عمر البطش

10 09

1885 - 1950

يعتبر الفنان عمر إبراهيم البطش من الموسيقيين القلائل الذين أولوا التراث أهمية خاصة، ولد في حلب عام 1885 من أسرة كلفة بالفن، ولكنه لم يزاول الفن إلا متأخراً، فقد امتهن منذ حداثته حرفة البناء على أيدي أفراد من أسرته حتى برع فيها، وكان يتردد خلال أوقات فراغه على زوايا الطرق الصوفية وبخاصة الشاذلية فيشارك في حلقات أزكارها، دون أن يدري بأن صوته الجميل قد لفت إليه أنظار بعض الفنانين الذين يشاركون في هذه الحلقات من أمثال "صالح الجذبة" و"أحمد عقيل" و"أحمد الشعار" وغيرهم، فأخذ عنهم فن أداء الموشحات. ثم علوم المقامات والأوزان والضروب، إلى أن أتقن ذلك. ثم مال إلى رقص السماح، فتدرب على إيقاعاته ورقصه حتى برع فيه براعة لا توصف، وتفوق فيه حتى على أساتذته. وفي أثناء ذلك تعلم العزف على العود وعلى عدد من الآلات الأخرى، ولكنه آثر الضرب على آلات الإيقاع المختلفة مثل "الدف" و"الدربكة".

في الخامسة والعشرين من عمره، أي في العام 1910 هجر مهنة البناء نهائياً، وانصرف إلى العمل كضابط إيقاع في مختلف الفرق الموسيقية التي كانت تعمل في ملاهي حلب ومسارحها. وفي العام 1912 اصطحبه الشيخ علي الدرويش في رحلته الشهيرة إلى المحمرة ـ عربستان اليوم ـ وعمل مع فرقة الشيخ علي عند أمير المحمرة الشيخ خزعل مدة عامين، وساهم في تأسيس فرقة الشيخ خزعل وتعليمها، وعاد في العام 1914 كسائر أفراد فرقة الشيخ علي الدرويش بثروة طيبة مكنته من العيش بكرامة، غير أن حنينه إلى الموسيقا دفعه للعمل ثانية كضابط إيقاع في فرق حلب الموسيقية المختلفة، وظل على هذه الحال فترة طويلة، إلى أن قرر امتهان التجارة، فافتتح دكانا صغيرة، في أوائل الثلاثينيات وهجر الفن، وازداد تديناً، وأخذ يلازم حلقات الذكر في الزوايا والتكايا، ويقوم بتدريس فن الموشحات ورقص السماح في المدارس الخاصة. وفي تلك الفترة من حياته، زار محمد عبد الوهاب سورية، فأحيا العديد من الحفلات في دمشق ثم غادرها إلى حلب ليقيم عدداً مماثلاً فيها. وفي موعد الحفلة الأولى، فوجئ محمد عبد الوهاب بالقاعة فارغة إلا من بضعة عشر شخصاً، فاضطر أن يغني لهذا النفر الضئيل والدهشة تغمره، حتى إذا أجاد وأبدع فيما غنى، أحاط به القوم، وأعلموه وهو في حيرة من أمره، بأنه اجتاز الامتحان، وأنه سيجد القاعة في حفلته الثانية غاصة بعشاق الفن. ثم دعوه لقضاء سهرة فنية حلبية ليُسمعوه روائع الفن الحلبي، أسوة بالطرب المصري الذي قدمه لهم وكان على رأس الحضور يوم ذاك الشيخ علي الدرويش والشيخ عمر البطش. واستمع محمد عبد الوهاب مطولاً إلى وصلات من الموشحات وانتشى طرباً. ويبدو أنه أراد بعد أن خضع لامتحان فناني حلب الصعب، أن يمتحنهم بدوره ليدلل على مدى تعمقه في الموسيقا، فسألهم في نهاية السهرة التي امتدت حتى الصباح أن يسمعوه موشحات من نغمة السيكاه الأصلية التي لا تخالطها نغمة الهزام. وبهت القوم، وارتج عليهم، ولكن الشيخ عمر البطش وعده بأن يسمعه في سهرة الليلة القادمة الموشحات التي طلب. ودهش الشيخ علي الدرويش من الوعد الذي قطعه على نفسه الشيخ عمر البطش لأنه يعرف تماماً وهو الموسيقي العالم بعدم وجود موشحات من هذه النغمة في حلب وفي القطر كله.

اختلى الشيخ علي الدرويش بعمر البطش بعد انصراف محمد عبد الوهاب، وجرى بينهما نقاش طويل وحاد، قال عمر البطش في نهايته: ـ سأضع هذه الموشحات بنفسي فوراً، لأريه أن الفن في حلب لا يعلو عليه أي فن آخر في أي قطر عربي. وعكف الشيخ عمر البطش على العمل حتى أنهى نظم وتلحين عدد من الموشحات من مقام السيكاه الأصلي الذي لا تخالطه نغمة الهزام، ثم استدعى جماعة المنشدين وقام بتحفيظهم إياها. وكان من أجمل تلك الموشحات، موشحة "رمى قلبي رشا أحور". واستمع محمد عبد الوهاب في المساء إلى تلك الموشحات مبهوراً بنغمتها ولحنها ونظمها.

يذكر الأستاذ "أدهم آل الجندي" ;في كتابه أعلام الأدب والفن ما يلي: ـ "أذكر هنا للتاريخ أن المرحوم الشيخ سيد درويش، كان قبل الحرب العالمية الأولى زار حلب واجتمع بفنانيها، وفي طليعتهم عمر البطش، وكان في الأربعين من عمره في ذلك العهد، وارتوى من منهل البطش الفني، وحفظ عنه الموشحات والأوزان الكبيرة". هذا القول فيه كثير من المغالطة، وهو غير صحيح، إذ من المعروف أن الشيخ سيد درويش ولد في عام 1892 وتوفي في العام 1923، أي أنه عاش واحداً وثلاثين عاماً، وهو ينافي ما ذهب إليه الأستاذ الجندي أنه كان في الأربعين من عمره، كما أن عمر البطش المولود عام 1885 لم يزد عمره ـ إذا كان هو المقصود بعبارة "في الأربعين من عمره" ـ إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى عن تسعة وعشرين عاماً. وإذا عرفنا بأن عمر البطش كان بين عامي 1912 ـ و1914 في المحمرة ـ عربستان ـ فمن المستبعد أن يكون الشيخ سيد درويش قد التقى به أو أخذ عنه.

كان عمر البطش مرحاً وطيباً، ارتبط بصداقات أدبية وفنية، التزم بها حتى آخر يوم في حياته، وكان من أعز أصدقائه الوطني المعروف فخري البارودي الذي كان كلفاً بالفن وكان يروق للمرحوم فخري البارودي أن يمازحه وبخاصة على موائد الطعام، فيعد عليه أقراص الكبب التي يلتهم أو أنواع المحاشي التي يأكل، وكان البطش يجيب البارودي ضاحكاً: ـ لكل شيء ثمنه.. قرص الكبة بموشح، والمحشية بدور.. سأله البارودي مرة عن بعض الموشحات التي وضعها سيد درويش وداود حسني، وعن السبب الذي دفعهما إلى عدم كتابة "خانات" أي الأبيات لها. فلم يجب البطش بشيء، ولكنه عاد في اليوم التالي إلى مجلس البارودي ليغني موشحة سيد درويش الشهيرة "يا شادي الألحان" التي كانت تفتقر إلى "خانة" كاملة بعد أن وضع لها الخانة الأولى فغدت كمايلي: يا شادي الألحان اسمعنا رنة العيدان هات يا فنان أسمعنا نغمة الكردان بعد أن كانت تقتصر على البيت الأول فقط ـ أي القفل ـ كذلك فعل في موشحة "العذارى المائسات" التي أضاف عليها الخانة الأولى. فانتشى البارودي، وشهد له بالبراعة والتفوق. والبارودي الذي يعتبر سيداً من سادة أهل الطرب أتاح للبطش ولغيره من الفنانين المتمكنين الاطلاع على مكتبته الموسيقية الضخمة التي جمعها من مختلف البلاد التي تعنى بالموسيقا الشرقية، وقد استفاد منها البطش كما استفاد منها غيره كشفيق شبيب ومصطفى هلال ومحمد عبد الكريم وغيرهم.

كان لقاء محمد عبد الوهاب بعمر البطش حافزاً لهذا الأخير لأن يعود إلى الحياة الفنية، ولكنه تردد سنوات، وظل يدرِّس لعدد من هواة التراث، الموشحات ورقص السماح، إلى أن تلقى في العام 1943 دعوة من معهد الموسيقا الشرقية الذي تأسس حديثاً للتدريس فيه، فحزم حقائبه ورحل إلى دمشق ليمارس المهنة التي أحب كأستاذ لفن الموشحات ورقص السماح.

رقص السماح:
يدين فن رقص السماح في تطويره وتقديمه على الصورة الزاهية التي نراها عليه اليوم لعمر البطش، إذ عمل طوال حياته، ومن خلال حبه لهذا الفن وعشقه له على تخليصه من الرتابة التي عرفت به، ومن الشوائب التي طرأت عليه بمرور الزمن، فغدت حركات الأيدي والأرجل في هذا النوع من الرقص "السماح" تنطبق مع إيقاعات الموشحات، فيختص كل إيقاع إما بحركات الأيدي وإما بحركات الأرجل أو بالاثنتين معاً، وقد استطاع بمساعدة معاهد "دوحة الأدب" التي كانت تشرف عليها الوطنية والمربية الكبيرة "عادلة بيهم الجزائري" وابنتها السيدة "أمل الجزائري" أن يجعل رقص السماح أكثر رقة وعذوبة، وبعمله هذا نقل هذا الفن الذي كان مقصوراً على مدينة حلب إلى مدينة دمشق.

وعندما ظهرت طالبات دوحة الأدب لأول مرة في العام 1947، وهن ينشدن موشحة "املا لي الأقداح صرفاً" ويرقصن على أنغام رقص السماح على مدرج جامعة دمشق، ثار مجتمع دمشق المحافظ المتزمت على المعهد وإدارته وطالباته وعلى الفنان البطش دون جدوى، وانتصرت التقدمية في نظرتها للفن على الرجعية المتزمتة وما قامت به من أعمال، واستمرت طالبات دوحة الأدب في تقديم عروضها الفنية كل عام، محققة عن طريق هذا الرقص التراثي الرائع في كل شيء، أول نصر حقيقي للمرأة في ميدان الفن الذي كان كل من يزاوله ـ حتى من الرجال ـ محتقراً مذموماً. والبطش الذي تدله برقص السماح تدلهاً يقرب من التصوف ترك لنا بعد رحيله وصلات متنوعة على أوزان "المحجر والمربع والمدور، والمخمس، والسماعي الثقيل والدارج".

اهتم البطش كذلك بالموشحات، وكانت وصلة الموشحات تستغرق قبل تعديلاته وتطويراته لها أكثر من ساعتين. ومنذ قام بتهذيب أسلوب أدائها، أصبح زمنها لا يزيد مع الرقص الذي يرافقها عن الساعة الواحدة.

ألف عمر البطش ولحن حوالي ثلاثين ومائة موشحة، منها ثمانين موشحة تقريباً قد تم تدوينها. ويقول الذين تتلمذوا على يديه، أنه يحفظ "أربع سفن" فإذا عرفنا أن السفينة الواحدة تضم ألف موشحة، فهذا يعني أن الشيخ البطش يحفظ أربعة آلاف موشحة نظماً ولحناً وأداء. ومن موشحاته الشهيرة التي طلبها منه الراحل "فخري البارودي" ثلاثة موشحات جميلة جداً هي: "يمر عجباً ويمضي ولا يؤدي السلاما" من مقام الحجاز كار كرد، و"يا معير الغصن قداً أهيفا" من مقام الحسيني، و"بات بدري وهو معتنقي" من مقام الراست. كذلك لحن عدداً من الأدوار التي لا يعتد بها كثيراً مثل دور "يا قلبي مالك الغرام" ودور "يا قلبي افرح نلت المرام".

تتلمذ على يديه عدد كبير من هواة التراث الذين غدوا فيما بعد من الأعلام، وأشهر هؤلاء "عبد القادر الحجار"، والفنان القدير "بهجت حسان"، و"زهير وعدنان منيني". توفي الشيخ عمر البطش في الحادي عشر من كانون الأول عام 1950 عن عمر يناهز الخامسة والستين وبوفاته أقفرت الساحة الفنية من الفنانين الأعلام الذين وهبوا حياتهم للموسيقا التراثية بمختلف أنواعها وضروبها.



[1]زار محمد عبد الوهاب القطر بين عامي 1933 و1934 وروى الحادثة بنفسه من التلفزيون العربي السوري. [2]راجع كتاب أعلام الأدب والفن للأستاذ أدهم آل الجندي، صفحة 287ـ صادر عن مطبعة صوت سورية.


صميم الشريف

الموسيقا في سورية|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

احمد البطش:

والله شرفتنا يا يا ابن العم كيفك ايش اخبارك انشاء الله تمام وبصحة جيدا وكيفكم كلكم مع تحيتي احمد البطش واخير الشكرا

فلسطين التفاح

فلسطين التفاح