كميل شامبير

1892-1934

الذين عايشوا الحياة الموسيقية في القطر العربي السوري يعرفون جيداً بأن الحركة الموسيقية قامت منذ بدايات هذا القرن على أكتاف قلة من الموهوبين الذين قادتهم هواياتهم ومواهبهم للاحتراف، فخرقوا تقاليد المجتمع المحافظة، وتحملوا الشيء الكثير من العنت من أجل الهدف الموسيقي الذي كرسوا له حياتهم، فكانوا النموذج المثالي للفنان الأصيل الذي لم يقف في فنه عند حدود معينة. ومن هؤلاء الموسيقار "كميل شامبير" الذي ولد في حلب عام 1892، وبلغ في فنه وثقافته شأناً لم يبلغه أحد من معاصريه.
كان "كميل شامبير" فناناً من نسيج خاص يملك ناصية اللغات الفرنسية والإيطالية والإنكليزية وآدابها بالإضافة إلى اللغة التركية، وعلوم الموسيقتين الغربية والشرقية، وقد انعكس تأثير هذا كله على عمله الفني، فأحله في مركز الصدارة بين أهل الفن.
ربما كان حظ "كميل شامبير" أقوى من حظ زملائه "اسكندر شلفون" و"جميل عويس" و"توفيق الصباغ" و"شفيق شبيب" في الشهرة، فقد دانت له، كما دانت لسامي الشوا، غير أن شهرة "سامي الشوا" وإن طغت على زملائه حتى تجاوزت الوطن العربي، فقد ظلت مقتصرة على قدرة العزف التي يملك، بينما شهرة "كميل شامبير" قامت على العزف والتأليف والإبداع، وعلى تكريس علوم الموسيقا الغربية لخدمة الموسيقا العربية: وإذا نحن بحثنا في الخصائص التي قام عليها فن كميل شامبير، لوجدنا بأن إتقانه العزف على عدد من الآلات الموسيقية نما واتخذ أشكالاً مختلفة مذ كان في الخامسة من عمره طالباً في روضة الأطفال بمدرسة "الراهبات الفرنسسكانيات" في حلب، فقد تعلم العزف على الكمان، وأجاد العزف على العود أثناء تدرجه في المدرسة عاماً بعد آخر، قبل أن ينتقل إلى آلة البيانو التي شغف بها حباً. ولم يكتف بذلك، إذ كانت موهبته تقوده إلى اكتناه أسرار كل آلة موسيقية، ومن هنا أولى آلات النفخ الخشبية والنحاسية اهتمامه وهو مازال بعد في الخامسة عشرة من عمره. فدرسها دراسة مستفيضة، وعزف عليها، وسبر خصائصها، واختار منها في البداية آلة "الكلارنيت" حتى أجاد العزف عليها ثم استبدلها بآلة "الترومبيت" التي وجدها تلائم إحساسه الموسيقي، فبرع في العزف عليها براعة لم يسبق إليها، وكان آنذاك قد أنهى دراسته الثانوية، واستقام له كل شيء، وقرر أن يكرس حياته لخدمة الموسيقا التي يهوى.
يقول الأستاذ منير الحسامي مايلي:
ـ "... في السابعة عشرة من عمره ـ أي في العام 1908 ـ ترك بلاده ميمماً إيطاليا، فمكث فيها ردحاً من الزمن، أكمل أثناءه درس الموسيقا الإفرنجية في أشهر مدارسها ـ يعني معاهدها الموسيقية ـ وعلى أعظم أرباب هذا الفن، وبعدئذ رحل إلى أمريكا فاشتغل في الأوبرا مدة، ولما رأى بلاده في حاجة إليه، عاد إليها، وكان قد صار من أمهر أساتذة الفن الموسيقي، ومكث فيها قليلاً، ورحل إلى مصر سنة 1914...".
وفي مصر احتفى به الفنانون المصريون والفنانون السوريون الذين نزحوا عن القطر، في العشر الأول من هذا القرن. وكان سامي الشوا في مقدمة هؤلاء.
بدأ "كميل شامبير" نشاطه الفني في القاهرة بإقامة عدد من الحفلات الموسيقية، ثم ترأس فرقة "نجيب الريحاني" وكتب لمسرحه عدداً من الروايات بأسلوب "الأوبريت" ـ كوميديا غنائية ـ وكان هذا العمل الخطوة الأولى لشامبير في التأليف الموسيقي الغنائي، ومنذ ذلك التاريخ حفلت مسرحيات نجيب الريحاني بالعديد من الألحان والأغاني والأناشيد التي انتشرت انتشاراً واسعاً وترددت على ألسنة الناس في كل مكان.
