطوير التخت الموسيقي الشرقي مع عدم إنكار الدور المؤسس الذي قام به العازف السوري الكبير «أنطوان الشوا» الذي يعتبر أول من أدخل آلة «الكمان» الغربية في الموسيقى العربية وكان ذلك في حدود عام 1865م كما تذكر المصادر الموثوقة. وعودة سريعة إلى مشروع الشيخ سيد، فقد أدرك بفطرته الموسيقية الصادقة أن عليه تطعيم موسيقاه بالعلوم الموسيقية الغربية كالهارموني والبوليفوني (تعدد الأصوات) وبالفعل ضمنها بعض ألحانه في المسرح وتحديداً في مسرحيته الهامة «شهرزاد» في اللحن الشهير: «دقت طبول الحرب»، ومسرحيات أخرى «كالبروكة، والعشرة الطيبة» وغيرها من أعمال تم عبرها نقل الموسيقى العربية إلى مناخاتها الحداثية العقلانية ووضعها في مسارها الإبداعي التعبيري الذي انحرفت عن سياقه بفعل سيطرة الروح الطربية المعهودة.

وهكذا وبنفس الروح المتوثبة عمد الموسيقار المجدد محمد القصبجي إلى إرساء دعائم وتطوير التخت الموسيقي الشرقي عبر أعماله الموسيقية السامقة التي سبقت زمانها بلغتها وحداثتها وقيمها المفعمة بجمال موسيقي نادر من التعبير وقيم التصوير الوجداني، وهو الفنان الذي حاز ثقافة موسيقية متقدمة أهلته لأن يكتب أعمالاً بلغة موسيقية تحمل كل البشائر في نقل واقع الموسيقى العربية إلى آفاق ومدارات جديدة غير مسبوقة.

فأدخل هنا علوم الهارموني والبوليفوني بكل مقدرة وحرفية دون أن يشوه روحية ومزاج هذا الفن حيث عمل على جعل هذه العلوم تتماهى وتتناغم في خدمة وإثراء الجملة الموسيقية العربية بكل موروثها الطربي كما أسلفنا ونجد تفاصيل منجزه الإبداعي هذا في أعماله المهمة لأم كلثوم وتحديداً «يامجد» و«منيت شبابي»، كما في أعماله المشرقة لأميرة النغم العربي «أسمهان» وتحديداً عمله «الأوبرالي» الخالد «يا طيور» الذي حلّق معه إلى ذرى تعبيرية سامقة مستخدماً فيه الأسلوب الأوبرالي في الغناء وتحديداً في مجال الآهات التعبيرية الخلاقة التي أدتها أسمهان بسحرها وأنوثتها الطاغية وصوتها الألماسي الشفيف.

وتتابعت الإشراقات الموسيقية الحداثية مع الموسيقار الكبير «محمد عبد الوهاب» صاحب الألحان البديعة الخالدة التي أغناها بالتقنيات والعلوم الغربية «تعدد الأصوات» والتوزيع الموسيقي المتطور مع استخدام ذكي للآلات الغربية الفيولنسيل والبيانو، وآلات النفخ ولا ننسى الغيتار والأوكورديون والمندولين وغيرها من آلات أمدت النسيج النغمي العربي بألوان حداثية مشرقة وزاهية، كما لا ننسى استلهامه الموفق للعديد من الإيقاعات الغربية الراقصة كإيقاعات «الرومبا، والبوليرو والسامبا» وغيرها كما في أغنياته الجميلة بحق «جفنه علم الغزل» و«آه منك يا جارحني» و«أنا والعذاب وهواك» و«على بالي يا ناسيني» وغيرها.

وكان استخدامه الموفق لآلة «الفيولنسيل» ذات الصوت الشجي الساحر أحدث نقلة نوعية في فهم الدور العميق لهذه الآلة في خلق أجواء تعبيرية وتصويرية أغنت اللحن وأمدت تقنيات الكتابة اللحنية والصوتية بتيمات تعبيرية وجمالية لا تخطئها العين والأذن معاً كما في قصيدته الرائعة «في الليل لما خلي» من شعر أمير الشعراء أحمد شوقي؛ وهو ما نجد صداه حاضراً أيضاً في استخدامه البديع لآلة الأوكورديون كما في أغنيات «مريت على بيت الحبايب» و«سهرت منه الليالي» وغيرها. وكان من أكثر محاولاته جرأة وعمقاً واستشرافاً للمستقبل استخدامه النادر لآلة البيانو في قصيدة الأخطل الصغير «الصبا والجمال» التي انساقت كلماتها الرائعة مع موسيقى ونقرات البيانو وألحان هذا المبدع الكبير الذي وضع الموسيقى العربية في قلب الحداثة والتجديد دون ادعاء أو تصنع.

لقد مهدت هذه المحاولات الجريئة المؤسسة الطريق نحو المزيد من استخدام الآلات والعلوم الغربية في الموسيقى العربية، حيث توالت المحاولات بشكل أكثر تواتراً مع تزايد البعثات العلمية نحو الغرب الموسيقي الكلاسيكي، وافتتاح المعاهد والأكاديميات العلمية الموسيقية ودخول تقانات ومفردات غربية مهمة قلب الحياة الموسيقية العربية بما فرض على الموسيقي العربي أن يتهيأ لأخذ واحتضان أسباب الحداثة الموسيقية؛ كما نجد على سبيل المثال في إبداعات الرحابنة مع شاعرة الصوت فيروز وأعمالهم العظيمة للمسرح الغنائي حيث تم طرح مقولات فكرية وجمالية عبره دعمتها الآلة والعلوم الغربية والخزين المعرفي الأكاديمي الذي حازه المبدعان عاصي ومنصور وباقي الأسرة الرحبانية الجميلة بما ترك بصمات جد مضيئة في تاريخ الفن الغنائي والموسيقي العربيين. الذي تم رفده أيضاً بإسهامات عظيمة لموسيقيين عرب قدموا نتاجهم المضيء في جميع البلاد العربية يضيق المجال عن ذكرهم جميعاً وأغلبهم حاول إمداد لغته الموسيقية الموروثة بمفردات غربية كلاسيكية قدموا رؤيتهم الموسيقية النافذة من خلال فهم أعمق وأشمل لدور الآلة والعمل في تحرير الموسيقى العربية من سباتها وجمودها ورتابتها على الرغم من الثراء المدهش لمنظوميتها المقامية والإيقاعية وعلومها الموسيقية الرائدة واعتمادها على الارتجال أحد أهم عناوينها المضيئة وتوافر عناصر إبداعية لم تستطع مع الأسف إمدادها بدماء وحياة جديدة إلا مع هذه الأسماء المعاصرة التي امتلكت موهبة وريادة في الفكر والإبداع الموسيقي الحق، الذي وضع هذا الفن في مصاف الفنون الراقية عبر روح المثاقفة والحوار والأخذ بأسباب الحداثة وعلومها العظيمة.


علي الأحمد

الوطن

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

    صور الخبر

    بقية الصور..

    اسمك

    الدولة

    التعليق

    عمارأديب عباس:

    مقالة ممتازة في قسم الدراسات نشكر وزارة الثقافة والقائمين على هذا الموقع الرائع

    سورية الأسد

    باسم محمد احمد:

    نحن نفتقر إلى هكذا مواضيع حقيقتاً احسست بالفائدة بصفتي طالب علم لكم الشكر والامتنان

    العراق