توفيق الصباغ

1892-1964

ألمع المؤلفين الموسيقيين الذين انصرفوا إلى الموسيقا من دون الغناء، الثلاثي الكبير توفيق الصباغ، جميل عويس، شفيق شبيب.
وقد نجد عند هؤلاء أعمالاً غنائية قليلة مثل "أم القرى" التي نظمها شعراً "عبد الرحمن سلام" وغناها ولحنها شفيق شبيب بالاشتراك مع "متري المر" و"أغنية ريفية" التي نظمها فخري البارودي وغناها "ياسين محمود".
كذلك نجد عدداً من الأغاني الخفيفة والمنولوغات التي لحنها جميل عويس لعدد من مطربات الدرجة الثالثة أثناء وجوده في مصر.
أما توفيق الصباغ، فلا نجد بين آثاره عملاً غنائياً واحداً وهو أغزر هذا الثلاثي إنتاجاً، إذ كتب في كل القوالب الشرقية، بدءاً من البشرف والسماعي واللونغا، مروراً بالفانتازي والرقصات، وانتهاءً بالدولاب والتحميلة، أعمالاً فنية تعاني اليوم كأعمال زميليه "شبيب وعويس" إهمالاً كاملاً.. وتوفيق الصباغ، هو بحق ملك الكمان والأنغام، وسيدها المطلق، وإذا كانت الظروف، قد أحلت مواطنه الحلبي "سامي الشوا" في مركز الصدارة فان العارفين والضالعين ببواطن الفن وخفاياه يقولون بأفضليته على الشوا في هذا المضمار، والتنافس بين الصباغ والشوا، أغرق الشيء الكثير من وقت الصباغ، حتى أن مؤتمر القاهرة الموسيقي في العام 1932 كاد يشهد معركة حقيقية بين الاثنين خلال تدريب الفرقة السورية التي لم يكن الشوا في عدادها، وإذا أضفنا إلى هذا المستوى العلمي بين الاثنين لوجدنا الصباغ يقف في القمة والشوا عند الدرجة الأولى التي تقود إليها.
وتوفيق الصباغ كما أسلفنا رحل إلى مصر في العام 1912، وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى رحل منها إلى السودان، حيث امتهن التجارة مدة عامين، ثم عاد إلى مصر، فمكث فيها حتى العام 1921، ثم قفل راجعاً إلى مسقط رأسه ـ حلب ـ حيث تابع فيها عمله الموسيقي. وعندما اتخذ من دمشق مقراً له، وكان ذلك بعد الثورة السورية الكبرى، أسس مع المرحوم فخري البارودي النادي الموسيقي الشرقي السوري الذي انبثقت عنه عدة أندية موسيقية، ثم سعى مدة عامين حتى استطاع تأسيس أول نقابة موسيقية جمعت شمل الفنانين لأول مرة ودافعت عن حقوقهم. غير أن هذه النقابة لم تعمر طويلاً، إذ أغلقها الفرنسيون أسوة بالأندية الأخرى التي كانت تنشط وطنياً من خلال عملها الفني.
وضع توفيق الصباغ عدداً من الكتب الموسيقية، أشهرها على الإطلاق "تعليم الفنون" و "المجموعة الموسيقية" وتضم كامل مؤلفاته الموسيقية وبعض مؤلفات الموسيقيين العرب المتميزين والأتراك و"الدليل الموسيقي العام" الذي شرح فيه ككتاب لتعليم الفنون، كل ما يهم الموسيقيين الراغبين في تعلم النظريات الموسيقية والعزف على مختلف الآلات الشرقية كالعود والكمان والقانون والناي وما إلى ذلك.
يعتبر توفيق الصباغ من النخبة، إذ جمع بين الثقافة الموسيقية والثقافة الفكرية، ويستطيع المستمع إلى مؤلفاته، أن يلمس ذلك بوضوح، فالسماعي عنده قالب فني يستطيع أن يتحمل كثيراً من الضغط، على الرغم من تقيده بالقالب من حيث الخانات والتسليم. إلا أن الأفكار الموسيقية التي أعطى كانت أكبر من القالب الفني، ولو أنه عالج القالب الفني معالجة علمية عوضاً عن الاكتفاء بطرح أفكاره الموسيقية فيه لجعل منه قالباً يشبه قالب السيمفوني ـ مع الفارق طبعاً ـ ويقول "شفيق شبيب": إن احترام الصباغ لأعمال أسلافه الكبار هو الذي حال بينه وبين القيام بهذا العمل.. لقد فكر في ذلك، ولكنه أحجم خوفاً من ثورة فنية قد لا تأتي أكلها كما يجب، وتتيح للجهلة فرصة العبث بالقوالب الفنية تحت اسم التطوير والتجديد.
يتحدث توفيق الصباغ في كتابيه "تعليم الفنون" الذي صدر في العام 1932 و"الدليل الموسيقي العام" الذي صدر في العام 1950 عن السلم الموسيقي ، فيقول عنه أنه "عقدة العقد" إذ اختلفت الشعوب في تقسيمه وتحديد درجاته، ولكن الخلاف الأهم فيه، هو في تقدير كمية الأبعاد التي يتألف منها السلم الواحد، ومتى عرفت الكمية الحقيقية للأبعاد التي يتكون منها السلم أمكن تقسيمه بدقة.
ثم يتناول الصباغ بعد ذلك الأبحاث الصادرة آنذاك عن السلم الموسيقي، والأبحاث الأخرى التي قرأها في كتاب "المؤتمر الموسيقي" الذي انعقد في القاهرة في آذار من عام 1932 وكان مشاركاً فيه كمدرب للفرقة الموسيقية العربية السورية فيقول ما يلي:
لم أر واحداً ممن تناولوا تلك الأبحاث ـ الأبحاث الخاصة بالسلم الموسيقي ـ عمد إلى معالجة النقطة الهامة فيه، وهي قياس السلم الواحد بمجموعه، فالأبحاث دارت في الفروع مع ترك الأصل، فمنهم من أشار باستعمال السلم المعدل المقسوم إلى أربعة وعشرين ربعاً. وبعضهم مال إلى السلم الطبيعي، وغيرهم قالوا باستعمال السلم العربي، ولم أقرأ عن باحث منهم طلب تحديد كمية الأبعاد التي يتألف منها السلم حتى يتسنى تقسيمه بدقة.
والصباغ في كتابه الدليل الموسيقي العام، يتوصل عن طريق دراسته للسلالم الموسيقية، العربي القديم والفيثاغورثي، واليوناني القديم، واليوناني الحديث، والصيني، والهندي، والغربي المستخدم حالياً إلى أن السلم العربي ينقص عن الدرجات الست "كوما" واحدة ـ أي تسع الدرجة ـ مع فرق ضئيل لا يستحق الذكر هو 144/1 من الدرجة الصوتية، وإن جميع السلالم الموسيقية التي ورد ذكرها آنفاً تقريباً تعاني من هذا النقص. والسلالم اليونانية القديمة والحديثة كلها تنقص عن الست درجات، كذلك الأمر بالنسبة للسلم العربي القديم بأنواعه ينقص عن الست درجات، ولم يشذ عن قاعدة النقص سوى السلم الغربي الحالي، وسبب ذلك يعود إلى افتقاره إلى أرباع الدرجات، وعدم تأثير الأبعاد الصغيرة فيه كما تؤثر في الموسيقا الشرقية.
ولكي نتعرف على "توفيق الصباغ" وآرائه الموسيقية نورد فيما يلي أجوبة لأسئلة موسيقية، كان الأديب الراحل الأستاذ سعيد الجزائري قد استكتبه إياها لنشرها في مجلة "النقاد" ولأسباب قاهرة، ونظراً لتوقف مجلة "النقاد" عن الصدور آنذاك، ظل ذلك الحديث محفوظاً عند الأستاذ الجزائري الذي تفضل مشكوراً وأعطاني إياه قبل وفاته لنشره في هذا الكتاب، بعد أن مر على رحيل الفنان توفيق الصباغ ما يزيد عن العشرين عاماً، وها نحن نضع نص الأسئلة والأجوبة كما وردت في الرسالة التي وجهها الصباغ للأديب الراحل سعيد الجزائري.
سؤال: بصفتك عازفاً مشهوراً على الكمان، فمن يعجبك من العازفين الشباب، ثم من يعجبك من المطربين والمطربات؟
جواب: لا فضل لأحد على آخر، فكل إنسان له ميزة، ولون خاص يمتاز به عن سواه، فكما أن لكل نوع من الفاكهة لذة خاصة، كذلك لكل مطرب وعازف ميزة خاصة، يمتاز بها عن غيره، وقد يوجد من المستمعين من يفضله على الجميع.
سؤال: ما رأيك في الأغنية العربية الحديثة؟
جواب: لا رأي لي فيها، فأنا من أنصار القديم، وقد ابتدأ الجمهور يمل من سماع هذه الأغنيات المائعة، ويطرب من الألحان القديمة والألحان الشعبية القصيرة.
سؤال: هل تختار أن تصبح موسيقياً لو عدت صغيراً؟
جواب: أريد أن أعود موسيقياً، ولكن كما أنا الآن، حر طليق، دون أن أكون عبداً للجمهور كما بدأت، وكما هو شأن كل موسيقي مبتدئ ومحترف، خصوصاً عندنا.
سؤال: كيف تعلل إقبال الإنكليز على سماع موسيقانا بصوت فيروز أثناء زيارتها الأخيرة للندن ـ تمت زيارة فيروز للندن في العام 1959 ـ علماً بأن الغربيين بعيدون عن موسيقانا العربية؟
جواب: كل موسيقا صادرة عن عاطفة وشعور، مهما كان لونها، تؤثر على كل إنسان مهما كان جنسه، وقد حدث لي جملة تجارب من هذا القبيل، منها لما كنت أستاذاً للموسيقا في تجهيز معلمات دمشق وبقية المدارس، أقمنا حفلة بمناسبة اختتام السنة الدراسية في إحدى المدارس وكان بين المعلمين الذين حضروا الحفلة معلم اللغة الفرنسية، جندي فرنسي أصلي، أي أنه ليس بتونسي أو مغربي فعزفت بالكمنجة تقسيماً من مقام "الصبا" البعيد عن الأذن الإفرنجية بعداً كبيراً. وفي اليوم التالي زارني ذلك الجندي في منزلي وبادرني بقوله: "أريد أن أسمع منك ذلك النغم الحزين الذي عزفته بالأمس". أي أنه شعر أن نغم "الصبا" حزين كما نصفه نحن، وهذه حادثة من حوادث كثيرة حصلت لي مع إنكليز وفرنسيين وأجانب كنت أؤثر عليهم بموسيقانا العربية.
سؤال: يقولون أن كل من يود أن يتعلم الكمان ينبغي له أن يبدأ بالتعلم وهو صغير بالطريقة الإفرنجية فهل هذا صحيح؟
جواب: هذا رأي خاطئ، لأن من يتمرن على الطريقة الإفرنجية تعتاد أذنه وأصابعه على الأنغام الغربية، فإذا أراد أن ينقلب إلى عازف شرقي وجد نفسه أكثر بعداً عن الطريقة الشرقية مما لو ابتدأ بها. وأما مسألة تمرين الأصابع ففي العزف الشرقي خصوصاً ـ التقسيم ـ توجد حركات وحليات تستلزم تمريناً طويلاً وشاقاً، إن لم نقل أصعب من الحركات الغربية. لذلك فالأفضل للطالب أن يبتدئ بالطريقة الشرقية رأساً كما ابتدأت أنا ويوجه كل جهوده لإتقانها لتبقى أذنه شرقية. وفي كتابي "الدليل الموسيقي العام" منهاج خاص للكمنجة العربية يمكن الاستفادة منه.