وفي تلك الفترة الخصبة من حياته التأليفية، اتصل به الفنان "أمين عطا الله" وطلب إليه أن يترأس فرقته الموسيقية المسرحية، وأن يكتب له أسوة بزميله "نجيب الريحاني" عدداً من الأوبريتات. وهكذا غدا "كميل شامبير" خلال فترة زمنية قصيرة المؤلف الروائي والموسيقي الغنائي للفرقتين المذكورتين اللتين كانتا تتباريان بإبراز شخصية "كشكش بك" الكوميدية.
استمر تعاون "كميل شامبير" مع مسرحي الريحاني وأمين عطا الله مدة سبع سنوات، وهي المدة التي مكث فيها في مصر، وأعطى أثناءها، سبعاً وعشرين مسرحية غنائية كوميدية من نوع "الأوبريت" تقريباً. ويمكن القول إن فن الأوبريت دخل إلى المسرح العربي لأول مرة بصورة متكاملة تقريباً على يديه، وإن المسرح العربي يدين له بالفضل في هذا، وإن تجاهله مؤرخو المسرح الغنائي الموسيقي في مصر، وهو يختلف عن مسرح القباني الغنائي، في أن الأوبريت التي قدمها اعتمدت بصورة أساسية في مشاهدها على الموسيقا والغناء اللذين يكونان اللبنة الأساسية في أعماله. وتعتبر روايات "الفنون الجميلة" و"الغريب البائس" و"عقبال عندكم" و"شهر العسل" و"النونو" أفضل رواياته التي تندرج في نوع الأوبريت، وقد أعيد تمثيل هذه الروايات فيما بعد دون الإشارة إلى اسمه، كذلك قام ملحنون آخرون بتلحين نصوصها تلحيناً جديداً، كي يطمسوا اسم مبدعها الحقيقي.
العمل العظيم الذي وضعه "كميل شامبير" ولم يشاهد النور بسبب افتقار الوسط الفني للأصوات القادرة القوية، هو أوبرا "توسكا ـ Tosca" التي ترجمها عن الايطالية بنفسه واشتغل في تلحينها مدة عامين.
وعلى الرغم من الشهرة التي انداحت حوله، فإنه حزم أمره، وقرر العودة إلى الوطن... فقد كان الحنين يدفعه إليه. كما دفع من قبله "توفيق الصباغ"، وهكذا شد رحاله وعاد إلى حلب في العام 1922 دون أن تنفع معه إغراءات أصدقائه الكثر.
وفي حلب عاود نشاطه الفني بالاشتراك مع النادي الكاثوليكي فقدم غنائية "حلب على المسرح" التي لم تنجح النجاح الذي كان يرجو.
يعتبر "كميل شامبير" رائد آلة البيانو في القطر العربي السوري، إن لم نقل في الوطن العربي. إذ كما فعل أنطون الشوا بالنسبة لآلة الكمان الغربية عام 1865 عندما حاول إقحامها في آلات التخت الشرقي، حاول كميل شامبير بالنسبة للبيانو دون جدوى، فقد ظلت هذه الآلة غريبة ومرفوضة بالنسبة للموسيقا الشرقية.
في بداية الأمر، عرَّف الناس من خلال الحفلات التي كان يحييها على أعمال الكبار من مؤلفي الغرب، غير أن المستمع العربي الذي لم يألف آنذاك تلك الألحان، رفض تلك الموسيقا وإن أثارت فضوله آلة البيانو بأصواتها وأنغامها، وعند ذاك فكر في تحويل هذه الآلة التي تتنافى في نظام أصواتها ـ أنصاف أصوات ـ إلى آلة تستقيم في أصواتها مع أصوات السلم الشرقي ـ ربع صوت تقريبي ـ، ويبدو أن الصعوبات التي اعترضته في أثناء الأيام العاصفة التي عصفت بالقطر العربي السوري عام 1925 ـ الثورة السورية ـ جعلته يلجأ إلى زميليه الموسيقيين "عبد الله شاهين" و"متري المر" في بيروت، ورغم انصراف هذا الثلاثي إلى العمل من أجل إيجاد صيغة يستطيعون معها صنع البيانو الموعود، فقد باءت جهودهم بالفشل، واكتشفوا بأن أرباع الصوت في السلم الشرقي على أساس حسابات "الكوما" وما ينبثق عنها من تغيير مقامي، يتطلب تركيب لوحة للمفاتيح تجعل طول البيانو عند تركيبها يتضاعف في أدنى الاحتمالات، وتجعل من العسير حتى على العازف المتمكن أن يطول ملامسها كذلك وجدوا عند دراستهم إمكانية تركيب لوحة تتألف من ثلاث طبقات لتستطيع أن تفي بحاجات السلم الشرقي ومقاماته، بأن هذا الأمر يتطلب هو الآخر من العازف أن يستوعب قدراً كبيراً من الملامس الموزعة على تلك الطبقات، وهو الأمر الذي يستحيل تحقيقه فنياً.
