من ملامح الحياة الاجتماعية في دمشق

20 05

دعا بعض العلماء هذا العصر بحق باسم «عصر التاريخ» وذلك للتطور الكبير الذي ألمّ بطرائق البحث التاريخي ولشدة إقبال الناس على قراءة كتب التاريخ والاهتمام بمواضيعه، وكان للتاريخ أبعد الآثار في صنع عدد كبير من العقائد القومية والحركات الوطنية ومازال فعالاً ومؤثراً في كثير من النشاطات السياسية وغيرها.
وإذا كان للتاريخ حضوره الكبير في حياة كل إنسان فإن حضوره عظيم جداً في حياة المواطن العربي، ولذلك عدة أسباب منها ما ارتبط بالعقيدة والمواريث ومنها ما تعلق بأزمات الحاضر الخانقة والفرار منها إلى الماضي للاحتماء وربما للاستلهام، وشعر كل مواطن عربي أن هناك حاجة ملحة لكتابة التاريخ العربي بشكل مجمل وتفصيلي وفق نظرة عربية وحدوية مستقلة،تعتمد طرائق النقد والبحث المعمق والتحليل والتركيب، ولتحقيق هذا الهدف المنشود جرت عدة محاولات، ما من واحدة منها أعطت حتى الآن أكثر من أقل الثمار النافعة.
ومنذ الوقت الذي تحركت فيه بعض المؤسسات العربية للعمل في سبيل كتابة التاريخ العربي تطور علم التاريخ تطوراً هائلاً، وشمل هذا التطور المضمون وحرائق البحث والعرض والأهداف، والعرب الذين لم يواكبوا بعد ما ألم بعلم التاريخ بعد الثورة البلشفية هم الآن مقصرون جداً، ولا أدري متى سيدخلون الميادين الجديدة ومن جملتها ميادين ما بعد الرأسمالية والبلشفية.
وكان ـ كما هو معلوم ـ على رأس ما أدخلته البلشفية الاهتمام بفروع التاريخ الاقتصادي وكذلك الاجتماعي، والتقليل من أهمية التاريخ السياسي، فالتاريخ هو تاريخ المجتمعات لا تاريخ الأسر الحاكمة والملوك.
ولا تقتصر التحديات والمواجهات أمام الباحث في التاريخ العربي على ندرة المواد الاقتصادية والاجتماعية وتغيير المفاهيم من أن التاريخ لم يعد الخبر السياسي والعسكري في زمن هذا هو الموروث، وهو في الوقت نفسه الأداة الماحقة لكل وجوه الحياة العربية، فالمواطن العربي يرى في تاريخه المعاصر تاريخ أزمات سياسية متلاحقة آخذ بعضها بزمام بعض من أزمات الصراع ضد الاستعمار إلى الصراع مع الصهيونية إلى أزمة لبنان فأزمة الخليج وهكذا.
وأعود للتأكيد على أن التحديات أمام الباحث أكبر من هذا كله، فالعربي المهتم بتاريخه لابد أن يخرج بانطباع سلبي عندما يُقْدم على قراءة مصدر قديم _ ليكن تاريخ الطبري ـ أو كتاب حديث، حيث سيجد الرقعة جغرافياً وزمانياً مغطاة بالدم المسفوك في الفتن الداخلية والثورات والحروب الخارجية ودفاعاً وهجوماً، وهذا الوضع المنفر يدفع نحو البحث عن مخرج: الرفض للتاريخ وهذا كفر وضياع، أو الفرار نحو ما ندعوه باسم الفترات المشرقة، لاسيما عصر الفتوحات العربية والأمجاد العسكرية الكبرى، ناسين في هذا المقام أن الشخصية العربية والذات الموروثة والمتميزة اجتماعياً ومعاشياً وثقافياً وحتى سياسياً لم تتكون أيام الفتوحات، بل بعد ذلك بقرون: لقد شرعت بالتكون بعدما تحول غالبية سكان الوطن العربي إلى الإسلام، وكونوا مجتمعاً متجانساً من دمشق إلى قرطبة مع عمق واسع من جميع الاتجاهات، وحدث هذا بعد القرن الثالث للهجرة فصاعداً، وليست المشكلة هنا مشكلة التأريخ بل الواقع التاريخي، لقد كان الوطن العربي بأكمله بما فيه الخلافة واقعاً آنذاك في ظل التسلط غير العربي، وظل هذا التسلط جاثياً على الأرض العربية حتى وقت قريب جداً، فبعض الأقطار العربية قد استقلت بالأمس القريب.
كيف نسوغ هذا؟ هل نسوغه على أساس الدين، لكن الذين تسلطوا على الخلافة والدول العربية لم يكونوا خلفاء أو أئمة، وحكموا بقوة السلاح، كانوا طغاة متسلطين غرباء حتى الذين وصفوا بالعدل والنزاهة منهم، فلقد عاش بعضهم ومات دون إتقان للعربية، عاش هؤلاء الحكام في ثكناتهم أو قصورهم أو قلاعهم بعيداً كل البعد عن «الرعية» لم يختلطوا بمحكوميهم لا بالمساكنة ولا بالزواج ولا بالأفراح والأتراح، وكانت الأعياد ـ مثلاً ـ بالنسبة لغالبيتهم مجالاً لتوزيع الصدقات وليس للمشاركة بالفرح وما تقتضيه أعراف العيد من زيارات وتبادل للتهاني وغير ذلك من أنشطة اجتماعية، وخاضوا الحروب بكل شراسة داخلياً وخارجياً لكن في سبيل الحفاظ على الملك لا في سبيل الحفاظ على الأرض والشعب.
في هذا الحال تحد كبير يحتاج إلى معالجة، المسائل هذه أكبر من أن يتم تناولها في مقال، وأنا معني بالتحدي الأول، ولعله يكفي القول الآن بالنسبة للتحدي الثاني، أن المشكلة يمكن حلها بوساطة طرائق للعرض جديدة تميز بين نوعيات الوقائع وتعرض كل نوعية على حدة وبذلك يزول الاختلاط والتشويش.  أما التحدي الأول فمن الممكن التماس الحلول له عن طريق التعمق بالدراسات الاجتماعية مع إيلاء الجوانب الإدارية والثقافية اهتماماً واسعاً يأتي كرديف داعم للدراسات الاجتماعية.
ليس من السهل هنا، لا بل من غير الممكن، التأريخ لنشوء المجتمع العربي ومن ثم التعرف إلى المراحل التي مرّ بها والتغييرات التي شهدها، وعندي من حيث المبدأ أن جذور هذا المجتمع قديمة جداً، أقدم من العصور التاريخية، وأن المرحلة الحاسمة في تاريخ هذا المجتمع، والحدث الفصل كان الفتح العربي المبين، بعد قيام الإسلام، ويؤكد واقع التجذر القديم المكتشفات الأثرية، وحقيقة تحول دمشق بسرعة متناهية بعد تحريرها لتكون مركزاً للدولة العربية ومنطلقاً لجيوش الفتح شرقاً وغرباً، يضاف إلى هذا أنه بعد قيام الدولة العباسية انشطرت ديار الإسلام إلى شطرين: عربي وأعجمي، والعربي هو ما كانت حضارته وهويته عربية منذ الأزل، والأعجمي هو الذي أسلم وظل غير عربي وأخفقت تجارب تعريبه.
ومن هنا إنه لبالغ الأهمية تتبع تاريخ تطور المجتمع في الوطن العربي بعدما ترسخ طابع العروبة فيه بفضل الإسلام، وتبيان كيفية ذلك.
هذا وحدد بعض الباحثين التاريخ الاجتماعي «بأنه دراسة تطور العلاقات والنظم ومضمون المفاهيم والقيم الاجتماعية في مجتمع ما، وفي فترة اجتماعية محددة» ولم يميز عدد كبير من الباحثين بين التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فالتاريخ الاقتصادي لدى بعضهم «هو دراسة الوقائع الاقتصادية الماضية في المجتمع في مجال العلاقات الاقتصادية على مر فترات التاريخ المختلفة وأثرها في مجال العلاقات الاجتماعية الأخرى»، وجاء تعريف التاريخ الثقافي بأنه «رسم صورة متكاملة للوقائع الثقافية كما حدثت خلال العصور المختلفة، من يوم أن تحول الإنسان من الإنسان الحيوان إلى الإنسان العاقل حتى الآن، فهو يشمل تاريخ الإنسان في ميدان الأسرة مثلاً، والصور التي تعاقبت على نظام علاقة الرجل بالمرأة مثلاً» وحيث أن الأسرة نواة المجتمع، وتاريخها في علاقات أفرادها داخلياً وخارجياً هو تاريخٌ للمجتمع، وجدنا كثيراً «من العلماء لا يفرقون بين التاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي، فهم لا يعدون الاقتصاد إلاّ مظهراً من مظاهر متعددة للنشاط الإنساني، بل يعتبرون النشاط الاقتصادي أهم قسم من أقسام الحياة الإنسانية».
ومع هذا المزج بين التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي رأى بعض علماء التاريخ أن التاريخ الاجتماعي والتاريخ الاقتصادي والثقافي الشعبي في مجتمع ما هو رد فعل مباشر للتاريخ السياسي، وعلى الخصوص تاريخ الحكومات والسياسيين الذين يتولون الحكم.
لاشك أن هناك بعض التداخل بين شعب التاريخ الثلاثة هذه، فالوشائج بينهم قوية جداً، والتداخل يكاد لا يمكن تمييزه،ومع ذلك في التاريخ أحداث اجتماعية محضة لها نتائج سياسية واقتصادية وثقافية وغير ذلك، كما أن في التاريخ أحداثاً اقتصادية أو ثقافية أو سياسية أو عسكرية أو طبيعية لها بين نتائجها منعكسات اجتماعية، وبناء عليه يمكن للباحث أن يتناول بعض المظاهر الاجتماعية بالدراسة، وأن يتناول أحداثاً غير اجتماعية لها انعكاسات اجتماعية إنما بصعوبة بالغة، وتزداد هذه الصعوبة لدى الباحث في التاريخ الإسلامي ـ فضلاً عن التاريخ القديم ـ الذي انعدمت فيه تقريباً الوثائق والروايات الواصفة لأحوال المجتمع بشكل مباشر، وعلى العموم إن البحث في التاريخ الاجتماعي لأية فترة من فترات التاريخ أمر بالغ الصعوبة، وقد جرت محاولات عدة لدراسة بعض الفترات اجتماعياً، حالف التوفيق أصحابها بعض الشيء.
الموضوع طويل ومتشعب، ولعله يكفي الآن بما تقدم ما أثير من إشكاليات فالذي يعنينا بالدرجة الأولى التعرف إلى بعض ملامح الحياة الاجتماعية في دمشق، علماً أن دمشق لم تنل حظها الوافي من الدراسات التاريخية، ودمشق التي هي أقدم مدينة في التاريخ وفاها الأوائل حظها، فكان أن كتبوا عنها تواريخ عدة أهمها قاطبة تاريخ ابن عساكر، والمدهش أن العمل قائم في إخراج هذا الكتاب منذ أكثر من سبعين سنة لكن لم يخرج منه إلاّ قليله.
ليس بالإمكان التعرف إلى الحياة الاجتماعية لهذه المدينة الخالدة من خلال مقال محدود الصفحات والحجم، ثم إن المعلومات المتوفرة عن عصور ما قبل الإسلام شبه معدومة، والمعلومات عن العصور الإسلامية متفاوتة التفاصيل والعطاء، أفضلها ما تعلق بأواخر العصر المملوكي، وكثير منها مشوب جداً بألوان السياسة والعسكرية.
لقد كانت دمشق مدينة مسورة بإحكام، محصورة الحدود بين الأسوار، تحيط بها من جميع جهاتها البساتين التي حوت بعض التجمعات السكنية المتفاوتة الأحجام، وفي فترة الفتوحات العربية كان هناك عدة أديرة حول دمشق نذكر منها دير مران ودير خالد، وكان جل سكان المدينة من أصل عربي ـ سريان ـ غلبت عليهم المسيحية، وكانت المدينة بدون قلعة، تمحورت النشاطات فيها في الأسواق التي انتشرت حول كنيستها العظمى التي تحولت فيما بعد إلى المسجد الأموي الجامع، وبالمناسبة معروف أن هذا الموقع قد حوى معبد دمشق الرئيس منذ فجر التاريخ وتبدل لونه تبعاً للون الدين السائد في كل عصر من العصور.
وانقسمت المدينة إلى عدة أحياء للسكن، وتألف البيت من عدة حجرات بني جلها بالمواد الرخيصة وقليلها بالحجارة، ولهذا كثيراً ما التهمت النيران أجزاء كبيرة من المدينة أثناء بعض الأزمات خاصة في العصر الفاطمي.
وكان العرب من أهل شبه الجريرة يعرفون دمشق قبل الإسلام معرفة جيدة، فقد ذكرها حسان بن ثابت في شعره، وبعدما فتحت دمشق هاجر منها عدد كبير من غير العرب ومن عسكريي الإمبراطورية البيزنطية، ونزلها العرب وتشاطروا أحياناً مساكنها مع أهاليها، وكانت المدينة كثيفة السكان كاد أن يبلغ عدد من نزلها من العرب الفاتحين والمهاجرين المائة ألف، كما أن القبائل العربية استوطنت في قرى الغوطة، وساعد هذا على سرعة تعريب المدينة ومكنها بالتالي من تحمل أعباء مسؤولية الدولة العظمى.
وكانت أكثر من أسرة تقطن في دار واحدة كل واحدة منها في حجرة، وعاش مع أهل الدار حيواناتهم على اختلاف أنواعها، وكانت الفضلات ترمى في الدروب أو في أقنية المياه، فقد كانت المياه موزعة على أرجاء المدينة، وأدى انعدام الخدمات في دمشق وكثافة السكان إلى انتشار الأوبئة فيها، فقد شهرت دمشق والشام بكثرة الطواعين في العصر الأموي، ويلاحظ أنه منذ أيام يزيد بن معاوية عمد الخلفاء إلى السكن في البادية خارج دمشق أو في أطرافها، فمن أقدم أماكن قصور الحكام موقع دير مران، وفي هذا تعليل لإجراء نهر يزيد هناك.
وتقدم المواد التي حواها تاريخ ابن عساكر بعض ما يساعد على رسم صورة للحياة الاجتماعية وغيرها في دمشق، كما أن كتب التراجم المختلفة مفيدة، ومفيد جداً تاريخ دمشق لابن القلانسي، وأفضل ما يمكن استخلاصه من ابن القلانسي الحديث عن بعض التنظيمات الاجتماعية في دمشق خاصة منظمة الأحداث مع مؤسسة رئاسة المدينة التي تطورت كثيراً في فترة الدولة البورية.
عقب قيام الدولة العباسية وجعلها من العراق مركزاً لها، أهملت بلاد الشام، إذا لم نقل عوديت، وأدى هذا إلى اختلال الأمن فيها خارجياً وداخلياً فكان أن اضطر سكان الشام خاصة في دمشق إلى تنظيم شؤونهم فشكلوا منظمة بلدية شبه عسكرية هي الأحداث، وقد شهدت الفترة المحصورة ما بين النصف الثاني للقرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي وأواخر القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي ذروة نشاط الأحداث، وقاوم الأحداث محاولات الخلافة الفاطمية للاستيلاء على دمشق، وتعاونوا في بعض الأزمات مع قرامطة البحرين ومع قوى عسكرية محترفة أخرى، ونجحوا لبعض الوقت وبرز من بين صفوفهم قادة شعبيون مثل محمد بن عصودا، وابن المورد وقسام التراب، الذي استقل بحكم دمشق لفترة من الزمن وأسس فيها حكماً شعبياً، كان مقره منطقة باب الصغير في المدينة.
وبذلت الخلافة الفاطمية جل جهودها ضد الأحداث وتمكنت عن طريق الغدر من البطش بهم، بعدما كانوا يقومون بوظائف الشرطة البلدية، يسهرون على الأمن ويراقبون النظافة والنظام العام.
وكان ابن القلانسي أثناء حديثه عن الأحداث يستخدم مع كلمة أحداث كلمة: «الزعر» أحياناً، وهذا له دلالته وأهميته، ذلك أن الزعر نشطوا كثيراً في العصر المملوكي، ووجد إلى جانبهم تنظيم آخر هو «الحرافيش» الذي ارتبط أفراده بزوايا الطريق الصوفية، ذلك أن هذه الطرق شغلت دوراً اجتماعياً كبيراً يستحق الالتفات إليه بعدما أشبعت الجوانب العقائدية وسواها دراسة.
لم يكن في دمشق في العصور الإسلامية ساحات عامة ولا مسرح (أغورا+مدرج) وتمركزت النشاطات الاجتماعية في الأسواق والمساجد والحمامات مع الزوايا والمدارس، ففي أثناء الحملة الصليبية الثالثة وحصار مدينة عكا كانت الأخبار يتناقلها الناس من سوق إلى آخر، وهذا أحد العاملين بسوق الصفارين عندما سمع أخبار إخفاق المدافعين عن عكا في إحراق الأبراج الخشبية للفرنجة ورد المهاجمين، أغلق حانوته وأخذ الطريق إلى عكا وسبح ليدخل في مينائها سراً حيث قدم نفسه للأمير قراقوش وساعده على تحضير مواد أحرق بها الأبراج.
وكان أهل دمشق لا يكتفون بما كانوا يتداولونه نهاراً بل كانوا يجتمعون مساء في الزوايا أو المساجد أو بعض البيوت، وهناك كانوا يبحثون في مختلف هموم المدينة مثل التجاوزات الأخلاقية وشرب الخمور وتجاوزات بعض القضاة أو المشرفين على الأوقاف.
ففي أيام صلاح الدين عاش في دمشق الرحالة محمد بن محمد الوهراني ودون في مناماته ورسائله ومقاماته مادة غنية عن دمشق فيها أن المجتمع الدمشقي كان يعاني من عدد من الأمراض منها «التلون والرياء والانتهازية والسرقة والاستغلال والقنوط والوسوسة والشذوذ والهروب إلى معاقرة الخمرة وتناول المخدرات لاسيما ما عرف باسم حشيشة الشيخ حيدر» وهذا ليس بالمدهش رؤيته في مجتمع عانى طويلاً من عدم الاستقرار مع طغيان الجند وتجاوزات السلطات، وقد ازداد هذا الحال سوءاً في العصر المملوكي خاصة في نهايته.
وعندما زار ابن جبير دمشق أوضح أن المدينة كانت مكتظة بالسكان سككها وشوارعها ضيقة مظلمة وبيوتها مبنية بالقصب والطين وبعضها تالف من عدة طوابق، وأسهب ابن جبير في وصف نشاطات السكان في المسجد الجامع، وقد أوضح أن للمغاربة جناحاً خاصاً في الجامع «ولهم إجراء معلوم، ومرافق هذا الجامع المكرم للغرباء وأهل الطلبة كثيرة واسعة»، وأوضح أن الأيتام من الصبيان كانوا يأتون إلى الجامع حيث يتعلمون وينفق عليهم للإطعام والإكساء، وحوَت المدينة أيضاً مرافق وخدمات كبيرة قدمتها للغرباء والواردين إليها وكانت المياه تتدفق في كل بقعة من المدينة وفي كل سوق وسكة، ولفت انتباه ابن جبير أوضاع الصوفية وسكناهم في زوايا فقال:«وهذه الطائفة الصوفية هم الملوك بهذه البلاد، لأنهم قد كفاهم الله مؤن الدنيا وفضولها، وفرغ خواطرهم لعبادته من الفكرة في أسباب المعايش وأسكنهم في قصور تذكرهم بقصور الجنان»، ووصف ابن جبير فيما وصفه الحياة داخل البيمارستان النوري، ولفت انتباهه تعظيم الدمشقيين للحجاج وخروج الناس لتلقي قوافل الحجيج، وأثار فضوله ودهشته أن الدمشقيين كانوا يُمْشون أمام الجنائز «قراء، يقرؤون القرآن بأصوات شجية وتلاحين مبكية تكاد تنخلع لها النفوس شجواً وحناناً يرققون أصواتهم بها، فتتلقاها الآذان بأدمع الأجفان».
وكان الدمشقيون يمشون وأيديهم إلى الخلف، ويركعون للسلام ويحبون المصافحة ويستعملونها ليس فقط أثناء تلقي بعضهم بعضاً بل إثر الصلوات، وكان وجهاء المدينة متعنتين بآرائهم، يحبون الملابس الجميلة الطويلة والأحذية الأنيقة، وكانوا أيضاً مغرمين بالألقاب والتبجيل إلى حد الإفراط.
وبعد ابن جبير بعصر طويل ذكر ابن بطوطة أن أهل دمشق اعتادوا أن يجهز الأب ابنته وقت زواجها، وغالباً ما كان الجهاز من أواني النحاس، فيه كانوا يتفاخرون ويتبايعون.
وذكر ابن بطوطة أنه أثناء الأمراض كان الدمشقيون يمتنعون عن الطبخ بالأسواق وكانوا يتوجهون إلى الله تعالى حتى يرفع عنهم الضر والبلاء، ويقودنا هذا إلى شعائر الاستسقاء لدى الدمشقيين عندما كان يحتبس المطر، وإلى شعائر صلوات العيد، ونستخلص من مختلف الأوصاف أن المجتمع الدمشقي كان مرهف الأحاسيس، شديد الاهتمام بالمعوزين وأصحاب الحاجات فأوقاف دمشق: «لا تحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأساري، ومنها أوقاف لأبناء السبيل يعطون منها ما يأكلون وما يلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطريق ورصفها لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير».
وأورد ابن بطوطة حكايات كثيرة من مشاهداته من أشهرها حكاية الغلام الذي سقطت من يده صحفة من الفخار فانكسرت، فوجد مؤسسة وقفية تولت التعويض عليه حتى لا يتعرض الغلام للعقوبة.
ونشط الدمشقيون في النهار في أسواقهم التي توزعت بشكل اختصاصي وكان كل سوق أشبه بخلية نحل فيه باعة في الحوانيت وباعة على أطراف الطريق وكان هناك أعمال مساومة وكان هناك المحتسب بزيه المميز يتجول في الأسواق ليراقب السلوك العام فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وفي وقت القيلولة حين تخف نشاطات البيع والشراء كان معظم أهل كل سوق يتحلقون حول واحد من أعيانهم للتداول أو لسماع حكاية أو حديث أو توجيه.
واهتم أهل دمشق بطعامهم، وشهرة المطبخ الشامي غنية عن التعريف وكانوا يرسلون الأطعمة إلى الأفران لتطبخ وتعد، وكان قوام الطعام لديهم يعتمد مبدأ التغميس، وقد أكثروا من طبخ الثريد وأكلوا جميعاً من وعاء واحد، وغالباً ما فعلوا ذلك بأيديهم، وكانوا لا يهتمون بالأسماك ويؤثرون نوعاً من الحساء اسمه الهريسة.
وإذا كانت الأسواق قد استقطبت جل النشاط اليومي لسكان دمشق نجد أن الحمامات تولت دوراً اجتماعياً كبيراً، أبعد من أعمال النظافة والطهارة والاستشفاء، وكان العمل بالحمام بالنوبة بين الرجال والنساء ليلاً ونهاراً، فيه التقى الناس بلا كلفة فتحدثوا وتسامروا، وإلى الحمام كان يدخل العريس أو العروسة قبل الزفاف وبعده، وغالباً ما حملت النساء إلى الحمام الأطعمة وأدوات الطرب والغناء، فقد كانت ساحة الحمام تتحول إلى حلبة للرقص وعرض الجمال، لذلك اعتاد الرجال الذين رغبوا في الزواج على إرسال نساء تخصصن في أعمال الوصف والتعريف إلى الحمامات.
واعتاد الدمشقيون على إقامة حفلات خاصة بالختان وفي المواسم وكان لديهم مراسم خاصة بشؤون الخطبة والزواج وكل ما تعلق بالأفراح والأتراح أيضاً، كما كانت تشهد بعض ساحاتها أعمال الفروسية وسباق الخيل مع أعمال التشهير وتنفيذ التوسيط والشنق والصلب والإعدامات وسط مظاهر مزدحمة في كثير من الأحيان خاصة في منطقة سوق الخيل قرب القلعة.
كان الدمشقيون يخرجون إلى مناطق الغوطة لتمضية بعض أيام الأعياد أو سواها في موسم الربيع والصيف والخريف أيضاً وتوفرت في الغوطة الأماكن التي تقدم خدمات الطعام والشراب والإقامة لأيام أيضاً، وتحدث بعض الكتاب عن تجاوزات خلقية كانت تشهدها هذه الأماكن، والمهم هنا أن التجاوزات كانت تثير سكان المدينة فيسارعون إلى قمعها وإزالة أضرارها.
إن وصف كل عادة من عادات أهل دمشق يحتاج إلى وقت مسهب وهذا لا يمكن القيام به في هذا المقام، وما دمنا قد أثرنا في مطلع هذا الحديث بعض الأسئلة العلمية فلنحاول ختمه بإثارة بعض الإشكاليات المتعلقة بتركيبة المجتمع الدمشقي ممثلاً للمجتمع الشامي ومتوائماً بالوقت نفسه مع المجتمع العربي شرقاً وغرباً.
من الملاحظ أن الأبحاث بالعربية التي اهتمت بأحوال المجتمع، خاصة المملوكية قليلة، مُزجت بالأخبار السياسية والاقتصادية ويمكن أن نرى هذا بكل وضوح في كتابات نقولا زيادة، لابيدوس، حياة ناصر الحجي، سعيد عبد الفتاح عاشور وغيرهم.
لقد انطلق هؤلاء الكتاب وغيرهم من منطلق «مسلمة قديمة» تقول إن المجتمع الإسلامي تألف دوماً من كتلتين اجتماعيتين هما: الخاصة والعامة، وتمسك بهذا المفهوم الباحثون في تاريخ الإسلام خاصة العصر المملوكي منه، ولم يحيدوا عنه، وعلينا بادئ ذي بدء تفحص هذا المفهوم بكل دقة، فإذا سلمنا بصحته تولينا البحث على أساسه أما في حال رفضه علينا البحث عن مفهوم بديل.
إن هذا المنهج مخالف لما اعتاده الباحثون في التاريخ السياسي والاقتصادي وغيره، فهم اعتادوا على تبيان الأحكام والنتائج التي يتم التوصل إليها في آخر أبحاثهم، لكن الحال هنا مختلف تمام الاختلاف، لذا لابد من إيضاح المفهوم أولاً ومن ثم الكتابة على ضوئه. وقد يرى بعض الباحثين في هذا العمل مخالفة لمناهج البحث في التاريخ، ونظرة أحادية فيها تحكم قسري بالأحداث وتفسيراتها، وهي تهمة لطالما ألصقها بعضهم بالأبحاث الماركسية وما شابهها.
وهذا الاعتراض مقبول إلى أبعد الحدود بالنسبة للأبحاث السياسية والعقائدية لكن لا يمكن أن نشمل به الأبحاث في التاريخ الاجتماعي، فالبحث في التاريخ الاجتماعي هو علمي محض، يحتاج مثل أي علم من العلوم تبيان القانون أو النظرية المعتمدة في البحث ومن ثم تطبيقها وبناء النتائج على ضوئها، وتبقى ـ على كل حال ـ المسألة اجتهادية، وكل قضية من قضايا التاريخ باب الاجتهاد فيها لا يمكن إغلاقه.
إن السؤال الأول الذي ينبغي طرحه هو: هل شكل الخاصة طائفة اجتماعية في العصر المملوكي؟ أو بكلمة أخرى هل كان المماليك فئة اجتماعية متميزة ومستقرة، تواجه الفئة الاجتماعية التي حملت اسم العامة وتميزت بالاستقرار؟ والجواب على هذا السؤال يمكن استخلاصه من أية عملية استعراض للتاريخ السياسي للعصر المملوكي منذ بدايته وحتى انتهائه، وذلك بالإضافة إلى بعض الخصائص الثقافية والتنظيمات الصوفية.
المماليك بالأصل فئات من الرقيق جلبت للاستخدامات العسكرية وسواها، وعندما استولى هذا الرقيق على السلطة نجد أن التنافر والشك والريبة هي التي حكمت العلاقات بين جميع المماليك حتى بين الزوج المملوك، والزوجة المملوكة، والعلاقة بين شجرة الدر عز الدين أيبك وبين بيبرس وقطز، وبين قلاوون وأبناء بيبرس، لا بل بين قلاوون وأبنائه تكفي للتوضيح وغالبية المماليك من لم يمت في المعارك مات غيلة أو في السجن، أو منفياً، وأبداً لم يستطع المماليك طوال تاريخهم تكوين وحدة اجتماعية فيها أدنى تواؤم أو تعاون، لقد ظل المماليك يعيشون في غربة عن بعضهم بعضاً، وظلوا غرباء عن الشعب الذي حكموه، حتى عندما فقد بعضهم السلطة، لقد عاشوا كقشرة مستبدة، ولذلك حين اقتلعوا لم يجد مقتلعهم لهم في الأرض أدنى جذور.
حين كان واحد من المماليك يقوم بإزالة آخر عن العرش، أو من وظيفته كانت العملية لا تخلف وراءها أكثر من آثار النزاع العسكري السلطوي، فلقد حكم المماليك الأتراك فترة طويلة،واستطع برقوق أن يحل الجراكسة محلهم دون أن ينجم عن ذلك نتائج ـ حتى على الصعيد السياسي ـ كبيرة.
وعندما جاء العثمانيون، استطاعوا أن يحلوا أنفسهم محل المماليك بكل يسر ودونما أية صعوبة تذكر، وعندما فتك محمد علي ببقايا المماليك لم يبق لهؤلاء في أذهان الناس إلاّ ذكريات سوداء عابرة.
وبالمقابل لنعد بعض الشيء إلى الوراء، لما تمكن معاوية بن أبي سفيان من الاستيلاء على مقاليد الخلافة منتزعاً إياها من علي بن أبي طالب، بات لحزب آل البيت والهاشميين من التعلق، وهم خارج السلطة، ما هو أكبر منه بكثير وهم على رأس السلطة، وبعد أمد قصير عندما حل المروانيون محل السفيانيين ظهرت إلى الوجود عقيدة السفياني المنتظر، ثم بعد قرابة قرن من الزمان عندما تمكن العباسيون من إزالة الخلافة الأموية ظل شعراء عدة قرون يعبرون عن الأثر الذي خلفه زوال الأمويين على المجتمع.
المسألة هنا بالنسبة للبحث في التاريخ ليست المادة عينها، ولكن هي طبيعة التعامل مع المادة التاريخية، وطرق النظرة إليها ورؤيتها؛ على هذا لا يمكننا التسليم بأن المجتمع في العصر المملوكي تكون من فئتين اجتماعيتين هما: الخاصة والعامة، فالخاصة لم يكونوا أبداً فئة اجتماعية، بل كانوا تجمعاً من الرقيق الذي احترف العمل العسكري واحتكر هذا الاحتراف وظل بحكم الاحتكار والطغيان والاستبداد يتحكم بمصير الشعب عدة قرون.
لقد عرف العصر المملوكي فئة اجتماعية واحدة هي ما أطلق عليه اسم «العامة» وعاشت هذه الفئة العملاقة ونشطت في معظم الميادين متجاهلة للسلطة المملوكية متحفزة تنتظر الفرصة المناسبة للتخلص من المماليك، وعبرت عن نشاطاتها الاجتماعية من خلال بعض المظاهر الاجتماعية على شكل تكتلات وتنظيمات وأصناف، أو على شكل نشاطات يومية وموسمية، أو من خلال الأعمال الثقافية خاصة ميدان التراجم، فنسبة المترجم لهم من رجال السلطة في تاريخ دمشق لابن عساكر وبغية الطلب في تاريخ حلب لـابن العديم نسبة ضئيلة وهامشية، ومع الوجه الثقافي هذا هناك التصوف، فبصرف النظر عن الجانب العقائدي هنا، إن جذور التصوف قديمة جداً، لكن في هذا العصر فقط صار للمتصوفة تكوينات اجتماعية وغدت الزاوية والتكية مقراً لنشاط أتباع الطريقة، جلهم فيها ينامون ويسكنون ويطعمون، ولقد استوعبت الزوايا المهاجرين من الأرياف إلى المدينة والعاطلين عن العمل (الحرافيش) كما تمكنت من أن تنشط اقتصادياً وغير ذلك، وهذه مسألة جديرة بالدرس المعمق.
لقد عاش سكان بلاد الشام في المدن والأرياف والبادية، وقامت علاقات بين سكان البوادي والأرياف والمدن ولم توجد حواجز تحول دون التمازج بين هذه الفئات، فالمجتمع العربي لم يعرف الطبقية قط، بل عرف نوعاً من المراتب.
ومما يؤسف له أن المعلومات التي يمكن استخلاصها من المصادر عن سكان الأرياف نادرة، وفقط يمكن توفير بعض المادة عن سكان بعض المدن والبادية، وحين قلت بعض المدن فعلت ذلك تجاوزاً وكان علي أن أقول بالتحديد: دمشق.
كان العامة في بلاد الشام هم قوام المجتمع وأفراده، وكان هذا المجتمع راسخ الجذور، قوي الوشائج، ولولا ذلك لما استطاع الاستمرار والتماسك، قد تعرّض لاستبداد طويل الأمد، وإلى مخاطر فريدة من نوعها؛ لقد جاء الغُزّ على شكل موجة بشرية عاتية، وتمكنوا بعد صعوبات من حكم بلاد الشام، لكن حين زالوا، زالوا سياسياً ولم يخلفوا غير الآثار السياسية، وجاء الفرنجة كموجات بشرية غازية تدفقت لقرابة قرنين، لكن لم يخلف الصليبيون حين زال احتلالهم غير الذكريات العسكرية والسياسية والبغض الشعبي، وجاء المغول وأحدثوا دماراً مريعاً من هولاكو إلى ما بعد تيمورلنك ثم مروا.... وبنيان المجتمع ظل متماسكاً ثابت الأركان، لقد مر بهذا المجتمع حكم الأيوبيين والمماليك وغيرهم من الغرباء ولم تتبدل سحنته، بل ظلت عربية في كل مظهر من مظاهرها.
لقد استطاع هذا المجتمع صنع معادلة صعبة جداً: إزاء السلطان والبعد عنه ما أمكن، إننا هنا في الحقيقة متوجب أن نقول إن المعادلة تألفت من دولة وسلطان، أما السلطان فهو المتسلط الغريب، وأما الدولة فهي الشعب ومؤسساته، والدولة هي التي صنعت الاستمرارية والإنجاز، فـالقاضي الفاضل قبل صلاح الدين، وابن عبد الظاهر وابن خلكان قبل بيبرس، وفي ظل هذه الإنارة يمكننا فهم محتويات الكتب العملاقة مثل: قوانين الدواوين للأسعد بن مماتي، والتعريف بالمصطلح الشريف للعمري، وصبح الأعشى للقلقشندي وفلسفة ابن خلدون الاجتماعية في المقدمة وأفكار المقريزي وابن عبد الهادي.
وقبيل البحث في أحوال العامة نسأل: مم تألف العامة، وكيف كان تكوينهم، وما هي السبل التي اتصلوا بها بالسلطة المملوكية، أو اتصلت السلطة المملوكية بهم تنفيذاً لسياساتها؟ وهذا يثير مجدداً سؤالاً حول قوام الحياة الاقتصادية في العصر المملوكي لوضوح آثار الاقتصاد على الحياة الاجتماعية، وللتعرف إلى نوعية العلاقات التي كان لابد منها مع «السلطان».
إن غالبية مدن الشام قديمة، تاريخها أقدم من الفتوحات العربية، وحين حدثت الفتوحات كانت متطورة قد أخذت أشكالها داخل الأسوار، وبعد الفتوحات بأمد صار الشكل إسلامياً، لكنه في الواقع قديم متجذر، وقد تألفت كل مدينة من عدة أحياء للسكن مع مسجد جامع في وسطها، وحول المسجد انتشرت الأسواق التجارية، وانحصر عمل كل جماعة أو أصحاب مصلحة من المصالح الصناعية أو التجارية أو الحرفية في سوق من الأسواق، ويفيد هذا أن الأحياء كانت بعيدة عن قلب المدينة، ومركز نشاطها الاقتصادي، والتقى السكان في الأسواق التي انتشرت حول المسجد الجامع، وبما أن الأسواق كانت متخصصة انعكس هذا على صورة النشاطات الاجتماعية والاقتصادية، ويمكن من خلاله تفسير عدد كبير من المشكلات، ذلك أن كل سوق تحرك أصحابه بوحي من مصالحهم الذاتية لا بوحي من المصالح العامة، والمثير للانتباه أن غالبية أصحاب الحرفة الواحدة أو السوق الواحد سكنوا في حي أو زقاق خاص بهم، هذا وكانت المعاناة والمشاكل تحسم داخل الأسواق ونادراً ما انتقلت إلى الأحياء، ودائماً كان هنالك فوارق بين ما شهدته الأحياء من مشاكل ونشاطات وبين ما شهدته الأسواق، ولنحاول الآن التعرف إلى تكوين العامة، أو ما سميناه المجتمع العربي في المدينة.
لكل مجتمع من المجتمعات صغر أم كبر رجال بارزون، ويأتي البروز لأسباب اقتصادية أو علمية أو نسبية، أو لأسباب خاصة مثل الشجاعة والبراعة والقدرات الذاتية، وفي العصر المملوكي يمكن أن نلاحظ أن التجار والعلماء من رجال الدين الإسلامي قد احتلوا مراكز الصدارة بين الفئات الاجتماعية، وتلاهم فئات أخرى من حرفيين وغيرهم.
ويمكن أن نرد أسباب تصدر التجار ورجال الدين للمجتمع في المدن، إلى دور المال والتجارة الداخلية والخارجية في تاريخ العرب، وعلى التحالف الوطيد الذي قام بين العلماء وخلفاء بني العباس، ثم إلى دخول هذا التحالف مرحلة تحولية هامة بعد تأسيس المدرسة النظامية وتوطد أركان الإقطاع العسكري مع السلاجقة. ودوماً كان لرجال الدين ـ ومازال ـ نفوذٌ واسعٌ على فئات المجتمع، وظل هذا النفوذ دوماً أعظم من نفوذ التجار، علماً بأن التجار قد شغلوا في العصر المملوكي أدواراً كبيرة جداً، فنتيجة لنظام الإقطاع العسكري ملك المماليك جل المحصولات الزراعية على الأخص الحبوب، وكانوا دوماً بحاجة إلى بيع فائض الإنتاج، وكان التجار هم الذين يتولون هذه العملية، وكان التجار في كثير من الأحيان يتولون أعمال التصدير والاستيراد الخارجي لصالح السلطة المملوكية، فالتجار هم الذين كانوا يجلبون الرقيق الأبيض، وهم أيضاً كانوا يجلبون سلعاً أخرى كانت أساسية بالنسبة لاستمرار حياة المملوكي، وطبعاً كان التجار يبيعون المحاصيل الزراعية للشعب، ولهذا كانوا أصحاب دور مؤثر وفاعل في حياة السلطة المملوكية من جهة والجماهير الشعبية من جهة أخرى، وغالباً ما قام التجار ورجال الدين بدور الوسيط بين الجماهير والسلطة المملوكية.
وعندما يستعرض الباحث الهيكل الإداري للسلطنة المملوكية يجد أن هذه السلطنة لم تمتلك غير الإدارات التي سهلت مصالح الحكم وآليته، ولم يوجد في النظام المملوكي إدارات ذات منافع للعامة، لا بل لم يمتلك المماليك وسائل سلطوية داخلية ذات فعالية مباشرة واتصال بالعامة، والصلات بين السلطات المملوكية وجماهير العامة كانت تتم عبر العلماء والتجار، أو مباشرة على شكل مصادمات.
وارتبطت المصالح الاقتصادية للتجار ورجال الدين بالسلطة المملوكية، وكانت جماهير العامة دوماً هي المتضررة، ذلك أنه حدث في كثير من الأحيان أن عبر العامة عما لحقهم من أضرار ومظالم بوساطة العنف في المظاهرات الصاخبة أو أعمال العنف ذات السمات العسكرية، وكان المتظلمون من سكان الأحياء يقصدون في كثير من الأحيان دار السلطان أو نائبه للتعبير عن شكاويهم، وكان السلطان أو نائبه يرسل من يفرق المحتجين بقوة السلاح، أو يرسل أحد الوجهاء من رجال الدين ليقوم بذلك، أو يرسل أحد الأمراء للتعرف على مطالبهم ووعدهم خيراً، ونظراً لأن المظالم لم ترفع وازدادت المغارم لجأ سكان الأحياء إلى تكوين منظمات شبه عسكرية تدافع عن مصالحهم. والتنظيمات ذات السمة العسكرية في بلاد الشام قديمة جداً، وقد تطورت التجربة الشامية هذه في العصر المملوكي، وسلفت الإشارة إلى بعض المنظمات ولذلك سأتابع التعرف إلى دور العلماء.
سلف وأشرنا أنه لم يوجد في النظام المملوكي مؤسسات إدارية أوقفت على تأمين مصالح الشعب، ومارس المماليك سلطانهم من خلال العلماء، فمن العلماء جاء الوزراء والكتاب والقضاة والمحتسبون وأعوانهم الذين أشرفوا على الأسواق، وكذلك أدار العلماء الأوقاف التي عادت للمدارس والمساجد والأربطة، فقد جاءت المؤسسات الدينية في المرتبة الثانية بعد المماليك في تملك الأراضي الزراعية والدور والحوانيت وغير ذلك مما كان له موارد مالية، وعلى هذا كان رجال الدين السلطة الفعلية الثانية بعد المماليك، لا بل يمكن القول: كان العلماء هم السلطة التنفيذية الداخلية المؤثرة على جماهير العامة، كانوا هم زعماء الدولة، وتهيأت الفرص أمامهم لإزاحة السلطان ودمج الدولة بالسلطنة، فلم يفعلوا لأسباب كثيرة وانحازوا بشكل عام بحكم المصالح الآنية إلى السلطنة وتعاطفوا معها، لكنهم لم ينسلخوا كلياً عن مجتمعهم، مع أن جل الوظائف الدينية صارت في العصر المملوكي وراثية داخل الأسرة الواحدة، أي كان هناك إقطاع ديني متحالف مع الإقطاع العسكري.
وهكذا نجد أن الفرص تهيأت أمام العلماء لقيادة الجماهير، لكن المصالح الاقتصادية جعلتهم يتحالفون مع السلطان وبهذا صاروا وسيلة ضاغطة على الجماهير، وحين عانى الجماهير من هذا الوضع حرموا في الوقت نفسه من القيادات المثقفة الواعية، ولهذا استشرى التمزق داخل صفوف العامة، وظلوا يشكلون مجموعة من الأصناف والطوائف كل يسعى في سبيل الحفاظ على مصالحه، ومصالحه الذاتية العابرة فقط، ولم تتجمع إرادة العامة وطاقاتهم لتتحول إلى ثورة ترث النظام وتزيل السلطان وتقيم تجربة حكم شعبي.
صحيح أنه كان تحت تصرف العلماء إمكانات وموارد مالية واقتصادية كبيرة جداً، لكن استغلال هذه الموارد والحفاظ عليها جاء فردياً من خلال كل وظيفة، وكان نوعاً من أنواع السرقة، لهذا تعاون أصحاب المناصب مع المماليك، ثم أن وضع اللاشرعية لتكوين الثروات مع أنظمة التوريث الإسلامية قد حالت دون تكديس الثروات بشكل مستمر في أيدي الأسر الدينية، لأن الممتلكات ظلت وقفية، وكثيراً ما رفعت الشكاوى ضد مستغلي الأوقاف فعزلوا أو استثمروا بشكل بشع، وكانت السلطنة هي التي تتولى أعمال التنصيب والعزل، وهذا يوضح أيضاً واحداً من الأسباب التي جعلت العلماء من أرباب الوظائف يحرصون كل الحرص على نيل رضا السلطان ونوابه، وفقط كانت تصدر بعض الأعمال المعارضة الناقدة للسلطة عن علماء غير موظفين، وهنا كان الموظفون ينبرون لمقاومة المعارض أو الناقد وإلصاق مختلف التهم به وإيداعه السجن أو التخلص منه، وخلاصة الحال:
جاء العلماء من صفوف العامة، لكنهم انزلقوا وبعدوا عن مجتمعهم، إنما لم يندمجوا اجتماعياً بالخاصة، وتعلقوا ما بين السلطان والعامة، ومع هذا كان لدورهم بعض الإيجابيات في المحافظة على بقاء «الدولة» واستمراريتها، وأدرك المماليك هذا فخاطب أحدهم واحداً من كبار العلماء بقوله: أنت من العوام وإن كنت العز بن عبد السلام.
وصحيح أن المصالح قد جمعت بين العلماء والمماليك، كان العلماء على استعداد لتقديم الطاعة ـ والاعتراف ـ لأي سلطة جديدة بديلة، وهكذا عندما احتلت جيوش غازان دمشق سنة 699هـ/1300م قام كبار العلماء بالمبادرة للتفاوض معه وعاونوه على إنشاء سلطة بديلة لسلطة المماليك، وبعد هذا بأمد طويل عندما غزا تيمورلنك دمشق وتخلى السلطان فرج بن برقوق عنها، شكل العلماء وفداً للتفاوض مع تيمورلنك حول تسليم المدينة له، وبعدما انسحب تيمور عادت السلطة المملوكية إليها وعاد العلماء أنفسهم للتعاون معها، ويلاحظ في جميع الحالات أن المماليك لم يفكروا قط بمعاقبة العلماء على مواقفهم، فالمعيار آنذاك كان بعيداً عن معايير الوطنية والانتماء إلى الأرض، كانت المعايير تلتزم بالمصالح الدنيوية والمنافع دون سواها، وفي الربع الأول من القرن العاشر للهجرة/السادس عشر للميلاد، تخلى العلماء عن النظام المملوكي واعترفوا بالعثمانيين، وبعد هذا بقرون بعد معركة ميسلون استقبل جل العلماء غورو واعترفوا به.
لم يسعَ العلماء قط لإنشاء نظام سياسي بديل، وكانوا دوماً يخشون من خلو البلد من السلطان، فانعدام السلطان بالنسبة لهم كان يعطل شؤون الحياة، ويشل أحكام الشريعة، وبدون سلطان كان من غير الممكن إبرام عقود الزواج أو تطبيق الحدود، فهذا ما رآه علماء السنة، وذلك على عكس ما قام به علماء الشيعة، فالسنة لم يعانوا قط من مسألة غياب الإمام أو من يمثله، لكن الشيعة ـ خاصة الإمامية ـ اضطروا لمواجهة مشكلة السلطة بعد غيبة الإمام الثاني عشر، فأوجدوا نظرية «ولاية الفقيه»، ومع هذا، هذه قضية تحتاج إلى تأمل أكبر وإلى مزيد من الدراسة المعمقة.
فلقد ملك العلماء نفوذاً معنوياً ودينياً واقتصادياً ولم يمتلكوا قوى عسكرية أو شبه عسكرية خاصة بهم، فالمماليك هم الذين ملكوا الطاقة العسكرية واستخدموا نفوذ العلماء كقوة ضاغطة على الجماهير،وعندما كان ينحسر ظل المماليك كان العامة من الناس وحدهم المتملكين للقدرات والإمكانات العسكرية، وبما أن العامة لم يكونوا منتظمين في نطاق عمل سياسي واحد، غالباً ما استغلوا غياب السلطة المملوكية لاستخدام إمكاناتهم للانتقام والسلب والنهب، ولم يجربوا لا هم ولا العلماء التحالف، وهكذا ضاعت الفرص، وكان العلماء يسارعون للتحالف مع القوة العسكرية الغازية مهما كان لونها.
وكانت طبيعة العلماء وتكوينهم وتدريباتهم ومسلكهم بعيدة عن الطباع العسكرية. فالمسلك الديني والوقار والرزانة العلمية، تتباين والخلق العسكري وحمل السلاح، ولذلك التصق العلماء بالعسكريين المماليك وكانوا دوماً يخافون من التنظيمات الشعبية شبه العسكرية، وهذا جلي في تراث العصر المملوكي الذي دونه العلماء.
الموضوع طويل لعل فيما أثير منه كفاية وختاماً..
لقد تدهورت الأحوال في دمشق بعدما أنزل بها تيمورلنك أقسى الضربات، ومع الأيام ازدادت الأحوال تردياً،وتفتت المجتمع، وحدث الإفلاس الاقتصادي فكان أن حدث الانهيار بالكامل، وقبل أن يفيق الناس من هول وقع الكارثة قدمت الجيوش العثمانية فاستولت على الشام ثم مصر وبلدان عربية أخرى، وهكذا تحولت الشام من قلب صنع الأحداث إلى ولاية، سلبت مع مرور الأيام مما تبقى فيها من مكتبات وخبرات وإمكانات ثقافية، وهكذا عاشت في فترة سكون مديدة لما يزيد على أربعة قرون، وإشكالية النوم الطويل وردات فعل اليقظة غير الطبيعية بحاجة إلى أبحاث منفردة.


سهيل زكار

دمشق أقدم مدينة في التاريخ|ندوة آذار الفكرية في مكتبة الأسد|دمشق-سوريا-1991

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

    صور الخبر

    بقية الصور..

    اسمك

    الدولة

    التعليق

    شمس النور موصلي:

    السيد سهيل زكار أشكرك على هذا المقال الرائع
    أتمنى أن أجد المزيد من هذه المقالات

    دمشقية في الامارات العربية المتحدة

    هناء أحمد:

    لو سمحتوا إريد معلوملت عن سكان ولاية دمشق خلال العصر الفاطمي

    ليبيا

    احلام ابوزبيدة:

    شكرًا على الإضافة ، والتميز في التحليل الذي لطالما عهدناه لديكم ، تمنياتي بالصحة والسلامة

    ليبيا

    د.امنة بطوش:

    الموضوع من اجمل ما قرات في الموضوع ، و طريقة التحليل للمؤرخ الدكتور سهيل زكار، وانا من اشد المعجبين لكتاباته التاريخية الرائعة ،وقد استفدت من هذا البحث في بحث اعددته في التنظيمات الاجتماعية .
    اشكرك د.سهيل ونتمنى ان تتحفنا بمثل هذه المواضيع الهامة.