موقع الجامع الأموي من أقدم مواقع معابد التاريخ الإنساني

31 05

لماذا سقطت قبة الوليد الأولى؟

الجامع الأموي آية في الإبداع، ثورة على البساطة والتقشف، انطلاقة جديدة في مضمار فنون العمارة والزخرفة الإسلامية. ارتبطت الحياة الأولى للإنسان بالتعبد لذلك تقدَّم المعبد في نشوئه على المدينة، وهذا ينطبق على مدينة دمشق حيث إننا لا نعرف بالتحديد متى وكيف نشأت، قبل المعبد أم بعده، لكن الحقيقة التاريخية التي لا مجال للشك فيها هي أن دمشق أقدم مدن العالم، وبالتالي إن معبدها من أقدم المعابد في التاريخ الإنساني فقد كرس للعبادة منذ آلاف السنين، من بداية العهد الآرامي في مطلِع الألف الأول قبل الميلاد إذ نسب للآلهة «حدد»، وأثناء استيلاء الرومان على المنطقة صار معبداً للآلهة «جوبيتر» وبعد ذلك تحوّل إلى كنيسة حملت اسم «يوحنا المعمدان» أواخر القرن الرابع الميلادي، وتشير المصادر إلى أن رأس النبي يحيى مدفون في داخل حرم المسجد.
إن المسلمين، بعد أن استقروا فيها عام 14 هـ، اقتسموا الحياة فيها مع المسيحيين، ومع ازدياد عددهم، غدت دمشق عاصمة الخلافة الإسلامية في العصر الأموي، وغدت الدولة الأموية الأكبر والأوسع، توفرت حاجة ملحة إلى أن يمتلك المسلمون مسجداً يتسع للمصلين كافة، وفي الوقت ذاته يتماشى مع عظمة الدولة والفتوحات الإسلامية، وكان ذلك أيام الخليفة عبد الملك بن مروان الذي بدأت في عهده حركة عمرانية واسعة شملت ثلاثة مساجد بشكل رئيس: الجامع الأموي في دمشق، ومسجد قبة الصخرة في القدس، والمسجد النبوي في المدينة المنورة، لكن الموت عاجَله فكان حظ بناء المسجد الأموي هو في زمن الوليد بن عبد الملك، وشُيد وفق مخطط جديد مبتكر فريداً في هندسته، آية في الإبداع وتحفة من التحف الفنية، ثورة على البساطة والتقشف وانطلاقة جديدة في مضمار فنون العمارة والزخرفة الإسلامية وقتئذ، وتأسست بإشادته مبادئ هندسة الجوامع الكبرى التي شيدت بعده في العالم الإسلامي، إذ ظل المعماريون عدة قرون يستوحون منه وينسجون على منواله.
موقع الجامع الأموي من أقدم مواقع معابد التاريخ الإنساني
أقامت نقابة المهندسين بدمشق انطلاقاً من كل ما تقدم وبمناسبة دمشق عاصمة للثقافة العربية، محاضرة تحت عنوان «لماذا سقطت قبة الوليد الأولى؟» ألقاها الباحث المهندس طلال عقيلي في الثامن والعشرين من أيار 2008 في قاعة محاضرات النقابة.
تحدث فيها الباحث عن روائع الجامع الأموي بصفته تحفة معمارية دمشقية وعن الأحداث التاريخية التي مر بها، كما تناول الطقوس الدينية وأماكن العبادة التي سبقت الجامع الأموي، فجاءت محاضرته تحمل طابع السرد التاريخي لهذه المنشأة أكثر من كونها اختصاصية تُعنى بالفعل الهندسي المعماري الإنشائي وفق ما أوحى به العنوان ولكن المحاضرة عكفت سريعاً على النواحي و العمليات الإنشائية، وفي ذلك يقول الباحث عقيلي «نحن في عام دمشق عاصمة للثقافة العربية والعمارة والعمران أحد أهم محاورها الأساسية. والجامع الأموي في دمشق يختزل عمارة الأمة كلها، ولعلني وجدت تسليط الضوء على هذا المعلم مهماً للمختص وغير المختص وبالتالي سؤالي حول لماذا هبطت قبة الوليد كان بغية أن نكمل المحاضرة باتجاه الحديث عن هذا الجامع الذي يحتوي الأعاجيب والروائع والتحف ويختزل تاريخ العمارة الإسلامية.
«فمحاضرتي إذاً مناسَبة لوضع المهندسين في صورة كيف بني هذا الجامع ولتسليط الضوء عليه باتجاه دعوة المهندسين والناس والمثقفين لزيارته بعين بصيرة ومشاهدة روائعه التي غالباً ما يمرون عليها مرور الزوار».
يتابع عقيلي «قد يتبادر إلى ذهن الحضور أن وراء عنواني مشكلة إنشائية معقدة ترقى إلى مستوى الطرح، في حين أن الأمر غير ذلك فالعنوان لا يعبر بالكامل عن مضمون المحاضرة وإنما عن جزء منها وأردته مدخلاً إلى أحد أهم العمائر التاريخية على سطح الأرض فلا يعرف التاريخ معبداً طال عمره واستمر نفعه وتوارثته أديان مختلفة وأقيمت فيه شعائر دينية متباينة كمعبد دمشق في الماضي وكنيستها في الأمس وجامعها اليوم، إنه فخر العاصمة الأموية وزينتها إلى أبد الدهر، والوليد كما وصفه كرد علي كان معروفاً بحبه للعمران وهو الذي وعد أهل دمشق بأن يبني لهم مسجداً يفاخرون به، ويقول أيضاً مؤرخ دمشق الأكبر أبو القاسم علي ابن الحسن المعروف بابن عساكر "بنى الوليد القبة فلما استقرت وتمت وقعت" ولم يذكر ابن عساكر وغيره من المؤرخين أي شيء عن شكل القبة وعمارتها ومادة بنائها ولا عن سبب وقوعها.
«ولمعرفة ذلك كان لابد من العودة إلى الأصول والمراحل العمرانية التي سبقت الجامع فهي تشكل حلقات في سلسلة مترابطة بدأت بالمعبد الآرامي الذي يرجع إلى الألف الثامن قبل الميلاد إلى الآلهة حدد الدمشقي ثم تلاه معبد هلنستي روماني للآلهة جوبيتر ثم كنسية بازيلكا في العهد البيزنطي وتحمل اسم القديس يوحنا المعمدان ثم أعقب ذلك فترة الفتح العربي الإسلامي ودامت عدة عقود وكانت تؤدى فيه الصلاتان الإسلامية والمسيحية في الزمان ذاته والمكان ذاته حيث أقيم مسجد في الموقع ذاته إلى جانب الكنيسة ثم تلاها في عهد الوليد نقض الكنيسة والمسجد وبناء جامع بني أمية الكبير الذي جاء على شكل مستطيل أبعاده 97 في 157 متر ويحتل قسمه الشمالي صحن مكشوف تبلغ مساحته 21 في 48 متراً، تتوزع فيه ثلاث قباب صغيرة وهي قبة الخزنة أو قبة عائشة (في الغرب) وهي تقوم على أعمدة من الطراز الكورنتي، وقبة الساعات ويقال عنها أيضاً قبة زين العابدين (في الشرق) وقبة البركة مقامة فوق البحيرة الفوارة في الوسط، ويفتح الصحن على أربعة أبواب توصله بجهات دمشق الأربعة، الباب الشرقي (باب جيرون) ويؤدي إلى درب العجم أو النوفرة، والباب الغربي (باب البريد) ويؤدي إلى سوق الكتابين والوراقين، والباب الجنوبي (باب الزيادة) ويؤدي إلى سوق الصاغة والبيمارستان، والباب الشمالي (باب الكلاسة) ويؤدي إلى باب الفراديس.
«يحيط بالصحن من الداخل رواق مسقوف قائم على أعمدة وعضائد ويحتل المصلى (الحرم) الطرف الجنوبي منه وهو قاعة مستطيلة مؤلفة من ثلاثة أروقة موازية للقبلة ويقطع هذه الأروقة الثلاثة من الشمال إلى الجنوب رواق شاهق الارتفاع بالغاً في ارتفاعه 50 متراً ويحمل في وسطه قبة "النسر" الشامخة كما أرادها الوليد بن عبد الملك سادس خلفاء بني أمية، عالية شامخة فتصدى معماريو الوليد لبناء الجامع مع غياب التجربة لهذه المهنة الجديدة التي لم يسبق لها مثيل، صحيح أنهم اكتسبوا بعض الخبرة وعايش بعضهم تجربة بناء الجوامع وتوسعها وتجديدها في المدينة المنورة والقدس والبصرى والكوفه والفسطاط، إلا أن دمشق اختلفت عنها جميعاً حجماً وأهمية، ولم يكن لدى معماريي الوليد أسس متطورة يعتمدونها في بناء المساجد فقد كانت تجربتهم في هذا المجال محصورة، وما كاد البناؤون ينتهون من بنائها حتى سقطت، فشق ذلك على الوليد، فأتاه بنّاء من أهل دمشق وعرض على الخليفة أن يبنيها من جديد وقام هذا البنّاء بحفر الأرض حتى بلغ الماء ثم وضع الأساس وغطاه بالحصر، ثم اختفى ولم يعده عاماً كاملاً فلما أُحضر إلى الوليد قال له الخليفة "ما دعاك إلى ما صنعت؟" قال البنّاء "اخرج معي حتى أريك"، فخرج الوليد والبناء والناس معهما، حتى كشف الحصر، فوجد البنيان قد انحط ونزل قليلاً عما كان عليه من قبل. فقال الرجل "من هنا كان سقوط القبة، فابنوا الآن، فإنها لا تهوي إن شاء الله"، وبالفعل، استقرت القبة بعد ذلك ولم تسقط.
لماذا سقطت قبة الوليد الأولى؟
«ولقد وصف ابن جبير في القرن الثاني عشر الميلادي، قبة النسر فقال "أعظم ما في هذا الجامع المبارك، قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وسطه، سامية في الهواء، عظيمة الاستدارة، فإذا استقبلتها أبصرت منظراً رائعاً ومرأىً هائلاً يشبهه الناس بنسر طائر، كأن القبة رأسه والغارب جؤجؤه ونصف جدار البلاط عن يمين ونصف الثاني عن شمال جناحيه، وسعة هذا الغارب من جهة الصحن ثلاثون خطوة، فهم يعرفون الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه"».
يختتم الباحث عقيلي محاضرته: «يمكننا القول إن الجامع الأموي ينتسب إلى الفنون المعمارية الشامية التي ازدهرت على يد الأمويين الذين تمَّ في عهدهم إنشاء العديد من الأعمال العمرانية من مدن ومساجد وقصور، كما يمكننا الإشارة هنا إلى أن الجامع الأموي لم يكن مجرد مصلى بل كان بعظمة بنائه وجلال هندسته وأهميته مركزاً لفعاليات متعددة ففيه كان الخليفة يستقبل عماله ورسله ويقاضي الناس ويفصل في الأمور الكبيرة كما كان مدرسة علم وتدريس وفيه اعتكف الإمام الغزالي وكتب بعض كتبه وقام بالتدريس فيه».
يذكر أن الدكتور طلال عقيلي عضو مجلس إدارة دمشق عاصمة للثقافة العربية وعميد سابق لكلية الهندسة المعمارية في دمشق.


رياض أحمد

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق