زكية حمدان

1925-1987

فتح "محمد محسن" الباب على مصراعيه، أمام المونولوغ الرومانسي منذ أعطى في الأربعينيات للمطربة "سعاد محمد" مونولوغه الشهير "دمعة على خد الزمن"، فنبه الملحنين إلى نوع جديد من الغناء العاطفي الذي ترسخت جذوره في مصر منذ أوائل الثلاثينيات، وعرف أنواعاً مشابهة له مذ غناه ولحنه بطريقته المتفردة في القطر العربي السوري الملحن والمطرب الراحل "سري طمبورجي"، وبمعالجة أقل حدة من قبل "زكي محمد" و"رفيق شكري".
وعندما خرج محمد محسن بمونولوغ "فين يا زمان الوفا" الذي اتبع فيه ما اتبعه في "دمعة على خد الزمن" وغنته أيضاً "سعاد محمد"، أكد فيه الاتجاه الرومانسي في الغناء العربي في القطر، الذي مالت إليه المطربات بعد أن وجدن ما حققته الأغنيتان من شعبية على مستوى الغناء الراقي، فغنت "ماري جبران" بعضاً منه، كما غنت كل من "سلوى مدحة" و"تغريد محمد" و"نورهان" أغان أخرى لم ترق في مجموعها إلى ألحان "محمد محسن".
المطربة الكبيرة "زكية حسن حمدان" التي كانت ترقب عن كثب محاولات المطربات والمطربين والملحنين، أرادت أن تتخلص من أنواع الغناء التراثي الذي ألزمت نفسها به، فالتفتت إلى المونولوغ بهدف التلوين إلى جانب فنون الموشحة والدور والقصيدة التي أبدعت فيها كلها. ولما كانت ذات طبيعة حساسة، وذات مشاعر مرهفة، وترغب بتقديم فن أصيل، فقد عمدت إلى أصدقائها الكثر من الشعراء الذين يؤمون دور اللهو التي تعمل فيها للاستمتاع بفنها، لينظموا لها ما يتفق وقوة صوتها وأدائها الرفيع المتميز قصائد لا تخرج في مضامينها عن فن المونولوغ، وكان الشاعر جلال زريق والشاعر مدحه عكاش من الشعراء الذين أسهموا في ذلك، ثم اختارت بعد ذلك الموسيقي القدير "خالد أبو النصر اليافي" الذي لازمها حتى وفاته، ليلحن لها بأسلوب المونولوغ القصائد التي قدمت لها من أصدقائها. ولما كان الفنان "أبو النصر" متتبعاً للحركة الفنية في مصر، وملماً بالقيمة الفنية للمونولوغ وسبق له ومارس التلحين، ويعرف خصائص صوت زكية حمدان وإحساسها ورسوخ قدمها أداء وتعبيراً بحكم ملازمته لها كعازف للكمان في فرقتها، فقد عمد إلى إعطاء فن المونولوغ، الشاعرية التي يتطلبها، والرهافة الموسيقية التي قامت عليه، وتمكن في الألحان القليلة التي أعطى أن يجمع بين السرد الموسيقي المعبر، وبين الغناء بخصوصية خارقة، فجاءت الألحان مطابقة لمضامين القصائد ـ المونولوغ ـ موسيقياً. ومن أجمل أعماله في هذا المجال والتي أسرف في إغراقها بالألحان الرومانسية الحادة قصيدتان، الأولى "سليمى" وهي من نظم نوفل الياس، و"خلقت جميلة" من نظم "مدحة عكاش" وعندما غنت هاتين القصيدتين، أسبغت عليهما من روحها ومشاعرها وأحاسيسها الكثير، الأمر الذي جعل منهما لحنين سائرين، سيطرت بهما وبالأغاني الأخرى التي ظهرت لها على سني الخمسينيات والستينيات كلها. وتشكل أغاني زكية حمدان في المونولوغ المرحلة الرومانسية الحقيقية في القطر، على الرغم من الأعمال الأخرى التي ظهرت في هذا المجال لغيرها، ولا يمكن لأي مطرب أو مطربة مهما أوتي من براعة أن يؤدي أعمال زكية حمدان في المونولوغ بنفس البراعة التي أعطتها، ناهيك عن شخصيتها الطاغية التي أرختها بثقل فني متميز عليها لتندمج بها إلى الأبد.
وزكية حمدان، ولدت ونشأت وتعلمت أصول الغناء في حلب على أيدي أساتذة الغناء فيها، وهي تتميز بشخصية واضحة في الأداء تفصح عنها وهي في هذا تختلف عن سائر المطربات، وقد غنت في بداياتها بعد أن تمرست بالأعمال التراثية أعمالاً لمحمد عبد الوهاب وأخرى للقصبجي وزكريا والسنباطي من التي كانت تغنيها أم كلثوم فطبعتها بطابعها وأكسبتها الصفات الفنية الخاصة بها، فالأغاني من ألحان الكبار، والأداء حمداني بحت. ونجد مثال ذلك في قصيدة "الكرنك" لمحمد عبد الوهاب، وفي "أنا في انتظارك" لزكريا أحمد، و"يا ظالمني" للسنباطي،وكل هذه الأغاني وغيرها مسجلة في إذاعتي دمشق وبيروت.
لقد دللت زكية حمدان في حفلاتها الغنائية الشهيرة التي أحيتها في مختلف مسارح ودور اللهو في حلب ودمشق وبيروت طوال سني الأربعينيات والخمسينيات وحتى الستينيات عن طول باعها وتمكنها في الأعمال التراثية من قدود حلبية وموشحات وأدوار وقصائد وما إلى ذلك. ويمكن القول على ضوء تلك الحفلات المسجلة التي تضمها مكتبات الإذاعتين السورية واللبنانية، إن موضع زكية حمدان الفني يأتي في الصدارة بين المطربات العربيات في هذا الفن الصعب الوعر المسالك، وبخاصة في نوعي العرض الصوتي الحر، والمقيد بالتلحين. فهي تعي تماماً، وتعرف المواطن التي يمكن استغلالها للانطلاق منها إلى المقامات القريبة من المقام الأصلي والمقامات الأخرى البعيدة، والتي كانت تلجأ إليها لتظهر مقدرتها وتفوقها قبل أن تعود إلى مقام الأغنية الأصلي الذي انطلقت منه.
لحن لزكية حمدان عدد ضئيل من الملحنين العرب السوريين واللبنانيين منهم: أنطوان زابيطا، خالد أبو النصر اليافي، ميشيل خياط، وشفيق أبو شقرا.
من أبرز الأغاني التي غنتها لهؤلاء موشحات "رب ليل" نظم ابن الخطيب وتلحين ميشيل خياط، "يا غضيض الطرف" و"يوم جددت ليالينا" لأنطوان زابيطا، وأغنية "ناسي هواك" الحالمة، التي لحنها خالد أبو النصر مع قصيدتي "سليمى" و"خلقت جميلة" اللتين سبق الحديث عنهما، وقصيدة "لماذا تخليت عني" وغيرها من الرومانسيات الساحرة التي لحنها كلها خالد أبو النصر، ثم أغنية "من كتر حكي البشر" نظم "رشيد نخلة" وأغنية "مساكب الورد" نظم "مسلم البرازي" وهما من تلحين "ميشيل خياط" بالإضافة إلى عدد وفير من الأغنيات التي لحنها لها الملحن المعروف "شفيق أبو شقرا" من أقواها "أعياد الثورة" الوطنية التي نظمها "أسعد السبعلي".وقصيدة "ويحك يا قلبي" التي نظمها محمد علي فتوح و"يا قلبي غني" التي نظمها مارون نصر ولحنهما "عفيف رضوان".
وزكية حمدان بعد هذا تدين بالفضل في وصولها إلى تلك المرتبة الرفيعة في الأداء الفني، إلى الفنان الراحل "أنطوان زابيطا" الذي تعهد موهبتها منذ نشأتها في حلب، فأغناها بالعلوم والتدريب حتى جعل منها تلك المطربة التي من الصعب أن تنسى.
واليوم وبعد رحيل "زكية حمدان" في أواخر العام 1987 يجمع متتبعو رحلتها الفنية على أنها صنعت بصوتها وفنها تاريخ الغناء العربي الرومانسي والتراثي في القطرين العربيين السوري واللبناني طوال ثلاثين عاماً من احترافها للغناء.


صميم الشريف

الموسيقا في سورية|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق