الشكل والتعبير الاجتماعي

إن تركيز انتباهنا على المحتوى، وإرجاء الشكل إلى مرتبة القضايا الثانوية، لضرب من العبث. ذلك لأن الفن يقوم على تقديم الشكل، والشكل وحده هو الذي يجعل من الشيء المنتَج أثراً فنياً. إن شكل الأثر الفني ليس شيئاً عارضاً، كيفياً، أو غير ضروري، أكثر مما هو شكل الجسم البلوري. فقوانين الشكل وشروطه هي تحقيق سيطرة الإنسان على المادة؛ ففيها تنحفظ التجربة المنقولة، ويجد كل تحقيق عملي صيانته فيها؛ فهي النظام الضروري للفن وللحياة.
ولكي نفهم الظاهرات الطبيعية أو الاجتماعية، علينا أن نكتشف كيف ظهرت. إن شكل الشيء الاجتماعي، أو نتاج العمل، لمرتبط بوظيفته ارتباطاً مباشراً. وقد أضفى الانسان البدائي على الحجر، وقطعة الخشب أو العظم، شكلاً، لكي يستخدمه من أجل أغراضه: وبعبارات أخرى، إن الشكل هو التعبير عن هدف اجتماعي. إن العديد من التجارب، والعديد من محاولات التقليد قد أنتجت، في نهاية الأمر، بعض الأشكال الدائمة التي تحقق حصيلة التجربة السابقة في حقل ما. إن آلافاً من السنين، قبل أن يتحقق شكلا الإناء الكلاسيكي، قد أنتجت آنية لغرض استخدامها، لتأدية وظيفتها، لا من أجل شكلها. وقد بقي في النهاية شكل نافع بنوع خاص وعملي، كنموذج من أجل إنتاج معقول أكثر منه. إن الشكل هو تجربة اجتماعية مرسّخة.
إن الشكل أيضاً، إلى حد ما، تحدده المواد. وهذا لا يعني، كما يحاول أن يقنعنا بذلك بعض الواهمين من أن شكلاً ما هو "كامن" في مادة خاصة، أو أن كل المواد ترمي إلى إتقانها الذاتي أو إلى "تحولها لطاقة" أو أن رغبة الانسان في تشكيل المادة هي قفزة "ميتافيزيقية" ما نحو الشكل. غير أن لكل مادة خصائصها النوعية التي تسمح لها بأن تتشكل حسب أشكال خاصة تستطيع، بالتالي، أن تتنوع. وهكذا، فإن أشكال المساكن البشرية تتعلق كثيراً بالمواد المستخدمة، سواء كانت من الأعشاب أو القصب المجدول، أو الأخشاب، أو الأحجار، أو الصلصال؛ وبكلمة أخرى، إن أكثر المواد استخداماً تحدد شكل المسكن بشكل جزئي. كما أن مقاييس وتناسق المسكن (أو حجم وتناسق أي إنتاج آخر) ليست أبداً نتيجة "قفزة نحو الشكل" جمالية المنشأ، بل هي محددة ببنية المادة وبتجربة البناء السابقة. إن بيتاً زهيداً منحرفاً لأقل ثباتاً من آخر يراعي بعض قوانين التناسق. وكما أن تناسق البلوريات هو التعبير عن توازن فعّال، وبالتالي، عن مقدرة اقتصادية، فإن تناسق المنزل أو كل شيء آخر يصنعه الانسان، هو أيضاً التعبير عن توازن. صحيح أن الإنسان البدائي لم يكن يعرف القوانين النظرية التي تحرك المادة، ولكنه تعرف إليها خلال ممارسته العملية، واعترف بقيمة القياس والنظام ابتداء من تجربته المباشرة. وإذا ما كنا نذكر بأن تجربته في قطاعات أخرى من النشاط الجماعي تؤكد أيضاً قيمة النغم والترديد النغمي، أدركنا بأن العنصر الصوفي الذي نتوقع أن نراه غالباً في احترام الإنسان البدائي للنظام، سيختفي بشكل نهائي.
إن الأشكال الناجمة عن عمليات العمل الجماعي، الأشكال التي تشكل تجربة اجتماعية مرسّخة، ترمي إلى أن تكون محافظة إلى أقصى حد. وإذا ما درسنا تطور الإنتاج، والبناء، الخ... ادركنا أن ثمة اتجاهاً للمحافظة على الأشكال القديمة، حتى في حال اختيار مادة جديدة. فالمادة الجديدة قد تصبح، إذا جاز التعبير، خشنة أحياناً بفضل الشكل القديم. إن عناصر من "الفن" البدائي في بناء الأكواخ بالأعشاب والأخشاب لسهلة المعرفة في البنايات الحجرية لعصر لاحق. وقد ظلت أشكال الأدوات الحجرية ثابتة في أدوات العصر البرونزي، والعصر الحديدي، برغم أن المواد الجديدة قابلة للتكيف بأشكال عملية أكثر. وليس في هذا الاتجاه المحافظ للشكل ما يدعو للاستغراب: فهو امتداد لاتجاه كل الجماعات في التمسك بتجربتها الاجتماعية المكتسبة بجهد مرير، ونقلها من جيل إلى جيل بوصفها إرثاً ثميناً. فالشكل الذي كانت تستخدمه الجماعة كان معتبراً بمثابة شيء مقدس وإجباري: "ذلك لأن الأمر على هذا النحو، ولن يكون على نحو آخر". وأي تحويل يطرأ على هذه الأشكال كان بمثابة كفر وزندقة، وقد يجرّ عواقب خطيرة. واصطدمت هذه النزعة المحافظة بالإنتاج المادي الذي يزداد غنى بالتجربة باستمرار، وبالميل إلى جعل العمل أكثر سهولة، وأكثر نفعاً، بفضل استخدام الأدوات والمواد الأكثر ملاءَمة، ابتداء من مراقبة للطبيعة أكثر دقة، ومهارة متزايدة أثناء العمل.
وعندما نتحدث عن الفعالية التي يعتبر الشكل تعبيراً لها، لا نريد أن نتحدث ببساطة عن هذه البنى المادية التي نعترف بها اليوم بوصفها فعالة، بل نريد أن نتحدث أيضاً عن مختلف أنواع الأشياء السحرية، التي كانت بالنسبة للإنسان البدائي، تمثل أكثر الطرق فعالية؛ وقد لاحظنا آنفاً، أن الإنسان، الكائن المنتج الذي يحول الطبيعة، كان ساحراً؛ وبمقدار ما كان يكتشف الأهمية الهائلة للمماثلة، والمحاكاة، والسيطرة على الطبيعة بواسطة العمل والأدوات، وبالإرادة البشرية، اتجه شطر المبالغة في تقدير الإمكانيات المباشرة لانتصاره على الطبيعة، وهكذا وجد نفسه مدفوعاً إلى محاولة التأثير الحازم على الواقع بواسطة وسائل سحرية. ويلاحظ جورج طومسون في كتابه "أسخيلوس وأثينا" بأن السحر البدائي قام على فكرة إمكانية السيطرة على الواقع عن طريق خلق الإيهام بالسيطرة عليه. ولكن، لمّا كان السحر، في الوقت نفسه، يفضي إلى العمل، فقد حقق المعرفة الثمينة لواقع كون العالم الخارجي يمكن تبديله بشكل حقيقي، من خلال الموقف الذي يقفه منه الإنسان. إن الصيادين الذين كانت الحركات الإيمائية الطقوسية تشحذ هممهم، كانوا بالفعل أمهر ممن سبقهم.
وفي مناقشته مصادر وتطور "الطوطمية"، يشير طومسون إلى أن الحيوان "الطوطم" كان أول الحيوانات التي كانت القبيلة تغتذي بها. وإننا لنعلم ذلك، عندما ندرك، مثلاً، أن رئيس قبيلة "وللابي" في أستراليا، عليه أن يأكل قطعة من لحم الحيوان الطوطم، أثناء القيام بمراسم حفلته، أو بعبارة أخرى: ينبغي عليه أن "يمتص" الحيوان. وعندما كان الإنسان البدائي يقتات من نبتة، أو من لحم حيوان، كان يحس بتجدد، وبنبضة حيوية، ولما كان يجهل عملية التحول الغذائي، كان يفترض بشكل طبيعي أن "قوة الحياة" التي في النبتة أو في الحيوان، تنتقل إليه، وأن حياته تمتزج بحياة فريسته، وينتج عن ذلك اتحاد ما بين حياتيهما. لقد كان "يتماثل" بالأجهزة العضوية الحية التي يأكل، بواسطة تحول غذائي طبيعي، لا يستطيع أن يفسره إلا بواسطة السحر. ولكن بعد ما تحسنت بعد ذلك وسائل الصيد أصبح الحيوان، الذي كان يشكل الطعام المفضل عند القبيلة، جد نادر، أو على وشك الانقراض، وصار محمياً بجملة من التحريمات المحددة، "بالتابو" والأشياء المحرمة. وحين انقسم القوم إلى قبائل، لكل منها حقل صيده، أصبحت الأطعمة، والطرائد الخ... موزعة بشكل ما؛ وفقدت كل قبيلة حق الأكل من لحم الحيوانات أو الأعشاب التي كانت، حتى ذلك الحين، تشكل جزءاً من طعامها، وبذلك تأمن طعام القبائل الأخرى بشكل معقول. وعندئذ أصبح حيوان ما، أو نبتة ما "تابو" عند كل قبيلة، حتى إذا مسّت هذا الحرام، عرّضت للخطر حياة الجماعة كلها، وذلك لأن وجود الكائنات البشرية يتماثل بوجود أطعمتها. وبمقدار ما كانت القوى المنتجة تتطور، وتكتشف مصادر الأطعمة، أخذ "الطوطم" و"التابو" يفقدان معناهما الاقتصادي الأساسي، ولكن الأشكال كانت عندئذ من العمق بحيث انها انحفظت واتخذت محتوى جديداً؛ وأصبحت قواعد سحرية معدة لصيانة البنية التقليدية للمجتمع، ولحماية القبائل وممتلكاتها الاجتماعية، وبالتالي، لتنظيم العلاقات الجنسية فيما بينها.
إن هذه الفرضية لمغرية، برغم كوني أميل إلى الاعتقاد بأن "الطوطم" و"التابو" يعودان إلى معنى جنسي أكثر مما هو اقتصادي منذ بدايتهما. ويخيّل لي أن من مميزات الجماعة البدائية، انها اعتبرت العلاقة الجنسية، والطعام، والعمل، كلاً لا يتجزأ، ومتحداً بالحياة ذاتها، بحياة لم تصبح بعد متمايزة بواسطة العمل. فالطقوس العديدة كانت تشير إلى أن "التحول الغذائي" في ذهن الانسان البدائي، و"التحول الغذائي" مع العالم الخارجي و"التحول الغذائي" بين الجنسين، و"التحول الغذائي" الطبيعي الذي يحققه العمل، تمتزج جميعاً في عملية حياتية واحدة. وفي كل الطقوس التدريبية التي كان الشبان بواسطتها يندمجون في الجماعة (في "الجسم" الجماعي الكبير) كانت التجربة الجنسية تنقل إلى الفتيان، في نفس الوقت الذي تنقل اليهم فيه تجربة العمل الضرورية.
لقد تحدثنا عن تطور "الطوطم" و"التابو"، لأن عدداً كبيراً من الأشكال قد نجم عن هذه المعتقدات السحرية، ولأن لنا بها أحد منابع الفن الأولى. فمن مجرد أخذنا بالاعتبار أن الإنسان البدائي، كان يتماثل بالحيوانات والنبات التي كان يقتات بها، أي بالطبيعة ذاتها، ومن خلال وعينا فقط، لما كان من أهمية للشكل، ولتشابه الأشكال عند الانسان البدائي. نأمل في فهم كثير من الأشياء التي يصعب علينا فهمها بغير ذلك. وقد أشار العلماء إلى هذا مراراً. وإني أحب أن استشهد بقول للأب ونثيوس برغم كوني غير موافق على استنتاجاته، فهو يقول:
"بسبب طريقة تفكيره (وهي طريقة محسوسة متجهة نحو كلية الأشياء، وليست أبداً تجريدية ولا مجردة، ولا تحلل الظروف ولا تأبه لها) فإن العنصر الحاسم لم تكن طبيعة الأشياء الداخلية لدى الإنسان البدائي، بل كان طبيعتها الخارجية، وشكلها، وما ترى العين. فكل ما له نفس الشكل، له أيضاً بالنسبة للإنسان نفس المعنى".

إن ونثيوس يقلل من أهمية القدرة التجريدية عند الكائنات البشرية، في حين أن عملها يقودها إلى التجريد بشكل لا محيد عنه. ولكنه على حق في القول بأن الشكل كان حاسم الأهمية عند الإنسان البدائي.


إرنست فيشر

ضرورة الفن

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق