جميل عويس

1890-1955

ربما كان "جميل عويس" من أعمق وأقدر الموسيقيين العرب وأكثرهم فهماً لواقع الموسيقا العربية، وما يجب أن تكون عليه في مستقبل أيامها. وجميل عويس المولود في قرية من قرى "جسر الشغور" قرب حلب عام 1890 نشأ وتعلم كزميله "توفيق الصباغ" على أيدي شيوخ حلب وأعلامها. ثقافته العالية التي اكتسبها كالصباغ من المدارس الأرثوذكسية، وإتقانه اللغة الفرنسية واللغة التركية، أتاحت له كلها الاطلاع الواسع على ما يجهله في الموسيقا الغربية والموسيقا الشرقية. براعته في التدوين الموسيقي، ومهارته الفائقة في العزف على الكمان، بوأتاه مركزاً مرموقاً في مصر، عندما نزح إليها قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بعدة أشهر. وإذا نحن استثنينا أعماله الغنائية الخفيفة التي دفعت إليها الحاجة كأغنية "على سرير النوم دلعني" لسمحة العراقية، وأغنية "فين حزامي يا نينه" لفريدة مخيش، لوجدنا بأن الموسيقار الخالد "سيد درويش" يعتمد عليه في تدوين أعماله الغنائية، وفي تعليمه التدوين الموسيقي الذي كان لا يفقه فيه شيئاً. إذ لولا "جميل عويس" لضاعت مؤلفات "سيد درويش" ولما بقي منها إلا النذر اليسير المحفوظ في الاسطوانات، وصدور محبي وهواة فن "سيد درويش".
بعد وفاة "سيد درويش" اتصل "محمد عبد الوهاب" الطامح إلى احتلال مركز الصدارة الموسيقية في مصر "بجميل عويس" واستعان به في تدوين أعماله الموسيقية والغنائية الأولى، وفي تعليمه التدوين الموسيقي، وفي تشكيل فرقته الموسيقية التي كان فيها العازف الرئيسي والموجه والمعلم للفرقة (التخت الشرقي)، وكان "جميل عويس" قبل اتصال "محمد عبد الوهاب" به تواقاً إلى تحقيق أهدافه الموسيقية التي تحتاج إلى تمويل، ومن هنا وجد في محمد عبد الوهاب وفي شخصيته الفنية الطموحة ما يروم ويبغي، الأمر الذي يوضح سر العلاقة التي قامت بين الاثنين واستمرت حتى نهاية العام 1937.
استغل "جميل عويس" محمد عبد الوهاب في تنفيذ أهدافه الموسيقية، واستطاع بقوة شخصيته، وبثقافته الموسيقية الواسعة، وعلمه الغزير، ومعرفته لأصول التدوين الموسيقي وللمقامات الشرقية والغربية من احتلال مكانته المرموقة، ومن إقناع محمد عبد الوهاب في استخدام مختلف أنواع الآلات الإيقاعية الغربية التي كانت معروفة آنذاك إلى جانب آلتي الكمان الجهير "فيولونسيل" و"الكونترباص" الكمان الأجهر. ويمكن القول أن محاولة جميل عويس تشبه محاولة "أنطون الشوا" الذي حاول منذ أواخر القرن التاسع عشر فرض آلة الكمان على التخت الشرقي فلم ينجح في ديار الشام ونجح في القاهرة، فقد اصطدم "جميل عويس" عند محاولته إدخال آلة الكمان الجهير (فيولونسيل) إلى التخت الشرقي بعقبات مشابهة للعقبات التي اصطدم بها الشوا، إلا أنه تمكن بقوة شخصيته وإصراره على تنفيذ ما صمم عليه من تحقيق نصر حاسم لتصبح آلة الكمان الجهير (فيولونسيل) ثم آلة "الكونترباص" الكمان الأجهر من آلات التخت الشرقي، ومنذ ذلك التاريخ في أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات أخذت معالم التخت الشرقي تهتز تحت معول التجديد المدروس. ولم تقف إصلاحات "جميل عويس" للتخت الشرقي عند هذا الحد، بل تعداها إلى استخدام أنواع من الآلات الإيقاعية الغربية التي لم تكن معروفة في التخت الشرقي قبلاً "كالكاستنييت" وآلات الإيقاع الأخرى المستخدمة في الموسيقا الغربية الراقصة مثل "العصوين".
وكان أول استخدام للأولى، في أغنية "أهون عليك" وفي الثانية في قصيدة الأخطل الصغير "جفنه علم الغزل" اللتين غناهما محمد عبد الوهاب.
من هذا الذي سردناه يتبين لنا بأن الفضل في إدخال أسرة الكمان برمتها للفرقة الموسيقية "التخت الشرقي" عدا آلة (الفيولا) يعود إلى الفنانين العربيين السوريين "أنطون الشوا" و"جميل عويس". أما آلة "الفيولا" فلم تدخل إلى الفرقة الموسيقية العربية، إلا في العام 1960، عندما استخدمها الفنان العربي "صلحي الوادي" في مسرحية "يوم من أيام الثورة السورية" الغنائية الراقصة، والتي عرضت لأول مرة على مسرح مدينة معرض دمشق الدولي.
لم يقم جميل عويس بعمله هذا ـ استخدام الكمان الجهير والكونترباص ـ الكمان الأجهر في التخت الشرقي إلا بعد دراسة تجريبية على تلك الآلات، وقد أتاح بعمله هذا، الفرصة لعدد من الموسيقيين أن ينسجوا على منواله، فاستخدموا دون دراية أو دراسة، آلات موسيقية لا تستقيم أصواتها وأغراض التخت الشرقي، الأمر الذي جعل "التخت الشرقي" يفقد هويته الأصيلة ويصبح مع مرور الزمن فرقة "مبندقة" لا تمت للتخت الشرقي أو للفرقة العربية بصلة.
إن الإبداع الذي جاء به "جميل عويس" هو تطوير مدروس للتخت الشرقي، بينما استخدام محمد عبد الوهاب بعد جميل عويس للآلات الغربية الأخرى مع أضرابه من الموسيقيين كان استخداماً اعتباطياً، لأن الآلات التي استخدمها "عويس" هي من أسرة الكمان وتستطيع أن تؤدي أرباع الصوت التقريبية، بينما الآلات التي استخدمها محمد عبد الوهاب، ومن سار على خطاه، كانت تفتقر إلى أرباع الصوت بحكم تصنيعها وتعتمد على أنصاف الأصوات في السلم المعدل.ومن هنا تباينت مع آلات التخت الشرقي، وظل استخدامها على الرغم من فرضها على التخت الشرقي محدوداً، وفي مجالات ضيقة.
استخدم "جميل عويس" آلات غربية أخرى لا تستخدم إلا في الموسيقا الراقصة. وقصر استخدامها على ضرورة اللحن الراقص، وكان أول استخدام لآلة "الأكورديون" مثلاً في مونولوج "مريت على بيت الحبايب" الذي غناه محمد عبد الوهاب، وانحصر هذا الاستخدام في اللازمة الأخيرة التي صاغها محمد عبد الوهاب على إيقاعات "التانغو"، كذلك عاود جميل عويس استخدام هذه الآلة في تانغو "سهرت منه الليالي" الذي ظهر في فيلم دموع الحب، وفي أعمال أخرى مشابهة.
و"جميل عويس" الذي ترأس فرقة محمد عبد الوهاب، منذ أواخر العشرينيات تقريباً، وقادها ما يزيد على العشر سنوات، عقدَّ بابتكاراته الفنية الفرق الموسيقية الأخرى، وخاصة فرقة أم كلثوم التي كان يرأسها "العقاد الكبير" ويشرف عليها فعلياً الفنان الكبير "محمد القصبجي"، وجعلت القصبجي، وهو المبدع الصامت أن ينحو نحوه في استخدام آلات الكمان الجهير "فيولونسيل" و"الكونترباص" في أغاني فيلم "وداد"، وبعض الأغاني الأخرى التي سبقتها، وأن يستعين بالموسيقي "إبراهيم حجاج" وبالموسيقي "عزيز صادق" عازف الناي الشهير، اللذين كانا يحملان أفكاراً موسيقية حديثة نالت إعجاب القصبجي، فاتفق مع الأول على توزيع موسيقا أغاني أم كلثوم، ومع الثاني على قيادة فرقتها من أجل تحقيق قصب السبق على محمد عبد الوهاب، وقد ظهرت نتائج ذلك في أغاني فيلم "نشيد الأمل" التي تجاوزت كل ما أعطاه جميل عويس حتى ذلك التاريخ.
وزّع جميل عويس وقاد وأخرج كل أعمال محمد عبد الوهاب الغنائية والموسيقية التي ظهرت في أفلام "الوردة البيضاء، دموع الحب، يحيا الحب" إلى جانب جميع الأغاني التي ظهرت قبل تلك الأفلام وفي أثنائها منذ تسلم فرقة محمد عبد الوهاب، وأشهر تلك الأغاني مونولوج "أهون عليك" وقصيدة "أعجبت بي" و"بلبل" و"على غصون البان" وغيرها كثير. بالإضافة إلى الأعمال الموسيقية التي ظهرت في الأفلام السينمائية وخارجها مثل: السماعيات، ومقطوعات "فرحة، وألف ليلة، وحبي، ولغة الغيتار" وغيرها.
وإذا عدنا إلى تسجيلات محمد عبد الوهاب القديمة، وبخاصة "المواليا" المسبوقة بتقاسيم على الكمان، سنلاحظ عند الاستماع تنويهاً يشير بأن تقاسيم الكمان هي "للفنان جميل عويس" كما نلاحظ أصوات أفراد يصيحون في أعقاب كل "محط" مقامي، وقد هزتهم تلك التقاسيم "يا سلام عليك يا جميل عويس".
عاد جميل عويس إلى حلب في نهاية الثلاثينيات، بعد أن استعاض عنه "محمد عبد الوهاب" بعزيز صادق. وفي حلب مكث بعض الوقت أضحى خلاله قبلة الفنانين ومرجعهم، ودفعه هذا إلى ممارسة نشاطه الموسيقي الخلاق من خلال الأندية الموسيقية العديدة. وفي تلك الفترة من حياته، اتصلت به المطربة "ماري جبران" وطلبت إليه أن يترأس فرقتها الموسيقية.
وهكذا بدأ عمله معها في حلب، ثم رافقها إلى دمشق، ليسهم نهاراً مع توفيق الصباغ في دفع الحركة الموسيقية إلى الأمام، وليلاً مع ماري جبران التي تعاقدت على العمل في ملهى "بسمار" الشهير اليوم "بمقهى الكمال الصيفي"، وعندما وقعت ماري جبران عقداً جديداً مع "ملهى منصور" في بيروت اشترطت أن يترأس جميل عويس الفرقة الموسيقية، وأن يعامل معاملة الموسيقيين الكبار. وهكذا انتقل إلى بيروت التي وجد فيها المناخ الذي يبحث عنه. وظل جميل عويس يعمل مع المطربة الكبيرة، إلى أن دفعه الحنين إلى مصر، فرحل إليها ثانية والحرب العالمية الثانية تكاد تضع أوزارها وقد ترأس في تلك الفترة فرقة أم كلثوم الموسيقية التي أدت كل أعمالها الغنائية في الأفلام السينمائية.
توفي جميل عويس في منتصف الخمسينيات، مهملاً منسياً، دون أن يترك إرثاً يورثه لورثته. اللهم عدا مؤلفاته القيمة المهملة وكمانه النفيسة التي تداولتها الأيدي، قبل أن تؤول وتستقر عند الشاعر العربي الحمصي المعروف "عبد الرحيم الحصني" الذي يحتفظ بهذه الكمان ويعتز بها كأنها إحدى روائعه الشعرية.
تمتاز مؤلفاته بالضخامة والجزالة، وهو في كل مؤلفاته لم يخرج عن القوالب الشرقية المعروفة في التأليف العربي.الافتتاح عنده يمهد للأفكار التي ستصافح المستمع، والصياغة الفنية متكاملة، والألحان في أبعادها واتساقها تتصاعد بسمو لا تتزلف ولا تستجدي، وحتى "التسليم" الذي يفصل بين "خانات" السماعي أو اللونغا ـ أي المقاطع الموسيقية ـ تمتاز بالرقة والعنفوان، وإذا نحن أخذنا مقطوعة من مقطوعاته، ولتكن السماعي من مقام "نوا أثر" أو لونغا "عجم" أو مقطوعة "أفراح"، لوجدنا في كل هذه المقطوعات صياغة رفيعة تجاوزت ما اعتاد المؤلفون العرب كتابته في هذا الضرب من المؤلفات. ولدهشنا للتناسق البديع في البناء الموسيقي الذي توخى فيه توزيع فكرته الموسيقية على خاناتها وتسليمها، بلغة معاصرة، سبقت الزمن الذي ألفت فيه، وهي على الرغم من مرور أكثر من أربعين عاماً على ولادتها مازالت تقف شامخة بلغتها الموسيقية المعاصرة كدليل حي على مؤلف خالد عرف كيف يكتب في القوالب التقليدية تلك الكلاسيكيات الرائعة.
أبرز مؤلفاته الموسيقية المسجلة في إذاعة دمشق، عدا التي ذكرت آنفاً هي:
بشرف من مقام الكرد، سماعي فرحفرا، رقصة الغزلان.



[1]راجع كتاب "سيد درويش" للدكتور محمود الحفني.
[2]كان محمد عبد الوهاب تلميذاً لجميل عويس في معهد الموسيقا العربية (معهد الملك فؤاد الأول).


صميم الشريف

الموسيقا في سورية|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

oussama:

اريد الكمان الاجهر

الجزائر

عصام عبد الفتاح:

شكرا علي هذه المقاله التي اضافت الكثير لمعرفتي بالموسيقار جميل عويس. من الواضح ان تاثيره الكبير، كما بيّنت المقاله، علي الموسيقى العربيه بوجه عام والموسيقيين و الملحنين المصريين بوجه خاص يجهله الكثيرون .  

الولايات المتحده الامريكيه

ahmed elbebany:

شكرا على هذه المقاله الخاصة بالموسيقار جميل عويس
وبفضل الله وكرمة أكرمنى الله بمجموعة من النوت الموسيقيه الأصلية بخط اليد الخاصة بالموسيقار جميل عويس بمعظم أعماله مع الفنان محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وبعد الألحان الخاصة به وبعض الفنانين بتوقيع جميل عويس .

ahmedelbebaany

مصر