سؤال: علمنا بأنك كنت تبتكر آلة توضع على الكمان فتنطق بالقرار والجواب كرجل وامرأة يغنيان معاً، فما هي العوائق التي حالت بينك وبين إكمال هذا الاختراع الفريد؟
جواب: لقد صرفت عشرين عاماً من عمري وأنا اشتغل في هذا الاختراع، وسافرت لأوروبا، وبقيت مدة هناك أحاول إكماله، ونجحت في الوصول إلى سبعين بالمائة من إكماله ولكني توقفت أخيراً عن الاستمرار في تجاربي التي بلغت المئات، وكانت كل تجربة تكلفني مشقة وتعباً فكرياً وجسدياً، وليس عندي أوائل تساعدني على العمل لذلك توقفت، ولكني لا أزال اعتقد أنه سيكمل، كما اعتقد أن الاختراعات لها أوان محدد. أما اختراعي فهو بعيد عن الفكر البشري، وطريقة إخراج الصوتين غريبة جداً لا يكاد يصدقها العقل، والدليل أن الإفرنج إلى الآن لم ينتجوا شيئاً من هذا القبيل مع كثرة اختراعاتهم وشدة شغفهم باختراعي عندما عرضته عليهم لما كنت في أوروبا وكل شيء بيده تعالى.
سؤال: ما هو أغرب حادث وقع لك في حياتك؟
جواب: أغرب حادث وقع لي، هو حادث السيارة المشهور، ولا بأس من سرده، حيث مضى عليه عشرات السنين. كنت أسست في دمشق أول ناد هو "النادي الموسيقي السوري" واتفقنا على إحياء حفلة في الجامعة الأميركية ببيروت... وقد عارضت آنذاك في ركوب السيارات وارتأيت السفر بالقطار، فأقنعوني بالسفر بالسيارة، وأرسلوا لي سيارة فيها ثلاثة من أعضاء النادي، وتركوا لي محلاً في يمين المقعد الخلفي. فلما نزلت لأركب السيارة طلبت أن أجلس بجانب السائق، فلم يقبل زميلي ذلك فقلت لهم أني عدلت عن السفر، وهممت بالرجوع، وعندئذ اضطر زميلي أن يخلي لي محله بجانب السائق ويجلس في المحل المتروك لي، ولم يمض على سفرنا نصف ساعة حتى صدمتنا سيارة متجهة نحونا، فتحطمت السيارتان وقتل صديقي الذي جلس محلي، وكتبت لي ولادة ثانية، وكانت في اليوم نفسه الذي ولدت فيه ولادتي الأولى أي في الرابع والعشرين من أيار أيضاً.
سؤال: ما هي أطرف نكتة حصلت لك؟
جواب: أطرف نكتة حصلت لي هي أني لحظت يوماً أن شخصاً يتودد إلي كثيراً من غير سابق معرفة، وبعد تودد طويل دعاني إلى منزله وألح علي قائلاً أنه يريد تكريم الفن بشخصي، فقبلت الدعوة بشرط ألا يكلفني شيئاً. فكرر أنه يريد فقط تكريم الفن.
ذهبت عنده مع صديق لي معروف بأنه هاوي كمنجة من الدرجة الأخيرة، ودخلنا المنزل، فوجدنا رب البيت وحده، وكأنه علم أني أكره السهرات الحافلة، وكان قد أعد لنا مائدة شهية، ثم أحضر خمراً، وابتدأنا بالحديث والشرب والأكل، ولما لعبت الخمرة برؤوسنا فاجأني صاحب الدعوة بعبارة كانت هي منشأ النكتة، إذ قال لي بتوسل: سأطلب منك طلباً لا تخيبني فيه. فسألته ما هو؟ قال: أن تسمعني قصيدة بصوتك الشجي.
حينئذ فهمت أنه يعتقد أني مشهور بالغناء، وأردت استمرار النكتة فطلبت كمنجة لصديقي ليساعدني على الغناء، فأحضرها حالاً، وسلمها لصديقي الذي ابتدأ فوراً في الضرب عليها، ثم قسم تقاسيم فظيعة بنشازها، وجاء دوري بالغناء، وبتأثير صديقي انطلق من حنجرتي رغماً عني صوت منكر اهتزت له جوانب الغرفة مع كلام لا معنى له، فاستولى الرعب على رب المنزل، وابتعد عني وهو يحملق في ثم قال لي: هل بهذا الصوت المنكر اشتهرت؟ فاعتذرت له بأني عندما أشرب الخمر ينقلب صوتي كما سمعه. فقال: وصديقك الذي لم يذق الخمر ما عذره في نشازه، فقلت له: أما رأيت أنه أكل حتى انتفخ ولم يعد قادراً على حمل الكمنجة. فقال: ملعون هذا الفن الذي يخرج أمثالك وأمثال صديقك، ثم هم بالذهاب، فحاولت أن أفهمه الحقيقة، ولكنه كان غاضباً جداً فلم يصغ إلي، وقبل أن يتركنا قال: اذهبا متى شئتما، وليأكل صديقك ما تبقى. أما أنا فذاهب لأنام، وتركنا وحدنا وانصرف، فقمنا عند ذاك نتلمس الطريق لنخرج، فجاء طفل وأرشدنا إلى الباب فخرجنا ونحن نضحك لدرجة الإغماء من هذا الفصل الموسيقي الهزلي.
تلك كانت الأسئلة والأجوبة التي اختارها وكتبها الصباغ بنفسه، ويلاحظ بأنه ركز بشكل رئيسي على حرية الموسيقي بعيداً عن الجمهور، وعلى اختراعه الموسيقي الذي لا نعرف شيئاً عنه. وعلى أفضلية الغناء القديم، وعلى تفضيله الطريقة الشرقية على الغربية في تعليم الكمان. أما باقي الأسئلة والأجوبة فتنحصر في الدعاية لنفسه وتروي جانباً من الحوادث والمفارقات التي مرت في حياته وهذه كلها سنسقطها خلال نقاشنا الموضوعي حول آرائه.
يتبين لنا من آرائه حول الغناء والأغنية العربية الحديثة، اكتفاءه بالقول "أنه من أنصار القديم، وأن الجمهور بدأ يمل من الأغاني الحديثة" ويتبين لنا أيضاً بأنه ساق رأيه هذا في الوقت الذي أخذت فيه الرحابنة ترسخ جذور الأغنية الحديثة التي استولت بها على عقول الناس وقلوبهم، والتي يمكن القول عنها، أنها امتداد لفن الأغنية الحديثة الدارجة التي جاء بها سيد درويش. ولكي لا نظلم الصباغ فيما ذهب إليه، نستطيع أن نسحب قوله هذا على الأغاني الأخرى المائعة التي شاعت آنذاك والتي دأب مطربو ومطربات الدرجة الثانية على تقديمها ومازالوا حتى اليوم.
أما الرأي الذي اختار فيه أن يكون حراً طليقاً، من عبودية الجمهور ـ فيما لو ولد من جديد واحترف الموسيقا ـ فهو رأي وجيه له دلالته الموسيقية العميقة وميزاته، فهو يطلب من الموسيقي قبل كل شيء أن يتقن عمله وأن يقدم عطاءه بعيداً عن تأثيرات الجماهير. وأن يكون في عطائه متحرراً دون توجيه من الجمهور لأن من واجبات الفنان الأصيل الأساسية أن يوجه الجمهور ويرتفع به من خلال فنه عن طريق الوعي الفني الذي يملك والمستوى الرفيع الذي وصل إليه نتيجة دأبه ودراسته واحتكاكه بالفنون الأخرى، فهو كأنه يقول ضمناً، بأنه أخطأ عندما ترك الجمهور يستعبد فنه، ويعطيه ما يحب ويريد، دون أن يرغب في ذلك. فهل حقاً أعطى الصباغ في مؤلفاته و"تقاسيمه" ما يريده الجمهور منه؟
إن نظرة سريعة في مؤلفات الصباغ الموسيقية تبرهن بأنه أرضى أذواق الخاصة من المثقفين فحسب. أما الجمهور العريض فلم يكن له حظ فيه، لأنه كان ميالاً للطرب والتطريب ولا يقيم وزناً كبيراً للموسيقا الجادة، فهو يريد موسيقا آنية تطربه وتسعده دون أن تدفع به للتفكير والتأمل، ومن هنا كان "الصباغ" يلجأ جماهيرياً "للتقاسيم" بوصفه ملكاً للكمان، وهذه التسمية "ملك الكمان" لم يطلقها الصباغ على نفسه، وإنما الجماهير التي وجدت في عزفه فناً خارقاً تجاوز في تطريبه "سامي الشوا" الملقب بأمير الكمان، فلقبته بملك الكمان تمييزاً له عن سامي الشوا وإمارته.
ومؤلفات الصباغ، كما ذكرنا كانت للخاصة، وإذا عرفنا بأن عدد المؤلفين الموسيقيين العرب الذين كتبوا في قالب "البشرف" ـ مثلاً ـ مؤلفات خارقة لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة لصعوبة التأليف في ضروب هذا القالب وأوزانه وأن الصباغ واحد منهم أدركنا لم كان الصباغ مؤلفاً للخاصة وعرفنا لمَ لم تستطع مؤلفاته أن تستهوي الجماهير، وإذا أضفنا بأن مؤلفاته لم تكن تقابل بنفس الحماس الذي كانت تقابل به "تقاسيمه" أدركنا بأن الجماهير استعبدت الصباغ لعزفه الرائع وأرضخته لرغباتها في كل الحفلات الموسيقية التي أحياها في سورية ولبنان ومصر والسودان وأرغمته على تقديم "التقاسيم" المذهلة التي كان يختار ويؤدي ببراعة لا تجارى عوضاً عن مؤلفاته التي باتت اليوم في ضمير الزمان.
ومن هنا رأى الصباغ في إعجاب الجماهير بعزفه منذ شب عن الطوق استعباداً، ولم ير أو غفل عن إعجاب الخاصة المثقفة بمؤلفاته، فبنى رأيه على هذا الأساس الذي ولد عنده إحساساً يقول: إنه مرفوض جماهيرياً كمؤلف ومقبول ومستعبد كعازف خارق.
الصباغ هو الذي خلص الكمان من الطريقة التركية المتبعة في ضبط أوتارها إلى طريقة تستقيم مع العزف العربي فجعل ضبط أوتارها على النحو التالي "صول، ره، صول، دو" في الأوتار المطلقة، وهذه الطريقة هي المستخدمة اليوم في سورية. يقول الصباغ حول تعليم العزف على الكمان بأفضلية الطريقة الشرقية على الأساليب الغربية حرصاً على اعتياد الأذن والأصابع في الأسلوب الغربي من ألا تستقيم عندما يحاول العازف أداء الألحان الشرقية. وأن في "التقاسيم" الشرقية تمرينات تفوق الأسلوب الغربي.
واقع الموسيقا الشرقية حتى اليوم وخاصة بالنسبة لتعليم آلة الكمان، واقع مؤلم، إذ لا توجد كتب موسيقية لتدريس آلة الكمان يمكن الاعتماد عليها كما يجب لخلق الفنان العازف المتمكن. بخلاف الكتب الموضوعة لتدريس آلة الكمان في الغرب التي تعطي للعالم كل عام مئات العازفين الأقوياء إن لم نقل آلاف العازفين الجيدين، فإذا أضفنا إلى هذا افتقار البلاد العربية عموماً لمدرسين اختصاصيين على آلة الكمان الشرقية أمكن القول أن الوطن العربي لم يعرف عازفين متفوقين على الكمان، وأن جل العازفين الذين برزوا في كل الوطن العربي، لمعوا وتوهجوا نتيجة دراساتهم الشخصية ومواهبهم، أو نتيجة للدراسة وفق الأساليب الغربية. مثال ذلك العازف عبد الرحمن عبد العال الشهير بعبود عبد العال.. هذا العازف كان من الممكن أن يكون ذات يوم من أوائل العازفين في العالم لأن دراسته الغربية منذ طفولته على يدي البارون "أراست بللينغ" الروسي كانت تؤهله لذلك، كما كان أستاذه يطمح لأن يجعل منه ذلك العازف العالمي، غير أن أباه عازف القانون المعروف "إبراهيم عبد العال" أراد له مصيراً غير ذلك. فجنح به إلى الموسيقا الشرقية فأتقن فنونها وأنغامها، وأصبح أحد سادة العزف في الوطن العربي في الموسيقا الشرقية، وهذا يعني بأنه استفاد من الأساليب الغربية وخاصة فيما يتعلق "بقوس الكمان" وطريقة استعماله، وفي استخدام الأساليب السبعة في أوضاع الأصابع وانتقالاتها ليكرس كل ذلك في خدمة الموسيقا ومقاماتها. وعبود عبد العال لم يكن الوحيد الذي كرس العلم الغربي لخدمة الكمان الشرقية، فهناك عطية شرارة، وأنور منسي، ويعقوب طاطيوس، وعدنان الركابي، ومحمد كامل القدسي، وإميل سروة، ورياض سكر وغيرهم كثيرون ممن سخروا علوم الكمان الغربية لخدمة الموسيقا الشرقية في العزف.
أما مسألة تمرين الأصابع فالبون شاسع بين الأسلوب الغربي المتميز والأسلوب الشرقي الضعيف، ولعل خوف الصباغ من ضياع العازف بسبب أرباع الصوت في الموسيقا الشرقية هو الذي حدا به إلى الخوف من اعتياد أذن وأصابع الدارس بالأسلوب الغربي على أنصاف الأصوات من دون أرباعها بالإضافة إلى نكهة الأنغام الشرقية التي وإن تجاوبت مع بعض المقامات الغربية في أصواتها وأبعادها فتظل مفتقرة إلى تلك النكهة الخاصة بالمقامات الشرقية.
أما المنهاج الموسيقي الذي أشار إليه الصباغ والموجود في كتابه "الدليل الموسيقي العام" فهو منهاج لا يفي إلا بالتعليم الأولي ولا يمكن مقارنته بأي منهاج آخر غربي للكمان رغم جدارته، فهو لا يستطيع أن يصنع عازفاً حتى لو أشرف عليه مدرس خاص، ولو أن هذا المنهاج ترافق صعوداً مع مناهج تعليمية أخرى لاكتناه أسرار آلة الكمان كما فعل الغرب لأفاد دون شك إفادة كبيرة. وبصورة عامة فإن جميع المناهج الدراسية الموضوعة لآلة الكمان الشرقية والمعمول بها في المعاهد الموسيقية الشرقية في الوطن العربي ما تزال مقصرة ودون مستوى المناهج الغربية بكثير.
يتحدث الصباغ بعد ذلك عن اختراعه أو ابتكاره الذي سافر من أجله إلى أوروبا وكلفه الشيء الكثير من الجهد والوقت والمال، ولو أن الصباغ مازال حياً ورأى الاختراعات الإلكترونية في الآلات الموسيقية كالأورغ الإلكتروني والغيتار وما إليهما، وسمع الأصوات التي تصدر عنها لانتابه السرور لما حققه عصر الإلكترونيات من تقدم في هذا المجال، وخاصة في مجال نطق القرار والجواب في آن واحد. وفي اعتقادي أن الصباغ لم يكن يهدف لأن يجعل ابتكاره ينطق بالصوتين معاً عن طريق الإلكترونيات، بل ربما كان يسعى وراء حركة أو آلة ميكانيكية تسهل أداء الصوتين معاً دون أن يتدخل عامل دخيل على صوت الكمان كالكهرباء فيضخم الصوت أو ينطق الصوتين اللذين هدف إليهما معاً.
والصباغ دون شك لم يهدف في ابتكاره الذي لا نعرف عنه شيئاً في الوصول إلى صوتين على طريقة "الهارموني" لأنه كان ضالعاً بهذا العلم ويعرف أسراره، وربما جاءته الفكرة عن طريق آلة البيانو التي تستطيع أن تستجيب للعازف في أداء صوتي القرار والجواب معاً. فأهرق من أجل فكرته ما أهرق دون أن يصل إلى نتيجة، أو أنه وصل إليها ولكن الزمن لم يسعفه فقضى قبل أن يخرج على الناس بابتكاره الذي ذكره، وفي كل الأحوال لا يعرف أحد المصير الذي آلت إليها تركته وأوراقه. إذ كما هو معروف ماتت زوجته وابنه في حياته، ولا يدري أحد ما فعل ورثته بالتركة التي خلفها وراءه.
بقي أن نقول إن الصباغ كان من أعظم الموسيقيين الذين عرفهم الوطن العربي، ولئن لم يبتسم له الحظ في حياته فإن من الواجب إحياء مؤلفاته وتعريف الناس بتراثه.
كتب الصباغ عشرات المقطوعات الموسيقية المحفوظة في كتبه، وأغلبها ـ وهو الهام ـ لم يعمل على تسجيله على اسطوانات أو في الإذاعة، وتمتلك إذاعة دمشق عدداً ضئيلاً من مؤلفاته التي سجلها بنفسه بمرافقة كمانه منها: تقاسيم مقام فرحفزا، ومقطوعات الوداع، طلوع الفجر، الكمنجة تتكلم، سماعي حجاز كار.
أما مؤلفاته الأخرى وكلها في قوالب التراث فهي "بشرف جهار كاه" و"البشرف التوفيقي" من مقام "حجاز" و"سماعي عجم عشيران، سماعي صبا، سماعي بياتي، سماعي حجاز كار كردي، سماعي جهار كاه وسماعي سيكاه".
ومن أهم مؤلفاته الموسيقية مقطوعة عواطف وقد وصفها بقوله: "مقطوعة تجمع بين الموسيقتين الغربية والشرقية، وهي تصلح لجوقة كاملة (أوركسترا) أو لكمان وبيانو فقط، ولكي لا يختفي الطابع الشرقي من المقطوعة، فقد وضعت لها "هارموني" بسيط لتظهر الأنغام الشرقية بوضوح".



[1] راجع كتاب الدليل الموسيقي العام (ص 31) تأليف توفيق صباغ.
[2] الفنان شفيق شبيب أسس أول ناد للموسيقا في العام 1914 وهذا التاريخ لا يتفق مع قول توفيق الصباغ الذي كان آنذاك في مصر، ولم يعد منها إلا في العام 1921، وربما كان يقصد النادي الذي أسسه بعد ذلك التاريخ مع فخري البارودي.


صميم الشريف

الموسيقا في سورية|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

صياح عطاالله:

نعم انا مع الاستاذ صميم ميتود الكمان الغربي سهولة التعامل معه افضل من الشرقي انا ادرس الة الكمان ومعضم الطلبه الذين حولتهم لكتاب الاستاذ اميل غصن للكمان الشرقي لم يستطيعو التعامل معه بسلاسة الميتود الغربي ويمكن ان يرجع ذلك الى اختلاف الدوزان من صول ري لا مي الى صول ري صول ري حتى التمارين المكتوبه للغربي لا يمكن للشرقي ان يكون بجودتها وهذا سبب كافي لنقول الكمان اله غربيه وليست شرقيه

سوريا

إيهاب :

بالصدفة المحضة اشتريت كتاب من مكتبة تبيع الكتب المستعملة وكان الكتاب لملك الكمنجة الاستاذ توفيق الصباغ -مجموعة قطع موسيقية شرقية - وقادني البحث عنه لهذا المقال , شكرا صميم
واتمنى ان يقدر هذا الفنان , حسب نظرية يقدر العظماء بعد موتهم والاستاذ توفيق يستحق البحث والاعلام والتمحيص على مؤلفاته .
وشكرا

سوريا