وعندما فشلت محاولات الثلاثي المذكور، كانت الثورة السورية قد وضعت أوزارها، فقرر "شامبير" العودة إلى سورية، واختار دمشق مقراً لإقامته.
لم ييأس كميل شامبير في أداء الأنغام العربية على آلة البيانو، ومن أجل تحقيق هذا الأمر لجأ في حفلاته الموسيقية وندواته الخاصة إلى التحويل المباشر، فإذا أراد مثلاً أن يؤدي تقاسيم من مقام "الراست" قام بخفض درجتي "مي وسي" الموسيقيتين في السلم المعدل الغربي بمقدار ربع صوت،بواسطة مفتاح ضبط الأوتار الخاص بالبيانو، فتنطبق درجة "مي" المنخفضة على درجة "السيكاه" الشرقية، وتنطبق درجة "سي" المخفضة أيضاً على درجة الأوج الشرقية. وبمعنى آخر تصبح درجتا "مي وسي" درجتي "السيكاه والأوج" ويحصل بذلك على مقام الراست الذي يبغي دون أن يتمكن من الانتقال إلى غيره من المقامات الشرقية الأخرى.
كان مفتاح ضبط الأوتار لا يفارق جيبه ليتمكن من ضبط الأوتار وفق المقامات التي لا تستقيم أبعاد أصواتها والمقامات الغربية، وكان أحب المقامات الشرقية إلى نفسه: "النكريز، الزنجران، البستنة كار، الحجاز كار، الكرد، والعجم" وطبيعي أن بعض هذه المقامات تنسجم مع مثيلاتها من المقامات الغربية، وان افتقرت إلى النكهة الخاصة بالمقام الشرقي مثال ذلك مقام "العجم" الذي تقابله النغمة الكبرىس كم "ماجور" في الموسيقا الغربية، ورغم هذا كان يضبط الأوتار ـ أوتار البيانو ـ ليحصل على النكهة الخاصة بالمقام الشرقي.
اتصلت به شركتا "أوديون" و"بيضا فون"، وتعاقدتا معه على تسجيل بعض مؤلفاته وبعض ألحان التراث على اسطوانات، فسافر من أجل ذلك إلى بيروت، وسجل لحسابهما عدداً من الاسطوانات،ضمت تقاسيم على البيانو من مقام "العجم"، ومقام "الكرد" إلى جانب عدد من البشارف والسماعيات الشهيرة. كذلك سجل مقطوعات من تأليفه، وكانت أبرز تلك المؤلفات ثلاثيته لـ "الترومبيت والكمان والعود"، ويعتبر هذا العمل، أول مؤلف من نوعه، اعتمد فيه على نظام التأليف الغربي في "الثلاثية" إلى حد بعيد، ولكن بلغة عربية أصيلة. ولم تتكرر هذه المحاولة في تاريخ الموسيقا العربية إلا من خلال رباعي أمير البزق "محمد عبد الكريم" وخماسي "محمود عفة" المصري الشهير الذي بدأ عمله في أواخر الستينيات، أما في أسلوب الثلاثي، فلا نعرف في تاريخ الموسيقا العربية منذ "كميل شامبير" من أقدم على مثل هذه المحاولة، اللهم إلا إذا اعتبرنا ما قدمه العازف التركي "اسماعيل شنشيلر" عند زيارته لدمشق في مستهل الخمسينيات بالاشتراك مع أمير البزق "محمد عبد الكريم" وضارب الإيقاع الراحل "محمد العاقل" نوعاً من الثلاثيات.
لم يمتد العمر بكميل شامبير، ليحقق أحلامه الموسيقية التي سبقت زمانها، فقد كان الوطن العربي في واد، والفنون الجميلة، والموسيقا بنوع خاص في واد آخر. فقد قضى فجأة في التاسع من تشرين الثاني عام 1934، وهو في أوج شبابه في الثامنة والأربعين من عمره، وكان لموته رنة أسى وحزن عميقين غمرت القطر كله، وكان يوم دفنه في حلب، يوماً مشهوداً، إذ سارت حلب كلها خلف نعشه لتودعه الوداع الأخير، وتبارى الخطباء في تعداد مناقبه ومآثره، وكان أبلغ الرثاء وأروعه ذاك الذي تجسد في قصيدة صديقه الشاعر الكبير عمر أبي ريشة:
نام عن كأسه وعن أحبابه
نام عن سكرة الحياة وقد ج
يا بنات الغروب قد نفض اللي
احملي الراحل الغريب وسيري
وادخلي هيكل الفنون واهدي
ملّ دنياه بعد ما سئم السي
مورد الفن مظلم لم يصوب
سار فيه وظلمة اليأس تطغى
ليت شعري وقد توارى وشيكاً
إنما لم تزل رفاق لياليه
كلما مرّ ذكره قلبوا الكأس
لست أنسى الناقوس لما نعاه
والمناديل في أكف الغواني
وحدوه بكل لحن شجي
 
 
قبل أن ينقضي نهار شبابه
ف شراب السلوان من أكوابه
ل على الكون حالكات نقابه
بالزغاريد سلوة لاغترابه
ه سراجاً يضيء، في محرابه
ر عليها وضاق في بلوائه
فوقه الشرق مشعلاً من ضيائه
تحت أنفاسها شموع رجائه
طروباً أم بائساً في بعاده
كراماً على عهود وداده
على الأرض حسرة لافتقاده
والمصلى يموج في أحباره
تشرب الدمع مع مقر انفجاره
سرقته الآذان من أسراره
 
تلك هي رثائية عمر أبي ريشة في "كميل شامبير" أما الرثائيات الموسيقية فأكثر من أن تحصى، والجروح التي تركها في قلوب أصدقائه الموسيقيين كانت عميقة، حتى أن بعضهم "كوديع صبرا وبشارة فرزان وسليم ضومط واسكندر شلفون ومنصور عوض وموريس نجار وايلين عجمي وماتيلدا وصوفي عبد المسيح" ظلوا زمناً يقدمون في حفلاتهم الموسيقية بعض أعماله الخفيفة التي اشتهرت من خلال مسرحي "نجيب الريحاني" و"أمين عطا الله".



[1]راجع مجلة "منيرفا" ـ لصاحبتها "ماري يني" الجزء السابع ـ السنة الثانية ـ تاريخ 15 تشرين الأول عام 1924 ـ الصفحة 314 ـ مقال بعنوان ـ النبوغ في الموسيقا ـ بقلم منير الحسامي.
[2]راجع ديوان الشاعر الكبير عمر أبو ريشة.


صميم الشريف

الموسيقا في سورية "أعلام وتاريخ"|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق