شفيق شبيب

1897-1982

يعتبر "شفيق شبيب" من أبرز الموسيقيين العرب السوريين الذين وقفوا على قمة واحدة مع أعلام الموسيقا العربية في القطر، وهو يتقن العزف على العود، ويجيد التدوين الموسيقي، ويميل إلى الفخامة في التأليف، والذي يستمع إلى موسيقاه المسجلة، يلمس ذلك، ويكتشف أنه أمام مؤلف يعرف ما يريد، فالبناء الموسيقي عنده متماسك، لا تستطيع أن تنتزع جزءاً منه مهما تضاءل أو صغر خوفاً من أن ينهار البناء كله، وهو في هذا يحترم أسلافه الكبار، ويعمل على ترجمة أفكاره من خلال القوالب الفنية.
الوقفة مع هذا الفنان الكبير تقتضي بعض التأمل، فقد تحدث في اللقاء الذي أجريته معه قبل وفاته بأشهر قليلة بصراحة متناهية عن بداياته الفنية وعطائه الموسيقي، والرؤيا التي وقفت حائلاً بينه وبين العزف من دون التأليف، وعن مؤتمر القاهرة الموسيقي في العام 1932، والقوالب الفنية الموسيقية والغنائية، وعن تدني المستوى الفني للموسيقا في القطر، ورأيه في الاقتباس، وعن آرائه في بعض معاصريه، وكل القضايا الموسيقية التي عايشها، على الرغم من اعتكافه منذ أكثر من ربع قرن تقريباً.
يقول الفنان الراحل شفيق شبيب في سياق الحديث عن نفسه مايلي:
ـ "... لقد تمكن حب الموسيقا في نفسي منذ طفولتي، ومن خلال استماعي للاسطوانات التي كان يذيعها مخزن "عبيد" الشهير في سوق الحميدية، من "فونوغراف" ـ حاكي ـ بهدف بيعها والترويج لها. فكنت أقف الساعات الطوال أستمع وأستمع ساهياً لاهياً عن المهمات المكلف بها من قبل والدي، دون أن أشعر بمرور الوقت، ودون أن أدري أن ذاكرتي كانت تتلقف كل تلك الألحان والأغنيات التي أسمع، وكنت أطبق ما أحفظ على العود سراً، حتى حذقت ذلك، وأصبحت خلال فترة وجيزة من العازفين المتمكنين على العود، وأذكر بأن المربي الأستاذ "سعيد مراد" وكان قد عاد من رحلة رسمية أوفد إليها مع عدد من معلمي المدارس الابتدائية إلى "اسطمبول" جمع من طلبة المدرسة التي يديرها من يجيد العزف على الآلات الموسيقية، وقدم إليهم الأستاذ "عبد الغني القلعي" ليدربهم على التدوينات الموسيقية التي جلبها معه لأشهر المؤلفين الأتراك. وعندما سمعت تلك المقطوعات وجدت أن الأستاذ "القلعي" يؤديها خطأ لأنها كانت في بعض مواضعها تختلف عن تلك التي حفظتها من الاسطوانات، ولا تتفق معها. فأخذت بسليقتي الموسيقية أصححها له، الأمر الذي جعله ينسحب من تدريب الفرقة بعد عدد من التمارين، ومنذ ذلك التاريخ، وكان ذلك في العام 1911 صار مديرنا المرحوم "سعيد مراد" يدعوني مع الفرقة التي كونتها من رفاق المدرسة لإحياء الموالد والأفراح ونحن مازلنا بعد طلبة في مدرسة الملك الظاهر الابتدائية.
هكذا ولدت شهرتي في البدايات، وصرت مع الفرقة التي أترأسها محط الأنظار، ودفعني النجاح إلى تأسيس أول ناد للموسيقا في القطر العربي السوري تحت اسم "نادي الموسيقا الشرقية" وكان افتتاحه في أوائل العام 1914 قبل اندلاع الحرب العالمية بأشهر قلائل، واتخذت مع رفاقي مقراً له في زقاق "المغسلّة" في سوق ساروجة. ولم يمض على افتتاحه وقت طويل حتى انتسب إليه كل من كان له حظ في الموسيقا والغناء.
في العام 1916 أو 1917، لم أعد أذكر تماماً، ألفت سماعي من مقام "النهاوند"، وهذا السماعي طلبه مني بعد ذيوعه وانتشاره، تاجر تركي يعمل ببيع الاسطوانات في "سوق الخجا" ليطبعه، وبعد فترة وجيزة، صار هذا السماعي مشهوراً بفضل التاجر المذكور في دمشق وحلب وبيروت واسطمبول، إذ باع منه كميات كبيرة.. هذا السماعي استمع إليه المرحوم "فخري البارودي" في إحدى جلساته الخاصة، فسعى إلى التعرف إلي ومنذ ذلك الحين أصبحنا صديقين حميمين. وكان فخري البارودي رحمه الله من أعظم محبي الموسيقا والغناء، وله الفضل في دعم كثير من المواهب الشابة، مادياً ومعنوياً، وربما كان "صباح أبو قوس" الشهير بصباح فخري، آخر المواهب التي دعمها.
ذات يوم أعلن فخري البارودي في بهو النادي بأنه سيجزي من يؤلف مقطوعة موسيقية تضاهي في أنغامها وتراكيبها الفنية مؤلفات الموسيقي التركي الذائع الصيت "طمبوري جميل" جائزة كبرى.
وراق لي هذا التحدي، فعكفت على كتابة سماعي من مقام "بوسليك" وهو أول مؤلف جاد أعتز به وعندما استمع إليه المرحوم البارودي استعاده مرة ثانية وثالثة حتى إذا انتشى هتف صائحاً وهو يعانقني ويقبلني: "أشهد بالله أنك تفوقت على طمبوري جميل".
جرت هذه الحادثة في العام 1919، وعلى أثر ذيوع هذه المقطوعة وانتشارها، أصبحت محط الأنظار، كما أصبح فخري البارودي، المدافع والمنافح عني وعن النادي وأعضائه في أوساط دمشق المحافظة.
لم يعمّر النادي طويلاً بعد ذلك، فقد اجتاحته الاضطرابات والثورات التي قامت ضد الاستعمار الفرنسي فيما اجتاحت، إلى أن وضعت الثورة السورية الكبرى أوزارها، وبعد ذلك بعام واحد، أي في العام 1928 أعيد تأسيس النادي من جديد على يدي بمساعدة فخري البارودي، والفنان الراحل الكبير "توفيق الصباغ" وأخذ يزاول نشاطه الفني ونشاطاً آخر سياسياً وطنياً.
سؤال: أستاذ شبيب حضرت في العام 1932 مؤتمر القاهرة للموسيقا العربية، هل يمكنكم أن تحدثونا عن المؤتمر، وعن أبحاثه بالقدر الذي تسعفكم به ذاكرتكم؟
جواب: في العام 1932 دعيت سورية لتشارك في مؤتمر القاهرة الموسيقي وشكلت وفداً من المرحوم الشيخ علي الدرويش، والمرحوم الأستاذ أحمد الأوبري ومني، وقررنا بعد الاجتماع الذي عقدناه، الإعداد لهذا المؤتمر، إعداداً لائقاً وجيداً، وتوزعنا العمل فيما بيننا، واتفقنا أن يشارك الشيخ علي الدرويش والأستاذ أحمد الأوبري في المناقشات التي ستطرح في المؤتمر حول كل من الموسيقا الشرقية والغربية، وحول السلالم والمقامات والضروب والأوزان المستخدمة فيهما، وطرق التوفيق فيما بينهما. وأنيط بي إعداد الفرقة الموسيقية التي ستشارك في العروض الفنية التي ستقدمها سورية أسوة بالدول المشتركة في المؤتمر وأن أضع برنامجاً يعطي صورة حقيقية وواقعية عن الموسيقا والغناء في سورية.
عقد المؤتمر في السادس من آذار في العام 1932، وكان القصد كما تبين لي من كل هذه التظاهرة الفنية هو الدعاية للملك فؤاد الأول، لأن المؤتمر لم يسفر في نتائجه عن شيء ذي بال، اللهم سوى ذلك الحشد من الموسيقيين والمختصين والعلماء والعازفين والفرق الكبيرة والصغيرة التي دعاها الملك من أوروبا والبلاد العربية كي ينظر إليه كراعٍ للفنون. وفي حفل الافتتاح الذي دعينا إليه في القناطر الخيرية، تحدث عدد من الخطباء منوهين بأهمية المؤتمر وبأهمية الدعوة الملكية السامية لهذا المؤتمر متمنين النجاح وكل النجاح لهذا المؤتمر.
وفي حفلة الافتتاح هذه لفت انتباهي واستغرابي، كما لفت انتباه واستغراب الحضور كافة، ذلك الشيخ الأزهري ـ ربما كان شيخ الأزهر بالذات، إذ لم أعد أذكر تماماً ـ الذي انبرى للخطابة بعد أن تريث قليلاً حين لمس في وجوه الناس استغرابهم لوجوده في حفل موسيقي بقفطانه ولفته الأزهرية البيضاء وهو بعيد عنه غاية البعد فقال مستهلاً كلمته:
"... لا تعجبوا من وقوفي بينكم، فقد أتى على الموسيقا حين من الدهر تردت فيه إلى أقصى حدود التردي والانحطاط بعد أن زالت سيادتهم على أوطانهم وصاروا محكومين بعد أن كانوا حاكمين... وخلال هذه الفترة التاريخية انبرينا نحن الشيوخ... شيوخ المذاهب الصوفية للحفاظ على الألحان العربية. فحفظناها كما حافظ عليها أسلافنا، واستعنا بها كما استعانوا بها في زواياهم. وصاروا يضعون على غرارها روائع التسابيح الإلهية والمدائح النبوية، إلى أن أخذ العرب جانباً من حرياتهم، فردوا إليهم الأمانة التي حافظوا وحفظوا وأورثوا وكانوا من الصادقين... وأنا أقول لكم الآن من على هذا المنبر "إن الفضل وكل الفضل يعود في النهضة الموسيقية التي نشاهدها هذه الأيام لمشايخ الطرق الصوفية الذين صانوا هذه الألحان من الضياع، وأورثوها للناس من بعدهم، جيلاً بعد جيل...".
ويتابع الأستاذ شفيق شبيب ذكرياته عن المؤتمر فيقول:
"... قامت الفرق الموسيقية بتقديم عروضها خلال أيام المؤتمر، وكانت أبرز الفرق العربية وأنجحها على الإطلاق، "الفرقة العراقية" لأنها قدمت الفن الموسيقي والغنائي العربي العراقي على حقيقته وبصورة زاهية ومشرقة. أما فرقتنا السورية التي ترأستها وقدمتها، فقد قدمت برنامجاً حافلاً تضمن مقطوعات ذات طابع شامي أصيل ـ نسبة لديار الشام ـ لا علاقة لها بالفن المصري الذي طغى على الحياة الفنية آنذاك في كل شيء... قدمنا القدود الحلبية القديمة، والفنون الشامية المأخوذة عن الفنان الكبير أحمد أبي خليل القباني، وقد قام الفنان صالح المحبك بأداء أغنيات القباني، فانتزع الإعجاب حتى أن الشاعر الكبير المرحوم أحمد شوقي بك الذي حضر الحفلة بمرافقة صديقه الأديب الدمشقي الكبير "محمد كرد علي" لم يتمكن من كبت إعجابه فقام بمدح الفرقة والمغني صالح المحبك أمام الملك، بحضور محمد كرد علي بقوله: "... أهنئكم على هذا المغني المبدع وعلى هذا الأداء الخارق، وعلى هذه الألحان الجميلة التي لم أسمع مثيلاً لها من قبل...".
أما بالنسبة لأعمال المؤتمر، فلم تجر أبحاث لها قيمتها الفنية.. أنا كان عملي موسيقياً بحتاً، وكان الدور للعلماء الألمان بالدرجة الأولى، وقد وضع كتاب ضخم يتعلق بأبحاث هذا المؤتمر،وأذكر أن العلماء الألمان، أثاروا نقاشات طويلة حول السلالم والمقامات الشرقية والغربية، والخلافات حول أجزاء الصوت وأنصافه وأرباعه وحول حساب "الكوما". وقد شاركت في هذا مشاركة فعالة، وكان الموفق من بيننا الشيخ علي الدرويش الذي بين لهم بأن الموسيقا العربية أخذت أصولها عن الموسيقا الهندية والفارسية والتركية بصورة خاصة. غير أن كل هذا لم يؤد إلى نتيجة، ولم يتوصل المؤتمر إلى اتفاق إلا فيما يخص العموميات.
ويمضي شفيق شبيب في سرد ذكرياته الموسيقية فيقول: "بعد الجلاء وبالتحديد في العام 1947 توليت رئاسة القسم الموسيقي في إذاعة دمشق. وأول عمل قمت به هو اختيار العازفين الذين سيشكلون الفرقة الموسيقية، ولما كنت بخبرتي أعرف مقدرة العازفين الفنية ومكانتهم وأخلاقهم فقد تمكنت من تكوين فرقة من نخبة الموسيقيين في هذا البلد دون وساطة أو محاباة لأحد.
وفي تلك الفترة بدأت بتأليف "حلقة الذكر" وأتممتها في بضعة أيام، ثم دربت عليها الفرقة، وقدمتها للناس من الإذاعة مباشرة على الهواء، لأن وسائل التسجيل المعروفة اليوم لم تكن قد انتشرت على نطاق واسع، وبالتالي لم تصل إلى القطر حتى ذلك الحين.
وفي العام 1949 حدث الانقلاب العسكري الذي قاده حسني الزعيم، فاستقلت من منصبي، بعد أن بينت في كتاب الاستقالة بأني لا أستطيع العمل تحت ظروف الضغط وخرق القوانين الذي كان يمارس على نطاق واسع.
وفي العام 1951 دعيت ثانية لإدارة القسم الموسيقي في الإذاعة، بعد أن زالت الأسباب التي أدت لاستقالتي بالإضافة إلى عملي كمفتش في المصالح العقارية، وكانت الإذاعة السورية قد نقلت مكاتبها إلى شارع "جمال باشا" واشترطتُ على مديرية الإذاعة ألا أقوم بالعزف،والاكتفاء بالتأليف، لأني شاهدت رؤيا في الحلم، لم أجد لها تفسيراً سوى أن العمل الموسيقي ـ أي العزف ـ لا يتفق مع الدين، ومن هنا قصرت نشاطي الموسيقي على التأليف، ومنذ ذلك الحين، أخذ الناس يقولون عني أني تصوفت، وأني هجرت الموسيقا على هذا الأساس.
وفي تلك الفترة أي في العام 1951 كتبت مقطوعة "الحادي" وسجلتها للإذاعة. وفي العام 1952 كتبت مقطوعة "ليلة العرس".. وهذه المقطوعة تصف أعراس دمشق وصفاً واقعياً، فهي تنقل للمستمع عرساً حقيقياً، وتعطيه المجال للتخيل خطوة خطوة، عن كل ما يجري في ليلة العرس بدءاً من الأفراح والأهازيج، ومروراً بالتلبيسة وبدور أهل العروسين، وانتهاء بوداع العروسين إلى غرفتهما الخاصة.. هذه المقطوعة "ليلة العرس" يستغرق الاستماع إليها أكثر من عشرين دقيقة، وجمالها يكمن في الصورة الحقيقية التي تضفيها الموسيقا على العرس الدمشقي الحقيقي الذي أخذت تقاليده تتفكك وتتبدد بعد أن حلت وسائل العصر الحديثة محل التقاليد الشعبية العريقة.
وفي العام 1954 ولأسباب لا داعي لذكرها آثرت الاستقالة، وهجرت الفن بتاتاً، وربما كان للرؤيا التي تحدثت عنها تأثير كبير في القرار الذي اتخذت.
سؤال: أستاذ شبيب، هناك فترة غامضة في حياتك التأليفية، فقد تحدثت عن "سماعي بوسليك" الذي ألفته في العام 1919 ثم قفزت إلى العام 1947 ومقطوعة "حلقة الذكر" ومن ثم إلى العامين 1951 و1952 ومقطوعتي "الحادي" و"ليلة العرس" فماذا عن تلك السنوات الطويلة وماذا عن أوبريت الصباح؟
جواب: "الصباح" تعود إلى أوائل الثلاثينيات، وكنا في نادي الموسيقا الشرقي نتدرب عليها عندما زارنا المرحوم "فخري البارودي" فاستمع إليها ثم قال: "هذا شيء جميل... شيء رائع... يجب أن أسجلها على اسطوانات". فقلت له: هذه افتتتاحية لأوبرا أقوم بتأليفها ولا أستطيع أن أعطيك أياماً قبل انجازها.
قال: دعك من الأوبرا والأوبرات.. وهات النوطة... ـ أي التدوين الموسيقي ـ وهكذا أخذها وانصرف ولم استطع أن أتم من الأوبرا سوى الافتتاحية وبعض المشاهد، وقد اشتهرت الافتتاحية باسم "الصباح".
سؤال: ألا تجد تشابهاً مع "لونغا نهاوند" لرياض السنباطي خاصة في طريقة الافتتاح وأسلوب العرض؟
جواب: نوع من الخواطر .. توارد الخواطر كثير... مثلاً زار محمد عبد الوهاب دمشق ذات يوم في العام 1933 أو قبل ذلك ـ لم أعد أذكر ـ وزار النادي بصحبة فخري البارودي، وعزفنا له "الصباح" وهو ينصت باستغراق، ثم استعادها ثانية، وأبدى إعجابه الكبير بها، وطلب نسخة عن تدوينها الموسيقي فأعطيته ما طلب، وبعد عام أو عامين، سمعت مع أعضاء النادي دور محمد عبد الوهاب الجديد آنذاك "أحب أشوفك كل يوم" ومنذ ذلك التاريخ، والناس في دمشق يقولون لي كلما شاهدوني أو اجتمعوا بي:
"هل سمعت كيف أخذ عنك محمد عبد الوهاب في دور أحب أشوفك كل يوم جانباً من موسيقاك في "الصباح".
طبعاً محمد عبد الوهاب ليس بحاجة ليأخذ مني... إنه نوع من توارد الخواطر، وحتى لو أخذ مني فلا عيب في هذا لأن جميع الموسيقيين يأخذون من بعضهم بعضا. خذ مثلاً "الأخوين رحباني" لقد اقتبسوا من الموسيقا الروسية وغيرها ما يتفق ومزاجنا العربي وأكثر ألحانهم مأخوذة من الموسيقا الغربية، وهذا ليس بعيب، وإنما هو تجديد في الموسيقا، لأن الموسيقا لا تستقر على حال، وكل يحتاج بسبب ظروفه إلى موسيقا خاصة به، تؤلف وتذاع لتعبر عنه في كل شيء.
سؤال: يجمع النقاد بأنك تقف على قمة واحدة مع جميل عويس وتوفيق الصباغ، فهل تعرفهما معرفة شخصية، وما رأيك بهما وبمؤلفاتهما علماً بأنكم جميعاً أوليتم القوالب الفنية مكانتها اللائقة في التأليف؟
جواب: معرفتي بالمرحوم "جميل عويس" بسيطة، التقيت به مرتين أو ثلاث مرات، كان دائم الترحال، لا يستقر على حال، أعماله الموسيقية قوية بالغة الجزالة تمتاز بالفخامة التي يميل إليها هو بالذات. أما توفيق الصباغ فكان رحمه الله صديقاً شخصياً لي، وهو كثير الهواجس والوساوس، ومن الموسيقيين البارعين جداً، وكان بينه وبين عازف الكمان الشهير "سامي الشوا" خصومة شديدة، لا أعرف سببها، وكلمة حق، ومن خلال خبرتي الموسيقية أستطيع أن أقول بمنتهى الصدق، إن توفيق الصباغ أبرع من سامي الشوا في كل شيء حتى في العزف على الكمان فهو عازف لا يجارى، ومؤلف، ومعلم، يعتبر بحق "ملك الكمان" ـ كما لقب ـ أما أنا فأترك الحكم على أعمالي للنقاد الذين يستطيعون وحدهم تقويمها.
سؤال: أقلع الموسيقيون العرب منذ الخمسينيات عن التأليف في قوالب التراث الفنية، فهل باتت هذه القوالب لا تصلح للتعبير بلغة العصر أم أن المؤلفين يتهيبون التأليف فيها؟
جواب: الموسيقا إذا فقدت النظام الذي قامت عليه لم تعد موسيقا، والأتراك عندما أبدعوا "البشرف والسماعي واللونغا" جاؤوا بصيغة تتفق مع الفن، وأصبحت مع مرور الزمن إرثاً، ونحن العرب، أصبحنا بعد خروج الأتراك ورثة هذا الفن... ورثة لتلك القوالب الفنية الدقيقة.. خذ مثلاً "البشرف" تجده مقسماً إلى وحدات فنية متماسكة، المقطع الواحد مثلاً، يتألف من أربعة مقاييس أو ثمانية مقاييس أو ستة عشر مقياساً أو اثنين وثلاثين مقياساً. أما اليوم فإن المقطوعات الموسيقية التي أسمع خالية كلها تقريباً من هذا النظام، ولا تراعي القواعد الموسيقية المعول عليها في التأليف الموسيقي أو الغنائي من هذا النظام. بينما انظر إلى "البشرف" تجد وحداته منتظمة وفق ما ذكرت كذلك الأمر بالنسبة للسماعي واللونغا وكل ما يمت للموسيقا بصلة. أما موسيقيو اليوم فلا يتقيدون بأي نظام..
هكذا ـ خبط عشواء ـ إنْ في المعزوفات التي يؤلفون أو في الأغاني التي يلحنون، بينما هذا الاتجاه ـ أي النظام في التأليف ـ تجده واضحاً وقوياً عند المؤلفين القدامى كالصباغ والدرويش وعويس والسنباطي وزكريا والقصبجي وعبد الوهاب، وطبعاً فإن الذين لا يتبعون النظام الموسيقي لا يتبعونه عن عجزٍ بل عن جهل.
سؤال: هل تعتبر الموسيقا أقوى تعبيراً أو تأثيراً من الغناء؟
جواب: الغناء يستطيع أن يزاوله أي إنسان يملك صوتاً قوياً قادراً وجميلاً. أما الموسيقا فلها قواعد وأصول وعلوم. إذا لم يلم بها العازف أو المؤلف إلماماً كاملاً، واطّلع على الأوزان والضروب والأنظمة التي وضعها الأقدمون، فلا يمكن للعازف أو المؤلف أن يقدم شيئاً مبدعاً وهو ما يحصل الآن.
سؤال: ما رأيك في قوالب الغناء العربي التي كادت تندثر، كالموشحة، والدور، والمواليا وما إليها.. هل تستطيع هذه القوالب أن تتحدث بلغة هذا العصر؟
جواب: لقد عملت جاهداً طوال حياتي في عملي الفني في المحافظة على هذه القوالب وإغنائها، وخلال عملي في الإذاعة، استدعيت الموسيقي المشهور "عبد العال الجرشة" ـ والد عازف القانون المعروف "إبراهيم عبد العال"، وجد عازف الكمان الشهير "عبود عبد العال" ـ وعملنا معاً على تسجيل عدد كبير من الموشحات الحلبية والشامية والمصرية، خاصة الموشحات التي تمتاز بالمقامات والأنغام التي لم يعد أحد من الملحنين يستخدمها، كذلك سجلت بالاشتراك معه جل أعمال أبي خليل القباني، وهي محفوظة في مكتبة الإذاعة لتكون مرجعاً للمستمعين والموسيقيين على حد سواء ـ كذلك استعنت بالمطربة الراحلة "ماري جبران" لتسجيل الأدوار الغنائية القيمة التي تستقيم وأصوات المطربات مثل دور "أصل الغرام نظرة" وغيره كثير. وأنا عندما قمت بهذا العمل مع "عبد العال الجرشة" إنما قمت به على أمل أن يستعيد الغناء العربي أيامه الزاهرة التي عرفها في زمن العباسيين والأندلسيين. ويبدو لي اليوم أن الجهود التي بذلتها في هذا السبيل ذهبت سدى لأن الإذاعة لا تقدم شيئاً منها، كما أن موسيقيي اليوم يقدمون أعمالاً لا تمت لموسيقانا وضروبنا وأوزاننا بصلة حتى الشعر والزجل الجيد توارى وحل محله كلام لا وزن له ولا معنى، وعندما كنت مسؤولاً عن الموسيقا والغناء، كنت أرفض كثيراً من الشعر والزجل الذي يعتبر اليوم أجود بكثير من هذا الذي نسمعه هذه الأيام، إذ ما قيمة اللحن إذا لم يكن متوجاً بكلام جيد وجميل. أما بالنسبة للقوالب فهي ليست جامدة، ويمكن لها أن تساير الزمن، لأنها تملك خاصية التطور من الداخل.
سؤال: سمعت بأنك سجلت بعض أعمالك على اسطوانات فمتى كان ذلك؟
جواب: كان ذلك قبل الثورة السورية الكبرى، في العام 1923، اتصلت بي شركة "بيضا فون" وسجلت لها على آلة "النشأة كار" ـ العود صغير ـ  سماعي من مقام الحسيني، وبعض التقاسيم وأغنية من تلحيني غنيتها بالاشتراك مع الموسيقي "متري المر" والأغنية من نظم الشيخ "عبد الرحمن سلام".. نظمها كتحية للشريف حسين قائد الثورة العربية الكبرى.
وكلام الأغنية جميل فهو يقول في مطلعها:


 
على أم القرى منا سلامُ
على من ضم جمعهم خيام
 
 
على من في ضواحيها أقاموا
على من شب بينهم وشابوا
 

والشيخ "عبد الرحمن سلام" أصبح فيما بعد مفتياً للبنان، وهو جد المطربة المعروفة "نجاح سلام" ووالد "أحمد سلام" الذي تسلم ذات يوم مديرية الإذاعة اللبنانية.
سؤال: ما هو السبيل لكي نصلح من أمر موسيقانا؟
جواب: إن العمل الذي يقوم به صلحي الوادي في المعهد الموسيقي معقول ومفيد والعمل الآخر الذي يقوم به عدنان إيلوش، يصلح كبداية بالنسبة للموسيقا العربية التراثية لأن الاثنين صلحي الوادي في الموسيقا الغربية وعدنان إيلوش في الموسيقا الشرقية يهيبان بالموسيقيين عن طريق الموسيقا العربية والغربية كي يؤلفوا في القوالب المتعارف عليها في الموسيقتين، وهذا يعني التأليف ضمن النظام الموسيقي، وكل عمل مهما كان نوعه، فنياً كان أو غير فني يعتمد على النظام لابد له من أن يتقدم ويغدو على أزهى صورة مهما طال به الزمن


صميم الشريف

الموسيقا في سورية|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق